Lamaḥāt min ḥayāt Shaykh al-Islām Ibn Taymiyya
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
Genres
الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب ولولا ذلك لما عمرت ولا قام لها وجود، كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهم من دابة} وقال {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (النحل:61)، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة، على ما في هذه الدار تسعا وتسعين ضعفا، وقد أخذا العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس وأنهكها العذاب، وأذاب منها خبثا وشرا لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فيكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوى جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته.
وسر الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأظهر، وأكثر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمة أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك والعقوبة تأديب وتطهير. والرحمة إحسان وكرم وجود والعقوبة مداواة، والرحمة عطاء وبذل.
Page 144