254
ولنعرج الآن على تاريخ تلك الصناعة في مصر نفسها؛ فيسترعي انتباهنا منذ البداية أننا لا نكاد نملك شيئا يثبت لنا تقدمها وازدهارها في القرون الثلاثة الأولى بعد الفتح العربي، فالقوارير التي عثر عليها وتنسب إلى تلك الفترة ليست لها قيمة فنية كبيرة؛ لبساطة زخارفها أو لخلوها من الزخارف، فضلا عن أن صنعتها ليست دقيقة جدا. أما إبداع شكلها واعتدال نسبها في بعض الأحيان فراجع إلى بقية من الأساليب الفنية المورثة منذ القدم، ولكن نوعا من المصنوعات الزجاجية كان رائجا في هذا العصر وفي العصر الفاطمي، ونقصد بذلك الأقراص الزجاجية التي كانت تتخذ عيارات وزن وكيل، فكان يطبع بها على الأواني لبيان أحجامها المختلفة،
255
وكثير منها بأسماء ولاة مصر وبأسماء الخلفاء الفاطميين. وقد أهدى المغفور له الملك «فؤاد الأول» إلى دار الآثار العربية مجموعة خطيرة الشأن من هذه الأقراص الزجاجية، والمعروف أن الزجاج كان مستعملا بمصر في هذا الشأن إبان العصر الروماني.
ويحدثنا المقريزي عند الكلام على قرية سمناي من قرى تنيس، أن قوما كشفوا فيها سنة (837ه/1433م) عن «غضارات زجاج كثيرة مكتوب على بعضها اسم الإمام المعز لدين الله، وعلى بعضها اسم الإمام العزيز بالله نزار، ومنها ما عليه اسم الحاكم بأمر الله، ومنها ما عليه الإمام الظاهر لإعزاز دين الله، ومنها ما عليه اسم المستنصر وهو أكثرها.»
256
ومهما يكن من شيء فإن صناعة الزجاج تقدمت في العصر الفاطمي تقدما عظيما، كان سبيلا إلى بلوغها الذروة العليا في عصر المماليك، الذي صنعت فيه المشكاوات المموهة بالمينا وهي فخر صناعة الزجاج عند المسلمين على الإطلاق.
ويقوم على جودة الأواني الزجاجية الفاطمية أدلة تاريخية، وأدلة مادية: الأخيرة مستمدة مما وصلنا من كئوس وقوارير وغيرها، وأما الأولى فقوامها ما كتبه ناصر خسرو عن رحلتيه في مصر بين عامي (439 و441ه/1046 و1050م).
فقد كتب هذا الرحالة الفارسي أن البقالين والعطارين وبائعي الخردة كانوا يأخذون على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق ليوضع فيها ما يبيعونه؛ فلم يكن لازما أن يبحث المشتري عن شيء يضع فيه ما يبتاعه.
257
Unknown page