لم يكن يسعني وقد رأيت الذاكرين يذكرون الله بعد رؤيتي لذلك الصبي يتألم ويعوي، بكل ما فيه: بقدمه الجريحة وبطنه الجائع ، وجسمه المرتعش، وقلبه الولهان! لم يكن يسعني وقد رأيت أولئك بعد هذا، إلا أن أذكر قول «فيفيكا ناندا» على نحو ما يتوارد الضدان في الذهن، والحق أني ظللت أذكر ذلك الصبي المتألم الولهان، كلما طالعت الصحف ووجدت قصائد «الشعراء» تترى في ذكرى المولد النبوي الكريم: ترى هل لهؤلاء «الشعراء» قلوب حساسة حقا كما يتوهمون ويوهمون، أم أن قلوبهم - مثل قلبي - قدت من حجر، فيرون أمثال هذا الصبي المسكين ليلة المولد، ثم يمضون إلى مكاتبهم الدافئة ينظمون و«يشعرون»؟!
ولكن مالي الآن ولهذا كله؟ لقد كتبت إلي صديقتي الأديبة متمنية لو استطعت أن أكتب عن «الحب الصامت» كما كتبت عن «الكراهية الصامتة» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب، وحسبت تحقيق أمنيتي هذه - في أول الأمر - محالا لاستحالة أن يكون في العالم حب صامت يقع عليه البصر فيجري به القلم، ثم شاءت لي الأيام سعدا وقلما تشاء، فأطلعتني ليلة المولد النبوي على حب صامت عجيب، سيظل إلى الأبد قائما بين صبي فقير عاشق وعروس من الحلوى.
إلى سادتي الحكام
إلى السادة من أصحاب السلطان في هذا البلد أوجه الحديث ... لكن عفوا سادتي، فما قصدت بهذا إلى الإساءة عامدا، فأنا عالم أتم العلم بأن سادتي لا يقرءون لأصحاب الفكر النظري ما يكتبون، ومن ثم نجاح الأولين وإخفاق الآخرين؛ فهؤلاء قد أوصدوا من دونهم أبواب أبراجهم وقطعوا الأسلاك التي تصلهم بالعالم الخارجي، وعاشوا في عزلة موحشة يقرءون ويكتبون، أما أولئك السادة فقد خرجوا إلى حيث يضطرب الناس وتصطخب الحياة؛ ليحكموا الناس ويمسكوا بزمام الحياة، فليس بهم حاجة إلى كاتب يوجه إليهم حديث النصح والهداية، وحسبهم في باب القراءة ما قد طالعوه أيام الطلب في مدارسهم وكلياتهم في عهد الطفولة والصبا.
لم أقصد يا سادتي إلى الإساءة عامدا، حين زعمت أني أوجه إليكم حديثي هذا، فلست جادا في استعمال هذه الكلمات، وإنما الأمر كله أحلام وأوهام، فالخيال والغرور كلاهما يصوران لي أحيانا أني أكتب لقارئ، ثم سرعان ما يوغل بي الخيال ويشتط الغرور حتى أتوهم أن هذا القارئ قد يكون من أصحاب السلطان، فأخاطبه كأنما أخاطب رجلا سميعا بصيرا من لحم ودم، والأمر كله لا يعدو تخليط واهم وأضغاث حالم، وكما يقول «جولد سميث»: إذا كانت أحلام الحالم لا تضر الناس فاتركوه يحلم كيف شاء.
أردت أن أقول يا سادتي: إني كنت أقرأ لأفلاطون قراءات مبعثرة هنا وهناك، فاستوقف نظري حرص شديد من ذلك الشيخ القديم على أن ينبه قارئه على مر الأجيال إلى علاقة قوية شديدة بين الخير والجمال، فقد أخذ يكرر في مواضع كثيرة أن الخير والجميل شيء واحد ... وفكرت لنفسي: ترى ماذا يعني كبير الفلاسفة اليونان بقوله هذا؟ وانتهيت إلى تحليل أرضاني، تترتب عليه نتيجة هي التي أردت أن أسوقها إلى سادتي الحكام في هذا البلد، وهي أن كل ما في هذا البلد المسكين قبيح ذميم بفعل هؤلاء السادة أنفسهم، وعجبت أن يعنى السادة بالجمال في مساكنهم الخاصة وفي ملابسهم ومآكلهم وشتى جوانب حياتهم الشخصية، ثم لا تمتد هذه العناية قليلا لتشمل شئون الشعب الذي ألقى إلى أيديهم بزمامه ...
فماذا يعني فيلسوفنا بأن الخير هو نفسه الجمال؟ سأقص على القارئ خواطري كما وردت حين أردت توضيح الفكرة لنفسي. قلت: اختر لنفسك مثلا أو مثلين مما يستحيل أن يختلف الناس في أنه خير، فالصحة خير من المرض بغير شك، والغنى خير من الفقر بلا ريب، وإذا فلنمعن النظر في هذين: الصحة والغنى، فهذان مثلان للخير يرضاهما الناس جميعا وعلى رأسهم السادة أصحاب السلطان، فكيف تكون العافية جمالا؟ وكيف يكون المال جمالا؟ وقد عهدنا الجمال على ألسنة الشعراء لا يكون إلا للزهرة والجدول والمرأة الفاتنة والقمر الوضاء والشمس وهي غاربة وما إلى ذلك من ألوان الجمال؟
ثم سألت نفسي قائلا: ألا يحسن بك أن تنتقل بنظرك إلى الأشياء الجميلة أولا؛ لعلك مدرك عنصرا مشتركا بينهما، هو الذي يجعلها جميلة، بحيث تزداد جمالا أو تنقص بزيادة ذلك العنصر فيها أو نقصه؟ وسرعان ما وقعت على الجواب الذي لست أشك في أنه كان ماثلا في ذهن أفلاطون وهو يفكر في هذا الصدد؛ لأنه جواب أعتقد أن كل مفكر يوناني لم يكن يتردد في قوله لو سئل: ما الجمال؟ وذلك هو احتفاظ الجسم بنسب معينه بين أجزائه؟ ففكرة تناسب الأجزاء والوقوف بالشيء عند حد يرضاه الذوق والعقل معا، في غير إسراف في هذا الطرف أو ذاك، هذه الفكرة كانت تشغل الفكر اليوناني حتى لتصادفك كلما قرأت لليونان شيئا.
جمال المرأة الجميلة هو احتفاظ أجزاء جسمها بنسب معينة، يعرفها في عصرنا هذا القائمون على مسابقات الجمال، فللذراع طول وللساق طول ولكل جزء من أجزاء الجسد مقياس معين، ويكون جمال المرأة بمقدار قربها من تلك المقاييس في أجزاء جسمها. ولكن من الذي يقرر هذه الأطوال والمقاييس؟ تقررها التجربة والخبرة والملاحظة، فأنسب طول للذراع هو نفسه الطول الذي يجعل الذراع في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وأنسب طول للساق هو نفسه الطول الذي يجعل الساق في أحسن حالة تمكنها من الحركة السهلة، وهكذا، فكأنما الذي يقرر لنا تلك الأطوال والمقاييس هو مدى قدرة الأعضاء على أن تحتفظ لنا بالحياة والبقاء القوي السليم.
وبعد أن يتقرر لنا شرط الجمال البشري، يتقرر تبعا له شرط الجمال في كل شيء آخر؛ لأن الإنسان بعدئذ يخلع نظرته الذاتية على الأشياء، فما دام الإنسان حين تتوافر لأعضاء جسده النسب التي تجعلها أقدر على الحركة والاحتفاظ بالحياة، يكون في الوقت نفسه قد توافرت له صفة أخرى هي التماثل (السيمترية)، إذا فليجعل التماثل مقياسا يقيس به جمال الزهرة وجمال البناء وجمال الشعر وجمال الصفوف المنظمة من الجنود وما إلى ذلك.
Unknown page