وما كل طبيعي مقبول، فالطبيعي لماء النيل أن يأتي ممزوجا بالطين، لكننا ننقيه ونصفيه في المواسير والصنابير قبل شربه، والطبيعي للطرقات أن تكون رمالا وأحجارا، لكننا نمهدها ونرصفها ليسهل السير فيها ... فإن كان من الطبيعي للبشر أن تعكر الكراهية قلوب الناس ونفوسهم، فلا بد من التنقية والتصفية والتمهيد والرصف حتى يتم التعامل بين إنسان وإنسان.
فلنعلن من الكراهية التي نحملها في صدورنا عما عساه أن ينتج خيرا بإعلانه، كهذه الكراهية التي أعلنتها الشعوب ضد حكامها الطغاة، والتي أعلنها الفقراء على الأغنياء؟ أما ما عدا ذلك فالخير في حبسه في الصدور، حيث تظل الكراهية هناك بين جدرانها صامتة، لا أثر لها ولا خطر، اللهم إلا ضيق الصدور الحابسة وكتمة النفوس الكارهة.
عروس المولد
أرسلت إلي قائلة: «لقد أعجبني كثيرا وصفك للكراهية الصامتة، حتى تمنيت لو استطاع «الحب الصامت» أن يحظى من قلمك بمثل هذه اللفتة ...» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، لكني أحسست في أعماق نفسي بأنني إذا ما أجريت قلمي في هذا الميدان، تعثر وكبا، فلا أكون جديرا منها بإعجاب آخر.
ترى أين عساي أن أوجه النظر، لأبصر بالحب صامتا لا يفصح عن نفسه ولا يبين؟ إن الناس إذا ما أحس أحد لأحد حبا، أسرع إلى إعلانه فرحا فخورا، كأنما وقع في ثنايا الطبيعة الإنسانية على كنز نادر نفيس، إنهم إذا ما أثنى أحد منهم على أحد في غيبته، تمنى لو بلغ هذا الثناء صاحبه؛ لأنه يعلم أن الفطرة البشرية قلما تجود بهذه اللحظات التي يثني فيها إنسان على إنسان، ثناء صادقا مخلصا لا ملق فيه ولا رياء.
أتذكر يوم جاء أبوك إلى غرفتك ساعة الفجر يصلي - فما رأيته مقصرا قط عن أداء الصلاة منذ شببت فوعيت حتى مات - أتذكر وقد أخذ يدعو لك في صوت جهير، وكنت عندئذ مستيقظا في فراشك، لكنك ظللت مغمض العينين؟ أتذكره وهو ينبئك على مائدة الإفطار كيف دعا لك وبماذا دعا؟ فلما قلت له إنك قد سمعت دعاءه؛ لأنك كنت بين اليقظة والنعاس، تهلل وجهه وانتشى نشوة لم تفارقه طيلة يومه؟ إنه والد أحب ولده حبا خالصا، لكنه لم يطق أن يظل حبه خبيئا صامتا؛ وانظر - إن شئت - كيف يفرح الآباء إذا ما جاءوا لصغارهم بالحلوى، انظر كيف يفرحون فرحة مضاعفة إذا كانت الأمهات على مرأى منهم أو مسمع! إن الوالد حين يعطي صغاره الحلوى، إنما يعطي أبناءه الذين يمحضهم الحب نقيا خالصا لوجه الله، لا شبهة فيه ولا شائبة، لكنه مع ذلك يود لو رأت أمهم علائم حبه لهم، لأنه لا يريد للحب أن يمضي خفيا صامتا، غير مرئي ولا مسموع.
كلا، لست أجد المكان الذي أقف فيه لأنظر فأرى الحب صامتا، وإذا فلا يجمل بي أن أجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، فليس المهم أن يكتب الكاتب ليملأ الصفحات، إنما المهم أن يكون صادقا فيما يكتب وليقل بعد ذلك من شاء ما شاء.
إنهم يقولون: إن الأدب خيال، وإنهم لصادقون، فلماذا لا تنسج بخيالك نسيجا ترضي به الأديبة فيما طلبت، وترضي به غرور الناس في آن معا، حين تنبئهم بأن قلوبهم مفعمة بالحب، بعض إزاء بعض؟ ماذا عليك أن تتخيل زيدا وقد أحب عمرا حبا لم يعلنه بإشارة أو عبارة؟ ... لا، إن خيال الأديب ليس معناه أن يطير في الهواء بلا جناح، والجناح الذي يطير به هو الواقع الذي يلمسه ويراه.
إن «سرفانتيز» لم ينظر بعينيه إلى فارس بين من رأى من الفرسان، اسمه «دون كيشوت» فرآه يصنع لنفسه خوذة من ورق، ثم يضرب الخوذة بسيفه فتمزقها ضربة السيف، فيعود إلى صنع خوذة أخرى من الورق، ويأبى هذه المرة أن يضربها بسيفه خشية أن يمزقها، حتى يظل رافلا في خياله الجميل، بأنه - كسائر الفرسان - يغطي رأسه بخوذة تحميه من ضربات الأعداء إذا ما التقى بالأعداء في قتال ... إن «سرفانتيز» لم ير شيئا من هذا رأي العين، لكنه خلقه بخياله، وكان معنى الخيال هنا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في الحياة الواقعة، ولا أحسبنا - نحن المصريين - بحاجة إلى غوص عميق في لجة الحياة الواقعة لنستخرج منها أمثلة شبيهة بهذا الذي وقى رأسه بخوذة من الورق، موهما نفسه بأنه قد أصبح كسائر الناس الذين يضعون الخوذات الصلبة فوق رءوسهم لتحميها.
ولم يكن «لير» ملكا حقيقيا من أصحاب العروش الذين عرفهم التاريخ وسجلهم في كتابه، بل خلقه شكسبير بخياله ليصور ما يمكن أن تكون عليه حالة الوالد إذا ما قسم ملكه بين أبنائه أو بناته قبل موته، معتمدا على حب الولد لوالده؛ فهذا «لير» قد قسم ملكه بين ابنتين من بناته الثلاث، حتى إذا ما طرق باب الواحدة منهما بعد ذلك ليعيش في كنفها، ضاقت به أولا، ثم نهرته ثانيا، ثم طردته ثالثا، فراح المسكين - من هول الصدمة - في الأرض العراء يهذي، وما لبث هذيانه أن أصبح جنونا صريحا ... إن شكسبير لم ير ذلك بعينيه، لكنه خلقه بخياله خلقا، وكان معنى الخيال هنا أيضا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في أي زمان أو مكان.
Unknown page