هكذا قد تكره شخصا من الناس ولا تدري لماذا، أو لعلك تستطيع أن تدري لو أخذت في تحليل الموقف على نحو ما يفعل علماء التحليل النفسي في أمثال هذه الحالات، فهم يزعمون أن للكراهية سببا قد طمرته الأحداث فاختفى عن العين السطحية العابرة، لكنه لا يخفى على العين الفاحصة التي تنبش حتى تزيح عن العقدة الدفينة ركام الحوادث، فتخرجها إلى ضوء الشمس من جديد.
وإلا فقل لي بربك ماذا ترى بيني وبين هذه البائعة الصغيرة لأوراق النصيب؟ إنها بنت في نحو العاشرة من عمرها، كثيرا ما تطوف بأوراقها مشارب القاهرة، أراها مقبلة فكأنما رأيت الحية الخبيثة تسعى، وأسمعها تنطق فكأن الصوت هو الفحيح الذي تقشعر له الجلود، إنها في أغلب الحالات تجيء مصبوغة الشعر في أصفر فاقع لا يلائم وجهها، وقد ألبسها ذووها ثوبا ذا بريق عجيب، شقوه لها - في أرجح الظن - من ستار نافذة قديم، وعلى قدميها حذاء أبيض خفيف، والوجه بين هذه البقع اللامعة مطل وقد علته غلالة من قذارة لاصقة ببشرته ... يا إلهي من هذه البنت الصغيرة حين تقبل ناظرة بعينيها الضئيلتين من ذلك الوجه الكريه! إذا رأيتها أشحت بوجهي أو أسرعت إلى صحيفة أو كتاب أدس فيه عيني فلا أراها، وكثيرا ما ناديت أقرب خادم لأصب عليه انفعال غضبي أن أذنوا لها بالدخول في مثل هذا المكان، فتتخلل صفوف موائده، ولا ترحم حتى هذا الركن الهادئ البعيد الذي أحب عادة أن أختبئ في ظلامه ... إنها مسكينة تسعى إلى رزقها، وأنا أعلم ذلك، لكني أعلم ذلك بعقلي، أما شعوري الذي لا حيلة لي فيه فهو شعور الكراهية الشديدة التي يستحيل أن أجد لها سببا ظاهرا معقولا، اللهم إلا أن يكون السبب هو هذا الذوق البشع الفظيع في طريقة لفها وطليها، لتبدو - في ظن من لفها وطلاها - «للذوات» بنتا من «الذوات» أخنى الدهر على أهلها فترحم قلوبهم، وليتني ألتقي بذويها يوما؛ لأنبئهم أن أرحم القلوب قمين أن ينقلب جلمودا من الصخر لهذه الكتلة المتحركة من الكذب والزيف.
إنها الكراهية الصامتة القائمة بين الناس أفرادا وجماعات، وليقل في تحليلها وتعليلها أصحاب البحوث النفسية ما شاءوا من أسباب دفينة خبيئة؛ لأن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، فلا يزال الأمر الواقع هو أنك قد تحمل لهذا أو لذاك كراهية لغير ما سبب ظاهر، فتوحي لك الكراهية أن تتخذ الأهبة لرفض ما يقوله الكريه قبل أن ينطق به، وإلى جانب هذه الكراهية التي تحملها لبعض الناس، حب تحمله لبعضهم الآخر، يميل بك إلى قبولهم وقبول كلامهم وآرائهم، كأنها في أذنك النغم الجميل، وعلى ذوقك العسل المصفى.
فكأنما تسير بين الناس وفي جعبتك عدة شعورية تقابل بها ما يقولونه وما يفعلونه بالقبول أو بالرفض، لا لأنها مقبولة لذاتها أو مرفوضة لذاتها، بل لأنك تكره هنا وتحب هناك. إن من أقوى اللمحات الفكرية التي قرأتها، لمحة لنيتشه، يقول فيها: إن منطق الناس لا يسير من المبررات العقلية إلى إرادة أداء الأفعال التي تترتب عليها، بل يسير على عكس ذلك من إرادة أداء أفعال معينة يشتهيها الفاعل بعاطفته، ثم يبحث لها بعد ذلك عن مبرراتها العقلية، أي أنك لا تقول: إن عقلي يرى الصواب من الأمر كذا وكذا ولذلك فإني فاعل كيت وكيت، بل تقول: إني فاعل كيت وكيت ولذلك فإن عقلي سيجد له من المبررات كذا وكذا.
العاطفة من حب وكراهية تأتي عند الناس أولا، ثم يأتي بعد ذلك قبول الآراء ورفضها في ظل تلك العاطفة، وقد تخف هذه العدة الشعورية عند فرد حتى لا تبدو آثارها إلا لماما وفي لمسات رقيقة، لكنها قد تشتد عند فرد آخر فتصبح عاطفة جارفة كعاطفة العاشق الولهان أو الوطني المتحمس أو صاحب العقيدة الذي ملأه الهوس نحو عقيدته؛ وعندئذ تعمى العيون وتصم الآذان، فلا يرى صاحب العاطفة ولا يسمع إلا ما يغذي فيه عاطفته تلك، فعين الرضى - كما يقول الشاعر - عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا.
الملائكة في عين الكاره أبالسة وشياطين، وعبثا تحاول إقناع الكاره بتغيير رأيه فيمن يكره، إلا إذا انتزعت أولا منظاره الأسود من فوق عينيه، أما أن يظل منظاره ذاك أمام عينيه، ثم تحاول بعد ذلك أن تريه بياض الأشياء ونقاءها وطهرها، فأنت عندئذ كمن يحاول أن يضع النقيضين معا، والظاهر أن الجماعات الإنسانية قد أدركت ذلك منذ زمن بعيد، فعولت عليه في تربيتها لأفرادها، فالجماعة المعينة تريد لأبنائها أن يحبوا شيئا ويكرهوا شيئا، فحسبها أن تلبسهم مناظير فوق أنوفهم باللون الذي تريد لهم أن يروه، وهي بعد ذلك على يقين من أنهم سيساقون لمشيئتها سوق الأغنام للراعي.
ولعلك تلاحظ هنا أن الإنسان لا يرى زجاج منظاره، وإن يكن ينظر خلاله إلى كل شيء عداه، ومن ثم لا يدرك المتعصب أنه متعصب، لا يدرك أبدا إلا إذا جاءته رحمة الله فخلع منظاره الملون عن عينيه. فتعدد الآراء في الشيء الواحد هو في الحقيقة اختلاف في ألوان المناظير، لا في الشيء ذاته، ولا في العيون التي تستطيع أن ترى الشيء على حقيقته لو مكن لها أن تراه مباشرة وبغير منظار.
قد أنظر إلى الجماعة من الأصدقاء، وقد أستمع إليهم يديرون المحاورة حول موضوع، فيقول الواحد منهم رأيا ليدحضه صديقه، فأهمس لنفسي عندئذ: ترى كم بين هؤلاء الأصدقاء من كراهية صامتة لا تعلن عن نفسها؟ إن الحب محمود عند الناس؛ ولذلك فهم يسرعون إلى إعلانه إن كان بينهم منه شيء كثير أو قليل، أما الكراهية فمرذولة ممقوتة؛ ولذلك فهي مضطرة إلى التستر في صمت وراء أقنعة الرياء، نعم أسأل نفسي عندما تجلس جماعة الأصدقاء في حديثها يدحض بعضهم آراء بعض: ترى إلى أي حد صدر الرافض للرأي عن صدق مخلص، وإلى أي حد صدر عن كراهيته المكنونة في صدره، التي يحرص على إخفائها حرص تاجر المخدر على إخفاء بضاعته؟
وإنما جاءتني هذه المقارنة بين الخبيئين؛ لأن كليهما قد يثري صاحبه من وراء الستار، ولست أدري كم جمعت تجارة المخدر لأصحابها من ثراء، لكني أستطيع أن أدلك على طرف يسير مما جاءت به الكراهية الدفينة على الكارهين من ربح نفسي موفور! فبمقدار كراهيتك للناس والأشياء والأوضاع من حولك، تكون مقاومتك لها ومحاربتك إياها، ثم بمقدار هذه المقاومة والمحاربة يكون التقدم بالحياة من حال إلى حال: كره الناس حكامهم الطغاة فقاتلوهم حتى ظفروا بحريتهم من سياط طغيانهم، وكره الفقراء أن يتمتع الأغنياء بكل شيء من دونهم فطالبوا بالإصلاح حتى رأينا الضرائب تجبى بكثرة على الأغنياء ليعيش الفقراء ... فهذه وأمثالها كراهيات منتجة، لكنها أنتجت حين أعلنت عن نفسها، ولو لبثت على صمتها كامنة في النفوس لظلت على عقمها.
آه لو شقت الصدور وفتحت القلوب، لترى كم اختبأ فيها من عناقيد الحصرم المر - حصرم الكراهية التي يحملها الناس بعضهم لبعض، ثم لا يكشفون! ورحمك الله يا «فرويد» حين وضعت أصابع الناس على حقيقة هالتهم وأفزعتهم، وهي هذا العداء المستحكم بين الابن وأبيه منذ الطفولة، ولو أدرك الآباء هذه الحقيقة على هولها كله، لساسوا أبناءهم بما يخفف حدة هذه الطبيعة البشعة بدل أن يزيدوا النار لهبا وسعيرا ... هل تصدق أن هذه البسمات التي يتبادلها الزوجان لا تخفي وراءها كراهية وضيقا؟ هل تصدق أن هذا الود يتقارضه الصديقان لا يطوي في أحشائه غلا وحسدا؟ ... إنه البشر وإنها طبيعته.
Unknown page