عند سفح الجبل
نفس عارية1
الكوميديا الأرضية
خيوط العنكبوت
الكراهية الصامتة
عروس المولد
إلى سادتي الحكام
أبناء الظلام
عالم قلق
نفوس فقيرة
Unknown page
مصباح علاء الدين
مقومات الحياة
عزمات الإرادة
هاروت وماروت
رهان
نظرة الطائر
تمثال فيدياس
الأفراد! الأفراد!
آباء وأبناء
سيئات الموتى
Unknown page
ندوة الخميس
ابتسامة الساخر
أنتيجونا
نشر القديم
سلم القيم
نموذج المتمدن
الحس المشترك
الفكرة الواضحة
جناية الألفاظ
مهمة الكاتب
Unknown page
إعانة المجلات العلمية
جناية الأدباء
عند سفح الجبل
نفس عارية1
الكوميديا الأرضية
خيوط العنكبوت
الكراهية الصامتة
عروس المولد
إلى سادتي الحكام
أبناء الظلام
Unknown page
عالم قلق
نفوس فقيرة
مصباح علاء الدين
مقومات الحياة
عزمات الإرادة
هاروت وماروت
رهان
نظرة الطائر
تمثال فيدياس
الأفراد! الأفراد!
Unknown page
آباء وأبناء
سيئات الموتى
ندوة الخميس
ابتسامة الساخر
أنتيجونا
نشر القديم
سلم القيم
نموذج المتمدن
الحس المشترك
الفكرة الواضحة
Unknown page
جناية الألفاظ
مهمة الكاتب
إعانة المجلات العلمية
جناية الأدباء
الكوميديا الأرضية
الكوميديا الأرضية
تأليف
زكي نجيب محمود
عند سفح الجبل
هو جبل شاهق، يعلو بقمته على مستوى السحاب، فلئن اعتاد أهل الأرض أن ينظروا إلى السحاب منسابا فوق رءوسهم، فأهل تلك القمة العالية ينظرون إليه صاعدا أو هابطا تحت أقدامهم؛ إذ لا يجاوز ثلاثة أرباع الجبل صعودا، حتى إذا ما كثف الغمام نظر الواقف هنالك، فإذا هو على جزيرة ناتئة حولها بحر من دخان، تتدافع أجزاؤه في صمت، كأنه الموج الأخرس، يرتفع حينا ويهبط حينا، وهو في معظم الحالات من الكثافة بحيث يستحيل على ساكن القمة العالية أن يرى شيئا من السفح، وقليلا ما يصفو الفضاء فيتبدى سفح الجبل من أعلاه إلى أدناه، بصخوره البارزة الغليظة، وشعابه الخشنة الممزقة.
Unknown page
فالقمة مشمسة طيلة النهار سماؤها صحو أبدا، وعليها قامت قرية صغيرة أمرها عجب؛ فهي نظيفة البيوت نظيفة الشوارع، نعم إن شوارعها ملتوية كالأفاعي، تكاد لا تستقيم في موضع، إلا أنها مرصوفة كلها، نظيفة كلها، وعلى جوانبها صفوف من المنازل الجميلة الأنيقة، مختلفة الطرز منسقة البساتين، وأهل القرية على درجة ملحوظة من نظافة الثياب وسلامة الذوق، وإن يكن مما يلفت النظر فيهم بدانة وترهل وبطء حركة.
ولست ترى هنالك خدما ولا دكاكين؛ فتعجب من أين تأتيهم حاجاتهم؟ ومن ذا يعاونهم على تنظيف الشوارع والبيوت؟ ولذلك قلما تسمع في طرقاتها صوتا، ومن النادر أن ينبعث صوت من هذا البيت أو ذاك، بل قليلا ما يصادفك في أنحائها رائح أو غاد، كأنهم جميعا قد قروا في بيوتهم لا يبرحونها لنزهة أو عمل.
هكذا كانت الحال كما وصفها محدثي الرحالة، وكما بدت له عند أول صعوده ذلك الجبل إلى قمته، ثم ما لبث أن التقى من أهل القرية برجل، قصد إلى لقائه بتوصية من صديق، حتى تبين له - بهداية هذا الزميل - نشاط عجيب حاد عنيف داخل الجدران؛ ذلك أن هذه القرية كثيرة النوادي، كثرة ليس لها نظير فيما نعرف من مدن الأرض الواقعة في مستوى البحر، ومن تلك النوادي ما هو خاص، ومنها ما هو عام، لكن النوادي الخاصة هي التي كانت موطن النشاط العجيب الذي أشرنا إليه، وهي صنوف مختلفة، منها النوادي السياسية، والاجتماعية والثقافية، والرياضية وغير ذلك، بل قد يختص النادي الواحد بناحية غريبة واحدة لا يتعداها بنشاطه، فمن أمثلة ذلك ناد لسباق الأرانب وناد لتدخين النرجيلة، وناد لصيد البط، وآخر لصيد الإوز وهكذا.
وأخذ يصف لي محدثي الرحالة ما لقيه في نوادي القرية وهو بصحبة دليله، فهذا ناد سياسي، تدخل من بابه الخارجي إلى البهو، فلا حركة ولا صوت، صمت شامل وهدوء جميل، حتى إذا ما انفتح لك باب غرفة الاجتماع، جاءتك الأصوات كالرعود. ويقول محدثي: إن أول ما عجبت له عندما دخلت مع دليلي متسللا على أطراف قدمي، أني رأيت أصحاب الأبدان السمينة والحركات البطيئة والأطراف المسترخية، قد دبت فيهم حرارة المناقشة كأنها شعلة من نار؛ فالوجوه محتقنة، والعيون محمرة، والأجسام متحفزة، والأطراف مرتعشة، وكانت كلمة «الشعب» أكثر الكلمات ورودا في مناقشاتهم الحادة الحارة. وقد سألت نفسي عندئذ: أي «شعب» يا ترى يقصدون؟ لأنني لم أجد في القرية شعبا بقدر ما وجدت سادة، أفيكون هذا المجتمع الغريب رأسا بلا بدن ؟ لكنني لم أطل التفكير في هذا وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأن شدة التحمس ترغم السامع إرغاما على مسايرة الحديث، وهم يتراشقون فيه بالحجج كأنها الحجارة أو أشد صلابة، ويظلون كذلك حتى يفوتهم أوان الغداء إن كان الوقت نهارا، وأوان العشاء إن كان الوقت ليلا، وهنا كذلك سألت نفسي: من أين لهؤلاء الزاهدين في الطعام هذه الأبدان السمينة؟ لكنني مرة أخرى لم أطل التفكير في هذا، وما كنت لأستطيع أن أطيله؛ لأنني إزاء تيار دافق من الكلام، يستحيل معه لإنسان أن يقف لحظة واحدة يفكر أثناءها لنفسه في هذا أو ذاك مما عساه أن يستوقف نظره أو سمعه.
ومضى محدثي الرحالة يقول: الحق أنهم في تلك الندوة السياسية التي زرتها، كانوا يناقشون موضوعا ظريفا طريفا وهو: هل يستورد الإصلاح الدستوري «للشعب» - قلت إن كلمة «الشعب» كانت كثيرة الورود - من فرنسا أو من بلجيكا؟ فالبضاعة الفرنسية - بما في ذلك الدستور والقوانين - فيها جمال لكنها رقيقة إلى حد الهزال والضعف، والبضاعة البلجيكية على شيء من متانة البناء، لكنها عسرة الهضم متعذرة القبول، و«الشعب» عندنا - هكذا روى الرحالة محدثي عن خطباء الندوة السياسية على قمة الجبل - لا ترضيه الرقة الفرنسية ولا تقنعه الغلظة البلجيكية. وقال قائل: لماذا لا تمزج عناصر من هنا بعناصر من هناك؟ فجاءت فكرة مزج العناصر كالقنبلة الداوية؛ لأنها نقلت الحديث كله إلى موضوع جديد هو: هل يمكن للعناصر أن تمتزج؟ وأي المقادير يجعل النسبة صحيحة مناسبة للمزج؟ ولبثوا في ذلك حتى انفض الاجتماع ليعود إلى البحث مرة أخرى.
وزار محدثي الرحالة ندوة ثقافية في تلك القمة العالية التي لا تعكر صفو سمائها سحابة في نهار أو ليل؛ لأن القمة تعلو على مستوى السحاب، وها هنا - بداهة - لم يجد صخبا ولا ضجيجا؛ كان البهو صامتا، وانفتح الباب عن غرفة الاجتماع فإذا فيها صمت هامس، وكان موضوع الحديث هو: ماذا يكون أساس الفن كله بما في ذلك الأدب؟ أيجعلون الفن للفن، أم يخدمون به «الشعب» - كانت كلمة «الشعب » هنا أيضا دائرة على ألسنة المتكلمين في كثرة ملحوظة - وكانت كثرتهم الغالبة مع «الشعب»، لا بد أن يصور المصور للشعب، وأن يعزف الموسيقي للشعب، وينشد الشاعر شعره للشعب، وينحت المثال تماثيله للشعب، ويقيم المهندس المعماري عمارته للشعب. وعبثا حاول منهم فريق ضئيل أن يبين للحاضرين أن القطعة الفنية مخلوق قائم بذاته. ولا يقال عن المخلوق الذي كملت خلقته ماذا يحقق من أغراض؟ لأنه لا غرض من الكائن التام التكوين إلا أنه كائن تام التكوين وكفى، هل تقول ما الغاية من هذه الفراشة؟ وما الغاية من هذا العصفور؟ وما الغاية من هذه الوردة؟ كذلك لا ينبغي أن تقول ما الغاية من هذه القصيدة؟ وما الغاية من هذه القطعة الموسيقية؟ وما الغاية من هذه الصورة أو التمثال؟ إنها جميعا كائنات خلقها خالقوها فأحسنوا خلقا، وفي ذلك الكفاية.
لكن فكرة «الشعب» - كما قلت - كانت لها الغلبة والرجحان؛ ففي سبيل الشعب ما يخلق الفنان.
وخرج محدثي الرحالة - كما روى - من الندوة الثقافية معجبا أشد إعجاب؛ لأن تبادل الرأي قد تم في هدوء ورحابة صدر، أين منه ما شهده في الندوة السياسية من نيران مستعرة في الأعين والوجوه والأطراف؛ وقصد لتوه ندوة اجتماعية ولم يشأ أن يرجئ الزيارة إلى يوم آخر لقصر مقامه هناك، فقد كان لا بد له من الهبوط إلى السفح في صبيحة اليوم التالي.
وكانت الندوة الاجتماعية في منتصف نشاطها عندما زارها صاحبي، لم يشهد الحديث من أوله، لكن المصادفة قد شاءت أن تكون أول كلمة يسمعها عند انفتاح الباب، هي كلمة «الشعب»، ولم يسعه عندئذ إلا أن يعاود السؤال من جديد: أين يا ترى هذا الشعب الذي يشير إليه كل متحدث إذا ما انفرجت شفتاه عن حديث مهما قصر؟ إنها - فيما رأى - قرية صغيرة كلها منسق نظيف، لا خدم فيها ولا باعة ولا مارة إلا في القليل النادر، لكنه سرعان ما طرح هذا التيار الداخلي في نفسه لينصت.
كان الخطيب الذي يتكلم في نحو الثلاثين من عمره، تميزه حركات بذراعيه وجذعه تتناسب مع المعاني التي يعبر عنها في حديثه، وخلاصة كلامه أنه متألم لحال الشعب؛ لأن حياته تكاد تخلو خلوا تاما من أسباب اللهو البريء، فهل عملت الحكومة في القرى على الترويح عن هؤلاء العاملين منهوكي القوى؟ هل أعدت لهم شيئا مما يدفئ في الشتاء ويخفف عناء الحر في الصيف؟
Unknown page
وما إن خرج محدثي الرحالة - هكذا روى - من تلك الندوة، حتى سأل دليله في حذر وتلعثم: أين الشعب هنا؟ فقال الدليل: الشعب؟ ليس هنا، إنه هناك، هناك عند سفح الجبل، ها هنا القمة، قمة الصفوة الممتازة، ألم تصعد إلينا من سفح الجبل حيث أفراد الشعب يعملون ويقيمون؟
فأجاب الرحالة في ارتباك واضطراب: نعم، نعم، رأيتهم هناك، لكنني ظننت أنهم ...
فسأل الدليل: ظننت ماذا؟
فقال الرحالة: ظننتهم أفراد شعب لا ينتمي إلى هذه القمة وأهلها، كانت غفلة مني وكان سهوا لأن العلاقة بين القمة والسفح واضحة، واضحة لا تحتاج إلى بيان؛ فما على السائر إلا أن يصعد مجتازا حاجز السحاب فإذا هو في القمة المشمسة، أو يهبط مجتازا حاجز السحاب فإذا هو عند سفح الجبل.
وفي ضحى اليوم التالي، هبط رحالتنا إلى السفح في طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس امرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، فأما المرأة فكومة من أسمال سوداء، تكاد لا تميز فيها رأسا من صدر، حتى إذا ما رفعت وجهها، رأيت شيئا قريب الشبه بجماجم الموتى، غطاه جلد داكن متغضن، وكأنما كانت ترتعش بجسدها كله رعشة متصلة، وأما حلواها فسل عنها أقذر الذباب.
ترى كم مليما تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن وعلى أي كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تغطي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ أين وكيف تغسل جسدها؟ ومن ذا يجيبها إن تأوهت من ألم كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟
وأبطأ صاحبي الرحالة خطاه أمام بائعة الحلوى، وهو يفكر في أمرها ، ويسأل نفسه هذه الأسئلة عنها، فظنته المسكينة شاريا لبضاعتها، فقالت في أنفاس متقطعة واهنة: «حلاوة يا زباين.»
قال الرحالة: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟
فقالت: القطعة بمليم.
قال: سأشتري منك حلواك كلها لأولادي.
Unknown page
وكأن «البائعة» لم تصدق قول «زبونها» فراحت - قبل أن تجمع له «البضاعة» - تدعو له ولأولاده بطول البقاء، ناظرة إلى السماء، باسطة كفيها النحيلتين المعروقتين المرتعشتين.
فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشا كاملا ثمن حلواها - وحقها سبعة مليمات - لا تنسي يا أمي أن تطلبي من رب السماء رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق قمة الجبل، لقد رأيتهم هناك بعيني رأسي، يتحمسون لك ولا يدخرون من وسعهم وسعا، فقد كانوا يتجادلون في نوع الإصلاح الدستوري الذي يستوردونه لك من فرنسا وبلجيكا، وكانوا يتناقشون في هل يخلق الفنان فنه لنفسه أو يصوغه ويوجهه إليك، ورأيتهم يبحثون كيف يهيئون لك مصيفا تستمعين فيه بهواء عليل حين تشتد الحرارة هنا في يوليو وأغسطس ...
فرفعت المرأة عينيها مرة أخرى نحو السماء، وبسطت كفيها، وقالت: «يا رب بارك لنا فيهم أجمعين.»
نفس عارية1
«لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا، لا أريد اطمئنان النفس وراحة البال، وإني لأسعى دءوبا إلى الشقاء والعناء والتعب، وأبحث عن أسباب البؤس والنكد؛ كذب كله هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل عن طلب الإنسان لسعادة نفسه، إنهم لا يعلمون عن النفس الإنسانية شيئا أولئك الذين يحسبون الناس جادين في طلب السعادة وراحة البال، ويظنونهم جادين حقا في التماس الرفاهية والخير.
إني أريد لنفسي الألم، وأريده للناس؛ أريد لها ولهم أن يتعذبوا، ومنافق أنا مع سائر المنافقين حين أدعي بهتانا وزورا أنني كاره حقا للألم ينزل بي، وبالناس، ويشتملني ويشتملهم جسدا وروحا ... إنني لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي رأيته مرة يبكي على لعبة أفسدتها له أخته، فجاءت أمه تمسح له الدموع عن عينيه، وترضيه بحلو كلامها، فقال لها وهو يدفعها عنه بيديه الصغيرتين غاضبا: عني لا تمسحي دموعي؛ لأنني أريد أن أبكي ولا أستطيع البكاء بغير دموع ... لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي أصاب من حقيقة النفس الإنسانية بفطرته الشفافة، ما لم يصبه أصحاب الكتب والمواعظ الذين قد راءوا حتى أفسدهم الرياء، ونافقوا حتى أنساهم النفاق أنهم منافقون. إن الإنسان يريد أن يتألم ويبكي، ويبحث في الخفاء عما يثير فيه ذلك الألم وهذا البكاء، وكذب كله هذا الذي يقولونه ويكتبونه من أن الإنسان ينشد لنفسه وللناس راحة وطمأنينة وسعادة.
أنظر إلى هذه القطعة من الحلوى، قد وضعت لي على المائدة منذ أمس، وهممت أن آكلها مرات عدة في غضون النهار، ثم أمسكت لأنني آثرت لنفسي الحرمان ...»
بمثل هذه الدفعة العجيبة راح صديقي يحدثني عندما زرته فوجدته في داره وحيدا، فلا أمه هناك ولا خادمته، وكانت الدار مغلقة النوافذ، والضوء فيها قبيل الغروب خافتا بين الظلام والنور.
فتح لي الباب ولم يفرح للقائي كعادته؛ لأنه - فيما بدا لي - قد كان يريد الوحدة، بل لم يكفه أن يكون في الدار وحيدا، فانتبذ من داره هذه الخالية ركنا أبعد ما تكون أرجاؤها عن مصادر الضوء والصوت، كان في مستطاعه أن يضيء المصباح وأن يدير المذياع، لكنه لم يفعل.
وجلست إلى جواره فيما هو أشبه بظلام الليل منه إلى ضوء النهار، لا أجرؤ على إضاءة هذا المصباح لأني ضيفه، وليس للضيف أن يغير من أوضاع الدار التي تضيفه، أو أن يلاحظ عليها شيئا إلا أن يكون استحسانا ومدحا. وظل هو إلى جانبي صامتا يفرك يديه، ويطقطق أصابعه، ولم يمنعني خفوت الضوء من رؤية شفتيه الراجفتين وعينيه البارقتين وأطرافه المختلجة.
Unknown page
فقلت له: لست أراك في وحدتك هذه سعيدا.
فاندفع يجيبني متدفقا بالعبارة التي أسلفت بعضها: «لا، إني لا أريد أن أكون سعيدا ...»
وانتهزت لحظة قصيرة وقف فيها تياره الدافق، وقلت: هل لك أن تذكر لي ما حدث لك اليوم حتى أتعقب ثورتك هذه إلى أصولها؟ وسترى عندئذ أنها ثورة مؤقتة مرهونة بأسبابها، حتى إذا ما زالت الأسباب، عاد إلى النفس هدوءها وصفاؤها؛ فالأصل في الإنسان أن يكون هادئا ساكنا سعيدا، والشذوذ أن يضطرب ويشقى.
فقاطعني قائلا: هذا حديث شاعر يسبح في أحلامه الجميلة مغمض العينين، أولى لك أن تصيح بالرياح: أن اسكتي يا رياح حتى يهدأ البحر فلا يموج، أو أن تهتف بالشمس ساعة غروب جميل أن قفي يا شمس حتى لا يغيب عنا هذا الجمال ... إن مثيرات النفس قائمة لنا في كل خطوة من الطريق وفي كل منعطف بها؛ سر هنا فهنا ما يثيرك، وسر هناك فهناك ما يثيرك، ومل نحو اليمين أو مل نحو اليسار، تجد مثيرات النفس تتلقفك يمينا ويسارا، فماذا أنت صانع إذا أردت لنفسك الطمأنينة والهدوء؟ بل ارجع إلى دارك وغلق من دونك بابها ونوافذها كما تراني أفعل الآن، وستلاحقك المثيرات، حين تستعيد بالذاكرة ما رأيت وما سمعت، وحين تضيف إلى كل هذا الذي قد رأيته وسمعته جديدا من عندك تسر به إلى نفسك.
فسألته: ماذا تعني؟
فقال: ألم تلحظ في نفسك كيف تتوهم بخيالك أنك تتحدث إلى فلان أو علان، فيقول لك كذا فتقول له كيت، ويفعل كذا فتفعل كيت، وما تزالان - في خيالك - تتخاصمان بالقول وتتقاتلان بالفعل، حتى تنظر، فإذا أنت قد احتدمت في نفسك الثورة واشتد بك الغضب؟
فقلت: كأنما عداوات العالم الواقع لم تكفنا فنزيدها بخيالنا عداوة، وكأنما مثيرات الدنيا من حولنا لم تشبع نفوسنا، فألهبناها بأوهامنا حرارة وسعيرا.
فقال - وقد هدأ بعض الشيء - نعم ... لكن الخير كل الخير في أن تنكشف للناس هذه الخواطر الدفينة، حتى يعلموا حقائق نفوسهم وما يدور فيها، إنك قد تقاتل خصمك في خيالك قتالا ينتهي بك فعلا إلى غضبة حقيقية تندفع معها إلى الأخذ بالانتقام والثأر ... أليس جديرا بالناس أحيانا أن يضعوا نفوسهم عارية أمامهم لا يحجب مكنونها حجاب، فلعل ذلك يفتح أعينهم على حقائق يجهلونها فيحورون من سلوكهم بعضهم إزاء بعض بما قد يحد من هذه الضغائن والسخائم التي يكتمونها في أنفسهم كارهين.
وصمت صديقي قليلا ثم قال: ولماذا لا أبدأ بنفسي؟ هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية كما وجدتها طوال ساعات العصر - لن أستحي من مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثا، فكل الناس هذا الخبيث - لكنه الرياء يستر ويخفي ...
رأيت ظهر اليوم طفلا أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانا شديدا، لكن الطفل يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربا متلاحقا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران. وعدت إلى هنا، فما هو إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة، إذ صورت لنفسي فلانا وقد قذف بي على الأرض قذف الطفل لنحلته، وراح يلهبني بعذبات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ومتعته، ولا عليه أن أدوخ وأتعب.
Unknown page
إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة غيرها، أضرب بالسياط لئلا أقف فتنقطع متعة المتمتعين - لا تقل إنه وهمك وخيالك؛ لأنه عندئذ لا فرق بين حقيقة وخيال، فانطلقت خواطري متلاحقة، ساعات العصر سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء سابحة متعاقبة، ثم تدور دورتها لتعود من جديد ... انطلقت خواطري السوداء متلاحقة فلا أرى الناس إلا معذبا بعضهم بعضا - كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل من أن الإنسان يرجو لغيره الراحة والخير، فأنت مشاهد في كل خطوة تخطوها وفي كل ثنية ينعرج بك الطريق فيها، دليلا شاهدا على أن الناس يمقت بعضهم بعضا ويوقع بعضهم ببعض الضر والأذى.
وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب الذي يكتبه الكاتبون على سبيل الوعظ والتقويم، أو لست أدري لماذا يكتبونه وهم يعلمون أنه كذب، أو لعلهم لا يعلمون.
لكن خاطر التمزيق لم يكد يطوف برأسي، حتى اشتدت سرعة الخواطر الهدامة المشتعلة بالحقد والانتقام؛ رأيت نفسي أنتظر حتى ينسدل ظلام الليل، فأتخفى تحت ستاره وأقصد إلى دار خصمي الذي يبتسم لي رياء، والذي تصورته يضربني بعذبة سوطه لأدور كما كان الصبي يضرب نحلته على بلاط الإفريز؛ أقصد إلى دار خصمي ذاك فأشعل فيها النار ثم أجري إلى التليفون القريب لأنادي رجال المطافئ ، والعجيب أني استشعرت الراحة للصورتين معا: لصورة النار أشعلها انتقاما، ولصورة الشهامة أبديها في محاولة الإنقاذ ...
قلت لصديقي: ليس عليك من بأس، فأنت خير حالا من شيطانة دوستويفسكي؛ لأنك هدمت وأصلحت، أما هي ...
فسألني: وما شيطانة دوستويفسكي؟
فقلت: هي «ليز» الفتاة التي أحبت «أليوشا» في قصة الإخوان كارامازوف، ثم أخذتها هذه الدفعة الجامحة نحو ارتكاب الشر وإيقاع الأذى حتى بنفسها، فأرسلت إلى «أليوشا» - وهو الشاب المتبتل الورع - فلما سألها: ماذا تريدين؟ قالت: أردت أن أعبر لك عن شوق شديد بنفسي، وهو أن يتزوجني زوج ليعذبني ثم يخدعني ويفر عني هاربا، إني لا أريد أن أكون سعيدة.
فقال لها «أليوشا»: أتنشدين السوء؟ فأجابته: أن نعم، وما أنفك راغبة في إشعال النار في بيتي، بحيث لا يدرك الناس الخطر إلا بعد فوات الأوان فيحترق كل شيء.
قال صديقي - وقد اطمأن نفسا أن يرى الناس في ذلك سواء: يظهر أن هنالك لحظات يحب الإنسان فيها ارتكاب الشر وينزع إلى الجريمة، ليس الناس ملائكة ولا قديسين، لكن ما الذي دفع «ليز» في قصة دستويفسكي أن تنزع إلى هذا الشر كله؟
فقلت: لعله مرضها؛ كانت كسيحة ثم برئت، لكنها لم تبرأ كل البرء، فربما أشعلت العلة في نفسها نار الحقد والرغبة في الانتقام.
قال: انتقام ممن؟! لقد أرادت أن تشعل النار في دارها هي، فهي الخاسرة.
Unknown page
قلت: نعم، هذا هو الإنسان وهذه هي طبيعته، يشتد به الضيق فيشق ثيابه ويمزقها، ويضرب رأسه في الجدار ليتورم، بل قد يزهق نفسه بيديه ... لقد ضاقت «ليز» نفسا حتى طردت حبيبها من الدار، وأغلقت الباب على إصبعها عامدة، ثم أخرجت إصبعها وهو ينز بالدم من أسفل الظفر، فراحت تتأوه من الألم وتفرح في دخيلة نفسها أن أوقعت بنفسها ذلك الألم ... إنه الإنسان وطبيعته، يضيق نفسا فينزل الأذى بالناس وبنفسه.
هنا قام صديقي وأنار مصباحه - وكان الظلام قد اشتد سواده - وعاد إلى مكانه منبسط الجبين، كأنما اطمأن على نفسه من شذوذ ظنه بها، وقال: لو لم تكن «ليز» مريضة لما أحدثت شرا ولا اقترفت إثما، فماذا أنت قائل فيمن نزل بهم المرض مضافا إليه عري وجوع وتشريد؟
الكوميديا الأرضية
يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين، هو «فرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.
ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهوته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا بما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة، كما قد فعل أول مرة، ثم اختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.
وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.
يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرأ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل إلى أبد الآبدين، فيأيها الداخلون انفضوا عن أنفسكم - عند مدخلي - كل رجاء.»
ويدخل الرجلان فإذا بالجحيم هوة سحيقة في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض وقدمه على حافة البحر، وجوانبه مدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون، ولا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم حتى يبلغا نهرا يسمى بنهر الأسف والأسى، وعلى شطه ألفيا نفرا يريد العبور إلى الشاطئ الآخر، وكان العبور تحت إشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبا قاسيا عنيفا، وعيناه تدوران في رأسه كأنهما حلقتان من نار، فلا يحتمل دانتي هذا المشهد الرهيب، ويسقط في إغماءة لا يفيق منها إلا على صوت رعد يقصف قصفا شديدا، وعندئذ يعلم أنه وزميله قد عبرا نهر الأسف والأسى، حيث انتهى بهما العبور إلى أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم؛ ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس، وأخذت تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم، فيصيحون من الألم، ولا يعرفون إلى الطمأنينة والراحة سبيلا. ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا أمامهما فريقا من الآثمين المجرمين، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم، وإذا بهؤلاء قد عصفت بهم ريح شديدة فأخذتهم الراجفة كأنهم الكراكي في العاصفة، وهنا يقول دانتي: «ها هنا بدأت أسمع صيحات الحزن والأسى، فها هنا قد أتيت إلى حيث الأنات الشاكيات، تقرع أذني فتؤذيها، إذ ها هنا قد أتيت إلى مكان خفت فيه الضوء وزمجرت رياح عواصف، كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج، وهبت في جنبات الجحيم رياح عاتية أخذت في سورة الغضب تسوق أمامها هؤلاء الآثمين سوقا فتدور بأجسادهم حتى الدوار، وتدفعهم دفعا عنيفا موجعا ... إلخ.»
وهنا سقط شاعرنا «دانتي» في إغماءة أخرى؛ لأنه رقيق الحس كسائر الشعراء، حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، في هذه الحلقة الثالثة أعد العقاب لمن عف فلم يلحف في السؤال عن حقه لدى أصحاب السلطان، فشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون في حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح في وجوههم وتعوي وتمزق جلودهم تمزيقا بأنيابها ومخالبها.
وبعدئذ سار الشاعران إلى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم، فوجدا جماعة كانت تشتغل بالإصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم؛ ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب، فرآهم الزائران هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات في اتجاهين متقابلين، ثم لا تلبث جلاميدهم أن يصدم بعضها بعضا ، ويعود كل جلمود كما كان أول أمره، فينفجر الأشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نصب وإعياء، ويلعن فريق منهم فريقا؛ لأن كل فريق يعتقد أن الفريق الثاني هو الذي أتلف عليه ما صنع.
Unknown page
وينتقل الزائران إلى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم، وقد خصصت لمن أخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدا، ولا يؤجل عملا إلى غد، ويغضب ويحزن إذا ما رأى من المستهتر تراخيا وتفريطا، كان هؤلاء المغفلون يسكنون في الجحيم قاع بحيرة من وحل، يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث أن تنفجر، وقد قال منهم قائل حين أحس مرور الشاعرين إلى جانب البحيرة: «كنا ذات يوم حزانا على الفوضى الضاربة في أرجاء البلاد، كنا رغم الهواء الحلو الذي كانت تبهجه أشعة الشمس، نحمل في أجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا؛ لذلك حق علينا الحزن في هذا المكان القاتم.»
وبعدئذ وصل الشاعران إلى مكان الحلقة السادسة حيث أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، فقيل لهم إن هذا مدخل مدينة الشيطان، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة أبوابها، ويدخل الرجلان بابا فإذا هما يشهدان سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، تتأجج في كل منها نار تلتهمه؛ لأن صاحبه كان حرا في رأيه يعلنه كيف شاء، فحقت عليهم جميعا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء.
وبلغ الراحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب، حتى انتهيا إلى نهر من دماء وقف في لججه أولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون في حياتهم عن اعتراك الأحزاب السياسية، ويقفون في ركن هادئ يفكرون، أو يمضون في سبيلهم الجاد ينشئون ويعلمون.
وكانت الحلقة السابعة ذات شقين، فدخل الشاعران شقها الثاني، وأبصرا فريقا آخر من المغفلين الذين أخذتهم الغيرة في سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين، فهؤلاء قد انقلبوا في الجحيم أشجارا جافة قصيرة، تتدلى منها ثمار مسمومة، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح، وذلك جزاء ما أحدثوه من قلق في نفوس كانت آمنة مطمئنة.
وفي الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حشدت طائفة أولئك الذين كانوا لا يراءون ولا ينافقون في عالم خلقه الله للرياء والنفاق؛ فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد، إذ غمسوا في حفرة ملئت بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف. فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها، لا يبدو فوق الماء منها غير خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج.
وقد شهد «دانتي» هنالك مشهدا رهيبا، إذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشيء، فجاءه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبا شديدا، ثم ألقى به في عنف طريحا حتى بدا له كأنه كلب من كلاب الماء.
وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين الفدام البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فكل فرد من هؤلاء قد ألبسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره، ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل فإن على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق في القول والإخلاص في العمل.
وفي الحلقة العاشرة والأخيرة من حلقات الجحيم، شهد الشاعران - ويا هول ما شهدا - شهدا فريقا من الناس أتوا في حياتهم أمرا إدا، واقترفوا جريمة هيهات أن تجد لها عند الله غفرانا، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يصيحوا ويملئوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة أو نطقوا كلمة، فكان جزاؤهم في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه أشباح المعذبين كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة، فهذا جزاء من يعمل صامتا معتمدا على نفسه، فلماذا خلق الله للناس آذانا إذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين، ولماذا خلق لهم قلوبا إذا لم ترق لشفاعة المتشفعين؟
وكانت الكروب عندئذ قد أضاقت صدر «دانتي» وطلب من دليله أن يسرع به إلى حيث الفردوس ونعيمه، فما هو إلا أن وجد مركبة مغطاة بالزهر، حملته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والأكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال؛ فها هنا يقيم من رضي عنهم الله من المنافقين أصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء.
وأفاق «دانتي» وهمس لزميله فرحا مستبشرا، فقال: ادع لنا الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بهذا النعيم.
Unknown page
خيوط العنكبوت
هذه الصديقة الفاتنة الثائرة لست أدري كيف أنجو من لحظها الساحر، فإني حيالها كالصيد الذي يمرح في حبائل صائده ... عيناها اللامعتان الصافيتان هما البحر السحيق العميق يغري ضحيته بهدوئه الساكن، فيغوص وراء اللآلئ والأصداف، وإذا هو في لحظة قصيرة بين المغرقين ... فمن هاتين العينين تفيض خيوط رفيعة من الضوء، غزلتها ملائكة أو شياطين، وتظل الخيوط الرفيعة اللألاءة فياضة تغمرني هنا وهنا وهناك، فما هو إلا أن أراني بين يديها مغلولا مسحورا فلا اختيار ولا إرادة.
إنه لولا حبي لهذه الفاتنة لقلت إنها هي بعينها - بل بعينيها - تلك الأفعى التي قالت عنها الأساطير ... قالت الأساطير إن ثعبانا رقد على بيضة باضها ديك، فخرجت من البيضة هذه الأفعى المسحورة الساحرة، خرجت ذات رأسين، في كل رأس منها عين، فإذا هي نظرت ذات اليمين برأسها الأيمن أو ذات اليسار برأسها الأيسر، فقل سلاما على من وقعت عليه نظرتها! إن أسير نظرتها هو إلى الأبد مغلول مشلول مفقود الإرادة، والويل لمن حدج ناظريها بناظريه ... وفاتنتي الثائرة هي هذه الساحرة، غير أن أسيرها ينعم بأسره في حبائلها المغزولة من ضوء عينيها.
ليت شعري: هل أدركت هذه الفاتنة كم أضعف لجمال العينين؟ إنه ضعف أعزوه إلى ما في عيني من علة وكلال ... كان «نيتشه» عليلا هزيلا، وكان ذات يوم واقفا ليشهد صفوف الجند تضرب الأرض بأقدام قوية، وتهز الأذرع هزا عنيفا، وتبرز بصدورها بروز الشباب الفتي المتحدي، فأوحى له هذا المنظر بما أوحى، وراح منذ تلك الساعة يتغنى «بالإنسان الأعلى» ويحلم بيوم يزول فيه الضعف لتملأ مكانه قوة وفتوة، وكان ذلك كله حسرة على ضعفه وهزاله ... أفيكون عجبا مني أن أنظر إلى العينين أول ما أنظر، وأن يأتيني من العينين أول الفتنة؟ فما بالك والعينان قاتلتان فاتكتان تستحلان سفك الدماء في الأشهر الحرام؟
ولقد اعتادت صديقتي الثائرة ذات العينين الساحرتين - إذا ما أرادت أمرا - أن تنظر إلي بعينها هنيهة وهي باسمة صامتة، ثم تلقي أمرها، فإذا هو بين جنبي الحافز الذي لا تسكن غمزاته حتى يكون لها ما أمرت به ... وقد التقينا منذ حين فسألتني:
لماذا أغمدت القلم في غطائه أشهرا طوالا، ورقدت رقدة أهل الكهف أو شبهها؟ لقد تغير وجه الدنيا ودالت دولة وقامت دولة ...
قلت: وماذا تريدين؟
فنظرت إلي بعينيها الواسعتين لحظة، ثم قالت: اكتب، اكتب في نقلة الناس من حال إلى حال. فمضيت عنها، لا أدري كيف أهمل أمرها ولا كيف أنفذه، وعدت إلى مكتبي أقلب الصفحات لعلها تلهمني بما أقول، أو أستلقي على الفراش متفكرا متأملا، لكنك تعلم كيف تكون الحال حين يجف مداد القلم وينضب منه المعين، فتأمل عندئذ ما شئت، وفكر ما حلا لك التفكير، فلن تنبت الأرض الجدباء شيئا إلا الحسك اليابس هنا وهناك.
قلت لنفسي: أخرج إلى الطبيعة النقية الفسيحة، فإلا يكن لك منها وحي فعافية، وكان الوقت أول المساء، وكان القمر قد أوشك على الاكتمال، وكان الجو طريا رخيا لا برد فيه، فقصدت إلى حضن الهرم الكبير، وهنالك جلست وحدي على صخرة عاتية، أنظر إلى الفضاء الذي غمره الضوء الفضي، وإلى المدينة العظيمة الواسعة وقد لمعت مصابيحها التي تقاربت مع المسافة البعيدة، حتى اختلطت كلها في سحابة خفيفة من الوهج الأصفر، ليس السكون شاملا، فأقدام هنالك أخذت تطقطق على الحصى آنا بعد آن، وأصوات يعلو صداها على سفح الهرم، قد حسبها أصحابها همسا خفيا فإذا هي موجات عريضة متتابعة من الصوت يصطدم بالصخر كما تصطدم أمواج البحر على رمال الشاطئ في ليلة ساكنة الريح، ثم نق خفيف يقال لي عنه إنه فعل الصراصير، وخيل إلي أن بعضه قريب مني، فنظرت إلى موقع الصخرة من الأرض، فلم أجد صرصورا بل وجدت عنكبا في خيوطه المنسوجة هادئا كأنما أسكره ضوء القمر.
دنوت أتأمل نسيج العنكبوت بخيوطه الرفيعة الواهية ... واهية؟! سل الذبابة المسكينة التي تتعثر أقدامها في تلك الخيوط أواهية هي؟ وهل كنت أستطيع أن أتصور حينئذ الفريسة إذا ما وقعت في تلك الحبائل «الواهية» دون أن أتذكر موقفي إزاء الخيوط النورانية الرفيعة الدقيقة السيالة التي تنبعث لي من عيني صديقي، فتوثقني كأنها أغلظ السلاسل التي صنعت من أصلب الحديد؟!
Unknown page
لقد نسجت العنكبوت خيوطها «الواهية» هذه في شكل هندسي بديع لتحيا، وأقام «خوفو» هذا الهرم الضخم الأشم ليموت! فأيهما أحكم يا أيها الإنسان المغرور!
وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيال عجيب، حاولت عبثا أن أصرفه عني فلم ينصرف، وظل ماثلا أمامي يحجب الواقع عني حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه ما جلست على تلك الصخرة العاتية في حضن الهرم ... رأيت القمر عنكبا ضخما قد تدلت منه وأحاطت به شبكة من خيوط رفيعة دقيقة اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أرجاء الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك رأيت ذبابا يمسك بتلك الخيوط صاعدا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد متفاوت السرعة، فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينا وتتأخر حينا ... وكثيرا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكيفهما الخيط الواحد أن يصعدا معا جنبا إلى جنب، فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية حتى تشدها شدة عنيفة توشك أن توقعها في الفضاء لولا مهارة تسعفها فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى رافعة أرجلها الخلفية حتى تمسك بالخيط من جديد وتأخذ في الصعود مرة أخرى.
الذباب كله صاعد على خيوط العنكبوت، إن صعوده هذا يكلفه الجهد والمشقة والعناء، لكنه مرح فرح بصعوده، ليس في ذلك من شك، إنه مرح واضح في الذبابة التي تسللت من الزحمة الكثيفة عند أوائل الخيوط السفلى، فانفسح الطريق أمامها وحدها، ولم يعد بينها وبين العنكبوت حائل، وهو مرح واضح كذلك في هذا الذباب المتقاتل المتعارك حين يضيق به الطريق، وتريد كل واحدة أن يكون طريق الصعود لها قبل زميلاتها.
أنظر إلى الخيوط عند أطرافها السفلى، حيث أقلها يمس الأرض وأكثرها يرتفع عنها قليلا، من أين جاءت هذه الألوف المؤلفة من الذباب المحتشد المتزاحم؟! لقد كان الهواء صافيا نقيا عند أول قدومي إلى هذا المكان؟ أأكون يا رباه في حلم عجيب، أم إني في عالم مسحور؟ أم أنا كما أنا واع يقظان؟ هأنذا ألمس الصخرة بأصابعي، وأخبط الأرض بقدمي، هذا هو الهرم كما ألفته وعرفته، وهذه هي القاهرة العظيمة بأضواء مصابيحها كما رأيتها عندما استويت على الصخرة أول مرة! ألا أن العين إذا توهمت فاللمس لا وهم فيه كما قال شكسبير على لسان ماكبث وهو يتلمس الخنجر ... كلا، فإني في وعي ويقظة بشهادة الحواس كلها، وهذه الألوف المؤلفة من الذباب المزدحم المحتشد عند أطراف الخيوط السفلى، حقيقة واقعة لا شك فيها، وهذه الشبكة التي تملأ أرجاء الفضاء حقيقة لا شك فيها، والعنكبوت الرابض في قمة السماء ناشرا أطرافه المخيفة حقيقة لا شك فيها ...
لكن الألوف المتزاحمة من الذباب ساعية إلى الصعود، ولما كانت الزحمة شديدة كثيفة، كان يستحيل على ذبابة أن تمسك بأول الخيط - إن كان طرفه مرفوعا عن الأرض لا يمسها - إلا إذا صعدت على أكداس من الذباب الساقط، فانظر نحو أطراف الخيوط السفلى تجد عجبا، إنه قتال لا ينقضي بين الذباب، والذبابة الظافرة هي التي عرفت كيف تصرع كذا مائة أو كذا ألفا من الزميلات، لتتخذ من أجسادها سلما ترتفع به إلى أول الخيط؟ فلو قد أمسكت بطرف الخيط، زالت من أمامها أعقد الحوائل وأعسر العقبات، ولا يبقى بعد ذلك إلا ذبابات قليلات يعترضنها في بعض الطريق ...
إنه طريق إلى العنكبوت الرابض هنالك في قمة السماء، يلتهم ما تتناوله أطرافه الممتدة من الذباب الصاعد، لكن الطريق قد زين في أعين الذباب حتى بدا لها كأنه طريق المجد الذي لا طريق إلى مجد سواه.
أمعنت النظر في المعركة الدائرة بين الذباب عند أطراف الخيوط السفلى، فأخذني دوار خفيف حين امتلأت أذني بطنينها الممل القبيح، فأغمضت عيني بكفي وأدرت رأسي إلى أعلى حتى يخف هذا الطنين البشع القبيح، فارتسمت أمام عقلي صورة واضحة، أجهدت نفسي بعدئذ لعلني أتذكر أين رأيتها، حتى أدركت أنها صورة رسمها شاعر في قصيدة كنت قرأتها منذ حين بعيد.
هي صورة امرأة تعيش في كهف صخري معزولة عن الناس، فكانت تشعل لنفسها نارا وتجلس أمامها مستدفئة وهي تغزل غزلها الرفيع الدقيق الذي يشبه خيوط العنكبوت، إنها امرأة عجيبة ولعلها أن تكون ساحرة لأن لها وجه الفتاة الشابة وشعر العجوز الأشيب، وذات مساء طرق بابها زائر غريب، فحيته بابتسامة ومضت في غزلها، وراحت تغني وهي تغزل، فيلمع الخيط في وهج النار كأنه سلك الذهب، ولولا لمعة الضوء على الخيط لما رأته عينا بشر لأنه رفيع دقيق يشبه خيوط العنكبوت، وجلس الشاب الغريب يرقب الخيط، ورأت فيه المرأة الساحرة نظرة المتعجب المشدوه، فطلبت إليه أن يلفه حول يديه قائلة إنه خيط ضئيل دقيق رفيع، لكنه قوي شديد، وشخصت المرأة بعينيها الزرقاوين البراقتين إلى الشاب الغريب وابتسمت له ابتسامة رقيقة لم يلحظ فيها شرا، وتناول الخيط منها وأخذ يلفه حول يديه، ثم ضحكت المرأة الساحرة ضحكة شيطانية فزع لها الشاب الغريب، وحاول أن يفك الخيط عن يديه، لكن هيهات؛ لأن الخيط قد نسجته يدان سحريتان ... وعندئذ قامت المرأة فانتزعت من الشاب خصلة من شعره الفاحم، وقذفت بها في النار، وصاحت والشعر يحترق:
أختاه! أختاه! اسمعي صيحتي!
أختاه! أختاه! تعالي واشمتي!
Unknown page
لقد وقع الشاب في خيطي الرفيع أسيرا.
ورفعت كفي عن عيني، فإذا السماء صافية رائقة، وإذا القمر ضاحك باسم، ينقش نوره الفضي في أحجار الهرم، فأخذني فزع ونشوة في آن معا: فزع لما أوغلت فيه من عالم مسحور، ونشوة لأني قد وجدت شيئا أكتبه قضاء لما أمرت به الصديقة الفاتنة.
وعدت مسرعا إلى داري، وما أويت إلى مخدعي إلا بعد أن وصفت كل الذي رأيت، وحملت الوصف مكتوبا إلى صديقتي في صبيحة اليوم التالي، مغتبطا لما عساني واجد عندها من إعجاب عودتني إياه كلما كتبت لها شيئا.
لكني ما كدت أفرغ من قراءة ما كتبت، حتى ضحكت فيما يشبه ضحك الساحرة قائلا: ما هذا يا رجل؟ إن حديث العنكبوت والذباب قد سمعته منك منذ زمن طويل، أما يكون عندك من جديد؟
فقلت لها وأنا في ربكة شديدة من الخجل: أقسم لك بسحر عينيك، إني لا أذكر من القصة القديمة شيئا، وأن هذا الذي أرويه قد شهدته مساء الأمس رؤية العين.
فقطبت ما بين عينيها وقالت في صوت حالم: ماذا؟ أيكون الجديد قديما؟ أم أني أنا الأخرى مثلك قد نسيت؟!
الكراهية الصامتة
عجيبة هذه الكراهية التي قد يحملها الناس أحيانا بعضهم لبعض بغير سبب ظاهر معقول؛ فترى رجلا وقد اتخذ موقف الكراهية والمعارضة من رجل آخر، مع أنهما بعد لم تصلهما صلة من حديث أو عمل، لكنه يحس من نفسه استعدادا لرفض ما عسى أن يقوله هذا الآخر قبل أن يقوله؛ لأن رفضه في الواقع منصب على شخصه، فإذا رأيته معارضا لأقواله مفندا لآرائه، فإنما جاء ذلك عن كراهية لاحقة لكراهية سابقة، إنه قد بدأ برفضه للشخص ذاته ثم عقب على ذلك برفضه لأقواله وآرائه كائنة ما كانت، فإن قال هذا عن شيء إنه أبيض رأى هو أنه أسود، أو قال هذا عن شيء إنه أسود، رأى هو أنه أبيض، لا إخلاصا في التعبير عما يراه حقا وصدقا ، بل رغبة في نبذ هذا الشخص الكريه بكل ما ينطق به من نبأ أو حديث.
وكثيرا ما تكون هذه هي نفسها العلاقة بين جماعة وجماعة أو بين جيل وجيل، فترى الكراهية بينهما صامتة قائمة متحفزة متأهبة تتحين الفرص والظروف، حتى إذا ما سنحت لإحداها اللحظة المواتية نفثت سمومها على الخصيمة الكريهة دفعة واحدة، كأنه سيل حبيس وجد الثغرة فاندفق. إنك لتعجب أحيانا كيف تكفي الحادثة التافهة لإثارة حرب طاحنة بين شعبين، أو لإعلان خصومة حادة بين أسرتين، والواقع أن قد كانت الكراهية بين الجماعتين قائمة وإن تكن صامتة، ثم سنحت فرصة إعلانها، كأنها المرض الخبيث المزمن، يكمن حينا حتى ليظن بصاحبه الشفاء، فإذا لفحة خفيفة من البرد تثير كوامنه وتشعل خوامده.
وبين أبناء الجيلين المتعاقبين تقوم مثل هذه الكراهية الصامتة العجيبة، فأبناء الجيل المقبل - في أغلب الأحيان - ناقمون ثائرون على أبناء الجيل المدبر، الأبناء لا يعجبهم سلوك لا بدآبائهم، والأدباء لا يرضيهم أدب شيوخهم، والمشتغلون بالسياسة يرون في القادة قوة رجعية لا بد من زوالها، وكذلك آباء الجيل المدبر في أغلب الأحيان مستخفون بأولئك الصغار الناشئين، حتى ليكاد يستحيل عليهم أن يتصوروا أن من هؤلاء المقبلين أحدا هيأه الله لملء فراغهم، فلا الوالدون يرون في أبنائهم ما عهدوه في أنفسهم من متين الخلق وحميد الخصال، ولا الأدباء يلمسون في أدب الناشئين شيئا ذا غناء وبال، ولا قادة السياسة يطمئنون إلى أن هذا الشباب الغر قادر على تسيير السفينة بمثل ما سيروها. الجيل المقبل والجيل المدبر، كلاهما ينظر إلى الركب، فإذا هو عند الأول سائر إلى أمام، وإذا هو عند الثاني منزلق إلى وراء ... وهكذا ترى ثورة أولئك على هؤلاء، واستخفاف هؤلاء بأولئك، مظهرين للكراهية الصامتة القائمة بينهما؛ الكراهية التي ترفض القول نتيجة لرفض قائله، ولا تنتظر حتى تسمع ما يقوله القائل قبل أن تنتهي إلى رفض أو قبول.
Unknown page
هكذا قد تكره شخصا من الناس ولا تدري لماذا، أو لعلك تستطيع أن تدري لو أخذت في تحليل الموقف على نحو ما يفعل علماء التحليل النفسي في أمثال هذه الحالات، فهم يزعمون أن للكراهية سببا قد طمرته الأحداث فاختفى عن العين السطحية العابرة، لكنه لا يخفى على العين الفاحصة التي تنبش حتى تزيح عن العقدة الدفينة ركام الحوادث، فتخرجها إلى ضوء الشمس من جديد.
وإلا فقل لي بربك ماذا ترى بيني وبين هذه البائعة الصغيرة لأوراق النصيب؟ إنها بنت في نحو العاشرة من عمرها، كثيرا ما تطوف بأوراقها مشارب القاهرة، أراها مقبلة فكأنما رأيت الحية الخبيثة تسعى، وأسمعها تنطق فكأن الصوت هو الفحيح الذي تقشعر له الجلود، إنها في أغلب الحالات تجيء مصبوغة الشعر في أصفر فاقع لا يلائم وجهها، وقد ألبسها ذووها ثوبا ذا بريق عجيب، شقوه لها - في أرجح الظن - من ستار نافذة قديم، وعلى قدميها حذاء أبيض خفيف، والوجه بين هذه البقع اللامعة مطل وقد علته غلالة من قذارة لاصقة ببشرته ... يا إلهي من هذه البنت الصغيرة حين تقبل ناظرة بعينيها الضئيلتين من ذلك الوجه الكريه! إذا رأيتها أشحت بوجهي أو أسرعت إلى صحيفة أو كتاب أدس فيه عيني فلا أراها، وكثيرا ما ناديت أقرب خادم لأصب عليه انفعال غضبي أن أذنوا لها بالدخول في مثل هذا المكان، فتتخلل صفوف موائده، ولا ترحم حتى هذا الركن الهادئ البعيد الذي أحب عادة أن أختبئ في ظلامه ... إنها مسكينة تسعى إلى رزقها، وأنا أعلم ذلك، لكني أعلم ذلك بعقلي، أما شعوري الذي لا حيلة لي فيه فهو شعور الكراهية الشديدة التي يستحيل أن أجد لها سببا ظاهرا معقولا، اللهم إلا أن يكون السبب هو هذا الذوق البشع الفظيع في طريقة لفها وطليها، لتبدو - في ظن من لفها وطلاها - «للذوات» بنتا من «الذوات» أخنى الدهر على أهلها فترحم قلوبهم، وليتني ألتقي بذويها يوما؛ لأنبئهم أن أرحم القلوب قمين أن ينقلب جلمودا من الصخر لهذه الكتلة المتحركة من الكذب والزيف.
إنها الكراهية الصامتة القائمة بين الناس أفرادا وجماعات، وليقل في تحليلها وتعليلها أصحاب البحوث النفسية ما شاءوا من أسباب دفينة خبيئة؛ لأن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، فلا يزال الأمر الواقع هو أنك قد تحمل لهذا أو لذاك كراهية لغير ما سبب ظاهر، فتوحي لك الكراهية أن تتخذ الأهبة لرفض ما يقوله الكريه قبل أن ينطق به، وإلى جانب هذه الكراهية التي تحملها لبعض الناس، حب تحمله لبعضهم الآخر، يميل بك إلى قبولهم وقبول كلامهم وآرائهم، كأنها في أذنك النغم الجميل، وعلى ذوقك العسل المصفى.
فكأنما تسير بين الناس وفي جعبتك عدة شعورية تقابل بها ما يقولونه وما يفعلونه بالقبول أو بالرفض، لا لأنها مقبولة لذاتها أو مرفوضة لذاتها، بل لأنك تكره هنا وتحب هناك. إن من أقوى اللمحات الفكرية التي قرأتها، لمحة لنيتشه، يقول فيها: إن منطق الناس لا يسير من المبررات العقلية إلى إرادة أداء الأفعال التي تترتب عليها، بل يسير على عكس ذلك من إرادة أداء أفعال معينة يشتهيها الفاعل بعاطفته، ثم يبحث لها بعد ذلك عن مبرراتها العقلية، أي أنك لا تقول: إن عقلي يرى الصواب من الأمر كذا وكذا ولذلك فإني فاعل كيت وكيت، بل تقول: إني فاعل كيت وكيت ولذلك فإن عقلي سيجد له من المبررات كذا وكذا.
العاطفة من حب وكراهية تأتي عند الناس أولا، ثم يأتي بعد ذلك قبول الآراء ورفضها في ظل تلك العاطفة، وقد تخف هذه العدة الشعورية عند فرد حتى لا تبدو آثارها إلا لماما وفي لمسات رقيقة، لكنها قد تشتد عند فرد آخر فتصبح عاطفة جارفة كعاطفة العاشق الولهان أو الوطني المتحمس أو صاحب العقيدة الذي ملأه الهوس نحو عقيدته؛ وعندئذ تعمى العيون وتصم الآذان، فلا يرى صاحب العاطفة ولا يسمع إلا ما يغذي فيه عاطفته تلك، فعين الرضى - كما يقول الشاعر - عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا.
الملائكة في عين الكاره أبالسة وشياطين، وعبثا تحاول إقناع الكاره بتغيير رأيه فيمن يكره، إلا إذا انتزعت أولا منظاره الأسود من فوق عينيه، أما أن يظل منظاره ذاك أمام عينيه، ثم تحاول بعد ذلك أن تريه بياض الأشياء ونقاءها وطهرها، فأنت عندئذ كمن يحاول أن يضع النقيضين معا، والظاهر أن الجماعات الإنسانية قد أدركت ذلك منذ زمن بعيد، فعولت عليه في تربيتها لأفرادها، فالجماعة المعينة تريد لأبنائها أن يحبوا شيئا ويكرهوا شيئا، فحسبها أن تلبسهم مناظير فوق أنوفهم باللون الذي تريد لهم أن يروه، وهي بعد ذلك على يقين من أنهم سيساقون لمشيئتها سوق الأغنام للراعي.
ولعلك تلاحظ هنا أن الإنسان لا يرى زجاج منظاره، وإن يكن ينظر خلاله إلى كل شيء عداه، ومن ثم لا يدرك المتعصب أنه متعصب، لا يدرك أبدا إلا إذا جاءته رحمة الله فخلع منظاره الملون عن عينيه. فتعدد الآراء في الشيء الواحد هو في الحقيقة اختلاف في ألوان المناظير، لا في الشيء ذاته، ولا في العيون التي تستطيع أن ترى الشيء على حقيقته لو مكن لها أن تراه مباشرة وبغير منظار.
قد أنظر إلى الجماعة من الأصدقاء، وقد أستمع إليهم يديرون المحاورة حول موضوع، فيقول الواحد منهم رأيا ليدحضه صديقه، فأهمس لنفسي عندئذ: ترى كم بين هؤلاء الأصدقاء من كراهية صامتة لا تعلن عن نفسها؟ إن الحب محمود عند الناس؛ ولذلك فهم يسرعون إلى إعلانه إن كان بينهم منه شيء كثير أو قليل، أما الكراهية فمرذولة ممقوتة؛ ولذلك فهي مضطرة إلى التستر في صمت وراء أقنعة الرياء، نعم أسأل نفسي عندما تجلس جماعة الأصدقاء في حديثها يدحض بعضهم آراء بعض: ترى إلى أي حد صدر الرافض للرأي عن صدق مخلص، وإلى أي حد صدر عن كراهيته المكنونة في صدره، التي يحرص على إخفائها حرص تاجر المخدر على إخفاء بضاعته؟
وإنما جاءتني هذه المقارنة بين الخبيئين؛ لأن كليهما قد يثري صاحبه من وراء الستار، ولست أدري كم جمعت تجارة المخدر لأصحابها من ثراء، لكني أستطيع أن أدلك على طرف يسير مما جاءت به الكراهية الدفينة على الكارهين من ربح نفسي موفور! فبمقدار كراهيتك للناس والأشياء والأوضاع من حولك، تكون مقاومتك لها ومحاربتك إياها، ثم بمقدار هذه المقاومة والمحاربة يكون التقدم بالحياة من حال إلى حال: كره الناس حكامهم الطغاة فقاتلوهم حتى ظفروا بحريتهم من سياط طغيانهم، وكره الفقراء أن يتمتع الأغنياء بكل شيء من دونهم فطالبوا بالإصلاح حتى رأينا الضرائب تجبى بكثرة على الأغنياء ليعيش الفقراء ... فهذه وأمثالها كراهيات منتجة، لكنها أنتجت حين أعلنت عن نفسها، ولو لبثت على صمتها كامنة في النفوس لظلت على عقمها.
آه لو شقت الصدور وفتحت القلوب، لترى كم اختبأ فيها من عناقيد الحصرم المر - حصرم الكراهية التي يحملها الناس بعضهم لبعض، ثم لا يكشفون! ورحمك الله يا «فرويد» حين وضعت أصابع الناس على حقيقة هالتهم وأفزعتهم، وهي هذا العداء المستحكم بين الابن وأبيه منذ الطفولة، ولو أدرك الآباء هذه الحقيقة على هولها كله، لساسوا أبناءهم بما يخفف حدة هذه الطبيعة البشعة بدل أن يزيدوا النار لهبا وسعيرا ... هل تصدق أن هذه البسمات التي يتبادلها الزوجان لا تخفي وراءها كراهية وضيقا؟ هل تصدق أن هذا الود يتقارضه الصديقان لا يطوي في أحشائه غلا وحسدا؟ ... إنه البشر وإنها طبيعته.
Unknown page
وما كل طبيعي مقبول، فالطبيعي لماء النيل أن يأتي ممزوجا بالطين، لكننا ننقيه ونصفيه في المواسير والصنابير قبل شربه، والطبيعي للطرقات أن تكون رمالا وأحجارا، لكننا نمهدها ونرصفها ليسهل السير فيها ... فإن كان من الطبيعي للبشر أن تعكر الكراهية قلوب الناس ونفوسهم، فلا بد من التنقية والتصفية والتمهيد والرصف حتى يتم التعامل بين إنسان وإنسان.
فلنعلن من الكراهية التي نحملها في صدورنا عما عساه أن ينتج خيرا بإعلانه، كهذه الكراهية التي أعلنتها الشعوب ضد حكامها الطغاة، والتي أعلنها الفقراء على الأغنياء؟ أما ما عدا ذلك فالخير في حبسه في الصدور، حيث تظل الكراهية هناك بين جدرانها صامتة، لا أثر لها ولا خطر، اللهم إلا ضيق الصدور الحابسة وكتمة النفوس الكارهة.
عروس المولد
أرسلت إلي قائلة: «لقد أعجبني كثيرا وصفك للكراهية الصامتة، حتى تمنيت لو استطاع «الحب الصامت» أن يحظى من قلمك بمثل هذه اللفتة ...» وتمنيت بدوري لو استطاع قلمي أن يجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، لكني أحسست في أعماق نفسي بأنني إذا ما أجريت قلمي في هذا الميدان، تعثر وكبا، فلا أكون جديرا منها بإعجاب آخر.
ترى أين عساي أن أوجه النظر، لأبصر بالحب صامتا لا يفصح عن نفسه ولا يبين؟ إن الناس إذا ما أحس أحد لأحد حبا، أسرع إلى إعلانه فرحا فخورا، كأنما وقع في ثنايا الطبيعة الإنسانية على كنز نادر نفيس، إنهم إذا ما أثنى أحد منهم على أحد في غيبته، تمنى لو بلغ هذا الثناء صاحبه؛ لأنه يعلم أن الفطرة البشرية قلما تجود بهذه اللحظات التي يثني فيها إنسان على إنسان، ثناء صادقا مخلصا لا ملق فيه ولا رياء.
أتذكر يوم جاء أبوك إلى غرفتك ساعة الفجر يصلي - فما رأيته مقصرا قط عن أداء الصلاة منذ شببت فوعيت حتى مات - أتذكر وقد أخذ يدعو لك في صوت جهير، وكنت عندئذ مستيقظا في فراشك، لكنك ظللت مغمض العينين؟ أتذكره وهو ينبئك على مائدة الإفطار كيف دعا لك وبماذا دعا؟ فلما قلت له إنك قد سمعت دعاءه؛ لأنك كنت بين اليقظة والنعاس، تهلل وجهه وانتشى نشوة لم تفارقه طيلة يومه؟ إنه والد أحب ولده حبا خالصا، لكنه لم يطق أن يظل حبه خبيئا صامتا؛ وانظر - إن شئت - كيف يفرح الآباء إذا ما جاءوا لصغارهم بالحلوى، انظر كيف يفرحون فرحة مضاعفة إذا كانت الأمهات على مرأى منهم أو مسمع! إن الوالد حين يعطي صغاره الحلوى، إنما يعطي أبناءه الذين يمحضهم الحب نقيا خالصا لوجه الله، لا شبهة فيه ولا شائبة، لكنه مع ذلك يود لو رأت أمهم علائم حبه لهم، لأنه لا يريد للحب أن يمضي خفيا صامتا، غير مرئي ولا مسموع.
كلا، لست أجد المكان الذي أقف فيه لأنظر فأرى الحب صامتا، وإذا فلا يجمل بي أن أجيب الصديقة الأديبة إلى طلبها، فليس المهم أن يكتب الكاتب ليملأ الصفحات، إنما المهم أن يكون صادقا فيما يكتب وليقل بعد ذلك من شاء ما شاء.
إنهم يقولون: إن الأدب خيال، وإنهم لصادقون، فلماذا لا تنسج بخيالك نسيجا ترضي به الأديبة فيما طلبت، وترضي به غرور الناس في آن معا، حين تنبئهم بأن قلوبهم مفعمة بالحب، بعض إزاء بعض؟ ماذا عليك أن تتخيل زيدا وقد أحب عمرا حبا لم يعلنه بإشارة أو عبارة؟ ... لا، إن خيال الأديب ليس معناه أن يطير في الهواء بلا جناح، والجناح الذي يطير به هو الواقع الذي يلمسه ويراه.
إن «سرفانتيز» لم ينظر بعينيه إلى فارس بين من رأى من الفرسان، اسمه «دون كيشوت» فرآه يصنع لنفسه خوذة من ورق، ثم يضرب الخوذة بسيفه فتمزقها ضربة السيف، فيعود إلى صنع خوذة أخرى من الورق، ويأبى هذه المرة أن يضربها بسيفه خشية أن يمزقها، حتى يظل رافلا في خياله الجميل، بأنه - كسائر الفرسان - يغطي رأسه بخوذة تحميه من ضربات الأعداء إذا ما التقى بالأعداء في قتال ... إن «سرفانتيز» لم ير شيئا من هذا رأي العين، لكنه خلقه بخياله، وكان معنى الخيال هنا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في الحياة الواقعة، ولا أحسبنا - نحن المصريين - بحاجة إلى غوص عميق في لجة الحياة الواقعة لنستخرج منها أمثلة شبيهة بهذا الذي وقى رأسه بخوذة من الورق، موهما نفسه بأنه قد أصبح كسائر الناس الذين يضعون الخوذات الصلبة فوق رءوسهم لتحميها.
ولم يكن «لير» ملكا حقيقيا من أصحاب العروش الذين عرفهم التاريخ وسجلهم في كتابه، بل خلقه شكسبير بخياله ليصور ما يمكن أن تكون عليه حالة الوالد إذا ما قسم ملكه بين أبنائه أو بناته قبل موته، معتمدا على حب الولد لوالده؛ فهذا «لير» قد قسم ملكه بين ابنتين من بناته الثلاث، حتى إذا ما طرق باب الواحدة منهما بعد ذلك ليعيش في كنفها، ضاقت به أولا، ثم نهرته ثانيا، ثم طردته ثالثا، فراح المسكين - من هول الصدمة - في الأرض العراء يهذي، وما لبث هذيانه أن أصبح جنونا صريحا ... إن شكسبير لم ير ذلك بعينيه، لكنه خلقه بخياله خلقا، وكان معنى الخيال هنا أيضا أن العين يجوز أن ترى أشباهه في أي زمان أو مكان.
Unknown page
فلئن كان الأدب خيالا، فهو هذا الخيال الذي يستمد من الواقع جناحه، فلا بد لي - إذا - قبل أن أكتب في «الحب الصامت» أن أراه ...
يا لسعدي! وقلما شاءت لي الأيام سعدا! لقد وقعت عيناي ليلة المولد على مثل عجيب من الحب الصامت، وإذا فسأكتب للصديقة الأديبة ما أرادت!
هذا صبي في العاشرة وقف أمام بائع العرائس - عرائس المولد - وقفة تفيض بالمعاني، وقف على بعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتا ناظريه في عروس كبيرة، والأعجب من هذا أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تنظر إليه لا تزيح عنه البصر! ... والله لن أمضي في طريقي حتى أتبين حقيقة هذا الغزل النادر، إن الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، والأعجب من ذلك أن راحت العروس «الحلوة» بدورها تبتسم له في حنان ظاهر! من ذا يرتاب في أن العروس قد وقفت هنالك على شرفتها العالية من دكان البائع تصوب نحو الصبي نظراتها وتبعث إليه ابتسامتها؟ ألا إنهما عاشقان صامتان، لولا أن حبه هو قد كان ممتزجا باشتهاء الحبيبة، وأما حبها هي فصادر منها عن عطف وإشفاق، ترى شهوته في عينيه ولعاب شفتيه، ويرى عطفها في ابتسامتها ...
لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين بعد ذلك فسيحة المدى، إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد الشديد، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضا ليدفئ بعضها بعضا! ورأيته يرفع إحدى قدميه فيقف بها على أطراف أصابعها، ونظرت إلى القدم المرفوعة فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد ملئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم ثم خمد مؤقتا ليثور من جديد بعد حين. لكن الصبي الولهان ظل واقفا هنالك يرتعش ويرقب معشوقته المشتهاة في شرفتها العالية، إنها بادية الثراء، لبست ثوبا نظيفا جديدا لامعا، عليه «الترتر» اللامع الساطع.
شعر الصبي ملبد فوق رأسه خشن بأوساخه غليظ، وشعر العروس ممشط ناعم مرسل، وجسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى، شتان ما كان من فرق بين العاشق الفقير ومعشوقته الثرية: إنه بقعة سوداء في محيط لامع من الأضواء المختلفة الألوان والبريق، كان المكان كله يتوهج بالنور ليلة المولد، وكان الهواء كتلة من الصوت، فاختلط الصوت بالضوء اختلاطا يكاد يخيل لك معه أنك ترى الضوء بأذنيك وتسمع الصوت بعينيك - إلا هذا الصبي العاشق الولهان، فقد وقف وسط الضوء اللامع بقعة سوداء من فقر، ووقف وسط الصوت المدوي قطعة ساكنة من ذل، ترتعش أطرافه من برد ديسمبر، وترتفع قدمه الجريحة تخفيفا للألم، وذراعاه ضاغطتان على بطنه، إما طلبا لدفء أو دفعا لجوع، وقف هنالك بقعة سوداء ساكنة، رافعا رأسه قليلا إلى أعلى، شاخصا ببصره إلى عروسه لا يتحول عنها يمينا أو يسارا ولا يتقدم خطوة ولا يتأخر.
فأين ذلك كله من عروسه اللامعة من محيطها اللامع، المزدانة في اتساق مع ما حولها من زينة؟ إنها وقفت هنالك تنظر إليه وتبتسم، لماذا لا تنزل الدرج ساعية إليه؟ إن الفقير والغنية إذا تحابا، كان على الطبيعة أن تغير مجراها، فتخطب الأنثى ود الذكر؛ لأن الذكر هنا عاجز مهيض الجناح منتوف الريش! لقد كان محالا على الصبي أن يتصور أن عروسه تلك المزدانة، قد وقفت هنالك في بهرجها، أمة رقيقة معروضة في السوق للبيع، ولا تتحرك إلا بإذن صاحبها الذي يتقدم لشرائها، كان محالا أن يطوف بباله أن هذه «الحلاوة» كلها تباع بمال، وأكثر من ذلك استحالة على تصوره أن يكون بين الناس من يملك المال الذي يستطيع به الشراء!
كيف كان يمكن لصبي في فقره وخبرته أن يتصور أن عروسه تلك مما يؤكل؟ كيف يأكلها آكلوها؟ هل يبدءون بالرأس أم يبدءون بالقدم؟ وهذا الشعر المنساب الناعم على رأسها، وهذا الثوب المزخرف الجميل اللامع ...
طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم، والشرطي معذور؛ لأنه مطالب بحفظ النظام، وليس من النظام في شيء أن يشتهي مثل هذا الصبي مثل تلك العروس، إن في ذلك خلطا كريها لطبقات الأمة غنيها وفقيرها، وقد كان العشق منذ أقدم العصور مقيدا بقيود الطبقات، فلا يكون عاشق من طبقة ومعشوقه من أخرى ... طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخا من الألم في صوت يشبه عواء الكلب الجريح، وظل يحجل على قدم واحدة وهو يصيح، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف حظيرة الحلوى التي عرضت فيها عروسه، وجلس هناك في الظلام باكيا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكا بقدمه الجريحة بين كفيه.
ونظرت إلى الصبي في ظلامه نظرة أخيرة، ثم نظرت إلى عروسه في زينتها وضوئها؟ نظرت إليهما بعد أن فرق قانون الدولة بينهما إلى الأبد، فإلى الأبد سيظل حب الصبي لحبيبته مكتوما في قلبه، وسيظل حب العروس لفتاها حبا صامتا، لكن ابتسامة الصبي قد حولها قانون الدولة بكاء وأسالها على وجه البائس دموعا، وأما ابتسامة العروس فستبقى ابتسامة، وإن تبدل معناها من عطف إلى سخرية، ستبقى لها ابتسامتها لأنها في السوق لا تباع بغير ابتسامة.
ومضيت في طريقي وأنا أحمل بين جنبي قلبا من حجر، وهل أدعي غير ذلك ما دمت قد رأيت وسمعت، ثم مضيت في طريقي؟ وما هو إلا أن رأيت قوما تحلقوا يذكرون الله في ورع وتقوى، فهل كان يسعني عندئذ إلا أن أتذكر «فيفيكا ناندا» - من رسل الإصلاح الديني في الهند - إذ يقول: «أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها، إنها صوره الكثيرة ... إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان ... اطرح هذه التصوفات المنهكة للقوى وكن قويا ... ولنمح من صفحات أذهاننا - في الخمسين عاما المقبلة - كل ما عدا ذلك من آلهة، جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكان، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء ... إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا، ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعا.»
Unknown page