Kulumb Wa Calam Jadid
كولومب والعالم الجديد: تاريخ اكتشاف أميركا
Genres
واستمرت السفن تسير باسم الله مجراها بكل أمان وطمأنينة، حتى التزم كولومب أخيرا أن ينتظر عند جزائر «الكناري»؛ لتصليح ما اختل في «لابنتا». وفيما كانوا يمرون بقرب «تينيريف» أكبر جزر الكناري، كان بركانها في ثوران وفوران، فانزعج الملاحون، وخالوا أن هذا الانقلاب بادئة الكروب التي كانوا ينتظرونها من تلك السياحة، فهدأ كولومب روعهم ضاربا لهم الأمثال وموجها أنظارهم إلى «أتنا» و«الفيزوف» وكانوا يعرفونهما كلهم. وأخيرا أقلع في السادس من سبتمبر فترك «جومير» وابتدأ بالدخول في منطقة الاكتشافات، فعزم حينئذ على الإمعان
2
في الأطلانطيقي الذي كان مجهول السبل في تلك الأيام، ثم أخذوا يسيرون في الطرق الغربية.
وفي التاسع من سبتمبر سنة 1492 هب نسيم عليل وسطعت الغزالة بأشعتها الذهبية فانتفخت القلوع. وقبل انتهاء النهار اختفت أراضي جزيرة الحديد «أيل دي فير» عن الأبصار؛ فهلعت لذلك قلوب الملاحين وأخذوا في العويل، وأيقنوا أنهم ضلوا وهلكوا لا محالة وفقدوا أوطانهم وأسرهم. فاجتهد الأميرال في تهدئة خواطرهم وإزاحة همومهم، فكان يؤملهم في الحصول على الذهب الوهاج، والتمتع بحاصلات تلك البلاد الثمينة، ونيل المكافآت والمرتبات العالية، وبلوغ المجد الأثيل والشرف السامي. ثم أمر الربانين بمداومة الاتجاه نحو المغرب، والوقوف بعد قطع سبعمائة فرسخ إذا اشتموا رائحة الخطر على السفن ومن فيها، ولم يقل ذلك إلا لأنه كان موقنا بالاقتراب من اليابسة.
ففي الثالث عشر من سبتمبر على بعد مائتي فرسخ تقريبا لاحظ كولومب حادثا كان مجهول السبب؛ وذلك أنه في منتصف الليل عوضا عن أن تشير الإبرة الممغطسة إلى النجمة القطبية تحولت عنها بخمس أو ست درجات، وكان الاختلاف يزداد شيئا فشيئا. وفي اليوم التالي لوحظ أن طائرين من النادر وجودهما على غير اليابسة كانا يطوفان حول السفن. إلا أنه في الليل الثاني خال النوتية أن هلاكهم قد دنا، وصاروا على شفا جرف هار؛ وذلك لظهور أحد الحوادث الخاصة بدوائر الانقلابات دون غيرها، فكأن لسانا من نار كان يخترق الجو رأسيا وينتهي طرفه في الماء على مسافة خمسة فراسخ من السفن.
وفي السادس عشر من هذا الشهر ظهر لهم على بعد مسافة بالكاد تراها العين أعشاب خضراء؛ فكأن السماء فتحت أمامهم، أو كأنهم دخلوا من أبواب النعيم. أجل أيها القارئ، كم من السرور خالج قلوب هؤلاء البؤساء، وكم شعروا بالفرح والبشر لرؤية تلك الحشائش، وما كان أعظم انشراح صدورهم لهذه الرؤية السارة وتلك البقع الخضراء النضرة الموجودة في بحر «فاريك»! إلا أن كمية تلك النباتات كانت تتجمع وتتشابك حتى ضايقت السفن وكادت توقفها عن المسير، وحينئذ طار لب الملاحين وهلعت قلوبهم ثانية، وانصب على رءوسهم الغم، وتراكمت عليهم الهموم، وأعقب ذلك دمدمة، وتلى هذه ما يشبه التعصب والثورة. فرفع كولومب يديه إلى من تخضع له الرياح والبحار وابتهل إليه، وصلى صلاة طويلة.
وفي الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1492 ماجت المياه بدون أدنى نسيم ودفعت السفن وأنقذتها من تلك الشباك التي كانت محيطة بها! هكذا تصنع العناية الإلهية العظيمة بمن يغارون على أعمالهم وتعاونهم وتشد أزرهم، ومهما جربوا فإنهم لا يفتئون ممتثلين لأعمال الله، ناهجين في سبيله القويم، متكلين عليه في كافة أعمالهم. فكانت تلك القدرة الإلهية تساعد هذا المكتشف العظيم، أو بعبارة أخرى هذا الرجل الذي أضاف إلى العالم عالما آخر؛ لأنه كان يصلي دائما طالبا من الله عز وجل أن يبلغه مقاصده وينجده بمعونته التي لا تقدر.
ومن الغريب أن الله كان ينقذه من أكبر الورطات ويخلصه من شر الويلات، ومع ذلك فإن عدد الثائرين في السفن كان يزداد شيئا فشيئا ويوما بعد يوم، حتى إن أشدهم جسارة وأكثرهم جراءة تفاوضوا وتخابروا بشأن إلقاء الأميرال في البحر إن لم يذعن هذه الدفعة لطلباتهم ويعود إلى إسبانيا عاجلا! ومع أن كولومب كان يعلم تمام العلم بكل ما كان يختلج صدورهم من الشرور، ويفهم كل ما كان يدور في خلدهم من الأفكار السيئة والمكامن، لم تبد عليه علائم الانزعاج بالمرة، بل استمر هادئ البال ساكن البلبال، يهدئ روع هذا ويوقظ ذاك، ويهدد كل من يجسر على إيقاف رحلته بالعقابات الجسيمة. ثم قال لهم أخيرا: «اعلموا أيها الرجال، أن دمدمتكم وتهوركم لا يجديان فتيلا، فقد بعثت لأبحث عن أقطار مجهولة، فلا بد من متابعة السير حتى ندرك اليابسة بمعونة الله وشفاعة ابنه له المجد.»
وكان الله قد دبر أمرهم وقدر لهم معونته قبل أن يلفظ كولومب تلك الكلمات؛ وذلك أنه في اليوم التالي فضلا عن الحشائش الخضراء التي كان يظهر عليها أنها لم تنبت إلا حديثا، فإنهم وجدوا قصبة ثم لوحا خشبيا مشغولا ثم غصنا عليه بعض الحبوب الحمراء، فجمعوا كل هذه، وتحولت أحزانهم إلى أنس وحبور، وهمومهم إلى بشر وسرور:
فرضوا بما شاء الإله حدوثه
Unknown page