Kulumb Wa Calam Jadid
كولومب والعالم الجديد: تاريخ اكتشاف أميركا
Genres
التيار المحيطي الأكبر.
وواضح كالشمس في رابعة النهار أن اكتشافا واحدا من هذه الثلاثة يكفي لتخليد اسم صاحبه، فكم وكم يكون تخليد اسم من ضم الثلاثة، وكم يلزم أن يكون مقداره عظيما عند كافة المؤرخين، وكم يجب أن تكون أهمية مكانته في عالم الاكتشافات والرحلات!
ولما عاد كولومب إلى سنت دومنج «هسبنيولا» وجد الثائرين يرأسهم «رولدان»؛ لأن «برتلماوس» الذي كان جعله كولومب حاكما هناك بالنيابة عنه لم يلبث أن تآلف مع أمراء الجزر الوطنيين، وأعد للانتقال في المناجم كل المعدات وأسس مدينة «سنت دومنج». حتى شق رولدان وشركاؤه عصا الطاعة عليه؛ لأنهم كانوا يريدون أن يستبدوا بأعمال المناجم واستخراج بعض ما فيها، وهذا ما كان يأباه عقل «برتلماوس» وعدله الفائقان .
فعزم كولومب أن يعود إلى إسبانيا لمقابلة الملكين اللذين كانا كأنهما غير واثقين بحسن سير كولومب وجميل معاملته. ثم نزل «أوجيدا» إلى البر كمبعوث من قبل البلاط الملوكي الإسباني ليحاكم الوالي ويقتص منه، فاستشاط كولومب غضبا واعتراه ضعف؛ لأنه كان سريع التأثر خفيف العاطفة رقيق الإحساس، فابتهل إلى الله سبحانه وتعالى، واتكل عليه. وكأن فؤاده قد أوحى إليه أن يرتاح، وأن الله قد أصغى إليه وأجابه إلى مطلبه. وبعد ذلك بقليل علم أن «رولدان» الذي كان بالأمس ثائرا، يسد الطريق في وجه «أوجيدا» منضما إلى حزب كولمب، ولكن كان السهم قد نفذ؛ لأن رولدان كان قد بعث برسالة إلى إسبانيا يذم فيها كولومب وأتباعه، وبمقتضاها أرسل البلاط «بوباديلا» إلى سنت دومنج ليكون حاكما عليها، وكان كولومب حينئذ في «كونسبسيون». وفي تلك الأثناء أخذت الثورة تزداد.
وفي الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1500 نزل «بوباديلا» إلى الساحل، أما البسطاء السذج فسروا وابتهجوا وأملوا منه خيرا. ولكن أبى الدهر إلا عكس آمالهم؛ فإن «بوباديلا» فتح السجون وأدخل فيها «برتلماوس» و«ديجو كولمب»، ثم استولى على كل التقارير والرسميات والأقمشة والأواني الظريفة والنقود النفيسة، وكل شيء حفظه كولومب ليقدمه إلى ملكيه العزيزين، ثم اختلس أثناء غياب كولومب مركز الولاية. ولما جاء الأميرال تجاسر ذلك الوغد اللئيم على إهانته وتكبيله بالسلاسل الحديدية وإلقائه في أعماق السجون، فاستشاط الهنود والبحارة غيظا لهذا الأمر المنكر مع أنهم كانوا حانقين على كولمب؛ لأنه كان يريد قمع شهواتهم وشرورهم العديدة.
ولقد وجدوا في بيت الأميرال نفسه من أوثق له القيود وشد حلقات أسره، وكانت سلاسله مربوطة بحجارة ثابتة في الأرض وكذلك أخويه أيضا، إلا أنه كان مفصولا عنهما، فأثر عليهما بكلامه الرقيق طالبا منهما متوسلا إليهما أن يصبرا على هذا المضض فإن الله رءوف رحيم. وبكلامه اللطيف وألفاظه العذبة استدر عبرات الجميع ومن ضمنهم السجانون. ولما خال أنهم سيقودونه مسلسلا هكذا أمام الملكين رفض خلع السلاسل، وكان لا يعتبر رئيسا له ولا حاكما عليه إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يكن ليعترف لأحد بحق أبدا عليه ولا بنجاته إلا لله عز وجل.
ولما وصل خبر تلك المعاملة السيئة إلى فردينند وإيزابل أمرا بإعطائه حريته التامة، وحررا إليه كتابا قالا فيه ما معناه: «إن ثقل السلاسل كان كأنه واقع على قلبيهما.» ولما وصل إلى إسبانيا دعته الملكة إلى زيارة خصوصية فقص عليها القصة الحقيقية، فاغرورقت عيناها بالدموع، وأذرفت دمعا سخينا. ولما رأى كولومب تلك العواطف الحساسة، وهذا التأثر الغريب نسي ما جرى له، ولا سيما أنه كان سليم النية خالص الطوية، لا يحقد ولا يكمن بل يكظم الغيظ. ومع ذلك فلم تمنع العوامل السياسية من تعيين حاكم آخر لتلك الولايات المكتشفة. وسافر «أوفاندو» حينئذ لهذا الخصوص إلى «سنت دومنج». ثم ألح كولومب في طلب أسطول؛ ليعاود الملاحة، ويطوف حوالي السواحل الأرضية؛ إذ قد أتم اكتشاف العالم الجديد، وكان لا يريد أن يترك ساحلا من سواحل المحيط أو جزيرة من جزره إلا وينشر فيها اسم الله القدوس ويباركه، فاصطحب معه «أدلتندو» و«فردينند» - هذا ليس بالملك - وكان يطمح في هذه الرحلة الرابعة أن يرجع إلى إسبانيا من بحار آسيا وجنوب أفريقيا بعدما يطوف حول الأرض.
ففي الخامس والعشرين من مايو رسا كولومب باسم الثالوث الأقدس على «سنت دومنج» أو «هسبنيولا»، فوصل إلى جزائر «الكارائب» في ستة عشر يوما. وفي التاسع والعشرين من يونيو رسا على بعد فرسخ من «هسبنيولا»، وكان عازما على إبدال سفينة «جاليسيين» بأخرى أخف سيرا، فأرسل ضابطا على قارب يلح على الحاكم «أفندو» في طلب سفينة أخرى يدفع إليه ثمنها، وكذلك ليحصل منه على تصريح يسمح له بالالتجاء في الميناء ريثما تهدأ العاصفة التي أظهرت بوادرها أنها ستكون من أفظع العواصف. فرفض «أوفندو» بتاتا أن يصرح بإبدال السفينة، ومنع كولومب كذلك أن يرسو على الأرض أو أن يدخل إلى الميناء.
ومع ذلك كله، وما كان يوعزه كولومب من حلول العاصفة، فإن ستا وثلاثين سفينة استعدت للسفر إلى إسبانيا من طرف أوفندو، وقد طرد «والي الهند» ذلك الحاكم الثابت على تلك الأراضي الشاسعة التي غنمها بمعونة الله له باسم إسبانيا مخاطرا بحياته.
وكان داعي الرابطة المسيحية وعامل التحاب الشديد بعث في كولومب أن يرسل مرة أخرى إلى أوفندو رسولا آخر يخبره أن العاصفة ستكون فظيعة جدا. ولكن الجو كان ساكنا والسماء صافية الأديم؛ فسخروا به وسموه نبي السوء! وأقلعت سفنهم الست وثلاثين، ولم تكد تقطع ثمانية فراسخ في البحر حتى انقلب النهار الباهر ليلا بهيما، وامتنع الموج عن الحركة، وانقطع الريح عن الهبوب، وكأن البحر صار كتلة من رصاص مذاب. ثم احتاطت بالسفن قبة كأنها شعلة من نار فلم يمكنها التحرك قدوما ولا رجوعا.
Unknown page