وأما الحكيم الذي يعرف الحياة كما يمكن أن تكون، ويعرف أن كل حي من الناس فإنما هو حي على شروط لواهب الحياة، ثم للحياة نفسها، ثم لأهل الحياة؛ فهو أدرى بالمصائب من ذلك الأحمق، ولكنه لا يثيرها ولا يبحث عنها ولا يمتلق لها العلل
22
من نفسه، ولا يعترضها في غيره، وما نزل به منها فإنه يفتح لها من قلبه سبيلا تمر فيه بين العزيمة والجرأة، وإلا فبين الثبات والصبر، وإلا فبين التوكل والإيمان، وما أهون مصيبة تفتح لانصرافها ثلاث طرق واسعة!
وهذا الحكيم يجد في محنته لذة تشبه لذة الدرس لمن همه الحكمة واختبار الأشياء ومعاناة خواصها وأسرارها، كأنه من مصائبه في «معمل» للتجربة والاختراع؛ فإنما هو يتلقى عن الله ما لا يصيبه به إلا هو، وما لا يصرفه عنه إلا هو، وإنما يستعمل رأسه للفهم لا للوهم، وهو يعرف أن علم الله أزلي يسع الأزل كله، وأن الأقدار من علم الله فهي مقسومة على الدهر كله، وأنه هو في جانب الدهر لا يبلغ أن يناله ما تنال الشرارة من ماء البحر إذا هي انطفأت في البحر.
هذا الحكيم يعرف أن الحياة ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجه، ولا هي بالهرب من الموت في كل وجه، فهو لا يبالي الموت ولا يخافه، ولا يعبأ بالحياة ولا يرجوها، ولكنه يمشي على صراط من فضائله، وعلى نور من ربه، فما دامت فضيلته لا تنكره، وما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، فكل ما بين الأرض والسماء وما بين الآخرة والأولى هو مادة العزيمة في نفسه، ومادة القوة في روحه، ومادة الابتسام على شفتيه!
فإن نزل به هم وأدركه خور الطبيعة وضعف الإنسانية، فلم يستطع أن يخلص منه، صرفه إلى جهة غير جهته، واستخرج منه معنى غير معناه، وقابل بين راحة الرضا به وتعب السخط عليه، ونظر في مبلغ شره، وما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شر منه، وجمع بين الدعاء لله أن يصرف عنه ما وقع، وبين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع؛ ثم لا يزال يعالج الهم مستأنيا ربيطا جأشه، حتى تثوب إليه القدرة على نفسه، فتسكن إليه النفس من نفرتها، وحتى يرى هذا الهم كأنه مما لا بد منه في رياضة أخلاقه وتنزيه شمائله، وكأن صدع الجانب الذي بينه وبين الناس، أو بينه وبين نفسه، إنما كان لتقوية الجانب الذي بينه وبين الله.
وأشقى الناس من يتوقع الشقاء وهو لا يعلم من حاضره ما الله صانع به، ولا من مستقبله ما الله قاض فيه، وكأنه يتظنى بالله فيرى أنه تعالى قد وكله إلى نفسه، وأيأسه من رحمته، وصرف عنه تيار الغيب المتدفع بالحوادث والأقدار بين شاطئ الليل والنهار، فلا يدفع إليه جديدا ولا يصرف عنه قديما، وكأن الزمن كله يتحرك وهو ثابت قار قد حصره الهم من هذا الفلك في زاوية، ووضعه الدهر من بيت الأحزان موضع القافية، والمصيبة في مثل هذا أكبر من كل شيء لأنها لا شيء. ولا ينفع المرء أنه من الناس إذا لم يكن من نفسه، وهذا لا نفس له أو كأنه لا نفس له؛ إذ لا ثقة به ولا قوة فيه، ولو كان وجهه جلدة مما بين عيني الأسد لما ظهر إلا جبانا، ولو اختلط الحاضر بالمستقبل على شيء لما اجتمع منهما ما يجتمع من غضون جبهته في تعاسته التي يظن أنه خص بها؛ فهو يتوهم الخوف، ثم يخاف مما يتوهم، ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم، ثم يخيفه أن تخذله الأقدار فلا يقوى على ذلك، ثم يكون أشد خوفه من أن يستمر له ذلك! فمن خوف إلى خوف إلى خوف، وهو تتابع يصور الرعدة التي تعتريه لجبنه كما يصور ضحك القهقهة من هذا الجبن.
23
وذلك يا بني ضرب من ضروب استحالة النفس، كأنها ليست في صاحبها أو ليست له؛ فهو يمر على الحقائق فزعا كما يمر الطائر على الأخيلة التي تنصب له على الثمر، ويجزع منها كما يجزع الطفل من أرواح المردة والشياطين التي تسكن ألفاظ التهويل ونحوها مما يفزع به، ثم هو من المصيبة الواحدة في مصيبتين: أما الأولى فشدة الخوف التي تفقده لذة ما يكون فيه من النعم - والنعم لا حصر لها - فلا يشتهيها، ولا يجد لها مساغا بعد أن لبسه مرض الهم. وأما الثانية فقوة اليأس التي تضعف قدرته على الحيلة للخلاص مما نزل به، فكأنما شد عزمه وثاقا، ثم لا يكون من اجتماع المصائب الثلاث
24
Unknown page