فاتحة1
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة، يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه، وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء. ولقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيرا من المآسي الفاجعة، يسأله أصحابها الرأي أو المعونة، فيما يقرؤها إذ يقرؤها كلاما مكتوبا، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها، فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب العالمية الأولى واستعرت نارها في الميادين البعيدة، لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فما كان ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديدا من ضحاياها هناك في الميادين.
كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعي النجار لعمل عندنا، فوجدته جالسا في أهله ياكلون؛ كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز إدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم، كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود، مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتا ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رمادا في الهواء!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيرا مما يرى ويسمع، فاحتبس الدمع في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه.
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحتشد آثاره، والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه الكبير، حتى امتلأ الإناء يوما ففاض. •••
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له في نظام الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: رب، لم كتبت علي هذا ...؟ لماذا حكمت بذلك ...؟ لماذا قدرت وقضيت ...؟ ما حكمتك فيما كان ...؟ ألم يكن خيرا لو كان ما لم يكن ...؟ ثم يتوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذرا يقول: رب، لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك، فمغفرة وعفوا ...!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبدا في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات، أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض، ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: رب، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك! وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء.
Unknown page