فإذا كان الفقر كل شيء عند هؤلاء الحمقى، فما هو الشيء الذي يسمى الفقر؟
من أجل ذلك يا بني ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم، وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير؛ لأن هذا الفقير في رأيهم قد أصبح شخصا آخر لا صلة لهم به ولا عهد، فهو يكذب على الحوادث والحوادث تكذب عليه، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فإذا انخدعوا له فبمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاء سخيفا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه، ولكن لأثره على نفسه؛ إذ الحقوق عندهم حقوق إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أن لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير، ولوضع الفقير في ثيابه.
أترد مثل هذا الغني الجلف المتسكع إلى الدين؟ إنه هو في نفسه دين وشريعة أيضا! أتبصره بالإنسانية؟ فمن هو إذن - ويلك - إن لم يكن من صميم هذه الإنسانية وعين أهلها، بل إنسان هذه العين؟! أما الحق فاذكر بربك أمواله تعلم أن «الحق في يده» ... هكذا هكذا يعطى المال أهله حتى فضائل غيرهم، ويسلب الفقر أهله حتى محاسن أنفسهم، وهكذا لا تجد المال أبدا إلا نعمة ناقصة، ولن تتم هذه النعمة إلا إذا رزق الإنسان مع الغنى أخلاقا تكفيه شر الغنى؛ ومن أجل هذا كان من الأمور الطبيعية أن تجد العقل في إنفاق المال أشد ارتباكا منه في جمع المال.
6
قال «الشيخ علي»: ولا بد من صلة معنوية بين جميع الناس على ما يكون بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها، فإنهما لا بد مفترقان افتراق الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة؛ فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع: إن الصلة التي تجمع الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم: إنها العقل! وتقول الآداب: إنها شيء من العدل والعقل يكون الإنسانية في الضمير! وتقول الحياة: إنها سبب الإنسانية وهو الرحمة! ثم يرعد صوت إلهي يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة، فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة، ويقول: كلا، بل هو سبب الرحمة، ومظهر الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!
من الذي ولد وفي يده قطعة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده «تحويل» على الآخرة؟
7
لقد وسعت الخرافات كل شيء إلا هذا؛ فما لنا نتحد في البدء والنهاية ثم نختلف في الوسط؟ ذلك لأن بدءنا من طريق الله ونهايتنا في طريق الله، ولكن الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة واحدة هو طريق بعضنا إلى بعض ... وحيثما التقى الإنسان بالإنسان، فإما أن تلتقي المنفعة بالمنفعة وإلا فالمنفعة بالمضرة، فلا بد من انتفاع أحدهما أو كليهما؛ ومن ثم يقول البخلاء: ما الذي ننتفع به من رحمة الفقير؟ وما له يريد أن يتحيفنا كأنه روح الجدب، وأن يتعرقنا كأنه روح المرض؟
8
وما له يريدنا على أن نسيء من أجله المس في أموالنا كأنه روح الإفلاس؟ أولا يكفيه أننا لا نرزؤه شيئا، وأننا نفضل عليه فنعتد الدرهم الذي نمسكه عنه كأنه درهم أخذناه منه، وبذلك لا يضرنا ولا ننفعه بشيء، ومن الجهة الأخرى لهذا القياس يكون قد نفعنا ونفعناه بلا شيء؟
Unknown page