لما خلقت الإنسان عبدا على قدرك صار إلها على قدره، فيجب في الحق أن تعذبه السماء إذا وغل عليها طفيليا بلا عمل ولا ثمن!
النخلة السحوق نواة مخزونة في بلحة، والعالم العظيم تركيب مخبوء في إنسان؛ فالإنسان لنكده الطبيعي محيط بنواميس قاهرة تحركه، وتحيط به نواميس أخرى قاهرة تتحرك معه؛ فمن ثم لا يبرح يصطدم، ولن يكون متجها أبدا إلا إلى التحطيم، فإذا هو تورع وتحرج واستعلى أمات من شهواته فأبطل مثل ذلك فيما حوله، فكان خروجه من بعض الدنيا هو حقيقة في بعض الدنيا، ومثل هذا حقيق أن يقول: إني أحكم العالم من داخلي! •••
تباركت ربنا وتعاليت، إن الشك فيك لهو اليقين على طريقة، والإيمان بك هو اليقين على طريقة أخرى، المقعد لا يمشي، والأعرج لا يعدو، والضعيف لا يسبق العداء، فإذا أنكر المقعد على من يراه يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد سبق؛ فما ذلك من إنكار العين ولا من مكابرة النفس، وإنما ذاك رأي منظور فيه إلى حظ رجل مهملة أو قدم مكسورة أو عظم واهن، ومن ثم لن يكون في الناس ملحد إلا وفي طباعه أو أخلاقه أو حوادث دنياه جهة مريضة ينكسر عندها الرأي ويبتلى بها الحس، فهي توجهه وتصرفه منظورا فيه إلى شعور بعينه، وقد ينتحر الرجل من إعراض امرأة، فمن ذا يقول إن النفس الإنسانية في وزن قبلة؟!
فأما الملحد بغير علة فهذا لا يوجده أب ولا تضعه أم؛ إذ يجب أن تكون طباعه له وحده وميراثه منه وحده حتى يصدق زعمه أنه ألحد للبرهان وحده، فما يجحد الجاحد إلا ليجعل نفسه في الرفاهية من الأمر والنهي، ويخرج بها من حكم الضرورة، والإيمان كله ضرورات مسلطة الحكم على ما بين المؤمن ونفسه، وما بين المؤمن والناس، وما بين المؤمن وربه؛ حتى كأن فيه شيئا يلذعه بالجمر، فما يستريح من لذعة إلا قدر ما يجم ليحتمل اللذعة بعدها.
يا إلهي! إنما يحبك المؤمنون ويكابدون في رضاك على مقدار منك لا منهم؛ فأنت تقذف قلب المؤمن بضرورات كشعل البراكين، وتضرب روحه من مصائبه بسلسلة جبال مفتولة، وتتركه في الأرض يشعر كأنما خر عليه سقف العالم!
شبه خلفها بصائرها، وظلمات تنتهي بعد حين إلى مد النهار الأكبر،
5
ومن الضرورات والمصائب والآلام يتخلق الجو الحساس الذي يبسط فيه الإنسان جناحي روحه، ويسمو بها على التراب والمادة.
الجو الجو: هذه تغريدة البلبل في قفصه.
الغذاء الغذاء: وهذه قوقأة الدجاجة في قفصها. •••
Unknown page