ذاك الذي جعلته الكتب عالما، وقسمت ما شاء، ولكن الله تعالى لم يقسم له شيئا من كرم الضريبة وشرف العرق، ولا ألقى معاني الذهب في سلسلة آبائه،
4
فهو رثة
5
لا يجيء في معاني الناس بطباعه وأخلاقه إلا كالثوب الخلق من فتوق ورقع، ويغطي عليه العلم كما تغطي القشرة النضرة على الثمرة المرة، فإذا كتب للناس ارتطم في طباعه ونزع إلى مأخذه وتجاذب داخل نفسه وخارجها؛ فيذهب ينكر ويعترض ويسفه ما عليه الناس من دين وخلق، وينزو بهم في نوازيه ودواهيه، ويرد كل ما في الطبيعة من الجمال وكل ما في النفس من الحق إلى تأويل مادي بحت، كأن الزهرة الخارجة من الطين هي طين مثله، ويسقط عنده كل ما عمل الشعاع والماء في الذرة الأزلية التي انبثقت منها النبتة، فخرجت توحي عن السماء وحي النور واللون.
أنا لا أفهم أن مثل هذا عالم، ولكنه في الناس كبعض النبات في النبات يرزق من النمو قوة يفسد بها ما حوله، فإذا هي ظهرت فيه لم تنبه على قيمته بأكثر مما تنبه الناس إلى وجوب اقتلاعه واستئصاله.
لا ثقة لي بمتخلق لا دين له؛ فإن الخلق يصله بحظ نفسه أكثر مما يصله بواجبات الناس، ولا بفيلسوف ملحد؛ لأن الفلسفة تمزجه بالمادة أكثر مما تمزجه بالإنسانية، ولا بمصلح ينسلخ من الدين؛ لأن إصلاحه صور من غروره، ولا بعالم جاحد؛ لأن علمه كهندسة الشوكة كلها من أجل آخرها ... أولئك لا يدرون أنهم من هذا العالم في حدود أغراضهم الصغيرة الفانية، إذا كان كل منهم يتناول الكون من حيث يحب هو لا من حيث يجب عليه، ثم يفسم الأشياء في جزء منها لا في مجموعها، ويعتبر الزمن عمرا كعمر الفرد وهو تاريخ لا يموت، وينظر إلى الغاية من الوجود كأنها داخلة في الحد، مع أنها لو حدت لبطلت أن تكون غاية.
كل منهم صحيح في ذاته لكنه فاسد بموضعه من أغراضه أو من أغراضنا، وما أشبههم بالأشجار في المقابر لا تجد لها في المقبرة ما تجد لها في الحديقة، كأنها لما قامت في موضع الموت قامت حية، ولكن ماتت روح الحديقة فيها.
لا تسمو حياة الفرد إلا إذا كان جزءا من كل، ولا يجتمع الكل إلا إذا كان تاما فيما هو كل به، السبيل أن يدفع الفرد أبدا إلى خارج حدوده الذاتية الصغيرة، وفكرة الكل هذه لا يصورها ولا يستوفي معانيها إلا الدين الصحيح؛ إذ هو خروج بالفرد من شهواته التي تفصله من غيره إلى واجباته التي تصله بغيره، وانتزاع له من ذاتيته إلى إنسانيته، ودفع بالإنسانية نفسها إلى الكل الذي هو أسمى؛ فكأن الإيمان في حقيقته إن هو إلا دربة لهذا الإنسان على الدخول في اللانهاية، فهو من أجل ذلك يقضي على الفرد أن يتسع ويمتد في إنسانيته لا في شخصيته، فيتخلق بالأخلاق التي تعم دون التي تخص. وهذه صورة صغيرة من جعل المحدود في ذاته أعظم من ذاته ، ودفع ما ينتهي في سبيل ما لا ينتهي.
فإذا عمل الفرد على أن يقفل حدوده عليه ويستغلق بها ويمتنع من ورائها، صار كالقلعة المحصنة لا تصلح إلا حربا لما حولها ودفاعا عما فيها، فلن يضع هو أمره إلا على هذا المعنى؛ ومن ثم فلن يكون له ممن يصادمونه إلا حكم واحد، وهو تخريبه وهدمه واقتحامه، فإذا كانت الحياة غير باقية على فرد من الناس، فمن الحمق أن تكون هذه هي صورة الإنسانية فيها، وإذا كان ذلك حمقا فالحمق ولا جرم بعض المعاني التي يقوم الإلحاد عليها. •••
Unknown page