134

أفمن أجل واحدة؟ أما إنه لعل الذي جعلها حقا عندك هو الذي يجعلها باطلا عند سواك، ولعله ما حسنها في عينك إلا أن طبعا من الجد فيك استملح طبعا من الهزل فيها، كما ترى معنى مكدودا في إنسان يستروح إلى نقيضه في إنسان آخر.

ولعل من أمتع اللذات وأبهجها لقلب المهموم أن يتصور في همه من يعرفه طروبا فرحا، وإن كان كلا الرجلين لا يسكن لعشرة الآخر لو تعاشرا واختلطا، وهذه القلوب لا تؤتى من مأتى هو أدق وأخفى من توهم ما فيه اللذة؛ فإن النفس ترجع عند ذلك بكل حقائقها إلى نوع واحد من الوهم ينصرف بها إلى تمثل هذه اللذة التي استشرفت لها وطمعت فيها؛ فإذا طعمها في الدم يهيج لها سعار

17

الجوع العصبي، وما هي السرقة مثلا إلا أن يضع اللص عينه على المال أو المتاع ويتذوق طعم اليسر والفائدة؛ فتجن أعصابه جنون الحاجة، فلا يرعوي إلى شيء من الرأي يزجره أو يمنعه أو يكفه، ويكون في الحقيقة سارقا من قبل أن يسرق. وكذلك يكون الفاسق متى نظر إلى المرأة واشتهاها ونبه معانيها في معانيه، وقل مثل هذا في كل من طار قلبه أو طار صوابه.

اله عن وهمك يا بني، وضع الأمر على قاعدته، وسدد نظرك إلى حقيقته، ودعني من حبل الباطل الذي تجر فيه شيطان هواك أو يجرك هو فيه، وما نتكلم عن اثنين من الخليقة أنت وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما وفنيت بالحب فيها؛ لكانت هي الكون كله، ولو فنيت هي فيك؛ لكنت أنت ذلك الكون، وهذا حرسك الله موضع النقص في النفوس العاشقة؛ إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى، وهو نقص أشبه بجنون المجانين بل هو متمم له، فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبل هو نصف الجنون الإنساني ، أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.

نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلا الحاضر. إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل إلا يأمل هذا ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية، بل بغير عمر. وكذلك ليس للعاشق مع الحبيب شخص آخر ممن مضى وممن يأتي ما دام الحب قائما؛ فالحبيب هو الحبيب وكل الناس بعده أدوات، وشخص واحد هو الألف واللام والحاء والباء، والناس جميعا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط.

قال «الشيخ علي»: ثم يبرأ المجنون ويثوب إليه عقله فيعرف أنه كان مجنونا، ويبغض المحب أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونا؛ أفلا يكفي هذا ويحك في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما! وأن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس، لا يجوز أن نأخذ بواحد منهما إلا إذا أخذنا بالآخر وأقررناه في باب الصواب والعقل؛ إذ كلاهما حاصل من حالة متى هي تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون، وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها ووصفها غير الأخرى؟ ويلمه وصفا من العاشق لو كان مع صاحبه رأي!

18

وويلمه رأيا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل!

قال «الشيخ علي»: سئل الحلاج

Unknown page