مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - الضمير
3 - الحكم الأخلاقي
4 - مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
5 - الخير والشر
6 - علاقة الفرد بالمجتمع
7 - الحقوق والواجبات
8 - معنى الواجب وأهم الواجبات
9 - المثل الأعلى
10 - الفضيلة
مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - الضمير
3 - الحكم الأخلاقي
4 - مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
5 - الخير والشر
6 - علاقة الفرد بالمجتمع
7 - الحقوق والواجبات
8 - معنى الواجب وأهم الواجبات
9 - المثل الأعلى
10 - الفضيلة
كتاب الأخلاق
كتاب الأخلاق
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الغرض من هذا الكتاب أن يكون مرشدا للطلبة في حياتهم الأخلاقية، يلفتهم إلى نفوسهم، ويبين لهم أهم نظريات الأخلاق، ويوسع نظرهم فيما يعرض عليهم من الأعمال اليومية، ويشحذ إرادتهم لتأدية الواجب وإكتساب الفضيلة.
راعيت فيه الجهة العملية أكثر مما راعيت الجهة النظرية، لأن التعمق في النظريات حظ الفلاسفة، والعمل وفق ما تتطلبه الأخلاق واجب الناس جميعا؛ والحياة الأخلاقية تعتمد على الروح الذي يبعث على العمل أكثر مما تعتمد على قواعد العلم.
وقد كنت ألفت كتابا في الأخلاق نشر مرات، فلما وضعت الوزارة برنامجها الجديد للأخلاق في المدارس الثانوية عمدت إلى كتابي هذا فصغته صياغة جديدة - بسطت موضوعاته حتى تناسب الطلبة في دورهم هذا، وحذفت منه ما زاد عن حاجتهم، وزدت فيه فصولا لم تكن من قبل.
والله المسئول أن ينفع به كما نفع بأصله،
أحمد أمين
سبتمبر سنة 1929
الفصل الأول
علم الأخلاق
(1) ماهية علم الأخلاق ومسائله
كلنا يحكم على بعض الأعمال بأنها خير، وعلى بعضها بأنها شر، فنقول: العدل خير، والظلم شر، وأداء الدين إلى صاحبه خير، وإنكار المدين ما عليه شر، وهذا الحكم متداول بين الناس رفيعهم ووضيعهم، عالمهم وجاهلهم، على لسان الفيلسوف في بحثه عن أعمال الإنسان، وعلى ألسنة الصناع في صناعتهم، بل والأطفال في ألعابهم، فما معنى الخير والشر؟ وبأي مقياس أقيس العمل فأحكم عليه بأنه خير أو شر؟
كذلك نرى الناس يعملون أعمالا لغاية يطلبون تحقيقها، والناس يختلفون إختلافا كبيرا في هذه الغايات التي ينشدونها، فبعضهم يطلب المال، وآخر يطلب الجاه، وآخر يطلب العلم وفريق يزهد في كل ذلك ويطلب رضا الله بالعمل الصالح، ويأمل النعيم المقيم في الدار الآخرة، ولكن كثير من هذه الغايات التي يطلبونها ليست هي الغاية الأخيرة، فلو سألت إنسانا لم يعمل هذا العمل؟ لقال: إنه يعمله طلبا للمال، ولو سألته لم يطلب المال؟ لقال: إنه يطلبه ليبني قصرا ويكون أسرة، ولو سايرته في آماله وسألته لم يريد القصر والأسرة؟ لقال: إنه يرغب أن يكون في الحياة سعيدا - إذن - المال والقصر والأسرة ليست غايات أخيرة، إنما الغاية الأخيرة له أن يكون سعيدا - فهل للناس جميعا غاية أخيرة واحدة يطلبونها أو بعبارة أخرى ينبغي أن يطلبوها؟ وما هي؟
عن كل هذا يبحث علم الأخلاق.
فهو علم يوضح معنى الخير والشر، ويبين ما ينبغي أن تكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضا، ويشرح الغاية التي ينبغي أن يقصدها الناس في أعمالهم، وينير السبيل لعمل ما ينبغي. (2) موضوعه ومسائله والأعمال الإرادية وغير الإرادية
يؤخذ مما ذكرنا أن علم الأخلاق يبحث عن أعمال الناس فيحكم عليها بالخير أو الشر، ولكن ليست كل الأعمال صالحة لأن يحكم عليها هذا الحكم، فكثير من الأعمال لا يصح أن يقال: إنها خير ولا شر، ولبيان ذلك نقول: تصدر من الإنسان أعمال غير إرادية كالتنفس ونبض القلب ورمش العين عند الإنتقال فجأة من ظلمة إلى نور، فهذه الأعمال تسمى (أعمالا غير إرادية)، وهي ليست من موضوع علم الأخلاق، فلا نحكم عليها بخير ولا شر، ولا يقال: إن الإنسان خير لأن قلبه ينبض نبضا حسنا، أو معدته تهضم هضما جيدا، كما لا يقال: إنه شرير لأن قلبه لا ينبض كما ينبغي، ومعدته لا تهضم هضما حسنا، لأنه لا دخل لإرادة الإنسان في ذلك، وكل إنسان يريد أن ينبض قلبه وتهضم معدته على أحسن وجه ولكن إرادته لا أثر لها في ذلك.
وتصدر من الإنسان أعمال بعد التفكير في نتائجها وإرادة عملها، كمن يرى أن بناء مستشفى في بلده ينفع قومه ويخفف مصائبهم فيتبرع بالمال لبنائه وإدارته، وكمن يقدم على قتل عدوه فيفكر في وسائل ذلك ثم ينفذ ما عزم عليه، فهذه الأعمال تسمى «أعمالإ إرادية» وهي موضوع علم الأخلاق، فيحكم عليها بأنها خير أو شر، وعلى فاعلها بأنه خير أو شرير.
وهناك نوع من الأعمال بين الاثنين، فله شبه بالأعمال الإرادية وله شبه بالأعمال غير الإرادية، فهل هو من موضوع علم الأخلاق؟ كما في الأمثلة الآتية: (1)
من الناس من يأتي أعمالإ وهو نائم، فلو أن أحدهم أشعل نارا بمنزله وهو في هذه الحالة، أو أطفأ نارا كادت تحرق المنزل، فهل هذا عمل إرادي يحكم عليه بأنه خير في الحالة الأولى وشر في الثانية؟ (2)
قد يصاب إنسان بداء النسيان فيترك عملا كان يجب عليه عمله في وقته، أو يخلف موعدا وعده. (3)
قد يستغرق الفكر عمل، كمن يشتغل بحل مسألة هندسية، أو يقرأ في رواية لذيذة، فيلهيه ذلك عن درس واجب أو عمل مفروض.
هذه الأعمال كلها - بالتأمل فيها - نرى أنها أعمال غير إرادية، فليس النائم في المثال الأول قد تعمد إحراق المنزل وقدر نتائجه، لذلك لا يحكم على عمله هذا بأنه خير أو شر، لأنه لا إرادة له، ولا يسأل عنه، وإنما يسأل عنه ويحاسب عليه إذا كان يعلم أنه مصاب بهذا المرض وأنه يأتي أعمالا خطرة وهو نائم، ثم لم يحتط وقت صحوه وانتباهه لما قد يحصل عند نومه، بأن يحول بين نفسه والنار وأدواتها، فهو مسئول خلقيا عن عدم الإحتياط وقت الإنتباه، لأنه شيء إرادي، كان في مكنته أن يحتاط له ثم لم يفعل، وكذلك الشأن في الأمثلة التي ذكرناها ونحوها، فلو أنك نمت وتركت النار مشتعلة في موقد ثم طارت شرارة أحرقت المنزل لا يسمع لقولك: «إن هذه ليست خطيئتي ولست قادرا أن أمنع النار أن ترمي بالشرر وأنا نائم» إذ يقال لك: «إنك عالم أن ستنام، وقد أردت النوم، وعالم أن النار مشتعلة، وكان في إمكانك أن تحتاط وقت انتباهك باطفائها، وعالم أنك ستكون في حالة عدم شعور، فكان ينبغي أن تستعد وقت شعورك لما قد يطرأ وقت عدم شعورك، وذلك باطفاء النار ، فنحن إنما نحكم عليك بالخطأ والصواب بالنظر إلى عدم الإحتياط، وهو شىء إرادي».
ومثل ذلك الإتيان بعمل مع الإعتذار بجهل النتائج التي تصدر عنه - وكمن كان يعلم من نفسه أنه حاد الطبع غضوب، لا يضبط نفسه عند سماع كلمة تؤلمه، فيسب أو يضرب من غير شعور، فلو أنه غشى الجمعيات التي هي مظنة لإثارة غضبه وأتى بما يستنكر كان مسئولا عن عمله، - لما ذكرناه - وكذلك الأعمال التي أعتيدت حتى صار صاحبها يأتيها من غير إرادة، فإنه يسأل عنها، لأن الإعتياد نتيجة عمل إرادي متكرر، فلا يعذر طالب بأنه إنما يدخن لأن التدخين أصبح عادة متمكنة منه، لأنه - على فرض تمكنه كما يدعي - إنما إنغمس في هذه العادة بعد أن دخن جملة مرات وهو حر مختار مريد حتى صارت عادة، وهكذا.
والخلاصة:
أن موضوع علم الأخلاق هي الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد وإختيار، يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل، وكذلك الأعمال التي صدرت لا عن إرادة ولكن كان يمكن تجنب وقوعها عندما كان مريدا مختارا، فهذان النوعان يحكم عليهما بالخير أو الشر - وأما ما يصدر لا عن إرادة وشعور، ولا يمكن تجنبه في حالة الإختيار، فليس من موضوع علم الأخلاق. (3) التبعة الأخلاقية (المسئولية الأخلاقية)
مما تقدم نفهم أن التبعة لا تكون إلا إذا وجدت الإرادة، فما لا دخل لإرادة الإنسان فيه لا يسأل عنه، ولا يلام عليه، ولا يمدح أو يذم من أجله، فلا يمدح الشخص لطوله، ولا يذم لقصره، من الناحية الأخلاقية، ولا يقال: إنه خير لأنه جميل الوجه ولا شرير لأنه قبيحه، لأن هذه الأشياء وأشباهها لا عمل لإرادة الإنسان فيها. وليس يلام الإنسان على سوء صحته، ولا يمدح على حسنها إلا بمقدار ماله من أعمال إرادية في ذلك، كسيره في حياته في نظام صحي أو إهماله ذلك.
كذلك لا يسأل الإنسان عما لم يمنح من ملكات عقلية أو فنيه، فالناس لم يخلقوا جميعا وعندهم استعداد بقدر واحد للرياضة أو للفنون الجميلة، فمن لم يخلق رياضيا لا يكون مسئولا عن ضعفه الرياضي، إنما يكون مسئولا إذا كان عنده الإستعداد الكافي وكان ينقصه المران والجد ثم لم يمرن ولم يجد وهكذا.
والطفل الرضيع إذا بكى وأسهر أمه طول الليل لا يسأل عن عمله لأنه لا إرادة له، والصيدلي إذا أخطأ فأعطى الممرضة دواء غير المكتوب في تذكرة الطبيب فناولته الممرضة للمريض وهي جاهله به فمات منه كان المسئول هو الصيدلي لا الممرضة، لأنها لا إرادة لها في ذلك، والصيدلي هو المسئول لإهماله في عمله.
فمتى وجدت الإرادة وجدت المسئولية، وما لم توجد الإرادة فلا مسئولية، فالأعمال التي ليس في طاقة الإنسان التحرز عنها والتي غلب فيها على نفسه لا يسأل عنها، كأعمال المجنون والمغمى عليه، وكذلك أعمال المكره، فمن أمسك بيد آخر واضطره لارتكاب جريمة ولم يستطع المكره بحال أن يقاومه لم يكن مسئولا، إنما المسئول من أكرهه على العمل.
وهنا كثيرا ما يعرض هذا السؤال وهو: هل إرادة الإنسان حرة حتى يكون مسئولا عن عمله؟ هذه المسألة من المسائل المشكلة التي طال فيها الجدل قديما وحديثا، فيذهب بعض الباحثين إلى أن الإنسان مجبر ليس حر الإرادة؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتأثر بشيئين: الوراثة والبيئة، فهو يرث من أبويه ميولا خيره وميولا شريرة، وكذلك تؤثر فيه البيئة التي حوله من بيت ومدرسة وأصدقاء وكتب ونحو ذلك، فمن نشأ من أبوين مجرمين، وورث منهما الميل إلى الإجرام، وشب بين مجرمين وسمع أحاديثهم كان مجرما لا محالة، ولم يكن حر الإرادة فيما يفعل، وليس في استطاعته إلا أن يكون مجرما، وإذا أردت إصلاحه فأصلح البيئة التي يعيش فيها، وأنقله من بيئته السيئة إلى بيئة خيرة، ولكن في هذا الرأي غلوا، فإن الإرادة - وإن كانت تتأثر بالوراثة والبيئة إلى درجة كبيرة - فإنها لا تفقد حريتها، وأوضح دليل على ذلك ما نشعر به في أنفسنا من أننا أحرار في الإختيار، وأننا نستطيع أن نعمل الشىء وألا نعمله، فمن كذب شعر من نفسه بأنه كان يستطيع ألا يكذب، ومن أجل هذا يندم على كذبته، ولو كان كذبه محتما عليه ما ندم - ولولا أن إرادة الإنسان حره في اختيار الخير والشر لما كان هناك معنى للتعاليم الأخلاقية - ولكان الأمر بفعل الخير والنهي عن الشر ضربا من العبث، ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب والمدح والذم.
وهناك نوعان من المسئولية: مسئولية قانونية، ومسئولية أخلاقية، فالإنسان إذا خالف قانون البلاد كان مسئولا أمام القضاء، وعوقب من أجل مخالفته، وإذا خالف أوامر الأخلاق كان مسئولا أمام الله وأمام ضميره، والمسئولية الأخلاقية أوسع دائرة من المسئولية القانونية: ذلك لأن القانون لا يأمر ولا ينهي إلا إذا استطاع أن يعاقب من يخالف أمره ونهيه بالعقوبات التي نص عليها، أما الأخلاق فسلطانها أوسع، لأن من يتولى لها المثوبة والعقوبة هو الله والضمير، وكلاهما يشرف على الأعمال الظاهرة والباطنة - فالقانون لا يستطيع أن ينهى عن الكذب والحسد لأنه لا يستطيع أن «يسأل» من يرتكبهما، ولو حاول أن يعاقب الكاذب أو الحاسد لارتكب من إضرار الناس بالوشاية والتجسس أكثر مما يصلح، أما الأخلاق فتنهى عن الكذب والحسد وتنهى عن أكثر من ذلك. فتسأل الإنسان عن نياته التي في أعماق نفسه ولو لم يصدر عنها عمل، وتكل مكافأته على نياته الحسنة ومعاقبته على نياته السيئة إلى الله وإلى ضميره.
الفصل الثاني
الضمير
(1) ماهية الضمير
يلاحظ الإنسان أن في أعماق نفسه قوة تحذره فعل الشر إذا أغرى به، وتحاول أن تمنعه من فعله، فإذا هو أصر على عمله أحس بانقباض نفسه أثناء العمل لعصيانه تلك القوة، حتى إذا أتم العمل أخذت هذه القوة توبخه على الإتيان به، وبدأ يندم على ما فعل، كالطالب يحاول الغش في الإمتحان فيحس صوتا باطنيا يناديه ألا يفعل، فإذا لم يسمع لهذا الصوت وبدأ يغش أحس أن هذه القوة تثبطه، فإذا استمر في عمله أنبته وندم وعزم ألا يعود.
كذلك يحس أن هذه القوة تأمره بفعل الواجب، فإذا بدأ في عمله شجعته على الإستمرار فيه، فإذا انتهى منه شعر بارتياح وسرور، وبرفعة نفسه وعظمتها، كالطالب يرى آخر مشرفا على الغرق فينقذه، فحين إنقاذه يشعر بتشجيع نفسه على المضي في عمله فإذا أتم ذلك شعر بغبطة وسعادة.
هذه القوة الآمرة الناهية تسمى «الضمير»، وهى - كما رأيت - تسبق العمل وتقارنه وتلحقه، فتسبقه بالإرشاد إلى عمل الواجب، والنهي عن الرذيلة، وتقارنه بالتشجيع على الخير، والتثبيط عن الشر، وتلحقه بالإرتياح والسرور عند الطاعة والشعور بالألم والوخز عند العصيان.
هذا الضمير نشعر به كأنه صوت ينبعث من أعماق صدورنا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ولو لم نرج مكافأة أو نخش عقوبة، نرى البائس الفقير يجد مالا أو متاعا وهو أشد ما يكون حاجة إلى مثله، ولم يكن رآه أحد إلا ربه، ثم هو يتعفف عنه ويؤديه إلى صاحبه، فما الذي حمله على ذلك! لا شىء إلا الضمير يأمر صاحبه بعمل الواجب لا لمثوبة ولا عقوبة إلا مثوبة نفسه بارتياحها، وعقوبة نفسه بالندم والتأنيب.
وهذا الضمير طبيعي حتى في الحيوانات الراقية، فنرى الكلب مثلا عنده نوع إدراك طبيعي للواجب، ويرقى هذا الإدراك بمخالطته للإنسان، حتى نراه أحيانا يفعل في الخفاء جرما كأن يسرق شيئا من سيده، أو يخالفه في أمر أمره به، فيظهر على الكلب حينئذ نوع من الإضطراب والقلق يعد جرثومه للضمير.
ونلاحظ كذلك جرثومة الضمير في الطفل الصغير، يعلوه الخجل أحيانا لخطأ ارتكبه فتتبينه في نظرته، ويدلنا اضطرابه وقلقه على أنه ارتكب خطأ - وينمو هذا الشعور بنمو الإنسان حتى يصل به إلى حد أن يملأه الفرح والغبطة إذا هو أدى الواجب، ويذوب أسفا وندما إذا عصى أمر الضمير، وهذا الشعور تجده يتبع حالة الإنسان، فهو في حالة سذاجه عند المتوحش، كشأنه في حديثه وعرفه وحالته الإجتماعية، فإذا رقى الإنسان رقى ضميره، حتى قد يدفعه إلى بذل نفسه دفاعا عن رأيه أو في سبيل إصلاح قومه. (2) اختلاف الضمير
ليس الضمير هاديا معصوما يأمر بالخير دائما، وينهى عن الشر دائما، ولا هو يأمر الأفراد في الأمم المختلفة أوامر واحدة متساوية في القوة، فإنا نرى أن الأمة التي تقدر النظام في الحياة تقديرا كبيرا يكون أبناؤها أشد إحساسا به، وضمائرهم أقوى في المطالبة باتباعه، وعلى العكس من ذلك الأمة التي لا تؤمن بفضيلة النظام هذا الإيمان.
وأفراد الأمة التي لا تسترذل الكسل لدرجة كبيرة لا يؤنبهم ضميرهم تأنيبا شديدا إذا استسلموا للكسل.
بل الأمة الواحدة يختلف ما يأمر به ضميرها باختلاف العصور، فقد رأينا مثلا منذ سنين قلائل أن كثيرا من المصريين كانوا يوسعون مجال الخلف بين المسلمين والأقباط، وتستحثهم ضمائرهم على الدعوة إلى ذلك، ويرتاح كل فريق بما يلقي من الخطب، ويكتب من المقالات، في تأييد فريقه والطعن على الفريق الآخر، واليوم نرى أن هذه الدعوة من أكبر الجرائم وأعظم الشرور، ولا تطاوعنا ضمائرنا إذا أردنا أن نمس هذه الوحدة بسوء.
بل الفرد الواحد قد يأمره ضميره بشىء في زمن ويأمره بعكس ذلك في زمن آخر، كالطالب يأمره ضميره أن ينهمك في القراءة والدرس من غير أن يراعي جسمه وصحته، فإذا درس قانون الصحة أو شعر بمرض فهم أن لجسمه عليه حقا ولعقله عليه حقا، وطالبه ضميره بأن يرعى صحته وعقله جميعا.
والسبب في اختلاف أوامره أن الضمير يتأثر بعاملين كبيرين:
أولا:
يتأثر بالحالة الإجتماعية للأمة وعرفها ودرجة رقيها، فالإنسان ينشأ في أسرة تستحسن أعمالا وتستقبح أخرى فيتبعها في استحسانها واستقباحها، ثم هو إذا خرج إلى الحياة العامة تبادل مع الناس الأخذ والعطاء فيلتقط آراءهم في الخير والشر، ويقلدهم في ذلك، ويسايرهم فيما يستحسنون وما يستقبحون، ويأمره ضميره أن يفعل كما يفعلون.
ثانيا:
يتأثر ضمير كل إنسان بدرجة عقله وعلمه، فكلما زاد علم الإنسان ونما عقله ارتقى ضميره، ذلك أن الخبرة والتجربة ومعرفته بنتائج الأشياء النافعة والضارة توسع عقله، فيتبع ذلك ارتقاء ضميره، حتى قد يأمره ضميره بعد هذه التجارب بما كان ينهاه عنه من قبل، وينهاه عما كان يأمره به، لأن عقله عرف من الحقائق ما كان يجهله، بل هو إذا وصل إلى درجة كبيرة من رقي العقل كان ضميره تابعا لعقله أكثر من تبعيته لتقاليد قومه، واستطاع - إذا هو رزق وسائل الزعامة - أن يغير ما يستنكره من عادات قومه. •••
ومع أن الضمير يختلف باختلاف الأمم واختلاف العصور وأنه قد يخطئ أحيانا في أمره ونهيه - كما رأيت - فإن كل إنسان ملزم باطاعة ضميره، لأنه مأمور بعمل ما يعتقد أنه الحق لا بعمل ما هو حق في الواقع، فالذي يعتقد شيئا حقا ويأمره ضميره بعمله ملزم أن يطيعه، وليس هناك مسئولية أخلاقية عليه إذا تبين خطأ ما أمره به ضميره، غاية الأمر أنه يجب عليه أن يضيء السبيل أمام ضميره بتوسيع عقله وتقوية فكره وتحريه الصواب، فإن هو فعل ذلك كان الضمير هاديا مرشدا، وكان له العذر إذا تبين خطأ ما أمر به ضميره. (3) الضمير والإرادة
لا قيمة للضمير يأمر وينهى إذا لم يدعم بإرادة تنفذ أمره ونهيه، فقد يشعر الإنسان بالواجب ويتأكد من أنه واجب ويأمره ضميره به ولكن يذهب كل ذلك هباء إذا لم يمنح إرادة قوية تخرج هذا الأمر إلى الوجود، فالإرادة هي القوة الفاعلة في الإنسان وبدونها تكون أوامر الضمير أحلاما وأماني لا قيمة لها، ولذلك يقول بعضهم: «إن جهنم مرصوفة بالأماني الطيبة» يريد بذلك أن الأماني الطيبة إذا لم تبرزها الإرادة إلى الوجود فأولى بها الجحيم لا الجنة، إنما يصلح للجنة الأماني الطيبة التي حولتها الإرادة إلى عمل ويقول الشاعر العربي:
من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولا
قد تعترض أمام ما يأمر به الضمير عقبات، فالإرادة القوية تذللها وتشعر بارتياح من تذليلها والتغلب عليها.
وكما تحتاج إلى الإرادة في تنفيذ أوامر الضمير نحتاج إليها في تنفيذ نهيه، وذلك بمقاومة الميل إلى الشر وصده والوقوف في سبيله حتى لا يخرج إلى الوجود.
والإرادة القوية سر النجاح في الحياة - وفضائل الإنسان وملكاته تظل في سبات حتى توقظها الإرادة، فمهارة الصانع، وقوة عقل المفكر، والشعور بالواجب ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذا لا أثر له في الحياة ما لم تحوله قوة الإرادة إلى عمل. (4) تربية الضمير
الضمير ككل - ملكات الإنسان وقواه - تنمو بالتربية وتضعف بالإهمال، فبعصيان الضمير يضعف أو يموت، شأنه في ذلك شأن أديب يتذوق الشعر والأدب، فإذا هو أهمل قراءة الأدب واشتغل «بالرياضة» ضعف ذوقه الأدبي حتى قد يصل إلى درجة لا يدرك معها ما في الأدب من جمال، كذلك يعصى الإنسان ضميره مرة فيحس بلذع شديد من جراء عصيانه، فإذا تكرر منه العصيان أحس بلذع دون ما كان يشعر به عند أول مخالفة، ولا يزال الإنسان يتبع السيئة السيئة حتى لا يشعر بأي نوع من اللوم والتأنيب، لأن صوت ضميره قد خفت وسلطانه قد ضعف. وكما يضعف الضمير بالعصيان يضعف بصحبة الأشرار وإطالة القراءة في الكتب الساقطة، فكلا الأمرين يكرر منظر الشر أمام النفس حتى تعتاده، وكلاهما يتحدث عن الشر حديث المستحسن فيتخدر الضمير ويخمد صوته.
ويحيا الضمير بمداومة طاعته، وباستخدام الإرادة في تنفيذ أمره ونهيه وصحبة الأخيار وقراءة الكتب التي تدعو إلى الفضيلة، ومما يساعد على نموه قوانين البلاد، فإنها إن كانت صالحة شاركت الأخلاق في الأمر بالخير، فتساعد على حياة الضمير وتزيد في سلطانه.
خير شيء في الإنسان ضميره، فهو «الدليل» الذي يهدي سبيل السلام.
الفصل الثالث
الحكم الأخلاقي
(1) معنى الحكم الأخلاقي
تصدر من الإنسان أحكام كثيرة متنوعة، فإذا قال: «المبتدأ مرفوع» فهذا حكم نحوي لا أخلاقي، وإذا قال: «الأجسام تتمدد بالحرارة» فهذا حكم طبيعي لا أخلاقي، إنما الحكم الأخلاقي هو أن تحكم على الشيء بأنه خير أو شر، فالصدق خير حكم أخلاقي، والكذب شر كذلك.
وقد علمنا مما تقدم أن الحكم الأخلاقي لا يصدر إلا على الأعمال الإرادية، فما لم تكن إرادة لا يصدر حكم أخلاقي، فلو فاض النيل فأغرق كثيرا من البلدان، أو هبت عاصفة فدمرت بلادا، أو هاجت الأمواج فأغرقت سفنا، لا نحكم على هذه الأعمال بأنها شر، إذ لا إرادة، ولو فاض النيل في اعتدال فروى للأرض وأفادها، وهب نسيم عليل فأزهر النبات وأنعش النفوس لم نحكم على ذلك بأنه خير، كذلك إذا جمح حصان فأوقع راكبه، أو سار سيرا حسنا فأوصل صاحبه إلى غايته لا نحكم على عمله بأنه شر في الأولى ولا خير في الثانية ما دمنا لا نعترف للحصان بإرادة - وكذلك أعمال الإنسان غير الإرادية كالتي سبق شرحها. (2) هل يصدر الحكم باعتبار الغرض أو النتيجة
والآن نريد أن نسأل: قد عرفنا ما نحكم عليه من الأعمال بأنه خير أو شر وما لا نحكم، ولكن إذا أردنا أن نحكم فهل نحكم على العمل باعتبار نتائجه أو باعتبار الغرض الذي أراده العامل من عمله؟ ولتوضيح ذلك نقول: إن هناك غرضا للعامل من عمله، وهذا يسبق العمل، وهناك نتائج تحصل من العمل وهذه تلحقه، فمثلا قد يقرر جماعة من الأطباء بعد الفحص اجراء عملية لمريض، ثم يتبين بعد اجرائها أن الفكرة كانت خطأ، وأنه كان الأولى ألا تعمل، ثم يموت المريض منها، فغرض الأطباء أن يشفى المريض، ولأجل هذا أقدموا على ما عملوا، ولكن النتيجة أنه مات، وهذا الغرض كان قبل العمل، وهو غرض حسن، والنتيجة حصلت بعد العمل، وهي سيئة، فهل نحكم على الأطباء باعتبار غرضهم أو باعتبار نتيجة عملهم؟ وهكذا كثير من الأعمال، كرجال حكومة أعلنوا الحرب على أمه أخرى لأنهم رأوا خير أمتهم في ذلك، وقد رأوا قوتهم أكبر من قوة عدوهم، وحسبوا أن ما يغنمون من الفوائد أكبر مما يفقدون من جنودهم وأموالهم، ولكن خاب ما أملوا، فهزموا وسلبوا بعض الولايات، فغرضهم كان الخير لأمتهم، والنتيجة كانت شرا لها، فعلى أي اعتبار نحكم؟ وكذلك العكس، فقد يريد الإنسان شرا ثم تكون النتيجة خيرا، كمن يريد أن يغش آخر فيغريه بشراء شيء يظن فيه الخسارة له، فيغنم الشاري من وراء ذلك ربحا كبيرا، فالغرض شر والنتيجة خير، فهل نحكم على العمل بأنه شر تبعا للغرض أو خير تبعا للنتيجة؟
الحق أن العمل يجب أن يحكم عليه بأنه خير أو شر نظرا لغرض العامل منه لا نظرا لنتيجته، فالعمل الذي قصد به الخير خير مهما استتبع من النتائج، والذي أريد به الشر شر ولو استتبع نتائج حسنة، فقبل الحكم على عمل ينبغي أن نعرف غرض العامل منه، أما العمل في ذاته من غير نظر إلى الغرض منه فليس بخير ولا بشر، فلو سألتني هل إحراق أوراق مالية قيمتها ألف جنيه خير أو شر؟ لأجبتك: لا يمكن ذلك حتى أتبين غرض العامل من عمله، فقد يكون شرا إذا أراد من إحراقها الإنتقام من مالكها، وقد يكون خيرا كما إذا قدمت رشوة لقاض ورأى القاضي أن لا سبيل إلى تأديب الراشي إلا إحراقها.
ولما كان الحكم الأخلاقي يعتمد على معرفة غرض العامل من عمله لم يجز لنا أن نصدر الحكم بالخير أو الشر إلا على أنفسنا أو على من نتحقق غرضهم من أعمالهم، إما بإخبارهم، أو بقيام القرائن على أغراضهم، فإذا رأينا من إنسان عملا فلا نعجل بالحكم عليه، بل يجب أن نتريث حتى نعرف غرضه منه.
نعم هناك أحكام أخرى نصدرها على العمل باعتبار نتائجه لا باعتبار الغرض منه، وذلك كالحكم على العمل بأنه نافع أو ضار، فإنه إنما يصدر باعتبار نتيجته، والحكم على الشيء بأنه نافع أو ضار غير الحكم عليه بأنه خير أو شر، كلاهما ينظر إلى الشيء من جهة غير التي ينظر إليها الآخر، فعمل الأطباء في المثال السابق خير ضار، خير لأنهم قصدوا إلى شفاء المريض، وضار لأن النتيجة كانت وفاته، وهكذا، ولكن يجب أن نعلم أن الحكم على الفعل بأنه نافع أو ضار تبعا لنتائجه ليس حكما أخلاقيا، إنما الحكم الأخلاقي هو الحكم بأنه خير أو شر تبعا للغرض منه.
والإنسان لا يلام على عمل عمله يريد منه الخير مهما ساءت نتائجه، بشرط أن يكون قد بذل جهده في معرفة ما ينتج من عمله، وإنما يلام إذا كان في استطاعته أن يرى النتائج إذا دقق في البحث وأنعم النظر ثم لم يفعل، فموضع اللوم هو التقصير عند اختيار العمل، وعدم الدقة في حساب نتائجه، وليس موضع اللوم هو إرادة العمل الصالح، ففي مثل الأطباء السابق لا لوم عليهم إذا كانوا بذلوا أقصى جهدهم في فحصهم وأتت النتيجة بما ليس في حسبانهم، إنما يلامون إذا قصروا في الحكم وبنوا حكمهم على نظر سطحي غير دقيق. •••
في جميع ما تقدم كان الحكم الأخلاقي يصدر على العمل، ولكن نرى أحيانا أن الحكم الأخلاقي يصدر على العامل، فيقال: إن فلانا طيب وفلانا خبيث أو أنه خير أو شرير، فما الذي نلحظه عند حكمنا هذا الحكم؟
عندما نحكم على العامل نلاحظ «حاصل الجمع» لما يأتي به من أعمال. فقد عرفنا - قبل - ما هو العمل الخير، وما هو العمل الشر، فالآن نذكر لك أن الرجل الخير أو الطيب هو الذي يصدر عنه من الأعمال الخيرة أكثر مما يصدر عنه من الشر، والرجل الشرير هو الذي يكثر منه صدور الأعمال الشريرة، ومن هذا نستنتج أن الرجل الخير قد يأتي بعمل شر ولكن يكون الغالب عليه عمل الخير، لأنا في حكمنا على العمل إنما نلاحظ الغرض من عمله وفي حكمنا على العامل نلاحظ مجموع أعماله في حياته. (3) مقياس الحكم الأخلاقي
ولكن بأي مقياس أقيس الشيء فأحكم عليه بالخير أو الشر؟ إن الناس كثيرا ما يختلفون في نظرهم إلى الشيء الواحد فمنهم من يراه خيرا ومنهم من يراه شرا، بل الشخص الواحد قد يرى الشيء خيرا في آن ثم يراه شرا في آن آخر، فما هذا المقياس الذي بمراعاته نصدر هذا الحكم؟ وأى شيء يراعيه الناس فيقولون: إنه خير أو شر؟
للاجابة على هذا السؤال نستعرض المقاييس التي يستعملها الناس، وقد رأى الباحثون أن الحكم الأخلاقي تدرج في الرقي بتدرج الناس، فهم في حالة سذاجتهم ينظرون إلى الأشياء ويحكمون عليها بمقياس، ثم إذا ارتقوا قليلا تغير مقياسهم وحكمهم، وهكذا حتى يصلوا إلى درجة كبيرة من الرقي فيسمو كذلك حكمهم الأخلاقي؛ ولنتتبع الآن الأدوار التي مر بها لناس. (3-1) العرف
فأول دور سلكوه في معرفة الخير والشر «العرف». ونعنى بالعرف «عادة الأمة» فإذا اعتادت أمة عملا وكان فاشيا فيهم فذلك عرف، فزيارة القبور في الأعياد عادة للمصريين، فهذا عرف، وعادة كل أمة في ملبسها ونظام معيشتها ونحو ذلك يسمى عرفا.
ولكل أمة عرف خاص تعد خيرها في اتباعه، وتؤدب الأطفال به، وتشعرهم بأن فيه شيئا من التقديس، وإذا خالفه أحد استهجنت عمله وعدته خروجا عليها، فمن الصعب الخروج على المألوف من عرف في الملبس والمأكل ونظام الأفراح والمآتم وطرق التحية ونحو ذلك.
والناس منساقون إلى تنفيذ ما يقضى به العرف، وذلك بتأثير الرأي العام، فالناس - عادة - يمدحون متبعي العرف، ويسخرون من مخالفه، فلو خرج أحد على عادة الأمة في زيها أو أفراحها ومآتمها أو طرق تحياتها كان موضعا للنقد القاسي.
وفي أيام سذاجة الناس وبداوتهم لم يكن لهم مقياس يقيسون به العمل إلا العرف، فهم يحكمون على العمل بأنه خير لموافقته للعرف وشر لمخالفته له، ولا يزال كثير من الناس في كل أمة مهما بلغت من الحضارة يعملون ما يعملون لا لسبب إلا أنه يتفق وعادات قومهم، ويجتنبون ما يجتنبون لأن قومهم لا يعملون - فمقياس الخير والشر في نظرهم هو العرف، وبه يصدرون أحكامهم على الأشياء.
فلما أرتقى الناس تبين لهم أن العرف لا يصح أن يتخذ مقياسا، فبعض أوامره غير معقول، وبعضها ضار، فوأد البنات كان عرفا لبعض قبائل العرب في الجاهلية، وهو عرف ضار نهاهم الإسلام عنه وأبان ما فيه من خطأ، وعند الرومان كان الأب له الحق في إماتة أولاده وإحيائهم، والرق مع ما كان فيه من معاملة قاسية كان فاشيا في كثير من الأمم، وعادات المصريين في أفراحهم ومآتمهم عرف ضار وهكذا.
وإذا كان العرف قد يخطئ ويتبين الخلف سوء ما كان عليه السلف لم يصح أن يكون مقياسا صحيحا نقيس به الأعمال فنحكم عليها بالخير أو الشر.
ولو أن الناس جروا على مبدأ العرف لم يتقدم العالم عما كان عليه من قديم، لأنه إنما يتقدم بأولئك الذين يرون خطأ العرف فيجاهرون بمخالفته، ويدعون قومهم للخروج عليه، فيلتف حولهم كثير من الناس، ويأخذ رأيهم في الإنتشار حتى يحل الجديد الحق محل القديم الخطأ.
ومع هذا فإن جرى الناس على هذا المقياس كان له بعض الفائدة، فقد حمل كثيرا أن يأتوا بالعادات الصالحة ويمتنعوا عن السيئة جريا مع العرف ورجاء لمدح الناس وخوفا من ذمهم. (3-2) الرأي الشخصي
يلاحظ الذين يدرسون القبائل في حالتها الأولى من البداوة أن الفرد من القبيلة لا يحس إحساسا قويا أنه فرد مستقل بذاته، وإنما يغلب عليه الإحساس بأنه جزء من قبيلة، يحيا بحياتها ويموت بموتها، ويظهر هذا ظهورا بينا حين تقرأ الشعر الجاهلي فترى فيه أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص، وتتبين ذلك بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم، وقل أن تعثر على شعر من أشعار الجاهلية ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، إنما هو كثير التحدث عن قبيلته وأخبارها وأفعالها.
وفي هذا الدور لا يكون للأخلاق مقياس إلا العرف، فليس للفرد رأي شخصي يقوم به الشيء ليحكم عليه بأنه خير أو شر بل ليس له إلا أن يستحسن ما استحسن قومه ويستقبح ما استقبحوا، فهو لا يأتي بعمل أو يتجنب عملا بناء على تفكير منه ووزن له، بل لأن قومه يأتونه أو يجتنبونه.
فإذا ارتقى الناس عن هذا الدور شعر الفرد بأنه - وإن كان عضوا في مجتمع - فله شخصيته، وأن نفسه مستقلة عن قومه، وأن له مصالح شخصية كما أن لقومه مصالح، وأن عقله من الإستقلال بحيث يستطيع ألا يخضع للعرف خضوعا أعمى، بل في قدرته أن يزن الأعمال فيحكم عليها بالخير أو الشر وإن خالف العرف.
نرى هذا في التاريخ دائما، فعند نهوض كل قوم وأخذهم بحظ كبير من الرقي يظهر أفراد يخرجون على التقاليد الموروثة المتعارفة إذا رأوها ضارة، ويزنون الأشياء وزنا جديدا، فيعلنون استحسانهم لأشياء يستهجنها عرفهم، ويستقبحون أشياء يستحسنها العرف؛ وينتشر رأيهم شيئا فشيئا حتى يميل الناس إليه، ويقتنعوا به، وبهذا تنكسر قوة العرف. حصل هذا في عصر السوفسطائيين في اليونان، وفي عصر النهضة في روما، وفي أيام الثورة الفرنسية في فرنسا وهكذا.
في هذا الدور يشعر الإنسان أن العرف غير صالح لأن يكون مقياسا، وأن له من القوة ما يمكنه من تقويم الأشياء والحكم عليها، ولكن يتساءل بم يقومها؟ كيف يعرف الخير والشر؟ ما الذي يضعه محل العرف ليعرف الحق من الباطل؟ وعند ذاك يأتي دور البحث العلمي. (3-3) الوجدان
أجاب قوم عن هذه الأسئلة المتقدمة بأن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، فكل إنسان إذا عرض عليه عمل تلهمه هذه القوة أنه خير أو شر، وهذه القوة منحناها لنميز بها بين الخير والشر كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، والحكم الأخلاقي يعتمد على هذه القوة فيصدر بالإستحسان أو الإستقباح، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أساس هذا الحكم هو «الوجدان» ويعنون به شعور الإنسان الطبيعي بالإرتياح من العمل أو النفور منه كالإرتياح والنفور الذي يشعر به الإنسان عند رؤيته شيئا جميلا أو قبيحا، فعندما توسوس له نفسه بكذب أو بسرقة يشعر باشمئزاز طبيعي من إتيان ذلك فيحكم عليه بأنه شر، وكذلك عندما يسمع خبرا باغاثة ملهوف أو إحسان إلى فقير أو عدل في حكم يشعر بارتياح طبيعي فيحكم على ذلك بأنه خير.
وقد تصاب هذ القوة الوجدانية بمرض فترى الخير شرا والشر خيرا كما تصاب كل حاسة بالمرض، وكما تخطئ القوة العقلية، فكما أنا لو أعطينا عددا من التلاميذ مسائل حسابية فبعضهم يخطئ في حلها وبعضهم يصيب ولكنا نعرف أن هؤلاء أصابوا وهؤلاء أخطؤا كذلك يختلف الناس في صحة الوجدان ومرضه، فبعضهم يحكم بالشر على ما يحكم عليه الآخر بالخير، ويمكن أن نعرف المخطئ من المصيب، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام على مذهب اللقانة. (3-4) العقل والإستدلال
ويرى علماء آخرون أن ليس في الإنسان قوة طبيعية يحكم بها على الأعمال، إنما نحكم عليها بالعقل والإستدلال، فليس في الإنسان حاسة غريزية يدرك بها الخير والشر، ولكن يحكم عليها بمقتضى تجاربه، فالناس عملوا أعمالا، ولاحظوا ما ينتج عنها، فرأوا نتائجها حسنة فحكموا بخيريتها، وعملوا أعمالا رأوا نتائجها سيئة فحكموا عليها بالشر، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا عقلنا وتجاربنا، واستمرار الأمة في تجاربها يفضي بها إلى تعديل آرائها في الأشياء، والسبب في تغير آراء الأمم والأفراد في الحكم على الأشياء هو اتساع مداركها بكثرة تجاربها وملاحظاتها واستدلالها، وسيتضح ذلك عند الكلام على المذاهب الأخلاقية.
من هذا ترى أن الحكم الأخلاقي تدرج بتدرج الناس في الرقي، فكانوا أول أمرهم لا مقياس لهم إلا العرف ثم فهموا أن العرف لا يصح أن يكون مقياسا، فجاء بعد ذلك دور البحث والتفكير العلمي.
وكذلك ترى أن العرف - أولا - كان هو المقياس ولكنه مقياس خاص بالأمة وحدها، إذ كل أمة لها عرفها، فلما جاء دور البحث العلمي أصبح الحكم الأخلاقي ينبني على أسس عالمية، وبعبارة أخرى أصبح ينبني على مبادئ عامة تصلح لكل أمة في كل عصر، وسنوضح تلك المبادىء والمذاهب المشهور التي أدى إليها البحث في الفصل التالي. (4) تربية الحكم الأخلاقي
قوة الحكم الأخلاقي ترقى برقي الإنسان، فهو يولد وعنده جرثومة الحكم الأخلاقي، تولد معه حسب قانون الوراثة.
ثم ينشأ في أسرته فيراهم يمدحون أشياء ويذمون أخرى ويكافئون على أعمال ويعاقبون على أخرى، فينمو عنده الحكم الأخلاقي بذلك، ويتبع أسرته في مدحها وذمها، ويستحسن من الأشياء ما مدح عليه، ويستهجن ما ذم من أجله، ثم إذا نما شعر بأنه مضطر أن يتبادل مع إخوته وأخواته الأخذ والعطاء، فيوجد عنده الشعور بضرورة تبادل المنافع، فهو يعطيهم مما يناله ليعطوه مما ينالون، فيرقى عنده بذلك الحكم الأخلاقي.
فإذا خرج إلى العالم وتبادل مع الناس المعاملة ورأى حاجته إلى معونتهم وأدرك أنه لا يعيش سعيدا بينهم إلا بمراعاة قوانين وتقاليد اتسع عنده مجال الحكم الأخلاقي، فإذا هو تقدم في العلم ساعده علمه على إضاءة السبيل له ليميز بين الحق والباطل، فكثير من الأعمال الضارة أو الخرافية سببه الجهل بالقوانين الطبيعية، فاستقبال العامة للخسوف والكسوف بالضرب على الأواني النحاسية أو الحديدية مثلا سببه الجهل بأسباب الخسوف والكسوف، ومعرفتنا بشيء من الجغرافيا الطبيعية أو الهيئة يبين أن هذا العمل وأمثاله خرافة لا أساس لها، ومعرفتنا بشيء من قوانين الصحة يغير نظرنا إلى كثير من الأعمال، وانتشار العلم عن النبات والحيوان والمرض والصحة في أية أمة يجعل كثيرا من أفرادها يخرجون على العرف المألوف الذي لا يتفق ونظريات العلوم، والعلم يزيد الإنسان شعورا بشخصيته وبأن له قوة على الحكم على الأشياء، وأنه ليس أسيرا للعرف والتقاليد.
كذلك دراسة علم الأخلاق، واستعراض النظريات التي ينبني عليها الحكم الأخلاقي، ونقدها، وبيان ما يصح منها وما لا يصح، وبيان ما كان الناس عليه أيام بداوتهم في عرفهم وتقاليدهم، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وما وصلوا إليه من الرقي، وكيف تغير نظرهم إلى الأشياء برقيهم. كل هذا يجعل الإنسان أصح حكما وأصدق نظرا.
الفصل الرابع
مذاهب علم الأخلاق ونظرياته
أشرنا في الفصل الماضي إلى أن الناس في أحكامهم على الأشياء يراعون مقياسا خاصا، فيحكمون على الشيء بأنه طويل أو قصير ويحتكمون في ذلك إلى «المتر» مثلا، ويحكمون على الشيء بأنه خفيف أو ثقيل ويحتكمون في ذلك إلى «الأقة» أو «الرطل» أو نحوهما، فما الذي نراعيه في أحكامنا الأخلاقية؟ إنا نقول: الصدق خير والكذب شر فما هو المقياس الذي عرفت به ذلك؟ وإذا عرض موقف حرج وأردت أن أعرف أأصدق فيه أم أكذب، وتجادل المتجادلون فيه بين محبذ للصدق ومحبذ للكذب فإلى أي المقاييس نحتكم؟ والناس يقولون: إن الصدق والعدل والشجاعة والعفة فضائل، وأضدادها رذائل، فما الشيء الذي فيها حتى جعلها فضائل أو رذائل؟ وبأي مقياس قاس الناس حتى حكموا هذا الحكم؟
هذا الموضوع هو الذي يسمى «المقياس الأخلاقي» ولم يتفق الباحثون فيه ولم يجيبوا عن الأسئلة الماضية جوابا واحدا، بل تعددت فيه المذاهب، ونحن نذكر أهمها: (1) مذهب السعادة
1
لما بحث العلماء في مقياس الخير والشر بحثا علميا ذهب كثير منهم إلى أن هذا المقياس هو «السعادة» وقالوا: إن السعادة هي الغاية الأخيرة للحياة، وهي التي تحرك جميع الناس للعمل، فإذا حللت عمل أي إنسان رأيت أنه إنما يطلب بعمله «السعادة» فالطالب يتعلم، ومحب المال يجمع، والرجل يتزوج، والعالم يؤلف، والكاتب يكتب، والقاضي يقضي، والصانع يصنع، وكل هؤلاء لو حللت أغراضهم من أعمالهم وجدت أن الغاية الأخيرة التي يرمون إليها هي تحصيل السعادة.
ولكن السعادة كلمة غامضة، وإنما يعني بها أصحاب هذا المذهب «تحصيل اللذة وتجنب الألم» فهم يقولون: إن الإنسان في أعماله: من سعى لتحصيل الرزق، وتحصيل العلم، ومداواة مرض، وأكل وشرب، وتأليف، ونوم، ورياضة، إنما يطلب أحد شيئين: إما تحصيل لذه، أو تجنب ألم، ولا يمكن أن يخرج عمل يعمله عن هذين الغرضين.
واللذة هي مقياس العمل، فالعمل يقوم بحسب كمية اللذة التي ينتجها، فيقال: إن هذا العمل خير وذاك شر لأن الأول ينتج من اللذة أكثر من الألم، والثاني ينتج ألما أكثر من اللذة.
وليس مذهب السعادة يقول: ينبغي أن يطلب الإنسان السعادة (اللذة) فحسب، لأن ذلك من طبيعة الإنسان، وكل الناس إنما يبحثون وراء اللذة، وكل عمل لا يخلو من لذة، وإنما يقول: ينبغي أن يطلب أكبر سعادة، أو بعبارة أخرى أكبر لذة، فإذا خير بين جملة أعمال ينبغي أن يطلب أكبرها لذة، والإنسان المفرط في شهواته لا يلام لأنه يطلب اللذة، فكلنا يطلب ذلك، ولكن يلام لأن إفراطه في الشهوات يسبب من الآلام أكبر مما يسبب من اللذائذ، والذى كذب إنما يلام لأنه حصل بكذبته لذة صغيرة وأنتج ألما كبيرا وهكذا.
وقال أصحاب هذا المذهب: إن اللذائذ يمكن أن تقارن، ويجب عند تفضيل لذة على لذة مراعاة الشدة والمدة، وكذلك الألم، لأنه يعتبر لذة سالبة، فإذا سئلت عن عملين أيهما أفضل: بناء مستشفى مثلا، أو التصدق على الفقراء بالمال؟ فاحسب حساب ما ينتج عن كل من اللذائذ، ومدة هذه اللذائذ، فإذا كان الأول ينتج لذة بمقدار 80 مثلا في مدة عشر سنوات، والثاني ينتج 200 في مدة سنتين، كان العمل الأول هو الواجب، لأن لذته مع مراعاة مدتها أكثر وهكذا.
ولكن إذا قلنا: إن السعادة هي الغاية الوحيدة للإنسان ولا شيء غيرها، وأنها هي المقياس الذى نقيس به العمل لنعرف أخير هو أم شر، فسعادة من نريد؟
هل ينبغي أن يطلب الإنسان أكبر سعادة لشخصه هو، فالعمل خير إذا كان يسبب للعامل نفسه لذة أكبر من الألم، وشر إذا كان ينتج لنفسه ألما أكثر من اللذة؟
أو ينبغي للإنسان أن يطلب اللذة للعالم الذى يعيش فيه، فالعمل خير إذا كان ينتج لذة للناس أكبر مما ينتج من الألم - ولو كان ينتج للعامل نفسه ألما أكبر - وشر إذا كان ينتج للناس ألما أكبر؟ هذان مذهبان للقائلين بالسعادة: (أ)
مذهب السعادة الشخصية. (ب)
مذهب السعادة العامة، ويسمى أيضا مذهب المنفعة. (أ) مذهب السعادة الشخصية
2
هو المذهب القائل: إن الإنسان ينبغي أن يطلب أكبر لذة لشخصه، ويجب أن يوجه أعماله للحصول عليها.
فعلى هذا المذهب إذا تردد إنسان بين عملين، أو تردد في عمل أيعمله أم يتركه، فليحسب ما فيه من اللذائذ والآلام لشخصه ويوازن بينهما، فما رجحت لذائذه فخير، وينبغي فعله، وما رجحت آلامه فشر وينبغي تركه، وما تساوت فيه اللذائذ والآلام كان فيه مخيرا.
وقال أصحاب هذا المذهب: إن كل إنسان يجب أن يبحث وراء لذائذه هو وسعادته، ويعمل ما يوصله إلى ذلك، والعمل الذي يوصل إلى تلك الغاية أو يقربه منها يكون خيرا.
ومن أكبر زعماء هذا المذهب في العصور القديمة «أبيقور»
3
ويرى أن ليست تقاس الأعمال باللذات والآلام الوقتية فحسب، بل الواجب أن يرمي الإنسان بنظره على جميع حياته، ويحسب ما يستتبعه العمل من لذة وألم في الحياة، فشرب الدواء المر يسبب ألما ولكن لأنه قد يذهب ألما أكبر منه - وهو ألم المرض - يكون خيرا، والعاقل ينبغي أن يرفض لذة حالة للحصول على لذة أكبر منها مؤجلة، ومن أجل هذا فضل «أبيقور» اللذة العقلية على اللذة الجسمية، فإن اللذائذ الجسمية سريعة الزوال لا تعد شيئا إذا قيست بتلك اللذة الباقية - لذة العقل وتحصيل العلم - التي بها تطمئن النفس، ومنها يتخذ الإنسان عدة لحوادث الدهر، وصروف الزمان.
وقال: إن خير اللذائذ هدو البال وطمأنينة النفس، وأن سعادة الإنسان تعتمد على حالته النفسية أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، فليس المال الكثير والجاه الكبير ونحو ذلك يعين على السعادة أكثر مما تعين صفات الإنسان الخلقية والعقلية، ومع ذلك فقد قال «أبيقور»: إن اللذائذ الجسمية الطاهرة ليست محرمة، ولا مرذولة، ولا ضرر على العاقل من أخذ حظه منها من غير إفراط.
وعلى هذا المذهب إنما كانت الفضائل فضائل لأنها تسبب للعامل لذة كبرى، فالعفة مثلا فضيلة، والفجور رذيلة، لأنه لو دقق في حساب ما يجده العفيف من اللذة في رضائه عن نفسه، وبعده عن الآلام التي ينتجها الفجور، واحترام الناس له، وثقتهم به، لوجد أنه يرجح ما يجده الفاجر من لذة وقتية، يتبعها ألم النفس، وفقد الثقة، وتعريض الصحة والمال والشرف للضياع، وهكذا القول في الصدق والكذب، والأمانة والخيانة.
وقد غلط بعض الناس ففهموا أن مذهب «أبيقور» يدعو إلى الإنهماك في اللذات الجسمية والجرى وراء الشهوات، حتى أطلقوا كلمة «أبيقوري» على الفاجر المنهمك في شهواته، مع أن تعاليم أبيقور بعيدة عن ذلك، وقد ندد هو نفسه في بعض كتبه بمن يفهم من قوله هذا الفهم السقيم. [وفي العصور الحديثة قال بهذا المذهب «هوبز» الفيلسوف الإنجليزي (1588-1679م) وبنى مذهبه الأخلاقي على أبحاث نفسية، فكان يرى أن الإنسان مخلوق وفي طبيعته حبه نفسه، والعمل لإسعادها، وأن أساس أعماله الأثرة، (حب الذات) وليس يعمل عملا إلا من أجل نفسه، وليس حبه جاره أو صديقه إلا ضربا خفيا من ضروب حب النفس. نعم إنه قد يعمل الخير لغيره، ولكن الباعث الحقيقي له على عمله هو حبه نفسه، وطلبه اللذة لها أو دفع الألم عنها، وكل ما يسمى «إيثارا» أو نفعا للناس ليس - بعد الفحص الدقيق - إلا نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا، ومن أجل هذا قال: يجب أن نساير طبيعة الإنسان فلا نكلفه ما ليس من طبعه، بل نأمره أن يأتي من الأعمال ما فيه أكبر لذه له ويتجنب ما فيه أكبر ألم له].
وعيب هذا المذهب (مذهب السعادة الشخصية) أنه يجعل صاحبه أثرا (أنانيا) لا ينظر في أعماله إلا لنفسه، مات الناس أو عاشوا. انتفعوا أو تضرروا ، إذا رغب في وصول منفعة للناس فإنما ذلك لأنها تجر المنفعة إليه، وإذا تألم من شر نال أحدا فإنما يكون لأن جزءا من الشر يناله هو، وفي الناس في كل زمان قوم يسيرون في حياتهم العملية على هذا المذهب وإن لم يسمعوا به ولم يعرفوا شيئا عنه، تراهم في كل طبقة من طبقات الناس، في الأغنياء والصناع والعمال والموظفين والتجار، أولئك لا يلاحظون في أعمالهم إلا أنفسهم، ينظرون إلى غيرهم من الناس كما ينظرون إلى متاع يستخدمونه لمصلحتهم، عندهم الإنسانية والوطنية والتضحية ونحوها سخافات، إنما الفضيلة في نظرهم أن يبحثوا وراء لذتهم وينشدوا مع الشاعر:
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
وقد رد كثير من العلماء على «هوبز» فقالوا: إن في الإنسان عاطفة حب الناس بجانب عاطفة حبه النفس، وإن نفوسنا تهتز عطفا على الناس، ورحمة بالمنكوبين، وغضبا على المجرمين، ويحن الوالدان على أولادهم حنينا قد يصل إلى حد أن يتمنوا أن يفدوهم بأنفسهم، فليس من الصواب - إذن - أن يكون مقياس الأخلاق لذة العامل وحده، وأن تكليفنا له بمراعاة الناس والعمل لخيرهم لا ينافي طبيعته.
وقد جاءت الأديان من نصرانية وإسلام فأوجبت التضحية عند الحاجة، وحببت إلى الناس الإيثار والإحسان، فكان في انتشار هذه التعاليم ما عاق هذا المذهب عن الإنتشار، فإن الشرف والتضحية والإيثار لا تتفق مع الأثرة وحب النفس.
وقد اعترض على مذهب السعادة الشخصية هذا بجملة اعتراضات: (1)
إذا كانت اللذة الشخصية هي المقياس فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل، عد الإحسان فضيلة، مع إجماع الناس على عده كذلك. (2)
هذا المذهب يستلزم احتقار من ضحوا بلذتهم وحياتهم لمنفعة الناس، وتكريم من ضحى بسعادة الناس وحياتهم لمصلحته هو - ولا قائل بهذا - (ب) مذهب السعادة العامة
4
أو مذهب المنفعة
هذا المذهب يقول: إن ما ينبغي أن يطلبه الإنسان في الحياة ليس سعادته الشخصية، وإنما ينبغي أن يطلب أكبر سعادة للناس، بل لكل حساس، ولتوضيح ذلك نقول: عندما نريد الحكم على عمل بأنه خير أو شر يجب أن ننظر فيما ينتجه العمل من اللذائذ والآلام لا للعامل نفسه - كما يقول المذهب الأول - بل لكل الناس، بل ولكل حيوان يتلذذ أو يتألم من هذا العمل، ثم نجمع ما ينتجه العمل من اللذائذ وما ينتجه من الآلام،
5
فإن رجحت لذاته آلامه فخير وإن رجحت آلامه لذاته فشر، فإذا سئلت - مثلا - هل يحسن أن تتعلم البنات مع البنين في مدارس واحدة أو لا، فاحسب حساب ما ينتجه ذلك من الفوائد والمضار للأمة جميعها، وقارن بينهما، فما رجح فاحكم بمقتضاه، وإذا سئلت هل من الحق أن تذبح الحيوان لتأكله فاحسب حساب ألم الحيوان من ذبحه، وتلذذ الآكلين من أكله، وما يستفيده الآكلون صحيا، وما تستفيده الأمة من صحة أبنائها وهكذا، وقارن بين اللذائذ والآلام، ثم احكم على العمل بأنه خير أو شر وهكذا.
وإذا خيرت بين جملة أعمال فاحسب حساب ما ينتج كل من اللذائذ والآلام، فأيها زاد رجحان لذائذه على آلامه فهو الخير، وهو الذي ينبغي أن يعمل.
وسعادة الجميع يجب أن تكون مطمح نظر كل إنسان، لا سعادته هو وحده - والفضائل إنما عدت فضائل لأنها تنتج للناس لذة أكثر من الآلام - فهي فضائل ولو آلمت بعض الأفراد، بل ولو آلمت العامل نفسه، وكذلك كانت الرذائل رذائل لأن آلامها للناس ترجح لذائذها، فهي رذائل ولو أفادت العامل نفسه.
فالصدق - مثلا - إنما كان فضيلة لأنه يزيد سعادة المجتمع وبه يرقى ويبقى، ذلك لأننا محتاجون في الحياة إلى طبيب يرشدنا إلى ما فيه حفظ الصحة، وإلى مهندسين نعتمد على أقوالهم في بناء الجسور ونحوها، وإلى كيمائي يبين لنا خواص الأجسام، وإلى مدرس يثقف عقول المتعلمين بما ينفعهم، ولولا الصدق ما كان لنا أن نثق بأقوال هؤلاء ولا ننتفع بآرائهم، فلما رأينا ما ينجم عنه من السعادة للمجتمع حكمنا بأنه فضيلة، وأوجبنا على الأفراد أن يصدقوا، وإن كان في الصدق ألم لبعض الناس.
ورشوة القاضي - مثلا - إنما كانت رذيلة لأن القاضي إذا ارتشى أطلق سراح المجرم، وهذا يشجعه هو وأمثاله على ارتكاب الجرائم، لاعتقاده أنه يستطيع الفرار من العقوبة بالرشوة، وبذلك تكثر المظالم، ويضيع كثير من الحقوق. وفي هذا آلام كثيرة للمجتمع، فحرمت وإن انتفع بها القاضي المرتشى.
وهكذا الشأن في جميع الأعمال، فإن أردت الحكم على عمل بأنه خير أو شر فابحث عما يجلبه من اللذائذ والآلام للمجتمع، مع بعد النظر، ودقة البحث، وتجردك من الهوى ومن تحيزك لنفسك، ثم وازن بين لذائذه وآلامه.
ووزن الأعمال بهذا الميزان بطيء، لأنه يتطلب حسابا دقيقا، ونظرا بعيدا، إلا أن النتيجة موثوق بصحتها، على أن مما يسهل عملية الوزن والمقياس أن أصول الفضائل والرذائل قد وزنت بهذا الميزان وحكم عليها بالخير أو الشر مثل الكرم فضيلة، والبخل رذيلة، والصدق خير، والكذب شر، فإن أردنا أن نحكم على جزئية من جزئياتها فلنرجع إلى أصل من تلك الأصول التي حكم عليها، كأن يكون العمل من قبيل الصدق أو الكذب، ولا حاجة حينئذ إلى هذا المقياس، وإنما نحتاج إليه فيما لا يرجع إلى تلك الأصول، كالعادات التي اختلف الناس في استحسانها واستقباحها، وكالمسائل التي لا ترجع إلى هذه الأصول، فإن أداك بحثك الدقيق إلى أن آلام العمل أكثر من لذائذه فاحكم بشره وإن حكم الناس عليه بالخير، وإن رأيت من الأعمال ما لا ضرر فيه أو ما آلامه أقل من لذائذه فاحكم بأنه خير وإن عده الناس جريمة، ويسمى هذا المذهب «مذهب المنفعة» ومن أكبر دعاته الفيلسوف الإنجليزي بنتام (1748-1832م)
6
وجون ستوارت ميل (1806-1873م).
7
واللذة التي يريدها أصحاب مذهب المنفعة تشمل اللذات الحسية والمعنوية، الجسمية والعقلية، بل قد صرحوا بأن اللذات النفسية أفضل من اللذات الجسمية، وكلما رقى الإنسان طمح إلى أشرف اللذات وأرقاها، فكما أن سعادة الإنسان تختلف عن سعادة الحيوان كذلك تختلف سعادة العاقل عن سعادة الجاهل، واللذائذ الوضيعة سهلة المنال ولذلك كان حصول الجاهل على لذاته أيسر:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
قالوا: والواجب ألا يبحث الإنسان عن أكبر لذة بل عن أشرف لذة، وعن خير أنواعها، ولا يتيسر ذلك له إلا بأن يوسع فكره، وأن يكون عنده من حب الخير للناس ما عنده لنفسه.
هذه هي خلاصة هذا المذهب، وقد وجهت إليه اعتراضات كثيرة أهمها: (1)
أنا لو اتبعنا هذا المذهب وجب ألا نحكم على عمل بأنه خير أو شر إلا بعد أن نحسب كل ما ينشأ عن العمل من لذة وألم لكل إنسان، ولكل كائن حساس، وبعبارة أخرى نحسب حساب ما يناله الأقارب والأباعد من اللذائذ والآلام، وما يناله الأحياء وأعقابهم وهكذا، وإذا كان كذلك فمن الصعب الوقوف على نتائج العمل وحسابها، فقد نرى عملا ينفع أمتنا ويضر الأجانب، وقد ينفع معاصرينا ويضر الأجيال المستقبلة، والأجيال المستقبلة كثيرة العدد، من أجل هذا ونحوه يصعب الحساب ويدق البحث حتى لا نستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بأنها خير أو شر، فمثلا هل تنتفع الأمة الآن بما عندها من مناجم إذا كان ذلك يضر أبناءها؟ وهل تستدين الحكومة إذا خيف أن يكون الدين حملا ثقيلا على الخلف؟ كل ذلك من الصعب تصفية حسابه على هذا المذهب. (2)
إن هذا المذهب يدور حول اللذة والألم ويتخذ لذائذ الناس وآلامهم مقياسا، ولكنا نرى أن اللذة والألم تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يرى أحد في عمل لذة كبيرة ويرى فيه آخر لذة أكبر أو أقل، فيترتب على ذلك اختلاف الناس في الحكم بالخير أو الشر، كما يترتب عليه ارتباك في حساب مقدار اللذة والألم، فمثلا قد يسمع جمع من الناس أصواتا موسيقية فيطرب منها بعضهم طربا كبيرا بينا نجد بجانبهم من لم يأبه لها ولم ينفعل بها أي انفعال، فكيف بعد ذلك نستطيع تقدير اللذائذ والآلام ونتخذها مقياسا تقاس به الأعمال. (3)
إن هذا المذهب يجعل الناس باردين لا ينظرون في الأعمال إلى جمالها وشرفها، والباعث الشريف الذي بعث عليها، بل لا ينظرون إلا إلى لذاتها وآلامها، فضلا عن أن القول بأن الحياة لا غاية لها إلا اللذة والآلم يحط من شرف الإنسان، ولا يليق إلا بالعجماوات.
وقد أجاب أنصار هذا المذهب عن هذه الإعتراضات، وطال بين الباحثين فيها الجدال، مما لا يتسع له هذا المقام.
ومع هذا فإنا نستطيع أن نذكر هنا أن هذا المذهب من أكثر المذاهب انتشارا في العصور الحديثة، وهو أرقى من مذهب السعادة الشخصية، وكان له فضل كبير في إيقاظ العقول، ومطالبتها أن تكون غير متحيزة في أحكامها، فقد طلب من الشخص أن ينظر إلى لذائذ الناس كما ينظر إلى لذاته هو، وطالب المتشرعين ألا ينظروا عند تشريعهم إلى طبقة خاصة وأفراد معينة، بل ينظروا إلى خير الناس كافة، فما يعد جرائم يعاقب عليها القانون وما لا يعد إنما يلاحظ فيه لذائذ المجموع وآلامه، والعقوبات التي توضع بإزاء الجريمة يجب أن يلاحظ فيها أنها تأتي بلذائذ للناس أكبر مما تسبب من الآلام وهكذا. (2) مذهب اللقانة
8 (البصيرة)
رأى قوم أن مذاهب السعادة أو مذاهب اللذة غير صحيحة، وأن اللذة وإن كانت أحيانا دليل الخير فإنها في كثير من الأحيان باعث على الشر، فلا يصح - بعد - أن تكون غاية نطلبها ونقيس الأعمال بها، وإنه لمن الضعة أن تسير الإنسان في الحياة اللذة فقط وألا يسير في أعماله إلا طلبا للذة أو تجنبا لألم، وألا يبعثه على فعل الخير الا توقعه ما فيه من لذة، وألا يجنبه الشر إلا حسبانه ما فيه من ألم.
وقالوا: إن الحق أننا نعرف الخير والشر من غير أن نقيسه باللذة والألم، وأننا نحكم على الصدق والعدل والشجاعة بأنها خير وعلى أضدادها بأنها شر لا بالنظر إلى نتائجها وما يتبعها من نفع وضر، ولكن لصفات ذاتية فيها، فالصدق خير في ذاته، والكذب شر في ذاته، من غير أن نحسب حساب ما ينتج عنهما.
وأن في كل إنسان قوة غريزية باطنة، بها يميز بين الخير والشر بمجرد النظر، منحناها كما منحنا العين لنبصر بها والأذن لنسمع بها، فكما نستطيع إذا نظرنا إلى شيء أن نقول: إنه أبيض أو أسود (من غير تعليل) وأنه طويل أو قصير، وإذا سمعنا صوت موسيقى أن نقول: إنه جميل أو قبيح، كذلك نستطيع إذا رأينا عملا من الأعمال أن نقول : إنه خير أو شر.
وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات، ولكنها متأصلة في نفس كل إنسان، فهو إذا نظر إلى شيء حصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمته فيحكم عليه بأنه خير أو شر، ومن أجل هذا اتفق أكثر الناس على عد الصدق والكرم والشجاعة والعدل فضائل، كما اتفقوا على عد أضدادها رذائل، ألا ترى إلى الأطفال يحكمون على الكذب بأنه شر من غير إعمال فكر، ويحتقرون السارق، ويعدون السرقة جريمة ولو لم يكن لهم من النظر البعيد ما يرون به الآلام التي تحيق بالمجتمع من وراء الكذب أو السرقة، وكذلك القبائل التي لم تأخذ بحظ من المدنية، وليس عندهم نظر دقيق يقيسون به ما ينتج من اللذائذ والآلام يكادون يتفقون على الفضائل والرذائل.
هذه القوة التي في طبائعنا نسميها «اللقانة» ونسمي المذهب القائل بها «مذهب اللقانة».
وقد تصاب هذه القوة بالمرض فترى الخير شرا والشر خيرا، كما تصاب العين فلا تدرك بعض الألوان، أو تحكم على الواحد بأنه اثنان، وكما تصاب القوة العقلية فتحكم أحكاما خطأ ولكن العين السليمة والعقل السليم يصححان هذا الخطأ كذلك اللقانة قد تخطئ ولكن اللقانة السليمة تدرك هذا الخطأ وتصححه.
ويمتاز هذا المذهب عن مذهب السعادة بنوعيه بأنه: (1)
يرى الفضائل فضائل في جميع الظروف، وفي كل زمان ومكان، وليس كونها فضيلة تابعا لغاية إذا وصلت إليها كان خيرا وإن لم توصل كانت شرا. (2)
إن الفضائل أمور بديهية ليست في حاجة إلى البرهنة على صحتها. (3)
وأنها ليست محلا للشك، فمن المحال أن نرى يوما ما أن ضدها هو الخير وأنها هي الشر.
وهذه القوة في طبيعة كل الأنواع البشرية، العالي منها والسافل، ولسنا نعني أنها على درجة واحدة من الرقي، وإنما نعني أنها طبيعية في الناس جميعا كحاسة السمع والنظر، وإن اختلفت قوة وضعفا، وأنها ككل ملكات الإنسان قابلة للترقية بالتربية.
وعلى الجملة فهذا المذهب يرى أن الإنسان يجب أن يكون أرقى من أن تسيره اللذة والألم، وليس قانون الأخلاق وأوامره خاضعة لنتائج العمل، ولا لما فيه من اللذائذ والآلام، وإنما ركب في أنفسنا ضمير يناجي الإنسان ويأمره بالخير وبالواجب، ثم إن هذا الخير أو الواجب قد يثمر لذة وسعادة، وقد تسير الإنسان إلى حد ما رغبته في اللذة وفراره من الألم، ولكن هذا الضمير لا يخضع لذلك، بل قد يتطلب أحيانا أن يضحي باللذة والسعادة والحياة نفسها للواجب، والواجب واجب ولو منع لذة واستتبع ألما، والخير خير في ذاته مهما كلف من المشاق، وإنه لحط من كرامة الإنسان أن يمسك دائما ميزانا يزن به كل عمل قبل أن يعمل ليرى ما ينتجه من لذائذ وآلام، فإن هذا عمل التجار. أما الأخلاقي فيجب أن يكون أشرف من ذلك، يصغى لصوت ضميره، ويسمع لما يوحى إليه من أوامر ونواه، وهذا هو ما يشرفه ويضعه في أسمى مكان يليق به.
وممن ذهب هذا المذهب طائفة من الفلاسفة الأقدمين يسمون (الرواقيين) وهم أتباع زينون، فيلسوف يوناني (342-270ق.م) كان يعلم أصحابه في رواق مزخرف في أثينا، ومن ثم سمي أصحابه بالرواقيين (Stoics)
وقد كان زينون معاصرا لأبيقور ومعارضا له في تعاليمه. فبينا يرى أبيقور أن الغاية من الحياة هي الوصول إلى أكبر لذة ممكنة للعامل، وأنه يجب إحياء الشهوة وإرواؤها، كان زينون يرى أنه يجب ضبط النفس وقمع الشهوات وعمل الواجب للواجب.
كان هؤلاء الرواقيون يرون أن اللذة ليست هي الغاية للإنسان، ولا هي بالخير دائما، وإنما الغاية نيل الفضيلة لأنها فضيلة. وطلبوا من الناس أن يكفوا عن اتباع الشهوات وأن يمرنوا أنفسهم على تحمل الآلام في سبيل الفضيلة.
والرواقي لا يجعل أكبر همه أن يكون غنيا ولا متلذذا، إنما أكبر همه أن يعيش حكيما فاضلا، في أى حال كان، في فقر أو غنى، وأن يستعمل ما حوله من الأشياء خير استعمال، ومثلوا الناس في الدنيا بالممثلين على مراسح التمثيل، قالوا: إن منهم من يمثل الملك، ومنهم من يمثل السائل الفقير، ولسنا نثنى على الأول لأنه مثل دور الملك ولسنا نعيب الثاني لأنه مثل دور الفقير ، إنما نثني على من أجاد دوره ملكا أو فقيرا ونعيب من لم يجد ملكا أو فقيرا، كذلك الشأن في الحياة، فالإنسان يجب أن يمدح أو يذم لإجادته في عمله أو عدمها، لا لمنصبه الذي يشغله وماله الذي يملكه.
وضرب أحد رؤساء هذا المذهب وهو «إبيكتيتس» (50-115م) مثلا لذلك من لاعبي الكرة، قال: إنهم لا يلعبون للكرة نفسها ولا يهمهم ملكها ولا من ملكها، وإنما يمدح اللاعب لأنه يعرف كيف يلعبها وكيف يجيد رميها، يريد بذلك أن الأشياء الخارجية لا قيمة لها في أنفسها، وإنما يمدح الإنسان على حسن استعمالها لا على ملكها.
والغربيون الآن يطلقون «رواقي» على من اعتاد أن يقابل الأشياء بهدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بها من خطر وآلام.
ومن القائلين باللقانة في العصور الحديثة «كانت»
9
فقد كان يرى «أن عقل الإنسان هو أساس الأخلاق. وليس الإنسان في حاجة إلى أن يتعلم أن العمل خير أو شر بواسطة الملاحظة أو التجربة، أو قياس ما ينتج عنه من لذائذ وآلام، ولكن العقل بطبيعته يرينا الخير والشر، فإذا عرض أمامنا عمل ما فعقلنا يرشدنا إن كان خيرا أو شرا من غير عمليات حسابية، والعقل يأمرنا دائما أن نعمل ما نحب أن الناس يعملونه، فيأمرنا بالصدق لأننا نحب أن الناس يصدقون، وبتجنب الكذب لأننا نحب أن الناس لا يكذبون. ويجب أن نخضع لصوت العقل وأن نجعل إرادتنا تنفذ ما يأمر به وما ينهى عنه، وإذا جرينا على هذا المبدأ دائما ولو خالف ميولنا وشهواتنا فقد أدينا ما علينا من الواجب وسرنا سيرا أخلاقيا».
وقد اعترض على هذا المذهب (اللقانة)، القائل بوجود غريزة في الإنسان يميز بها الخير من الشر، كالحاسة التي يميز بها بين الألوان والأصوات: (1)
بأن الناس يختلفون في الحكم على الأشياء اختلافا كبيرا حتى في البديهات، ففي «سبارطة» كانت تعد السرقة عملا ممدوحا، ويعد القتل في «داهومي» واجبا من الواجبات فكيف يقال بعد: إن الناس منحوا غريزة لإدراك الخير والشر؟ مع أنا نراهم لا يختلفون هذا الإختلاف فيما يدرك بالحواس، فلا يقول قوم على الأسود أبيض، ولا يقول آخرون: إن الاثنين أكبر من الأربعة. (2)
وبأنا نشاهد أنا في كثير من الأعمال نتوقف عند الحكم عليها بأنها خير أو شر، ونحس أننا نحتاج فيها إلى إمعان النظر واستعمال الروية، ولو كان الحكم يرجع إلى حاسة فينا ما احتجنا إلى ذلك، كما لا نحتاج إلى إمعان النظر في إدراك الأسود والأبيض والجميل والقبيح. (3) نظرة عامة إلى هذه المذاهب
رأينا أن العلماء مختلفون فيما بينهم في معرفة المقياس الأخلاقي، وأن كل مذهب من المذاهب لم يسلم من اعتراضات ترد عليه، ولم يخل كذلك من وجهة نظر صحيحة.
وإذا ألقينا عليها الآن نظرة عامة رأينا أن من الخطأ الواضح الجري على مذهب السعادة الشخصية، لأن الإنسان لا يعيش وحده في هذا العالم، وهو مضطر في معيشته إلى التعاون مع أبناء جنسه، فليس من الحق إذن أن يبحث فقط وراء سعادته هو، فضلا عن أنا إذا رجعنا إلى الطبيعة الإنسانية رأيناها تدعو إلى عمل الخير للناس كما تدعو لعمل الخير لنفسه، فكثير مما يعمله الآباء والأمهات لأولادهم لا يعملونها لأنفسهم، بل هم قد يبذلون أنفسهم لخير أولادهم، وكأعمال الخيرين الذين يقصدون إلى إيصال الخير إلى الناس مهما نالهم من الأذى، بل نحن في أعمالنا اليومية نشعر بميل إلى إغاثة الملهوف، وإنقاذ المشرف على الخطر، ومساعدة المنكوبين ونحو ذلك ولو لم يعد علينا من ذلك منفعة خاصة، مما يدل على تأصل عاطفة الخير فينا، وحب الناس، وأن ليس شخصنا هو المحور الوحيد الذي تدور عليه الأخلاق.
وقد جاءت الأديان المختلفة لمحاربة «الأثرة» والتفاني في حب النفس، وحببت إلى الناس «الإيثار» والعمل لخير الناس، ووضعت المبادئ العامة لذلك نحو: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» ومدح الله قوما بقوله تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، نعم إن الطبيعة ركبت فينا حب ذاتنا ولكنها ركبت فينا أيضا حب غيرنا، وجعلت في استطاعتنا ألا نغلو في ذلك، وأن نحب الخير لنفسنا وللناس، ومن شاء أن يكون عظيما فليحب الخير أكثر مما يحب نفسه ويتبعه حيث كان.
ويقول «سبنسر»: إن الواجب ألا نبالغ في الأثرة ولا في الإيثار، لأنا إذا بالغنا في أيهما أضعنا المقصود منه، فلو أن كل إنسان يبحث عن لذة نفسه فقط لكان ذلك شر طريق لحصول الإنسان على لذائذه الشخصية، لاحتياج كل إنسان إلى الآخرين، فلو قصر كل إنسان في جمعية نظره على نفسه لتضرر الجميع، وكذلك الإيثار، فلو قصد كل إنسان بكل عمل نفع الآخرين وأهمل نفسه لم يكن ذلك في مصلحة الناس، لأنه باهمال نفسه يضعف ويقعد عن عمل الخير للناس، وليس يستطيع غيره أن يقوم بمصالحه هو، لأنه أدرى بها - والنتيجة التي وصل إليها «سبنسر» أنه يجب أن نوفق بين الأثرة والإيثار، وكلما رقيت أمة مالت لديها الأثرة والإيثار إلى الإتحاد وتكوين عنصر واحد - فالإنسان في الجمعية الراقية لا تتعارض في نفسه الأثرة والإيثار، بل يرى خيره في حبه للناس ويرى نفسه عضوا من جسم، فائدة العضو تفيد الجسم وفائدة الجسم تفيد العضو. - إذن - لا يصح أن نتبع المذهب القائل: بأن المقياس سعادة الشخص. كذلك لا نرى من الحق اتباع مذهب السعادة العامة وإن كان أرقى مما قبله وأشرف، لأن هذا المذهب يجعل الناس لا يحكمون على عمل إلا بعد حساب لذائذه وآلامه، فهو يجعل الحكم الأخلاقي عملية حسابية، والفضيلة ليست فضيلة في ذاتها، وإنما هي فضيلة لأنها تنتج لذة أكبر، وهذا يفقدها ما فيها من جمال وتقديس، واتباع هذا المذهب يجعل الناس جامدين ليس لديهم الشعور القوى نحو الفضيلة، إنما ينظرون إلى النتائج الجافة للأعمال، فضلا عن أنه يترك تقدير ما ينتج عن العمل من اللذائذ والآلام إلى الشخص نفسه، والشخص عرضة لأن يخطئ في الحساب، خصوصا وهذا المذهب يتطلب بعد النظر وحساب النتائج القريبة والبعيدة معا، وكثيرا ما يخدع الإنسان نفسه في حساب اللذائذ والآلام إذا رأى في العمل مصلحته الشخصية، فيوهم نفسه أن في العمل منفعة عامة، وبذلك يتعرض لخطأ شنيع.
ونحن أميل إلى نوع من أنواع اللقانة، وهو أن الإنسان خلق وفي أعماق نفسه قوة تريه بعض الأعمال خيرا وأخرى شرا، لا بالنظر إلى ما ينتج عنها من لذائذ وآلام ولكن لأنها نفسها كذلك، فهو يحس بطبعه بفضيلة ورذيلة، ويشعر أنه مأمور من نفسه بأن يعمل الفضيلة ويتجنب الرذيلة، وهو مكلف أن يطيع هذا الأمر مهما كانت نتائجه، وأن يضحى لذلك بكل اللذائذ التي يتوقعها، فهو يرى الصدق فضيلة، وشعوره أو عقله يريه ذلك كما تريه عينه الأسود أسود والأبيض أبيض، وكما أنا لا نحكم على الأسود بأنه أسود نظرا لنتائجه فكذلك لا نحكم على الصدق بأنه خير لنتائجه، ولكن لأن نفسي تريني أنه فضيلة وأني ملزم بالعمل على وفقه، وإذا كذبت شكلت لي محكمة في باطن نفسي تحكم علي بالإساءة، وتوقع علي عقوبة التأنيب، تلك طبيعتنا التي خلقنا عليها.
والقانون الأخلاقي الذي يرينا الخير والشر ويأمرنا وينهانا جزء من طبيعتنا، وهو - وإن اختلف عند الناس حسب بيئتهم وتربيتهم فأساسه موجود فيهم، في المتوحش والمتمدين، وفي الراقي وغير الراقي - ففي باطن الإنسان شعور بالواجب، وأمر بعمله، وعقوبة على مخالفته، ومكافأة على طاعته، وكل إنسان يشعر بذلك من غير أن ينتظر حساب ما في العمل من لذائذ وآلام، وأمعن الناس في الإجرام وأشدهم قسوة يضطرب إذا أجرم، لا خوفا من العقاب فقط ولكن لأنه خالف أيضا قانون الأخلاق، وكل إنسان مسئول أمام ضميره عن إطاعة هذا القانون الأخلاقي، ومسئول كذلك أمام الله، فقد ربط الله الثواب والعقاب بهذا القانون، وجعل الجنة جزاء العدل والصدق والشجاعة ونحوها من الفضائل، كما جعل النار عقابا لأضدادها من ظلم وكذب وجبن، وأن هذا القانون الأخلاقي الذي في نفوس الناس هو الرابطة بينهم جميعا، على أساسه يمدحون ويذمون، ويكافئون ويعاقبون.
فنحن ندرك الخير والشر بطبعنا، ونحس الواجب، ويكلفنا ضميرنا أن نعمله من غير نظر إلى اللذائذ والآلام، بل يأمرنا أحيانا أن نضحي باللذائذ والسعادة للخير والواجب.
هذا المذهب هو الذي يليق بشرف الإنسان ومنزلته في العالم، فليس هو بهيمة يبحث عن لذته أو لذة غيره، إنما هو مخلوق راق يبحث عن الفضيلة حيث كانت، ويأمره ضميره بالعمل بها، وليس يعوقه عن الوصول إلى الدرجة الرفيعة الخلقية إلا تغاليه في حب ذاته، وإغضاؤه عن صوت الضمير إرضاء لشهواته، والمثل الأعلى إنسان يحب الخير للخير، ويتطلب الفضيلة لأنها فضيلة، ويؤدي الواجب لأنه واجب، ويسمع صوت ضميره في أداء ذلك دائما، يجعل ذلك مبدأه في حياته، وقانونه الذي يسير عليه أبدا.
الفصل الخامس
الخير والشر
ما معنى الخير والشر؟ متى أسمي العمل خيرا ومتى أسميه شرا؟ ما هو الخير الأخير الذي نقصد إليه من أعمالنا؟ وبعبارة أخرى ما غاية الغايات التي ينبغي أن أسعى للوصول إليها؟ إننا نقصد في حياتنا إلى أشياء كثيرة من مال أو جاه أو صحة أو منصب أو نحو ذلك فلم نقصد إليها؟ وهل هي مقصودة لنفسها أو لشيء وراءها يعد هو الأساس؟ وإذا كان كذلك فما هو هذا الأساس الذي نسميه الخير الأخير أو غاية الغايات؟ هذا هو موضوع بحثنا في هذا الفصل.
وإنه لمن السهل استنتاج الأجوبة على هذه الأسئلة مما قرأناه في الفصل السابق، فإن كل مذهب من المذاهب الثلاثة الماضية يجيب بأجوبة تخالف ما يجيب به الآخر، تبعا لمسلكهم الذى سلكوه في مقياس الخير والشر.
فالمذهبان الأولان «مذهب السعادة الشخصية ومذهب السعادة العامة» قالا: ليس هناك عمل خير في ذاته، ولا شر في ذاته، وإنما العمل يحكم عليه بأنه خير أو شر تبعا لنتائجه، فالعمل الذي ترجح لذائذه آلامه خير، والذى ترجح آلامه لذائذه شر، والذى تتساوى لذائذه وآلامه لا خير ولا شر، فإذا سئلت عن عمل أخير هو أم شر حسبت نتائجه لأصدر حكمي عليه، والعمل في ذاته ليس خيرا ولا شرا، بل العمل الواحد قد يحكم عليه في بعض الأحيان بأنه خير، ويحكم عليه في أحيان أخرى بأنه شر، وذلك لما يحيط به من ظروف تجعله ينتج لذائذ أكثر من الآلام أحيانا، وآلاما أكثر من اللذائذ أحيانا ، ويجب على الإنسان إذا خير بين أعمال أن يختار خيرها، وخير الأعمال ما أنتج أكبر لذة وأقل ألم.
يتفق المذهبان الأولان في هذا القول وإن اختلفا في التفصيل، فالأول يرى أنه عند الحكم بالخير والشر لا ننظر إلا إلى العامل، والثاني ينظر إلى العالم أجمع كما سبق تفصيله.
والغاية الأخيرة التي يقصد إليها المذهبان هي «السعادة» فكل عمل قرب منها كان خيرا، وكل عمل أبعد عنها كان شرا، والمذهب الأول يقصد إلى سعادة العامل، ويعد ذلك هو الغاية الأخيرة للحياة، وهو مذهب ظاهر البطلان كما قدمنا.
أما مذهب السعادة العامة فيرى أن الغاية الأخيرة التي ينبغي أن يسعى إليها الإنسان هي تحقيق السعادة للناس، وأن العمل خير كلما قرب من إسعاد الناس، وشر كلما أبعد من ذلك، وأن الإنسان الخير هو من راض نفسه على العمل لخير الناس، وربط منفعته الشخصية بمنفعتهم، وتألم من الأذى يصيبهم كما يتألم من الأذى يصيب نفسه، ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه.
أما مذهب «اللقانة» فيرى أن هناك أشياء هي خير في ذاتها، وهي التي اصطلحنا على تسميتها فضائل، من صدق وعدل وشجاعة وعفة ونحوها، وهناك أشياء شر في ذاتها وهي التي تسمى الرذائل من ظلم وكذب وجبن ونحوها، ولسنا نحكم على هذه الأعمال بأنها خير أو شر تبعا لنتائجها، ولا في بعض الأحوال دون بعض، وإنما نحكم عليها حكما عاما مطلقا مهما كانت نتائجها، فالصدق والعدل والعفة خير دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والكذب والظلم والشره شر دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والإنسان الخير من وجه إرادته للعمل حسب ما تهديه نفسه للخير، والغاية الأخيرة التي ينبغي أن يسعى إليها هي أن يكون فاضلا، يتبع الفضيلة حيث كانت، ويلزم نفسه بالعمل على وفقها ولو تحمل في سبيل ذلك الآلام الجسام، وليست الغاية هي السعادة كما يقول المذهبان السابقان، ولكن الغاية أداء الواجب، والتمسك بالفضيلة، وإن ضحى لذلك باللذة والسعادة بل وبالحياة إذا دعت الحال، وليس للسعادة قيمة إذا قيست بالواجب ، واللائق بشرف الإنسان أن يسمع لوحي الضمير من غير أن ينتظر حساب اللذائذ والآلام، وأن يفعل الواجب للواجب لا لشيء وراءه.
الفصل السادس
علاقة الفرد بالمجتمع
نرى الإنسان يصيب عضوا من أعضائه مرض فيتألم له سائر الجسد، ولا يقتصر الألم على العضو المريض، وقد ينتهي ذلك بالموت، فتسلب الأعضاء كلها ما فيها من حياة، فأعضاء الجسم كلها متضامنة، يتأثر سائرها بما يصيب أحدها، وقد حكوا أن معدة الإنسان قالت مرة: إني أهضم الغذاء كله، وأتعب في ذلك، ولا يصيبني منه إلا القليل، وقال القلب: إني أوزع الدم على سائر الجسد، ولا ينالني منه إلا قطرات، وقالت الرجل: إني أسعى في الأرض شرقا وغربا لكسب القوت، مع أن حظي من ذلك العناء قليل، وهكذا، فأضربت الأعضاء عن العمل، فبعد مدة أحست المعدة بألم الجوع، وأحس القلب بالضعف، وأدرك كل عضو أن خيره في أن يعمل له ولغيره، فعادت جميعها إلى العمل.
على العكس من ذلك نرى المجموعة من الحجارة لا رابطة بين أفرادها، ولا يحس سائر الحجارة ما يقع على حجر منها، فلو أنا أخذنا أحدها وحطمناه لم يتعد ذلك الأثر غيره.
فما كان من الصنف الأول فهو (جسم عضوي) كالإنسان والحيوان والنبات، وما كان من الصنف الثاني - ككل مجموعة من أحجار وأخشاب ونحوها - سمي (جسما غير عضوي).
فمن أى الصنفين الجمعية من الناس، كالأسرة والحزب والأمة؟
إنا بقليل من النظر نرى أنها (جسم عضوي)، ولنأخذ مجتمعا صغيرا نحلله تحليلا دقيقا لنبين منه كيف يعتمد المجموع على أجزائه والأجزاء على المجموع، ونتدرج في النظر من المجتمع الصغير إلى المجتمع الكبير.
فأصغر المجتمعات الأسرة، وهي تتكون عادة من أب وأم وأولاد وأقرب الناس إليهم، وفيها يعتمد كل فرد على الباقين، الكل يخدم الفرد، والفرد يخدم الكل، فاعتماد الأولاد على الآباء في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ونظافتهم وغير ذلك واضح جلي، أما الآباء فقد يعتمدون على أولادهم إذا كبروا ومست الحاجة، ولكن أهم من هذا وأكبر قيمة في نظرهم ما يشعر به الآباء من السعادة بما يرون من حب أبنائهم لهم، وحنانهم إليهم، وأن كلمة شكر صادرة من قلب أو عملا يدل على الاعتراف بالجميل من الابن لأبيه أو أمه ليدخل على قلبهما من السرور ما لا يقدر.
وانظر إلى علاقة الأولاد أنفسهم بعضهم مع بعض تر أن كل طفل في الأسرة يؤثر في الباقين ويتأثر بهم، ولو عاش الإنسان من مبدئه عيشة عزلة وانفراد لنشأ كالحيوان الأعجم، فكل طفل يتعلم من إخوانه وأخواته المشاركة في العواطف، فيشاركهم في فرحهم، ويشعر بالحزن لحزنهم، ويتعلم درس الأخذ والعطاء، فيعرف أنه يجب أن يعطي كما يأخذ، وأن يتنازل عن بعض ما يحب، ويتعلم تبادل المعونة مع الآخرين.
وفي الأسرة يتجلى ما قدمناه عن مميزات الجسم العضوي من أن الضرر الذي يصيب عضوا يتأثر به سائر الأعضاء، فالولد سيئ الخلق يحرم الأسرة كلها سعادتها، والأب السكير أو المقامر يؤثر سلوكه في معيشة أسرته فيضايقها بما يصرف من مال، وما يتبع سكره أو لعبه من إهمال لشؤون بيته، والأم الجاهلة يؤثر جهلها في حال الأسرة، فكم من ولد أصابته آفة، أو شوهت خلقته عاهة أو أدركه الموت من جراء جهل أمه، وهكذا.
كذلك الشأن في الجمعيات التي هي أكبر من الأسرة كالمدرسة، فطلبة المدرسة ومدرسوها وخريجوها جسم عضوى، يستطيع كل فرد منهم بعمله الشخصي أن يرفع من شأن المدرسة، أو يحط من قدرها، والصورة التي في أذهان الناس وقيمتها عندهم نتيجة سيرة طلبتها.
والحزب من الأحزاب يأتي فرد من أفراده عملا مجيدا فيمجد الحزب ويعلي مقامه، وكذا العكس، وقيمة الحزب أو المدرسة حاصل جمع ما يأتي به الأفراد من الأعمال.
والأمة أسرة كبيرة، فهي جسم عضوى تتحد في اللغة والدين غالبا، يحكمها قانون واحد، ويشترك أفرادها في المنافع والمضار، كالأمة المصرية، يفيض نيلها باعتدال فينتفع بذلك كل المصريين، وتحسن زراعة القطن فيها سنة وترتفع أثمانه فيكون القطر كله في رخاء، تاجر يبيع للفلاح ما يحتاجه ومؤجرون يسهل عليهم تحصيل إجارتهم، وحكومة تحصل الخراج من غير عناء، وتتيسر المعاملات بين الناس، فالملاك بقبضهم أجور أملاكهم يعمرون ويبنون، فينتفع البناءون والنجارون ومنهم ينتفع غيرهم وهكذا.
وأوضح المثل لاشتراك الأمة في المنافع والمضار المثل الجغرافية، فخزان أسوان - مثلا - بقعة من بقاع القطر المصري؛ يؤثر في سعادة مصر جميعها، فيصرف المياه بقدر حسب الحاجة إليها، ولو تهدم ولم يؤد عمله لتضرر القطر المصري جميعه لا أسوان وحدها.
والمدارس العليا في القاهرة لم تنشأ لمنفعة القاهرة فحسب، بل أنشئت لمصلحة مصر كلها، يتعلم فيها أبناؤها من مختلف الأنحاء.
بل تأمل في كل طائفة من طوائف العمال كعمال السكك الحديدية وعجلات النقل ترى أن أعمالهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بأعمال غيرهم، واعتبر ذلك في أوقات اعتصابهم، كيف يعطل كثير من الأعمال، ويتأذى كثير من الناس.
وعلى مثال ما قدمنا يمكن القول بأن الأمة كلها يلحقها ضرر بليغ من وجود عدد كبير من أفرادها يشتغلون في معامل غير صحية، ويسكنون في أزقة قذرة، لا يصل إليها هواء نقي، ولا تطهر مساكنها أشعة الشمس، فتضعف صحتهم، وتقصر آجالهم، ويكثر العجز فيهم، فلا يستطيعون أداء أعمالهم حق أداء، ويصبح كثير منهم عالة على الأمة، يأكلون من عمل غيرهم، فهم عضو مريض عاجز في جسم حي، وكذلك الشأن في الأمة إذا كثر فيها عدد الجاهلين أو السكيرين، ومحال أن يكون جسم الأمة صحيحا وفيها يكثر المقامرون أو المدمنون.
وكما أن كل عضو في الجسم ينفع سائر الأعضاء وينتفع منها، ويضر سائر الأعضاء ويتضرر منها، كذلك الحال في جسم الأمة، فالمتعلمون مثلا ينتفعون من الأمة بمالها وسعيها لتنتفع الأمة منهم بعد بعلمهم وعملهم، وهكذا كل طائفة من طوائف العمال، فالمعلمون والنجارون والمزارعون والتجار وغيرهم أعضاء يكونون جسم الأمة، وكل فرد عضو في أمته، يؤثر فيها أثرا صالحا أو سيئا، فالمدرس الصالح يبث في روح تلاميذه أخلاقا صالحة، ويجعلهم أقرب إلى الخير، وغيرهم يقتدى بهم، والقاضي العادل يعدل بين الناس فيأمنون على حقوقهم، ويثق ذو الحق بأنه سيصل إلى حقه ويخاف المجرم من عقوبة الإجرام فيبتعد عنه، ويجد العامل في عمله لأنه يعلم أن نتيجة سعيه له، وأنه إن اغتصب حقه فالقضاء كفيل برده إليه، وعلى العكس من ذلك القاضي المرتشي.
ولا يخلو إنسان من أثر في الأمة وإن لم تره عيوننا، كالشعرة لها ظل وإن لم تدركه أبصارنا، فإذا ضم إليها شعرات كان الظل جليا واضحا، وهذا الأثر يختلف تبعا لاختلاف درجات الناس في الصلاح والفساد، ومقياس رقي الأمة وانحطاطها مجموع عمل أفرادها.
بل قد تجلى للباحثين في الأيام الأخيرة أن الناس كلهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ودينهم جسم عضوى واحد، فكل أمة تؤثر في الأمم الأخرى وتتأثر بها في صنائعها وعلومها وأخلاقها، فليست أمة من الأمم غنية بمعادنها وصنائعها وعلومها عما حولها، بل ترى أن الله قد قسم الخيرات على العالم، فأمة غنية بالحبوب ولكنها في حاجة إلى المعادن، وأخرى على العكس منها وهكذا، وكل ينفع وينتفع.
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض - وإن لم يشعروا - خدم
اعتبر ذلك في أيام الحرب العظمى تر أن كل أمة - محايدة كانت أو محاربة - قد أصابها الضنك بسبب حاجتها إلى أشياء كانت تجلبها من الأمم الأخرى، فأصبح نيلها عسيرا.
وقد جرت هذه الحقيقة - أعني اعتبار الجنس البشري جميعه جسما واحدا وكل أمة عضوا من أعضائه - بعض الباحثين إلى النظر في الحروب التي تقع بين الأمم، وذهبوا إلى أنها ليست بسائغة، كما لا يسوغ أن يعمل عضو في جسم على إضعاف عضو آخر، وتمنوا أن لو زال مثار الخلاف بين الأمم حتى لا يكون مساغ للحرب، واقترحوا لذلك إنشاء محكمة تحكم بين الأمم، كما تحكم المحاكم بين الأفراد المتنازعين، وهذه هي المسماة «بعصبة الأمم» وقال هؤلاء: إن الخلاف الطبيعي بين الأمم في الأخلاق والعادات لا يحيل إمكان التآلف بينها، كما أن الاختلاف بين أفراد الأسرة بالذكورة والأنوثة والشدة واللين، لم يمنع من توحدها واعتبارها جسما واحدا، ولكنهم مع هذا دعوا إلى «الوطنية» والمحافظة على «القومية» ما دامت الأمم الأخرى تدعو إليها، لأن انعدام «الوطنية» في أمة مع بقائها في الأمم الأخرى مؤذنة بزوال تلك الأمة.
وقد تقدم الناس في فهم هذه «الأخوية العامة» فاشتدت الرابطة بين الأمم، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وعبرت البواخر البحار، فارتبطت الأمم برا وبحرا، وعقدت محالفات كثيرة بين الأمم المختلفة لمصلحة الناس، كالإتفاق العام على البريد والتلغراف والسكك الحديدية، ومن الأدلة على ذلك ما نراه من ميل كثير من الناس إلى توحيد المقاييس والموازين في العالم جميعه، وعقد مؤتمرات عامة تمثل فيها الأمم المختلفة للبحث في شؤون شتى علمية وصحية، إلى كثير من أمثال ذلك.
هذا هو شأن المجتمعات والأفراد، وكل فرد فيها عضو من أعضائها، ولا يخلو إنسان من ارتباطه بمجتمعات كثيرة، فكل إنسان عضو في أسرة، وفي مدينة، أو قرية، وفي أمة، وفي العالم بأسره.
ومن المجتمع يستمد الفرد كل شيء من مأكل وملبس ومسكن وعلم وخلق، ولو جرد الإنسان من كل شيء ناله من المجتمع ما بقي له شيء، فجسمه وعقله وخلقه منحة من منح المجتمع.
وكما أن العضو إذا انفصل من الجسم مات ولم تعد له حياة كاليد تفارق الجسم، والورقة تفارق الشجرة، فكذلك الإنسان إذا انفصل من مجتمعه أدركه الفناء، ولم تكن له قيمة، لأن أعمال الإنسان وأغراضه وعاداته لا تقوم إلا بالنظر إلى المجتمع، فليس الصدق خيرا ولا الكذب شرا إلا لإنسان يعيش في مجتمع، ولولا ذلك لم يكن أحدهما خيرا والآخر شرا.
الفصل السابع
الحقوق والواجبات
(1) معنى الحق والواجب
ما للإنسان يسمى «حقا»، وما عليه يسمى «واجبا»، فإذا كان لي مائة جنيه على آخر يقال: إن لي حقا أن آخذ منه مائة جنيه، وواجب عليه أن يدفع لي هذا المبلغ.
والحق والواجب متلازمان، فمتى كان لشخص حق كان هناك واجب، بل الواقع أن كل حق يستلزم واجبين: واجبا على الناس أن يحترموا حق ذى الحق ولا يتعرضوا له أثناء فعله، وواجبا على ذى الحق نفسه، وهو أن يستعمل حقه في خيره وخير الناس، فمثلا إذا كان لي بيت فهو حق لي، وذلك يستلزم واجبين: واجبا على الناس ألا يتعدوا على هذا البيت بضرر، وأن يحترموا حقي في ملكيته وواجبا علي وهو أن أستعمل البيت في خيري وخير الناس، فإذا أشعلت فيه نارا أريد إحراقه أو آذيت الناس بايجاره لعمل مقلق للراحة لم أكن أديت ما وجب علي، وهكذا.
ولكن جهة التنفيذ في الواجبين ليست واحدة - فالذي ينفذ الواجب الأول هو القانون الوضعي - غالبا - فإذا تعدى أحد على بيتي فغصبه متى كان القانون الوضعي هو الذى يحمينى، فأستطيع أن أرفع الأمر إلى المحاكم، والقاضي يلزمه بمراعاة حقي وينفذ ما يجب عليه، أما الواجب الثاني - وهو الواجب علي في استعمال حقي على أحسن وجه - فليس الذى ينفذه هو القانون الوضعي - غالبا - وإنما يأمر به القانون الأخلاقي، ويترك تنفيذه إلى ذى الحق نفسه، وإلى الرأي العام، فلو أني هدمت بيتي وهو عامر، أو أتلفت هندسته، أو تركته مهجورا لا أسكنه ولا أسكنه لم يتدخل القانون الوضعي في ذلك، وإنما يتدخل القانون الأخلاقي، فيأمرني أن أعمل الواجب علي من استعمال بيتي لخيري وخير الناس، ويلومني إذا لم أتبع ذلك، وكذلك يلومني الرأي العام، فإذا قال القانون الوضعي: «لكل مالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء» فإن الأخلاق تقول: «ليس للمالك أن يتصرف في ملكه إلا بما فيه الخير له وللناس». (2) أساس الحق والواجب
لم كان لي حقوق وعلي واجبات؟ يقولون مثلا: إن لي حقا في أن أتعلم، وحقا في أن أكون حرا، وأن علي واجبا أن أرعى حقوق الناس، وأن أؤدى ما علي من الواجبات، فما الذي رتب هذه الحقوق وهذه الواجبات؟ وهلا يمكن الناس أن يعيشوا من غير حقوق وواجبات؟
أساس الحقوق والواجبات هو المعيشة الاجتماعية، فالإتصال الوثيق بين الفرد ومجتمعه الذى شرحناه في الفصل السابق هو أساس فكرة الحق والواجب، فلو أن الفرد يعيش وحده ما كان هناك معنى لحق ولا واجب، بل كان له أن يفعل ما يشاء بلا قيد ولا شرط، ولكنه لما كان عضوا في مجتمع، وكان المجتمع ككل جسم حي لا بد من أعمال للمحافظة عليه، وإذا لم تعمل تعرض المجتمع للخطر والفناء أو التدهور نشأت من ذلك فكرة الحق والواجب، فالأشياء الضرورية لبقاء المجتمع كالمحافظة على الأرواح والأموال سميناها حقوقا للأفراد في المرتبة الأولى وأوجبنا على كل فرد أن يحترمها، وأوقعنا العقوبات الشديدة على من ينتهك حرمتها، صونا للمجتمع من الفناء، والأشياء التي هي سبب في رفاهية المجتمع وكماله كالتعليم جعلناها حقوقا في المرتبة الثانية وأوجبناها وجوبا أقل من المسائل الأولى.
ولنذكر الآن بعض تلك الحقوق وما يجب بإزائها. (2-1) حق الحياة
لكل إنسان الحق أن يحيا، ولكن لما كانت معيشة الإنسان معيشة اجتماعية وكانت الحقوق التي له مستفادة من قبل المجتمع كان عدلا أن يضحي الفرد بحياته لحفظ حياة المجتمع إذا اقتضى الحال ذلك، كما إذا هوجمت الأمة من أمة أخرى قصد الإستيلاء عليها فتجند من أبنائها من يدافع عنها، وهذه أحوال نادرة، أما فيما عداها فحق الحياة حق مقدس لا يسمح به لأي شيء آخر.
وهذا الحق مع وضوحه قد جهلته بعض الأمم في بداوتها، فبعض قبائل العرب في جاهليتها كانت تئد البنات خوفا من العار، وتئد الأولاد خشية الفقر، وكثير من الأمم كانت تقتل أسرى الحرب متى ظفرت بهم - وفي بعض الأمم الآخذة بحظ وافر من المدنية لا يزال حق الحياة عندهم معرضا للخطر أحيانا، كما هو الشأن عند الأمم التي تبيح المبارزة، ولو أن الناس قدروا الحياة حق قدرها وتقدموا في فهم حقها لما تحاربوا، وحق الحياة لا يمكن أن يوفر لكل أفراد الأمة ما لم تتوافر لهم وسائل المحافظة على الحياة، وذلك بسهر الحكومة على المحافظة على الأمن والقبض على المجرمين ونحو ذلك، كما أنه لا يمكن أن يوفر حق الحياة إلا بتوفير وسائل المعيشة، حتى لا تقع الأمة في مجاعة، أو يكثر فيها العاطلون الذين لا يجدون ما يقيم أودهم، ويحفظ حياتهم.
وحق الحياة ككل الحقوق يستلزم واجبين: واجبا على ذي الحق وهو أن يحفظ حياته ، ويقضيها في أحسن الوجوه التي تنفع نفسه والناس، فالمنتحر مضيع لحقه في الحياة، مخل بالواجب عليه، كذلك واجب على الناس أن يحترموا هذا الحق للفرد فلا يتعدوا عليه - وإذا كان هذا الحق أقدس الحقوق كان من تعدى عليه بقتل أو نحوه مستوجبا أشد العقوبات، وربما كان من الحق أن نسلبه أيضا حقه في الحياة. (2-2) حق الحرية
كلمة الحرية من الكلمات الغامضة التي تستعمل في معان مختلفة، ولذلك نبدأ بتحديدها.
الحرية المطلقة هي «أن يريد الإنسان ويعمل ما يريد من غير أن يكون لأي شيء آخر سلطان على إرادته أو عمله» وهى بهذا المعنى لا تكون إلا لله، فليس ثمة من لا تتأثر إرادته بأي مؤثر خارجي وعنده من القوة ما ينفذ به ما يريد إلا هو، وإذ كنا إنما نبحث عن حرية الإنسان لم يكن هذا المعنى المطلق بصالح.
إنما يصلح للناس حرية مقيدة، وقد جاء تعريفها في «إعلان حقوق الإنسان» الصادر في فرنسا سنة 1789م بأنها «القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير» وقريب منه ما قاله «هربرت سبنسر»: «كل إنسان حر أن يفعل ما يريد، بشرط ألا يتعدى على ما لغيره من مثل حريته» ومعنى قوله: إن الناس كلهم متساوون في حق الحرية، ولكل إنسان الحق أن يعمل ما يريد ما لم ينقص ذلك من حرية الآخرين.
وعرفها بعض الأخلاقيين «بأن يكون للإنسان الحق في ترقية نفسه بما يشاء من غير أن يتدخل أحد شؤونه، إلا إذا وجدت ضرورة تدعو إلى ذلك، أو كان التدخل لترقية من يتدخل في شؤونه، كما في الحجر على السفيه» وعلى الجملة إن هذا الحق يتطلب أن يعامل كل فرد معاملة إنسان لا معاملة متاع، ومن أجل هذا حرم الرق والإستبداد والتسخير ونحوها مما يعامل فيه الإنسان كأنه متاع يستخدم لغاية آخر.
ولفهم الحرية فهما صحيحا يجب أن نذكر أنواعها، ثم نبين كل نوع على حدته، فأهم ما نستعمل فيه الحرية ما يأتي: (1)
الحرية التي هي ضد الإسترقاق، فيقال حر ورقيق. (2)
حرية الأمم، ويعنون بها الإستقلال وعدم الخضوع لحكم الأجنبي. (3)
الحرية المدنية، وهي أن يكون الشخص آمنا من التعدي عليه وعلى ملكه ظلما، وهذه الحرية تشمل حرية الرأي وحرية الخطابة وحرية التصرف في الملك الخ. (4)
الحرية السياسية وهي أن يكون للإنسان الحق في أن يأخذ نصيبا في حكومة بلاده بالتصويت في الإنتخابات ونحو ذلك.
النوع الأول:
لا يحتاج هذا النوع إلى شرح طويل، فالفرق بين الحر والرقيق واضح جلي، وقد كان الاسترقاق فاشيا في العصور الماضية، ولم يكن ينظر إليه بعين المقت التي ينظر إليه بها اليوم، حتى إن أرسطو - أكبر فلاسفة اليونان - كان يرى أن بعض الناس بفطرته غير قادر على أن يتصرف في شؤون نفسه فخير له أن يكون رقيقا يدبر غيره أمره - وفي العصور الحديثة ساد القول بأن الحرية حق طبيعي لكل إنسان، وبعبارة أخرى حق منحه الله للإنسان منذ ولد.
وإنما منح الناس جميعا الحرية لسببين: أولهما أن حب الحرية متأصل في نفس كل إنسان، فمن الظلم أن نسلبه هذه الرغبة، وثانيهما أن الإنسان لا يستطيع أن يقرر شؤونه بنفسه إلا إذا كان حرا، أى أنه لا يمكن أن يكون مسئولا إلا إذا كان حرا، أعني أنه لا يكون إنسانا إلا إذا كان حرا.
قد ينعم بعض الناس في ظل العبودية أكثر مما ينعمون في ظل الحرية، وبعض الأرقاء كانوا أسعد حالا من بعض العمال اليوم، ولكن قل أن يرضى هؤلاء العمال بحريتهم بديلا، قد تكون الحرية مدرسة شاقة متعبة، ولكنها المدرسة الوحيدة التي يتعلم فيها الإنسان أن يكون إنسانا حقا.
النوع الثاني:
حرية الأمم أي استقلالها. والأمة تحب أن تتمتع بحريتها وتحكم نفسها، كما يحب الفرد أن يكون سيد نفسه، وتحس الضعة والمذلة إذا حكمها غيرها.
فإن قلت: ما الفائدة التي تعود على الأمة من استقلالها، قلنا: إن فائدتها من ذلك كفائدة من يفك الحجر عنه، فإنا إذا منحنا المحجور عليه حرية التصرف فقد يخطئ، ولكن هذا هو خير طريق ليعتني بشؤونه وليكون مسئولا، وأنه إذا كان حر التصرف زاد طموحه لتكميل نفسه ، وشعر بأنه إنسان حقا، وكذلك الشأن في الأمم، إذا منحت استقلالها شعرت بمسئوليتها، وطمحت ببصرها لتكون خيرا مما هي، واعتقدت أن نتيجة مجهودها لها لا لغيرها فضاعف ذلك في جدها.
ووجه آخر، وهو أن الأمة إذا كانت محكومة بأخرى فكثيرا ما يحدث أن تتعارض مصالح الأمتين فيحدث الإحتكاك ويكثر التصادم وفي ذلك ما يعوق الأمة عن التقدم.
وعلى الجملة فلا تحس الأمة شخصيتها إلا إذا نالت حريتها، ولا تنهض وتجد في نيل كمالها إلا إذا كانت تدير شؤون نفسها بنفسها، وهذا النوع من الحرية هو الخطوة الأولى في كثير من الأحيان لتحقيق الأنواع الأخرى كالحرية المدنية والسياسية.
النوع الثالث:
الحرية المدنية. لا يتمتع الفرد بهذا النوع من الحرية إلا إذا كان في أمة قد بلغت حظا من المدنية، فالأمم المتبدية - حيث لا يأمن الفرد فيها على نفسه من القتل أو السرقة أو مصادرة أملاكه - لا تتمتع بالحرية المدنية، فإذا تقدم الناس في الحضارة أصبح لكل فرد في الأمة الحق أن يدافع عن نفسه أمام القضاء، وأمن أن يسجن أو يحبس أو يعاقب أية عقوبة إلا إذا حكم عليه بمقتضى قانون البلاد، ولا يصح أن يتعدى عليه في غير هذه الحالة، ولا أن يكون ضحية لطمع كبير، أو انتقام حاكم كما كان الشأن قبل رقي الإنسان، وهذا النوع من الحرية يشمل:
حرية الرأي:
ونعني بها أن يكون كل إنسان حرا في الحكم على الأشياء بما يعتقد أنه الحق، فليس الإجتهاد والتفكير والحكم على الاشياء بأنها صواب أو خطأ من حق طائفة خاصة، بل من حق كل فرد أن يقول أو يكتب ما يراه صوابا - في أدب من القول، بعد أن يتثبت منه ويقوم عنده البرهان على صحته - وإن خالف العظماء والعلماء، ذلك لأنه لا يعرف أحد من الناس كل الحق، ونحن إذا منعنا الناس من أن يقولوا ما يعتقدون حرمنا ما قد يكون في قولهم من رأي صائب أو فكرة حقه، ولهذا يجب أن نسمح لكل فرد أن يكتب أو يقول ما يراه حقا ثم تتطاحن الآراء صحيحها وفاسدها حتى يتغلب الحق ويتجلى للناس.
النوع الرابع:
الحرية السياسية. ونعني بها أن يكون للإنسان نصيب في حكم بلاده، فالأمة إذا كان ممثلوها هم المشرعين لها والمديرين لشؤونها قيل: إنها تعمل حسب ارادتها، وهذا هو معنى الحرية، أما إن كان يشرع لها ويأمرها من لم يمثلها لم تكن تعمل حسب ارادتها بل هي مضطرة مجبرة، والجبر ينافي الحرية.
وقد ثبت هذا الحق «حق الحرية» للإنسان لأنه لا يستطيع أن يكمل نفسه ويرقي أخلاقه ويصل إلى غايته إلا إذا كان حرا. •••
وقد تأخر الناس في فهم هذا الحق حتى بعد أن فهموا حق الحياة، فقد ظل الرق فاشيا بعد أن كف الناس عن قتل أسرى الحرب ووأد البنات، ولم يبطل الرق إلا في القرن الماضي، والآن بعد أن ألغي الرق لم يتمتع العالم بأنواع الحرية الأخرى كما ينبغي، فأمم عدة لا تزال تجاهد لنيل استقلالها، وكذلك النوعان الآخران من الحرية أعني الحرية المدنية والسياسية فهما، مع اختلاف الأمم في درجة التمتع بهما لم يبلغا الدرجة القصوى المنشودة لهما.
وهذا الحق أيضا يستلزم واجبين: واجبا على الناس والحكومات أن يحترموا حق الفرد في الحرية، فلا يتدخلوا في شؤونه إلا للمصلحة العامة وعند الضرورة، فالحكومات لا تقوم بواجبها إن كانت تحجر على الصحف والكتب أن تطبع حتى يجيزها الرقيب إلا في أحوال استثنائية كحالة الحرب، والأفراد لا يؤدون واجبهم إذا كانوا لا يسمحون لخطيب أن يخطب إلا إذا كان يرى رأيهم، ويقول بلسانهم، ولا يبيحون لكاتب أن يكتب ولا صحيفة أن تنشر إلا ما يوافق مذهبهم، إنما يؤدون واجبهم يوم يكون القول حرا؛ والنقد المؤدب حرا، والحجة وحدها هي وسيلة الاقناع.
يجب أن يستشعر المرء أنه حر، وأن الناس أيضا أحرار، فكما أن له حقا أن يكون حرا عليه واجب أن يحترم حرية الآخرين، يجب أن ينضم إلى شعور الشخص بأنه حر وأنه سيد نفسه شعور بأنه ليس يعيش وحده ، ولكنه عضو في جمعية، وأنه مسئول عن حرية هذه الجمعية، ومن مميزات الأمم الراقية نماء هذين الشعورين في أفرادها وتعادلهما، أعني الشعور بالحرية والشعور بالمسئولية. والواجب الآخر واجب على ذي الحق نفسه وهو أن يستعمل حريته في خيره وخير الناس، ومن أساء استعمالها كان خليقا أن يسلبها، قال ملتن: «من يتعشق الحرية يجب أن يكون قبل طيبا حكيما» فليست الحرية تشرى أو تمنح، ولكن تكسب بالعمل لنيلها وحسن الإستعداد لها. (2-3) حق الملك
يكاد يكون حق الملك جزءا مكملا لحق الحرية، فإن الإنسان لا يستطيع أن يرقي نفسه كما يشاء إلا بملك الوسائل.
وقد دعا إلى هذا الملك أن وسائل الحياة لا تكفي لسد رغبات كل الناس، فتزاحموا على طلبها، ودعاهم حب الذات إلى الإستئثار بها فكان الملك.
الملك الخاص والملك العام
وإنا بالملاحظة نرى شكلين للملك، فتارة يكون ملكا خاصا كملك شخص كتابا أو منزلا أو ثيابا، وتارة يكون عاما كالسكك الحديدية والمتاحف ودار الكتب ودار الآثار.
وإنما جعلت بعض الأشياء ملكا خاصا وأخرى ملكا عاما لأنا رأينا أن الملك الخاص أدعى إلى عدم التبذير وإلى العناية، وهو في هذين يفضل الملك العام، ورأينا الملك العام يحمي من الإحتكار ومن استبداد المالك.
فالملك الخاص خير عندما تكون ملكيته أدعى إلى العناية والتدبير، والملك العام خير عندما تكون ملكيته أنفى للاحتكار واستبداد فرد أو أفراد قليلين بها، فالثياب التي يلبسها الإنسان وما يأكله والمسكن الذى يسكنه خير أن تكون ملكا خاصا له، لأنه بها أكثر عناية، ولا خوف فيها من احتكار واستبداد، أما المتحف أو الشارع فلو كان في ملك فرد لاستبد بالناس وفرض عليهم من الرسوم ما يضر بهم فكان من الخير أن يكون ملكا عاما.
وهناك أشياء كان من الواضح فيها أن تكون ملكا عاما لانطباقها على القاعدة المتقدمة في الملك العام ولكن أعطيت للشركات تديرها كشركة المياه وشركة النور، ومنعا لاستبدادها بالأمة عقدت الحكومة معها شروطا تجعل حدا أقصى لثمن الوحدات منها.
وليلاحظ أن الأشياء التي نقول: إنها ملك عام هي التي يعبر عنها بأملاك الحكومة، ذلك لأن الحكومة نائبة عن الأمة، فهي تدير هذه الأملاك وتتصرف فيها نيابة عن الأمة.
وحق الملك يستلزم واجبين: واجبا على الناس وهو أن يحترموا ملك المالك فلا يتعدوا عليه بسرقة أو غصب أو نحو ذلك، وواجبا على المالك نفسه وهو أن يستعمل ما يملك أحسن استعمال.
وإذا كان من الناس من هم أحوج منا إلى ما نملكه وكانوا محتاجين إليه لاستعماله في حاجة أكثر ضرورة من حاجتنا وجب علينا أن نبيح لهم استعماله، فإذا كنا نملك عجلة أو سيارة وكان جار لنا مريضا واحتيج إلى العجلة للاسراع في إحضار الطبيب وجب علينا أن نبيح لهم استعمالها، لأن استعمالها في حفظ الحياة يفضل أي استعمال آخر كالتروض، ولو أن بيتا لغني احتيج إليه في أيام الحرب ليكون مستشفى يعالج فيه الجرحى الذين دافعوا عن أوطانهم وجب على المالك أن يبيح لهم ذلك، وواجب أن تعطف على البائس الفقير الذي لا يجد ما يسد رمقه فتمنحه شيئا مما زاد عن حاجتك، وقد صدق الشاعر إذ يقول:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة
وحولك أكاد تحن إلى القدر
وكل إنسان منا عند اصطدام قطارين أو ترامين واجب عليه أن يقدم ما يستطيع من منديل وعصا ودواء لاسعاف المنكوبين، لأن هذا خير ما يستعمل فيه المتاع وهكذا. (2-4) حق التربي
لكل إنسان الحق أن يتربى ويتعلم حسب كفاءته واستعداده، فله الحق أن يتعلم القراءة والكتابة وأن يرقي ملكاته في الفنون والعلوم حسب ما يسمح له استعداده، وأن يتهذب بأنواع التهذيب المختلفة.
وإنما كان له هذا الحق لأن التربي وسيلة من وسائل الحرية، ومن وسائل الحياة الراقية، فالجهل إذا فشا في أمة أثر فيها أثرا سيئا في جميع مرافقها سواء في ذلك الشؤون الاقتصادية والصحية والاجتماعية والسياسية، فالمتعلم يستطيع أن يتكسب ويدير أمور معيشته وينظم حياته أكثر مما يستطيع الجاهل، والأسرة المتعلمة أقدر على مراعاة الأمور الصحية من الأسرة الجاهلة، وإذا كثر الجهل في أمة كثر فيها الفقر والتشرد والإجرام، والمتعلمون أصوب حكما إذا انتخبوا من ينوب عنهم، وأصدق نظرا وأقوم رأيا إذا انتخبوا، والمرأة المتعلمة أقدر على تربية أبنائها وتنظيم بيتها وإدارة شؤونها وهكذا، والعلم باب للأخلاق القويمة والدين الصحيح، به يشعر الإنسان بنفسه، وبه يدرك الحياة العالية، وبه ترقى شخصيته.
وواجب على الحكومات إزاء هذا الحق إعداد الوسائل لكل فرد من أفراد الأمة لينال درجة من التربية تؤهله لأن يكون عضوا صالحا في الجمعية يعرف حقوقه وواجباته، ويجب ألا يحول بينها وبين القيام به فقر الأب أو نحو ذلك، وبعبارة أخرى يجب أن يجد كل طفل فقير مكانا يتعلم فيه، وأن يكون التعليم يؤهل الناشئين لأن يفتحوا لهم طريقا في الحياة حسب كفاءتهم وميولهم، ويبعث فيهم الرغبة في أن يعيشوا عيشة أخلاقية صالحة، وعليها إعداد المعلمين الصالحين للقيام بهذه المهمة، وواجب على الأغنياء والجمعيات مساعدة الحكومات في نشر التعليم لنيل هذا الغرض.
وهذا الحق لم تقومه الأمم التقويم الذي يستحقه حتى أعلى الأمم حضارة، وهم يسيرون بجد في سبيل تحقيقه، نعم إن أكثر الأمم الممدنة خطت خطوات واسعة في تسهيل التعليم الأولي وتعميمه وجعله إجباريا، ولكن لا تزال هذه الأمم مقصرة في التعليم العالي، ففيها تجد كثيرا من الراغبين في تتميم علومهم قد سدت الطرق في وجوههم، إما للنفقات التي تفرض عليهم، وإما لاشتراط شروط أخرى لم تتوافر فيهم، والمثل الأعلى للأمة أمة يجد فيها كل فرد وسائل رقيه وتعلمه ممهدة موفورة.
الفصل الثامن
معنى الواجب وأهم الواجبات
(1) معنى الواجب وأقسامه
تستعمل كلمة «الواجب» فيما يقابل «الحق» فما لغيرنا علينا فحق لهم وواجب علينا، وفي هذا المعنى استعملنا الكلمة في الفصل السابق، وكثيرا ما نستعملها ولا نلاحظ فيها مقابلتها للحق. فنقول: «قد أدى الواجب» و«الواجب يقضي بكذا» ولسنا نلاحظ فيها أنها في مقابلة «حق» وإن كان التحليل الدقيق قد يؤدي إلى ذلك.
وقد عرفه بعض الأخلاقيين بأنه العمل الأخلاقي الذي يبعث على الإتيان به الضمير.
وقد اختلف علماء الأخلاق في الطريقة التي يتبعونها في تقسيم الواجب، فمنهم من قسمه إلى: (1)
واجبات شخصية، أعني واجبات على الشخص لنفسه كالنظافة والعفة. (2)
واجبات اجتماعية، أعني واجبات على الشخص لمجتمعه، كالعدل والإحسان. (3)
واجبات إلهية، كالطاعة وأداء العبادات.
وهذا التقسيم غير محدود، فكل واجب يمكن رجوعه إلى أي قسم من هذه الأقسام الثلاثة تبعا لاختلاف النظر، فالنظافة مثلا واجب شخصي من حيث ما يترتب عليها من صحة بدن الإنسان وراحته، واجتماعي إذا لاحظنا أن صحته تؤثر في حالة المجتمع، وإلهي إذا نظرنا إليها من جهة أنها تنفيذ لأمر إلهي.
وقسم آخرون الواجب إلى قسمين: (1)
واجبات محدودة يمكن أن يكلف بها الأشخاص على السواء من غير تنويع، ويمكن أن توضع في قانون الأمة، مثل لا تقتل ولا تسرق، ويمكن أن توضع بجانبها عقوبات لمنتهكها، وهذه يشترك في طلبها القانون والأخلاق. (2)
واجبات غير محدودة، وهذه لا يمكن أن توضع في قانون الأمة، وإذا وضعت سببت ضررا أكبر، ولا يمكن أن يعين المقدار المطلوب منها، كالإحسان فإنه يختلف المقدار الواجب منه باختلاف الزمان والمكان والظروف المحيطة بالشخص.
والقسم الأول يشمل الواجبات الأساسية التي يتوقف عليها بقاء المجتمع وبإهمالها لا يصلح حاله، والقسم الثاني يشمل الواجبات التي عليها رقي المجتمع ورفاهيته، ومن أجل هذا قيل: إن النوع الثاني أرقى من الأول وأعلى منه شأنا، لأن الأول ينفذه القانون والثاني ينفذه الضمير، كالعدل والإحسان، فالعدل من القسم الأول وعليه يتوقف المجتمع، والإحسان من النوع الثاني وهو لا يكون حتى يكون العدل، فالعدل الدعامة والإحسان مشيد فوقه.
1
والواجبات على الناس مختلفة متنوعة، فكل حالة من حالات الحياة تقتضي واجبا معينا، والناس في هذه الدنيا كبحارة السفينة، وكجنود الجيش، لكل عمل وعلى كل واجب، على اختلاف بينهم فيما يجب عليهم، ذلك لأن الناس مختلفون من وجوه عدة: (1)
بحسب الثروة فمنهم غني وفقير وبين ذلك. (2)
وبحسب الرتب فخاصة وعامة. (3)
وبحسب العمل، فمنهم من عمله عقلي كالقاضي والمدرس، ومنهم من عمله يدوى كالنجار والحداد إلى كثير من أمثال ذلك - وهذا ينتج خلافا في الواجبات، فما يجب على حاكم غير ما يجب على أحد الرعية، وما يجب على غني غير ما يجب على فقير. وعلى كل إنسان كائنا ما كان أن يؤدي واجبه. ولا يستصغرن أحد ما يجب عليه. فكثيرا ما تتوقف كبار الواجبات على صغارها، فمثلا لا يصح أن نعد عمل الكناسين في الشوارع والأزقة واجبا تافها حقيرا، فإن عليه تتوقف حياة كثير من الناس وحسن صحتهم، وليس هذا بالأمر الهين، وأن كسر قطعة صغيرة في سفينة قد تؤدي إلى غرقها كما قد يؤدي إلى ذلك فقد سكانها (دفتها) وضياع مسمار صغير في ساعة قد يؤدي إلى وقوفها كضياع «الزمبلك». (2) التضحية لأداء الواجب
على كل إنسان أن يؤدي واجبه، ذلك لأن الإنسان في هذه الحياة لا يعيش لنفسه فحسب، بل يعيش له وللناس، وأداء الواجب يؤدي إلى هذه السعادة، فالتلميذ الذي يؤدي واجبه لأسرته ومدرسته يسعد والديه، والأغنياء بتأديتهم ما عليهم من بناء للمستشفيات وتبرع للجامعات ونحوها يزيدون في سعادة الأمة، وعلى العكس من ذلك السارقون والسكيرون، فإنهم بإهمالهم الواجب عليهم وعدم إطاعتهم قوانين بلادهم يزيدون في شقاء الناس وتعاستهم - ولا يبقى العالم ويرقى إلا بأداء الواجب، ولو أن مجتمعا قصر في أداء كل واجباته أياما لفنى، فلو أن المدينين لم يؤدوا ديونهم، ورفض طلبة المدارس أن يتعلموا، ولم يؤد أفراد الأسرة واجبهم، ورفض كل ذي عمل أن يؤدي عمله لحاق بالمجتمع الفناء العاجل - وبقدر قيام الأفراد بواجبهم يقاس رقي الأمة.
يجب أن نؤدي الواجب لأنه واجب، نؤديه إطاعة لضميرنا، لا طمعا في ربح نناله، ولا رغبة في شهرة نحصلها، إن الذين يفعلون لك الخير لما يرجون منك من الخير تجار يبيعون اليوم ما يقبضون ثمنه غدا - إنما مثلنا الأعلى أن نصل من الرقي إلى حد أن نتلذذ من أداء الواجب ووصول الخير إلى الناس كما نتلذذ من وصول الخير إلينا، ونردد مع أبي العلاء قوله:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
بل مع البارودي قوله:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
أحق بالري لكنى أخو كرم
وكثيرا ما يكلفنا القيام بالواجب مشقات ينبغي أن نتحملها، ويتطلب منا تضحية يلزمنا تقديمها، فالقاضي العادل قد يضطر إلى الحكم على صديقه أو قريبه فيؤلمه ذلك، وقد يحمله حب العدل على إغضاب أفراد أو هيئات مختلفة فيعرض بذلك نفسه لأنواع شتى من الآلام، والجندى يقدم حياته عند الخطر فداء لأمته، ورئيس السفينة إذا عطبت يجب أن يبقى في السفينة حتى ينتقل جميع من فيها إلى قوارب النجاة، وإعلان الإنسان رأيه وتمسكه بمبدئه قد يبعده عن منصب ويحرمه من فائدة، وفي جميع ذلك يجب أن نتحمل التضحية - مهما آلمت - عن رضا وارتياح، ويجب أن نعد مكافأة الضمير فوق كل مكافأة.
ولكن يجب هنا أن ننبه إلى أمرين كثيرا ما يخطئ الناس فيهما:
الأول:
أن التضحية ليست مقصودة لذاتها، ولا يصح أن تكون غرضا يريد الإنسان تحصيله، فهي ليست إلا ألما محضا ينبغي الفرار منه إلا إذا استتبع خيرا، فما يفعله بعض الزهاد - من الإمتناع عن الأكل إلا النزر اليسير، وحرمان النفس من التمتع بما أحله الله، ولبس الخشن من الثياب لا لغرض إلا طلب المثوبة بهذا الشقاء - خطأ لا يرضى عنه عقل ولا دين، وقد عاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من نذر أن يصوم قائما في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس، لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، وليست المشقة نفسها سببا في رضا الله، وإنما رضاه في عمل صالح قد يستلزم المشقة، وليس بصحيح قول الناس: «الثواب على قدر المشقة» إذا أخذ على عمومه، إنما يكون صحيحا إذا كان العمل المقصود عملا خيرا لا يمكن أن ينال إلا بمشقة، فالتضحية ليست خيرا في نفسها، ولكن إذا كان الواجب لا يمكن أداؤه إلا بالتضحية وجبت التضحية.
الثاني:
ليس لأداء أي واجب تقدم أية تضحية، بل لا بد أن يوازن بين الواجب والتضحية، فليس صوابا أن يضحي الإنسان بحياته ليرتاح من ألم أسنانه، ولكن خيرا أن يقلم أشجاره ليزيد ذلك في ثمارها، فمتى كان الخير الذى نناله من العمل يرجح التضحية وجبت التضحية، كالطبيب يهجر نومه ويتعرض للتعب والبرد، لإسعاف مريض وإدخال السرور عليه وعلى أسرته، وكالعالم يهجر راحته ولذته لتأليف كتاب يفيد الناس، أو لاستكشاف يزيد في خيرهم، والجندي يضحي بنفسه لتحيا أمته، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومتى اقتنع الإنسان بخيرية التضحية وجبت عليه، ذلك لأنه عضو من جسم كما بينا، فليس من الحق أن يستأثر باللذائذ ويتمتع بالراحة التامة والناس من حوله ألمون متعبون، كما لا يستأثر عضو بكل الغذاء ويترك سائر الأعضاء تتضور جوعا.
وسير عظماء الرجال مملوءة بالشواهد على التضحية، ولا تكاد تجد عظيما لم يضح كثيرا، إما لنشر مبدأ يخالف فيه الرأي العام أو لانقاذ أمته من ضرر يلحقها، أو لتخليص عقائد دينية مما دخل عليها من التغيير، أو لتحقيق مسألة علمية كثر فيها البحث والجدال، أو لاستكشاف نافع يزيد في سعادة الناس. وهذه التضحية هي التي تكونهم، وهي سر عظمتهم، فإن ما يبذلون في حياتهم من الجهد لتذليل الصعاب التي تعترضهم، وما يتحملونه من العناء للتغلب عليها ينمي ملكاتهم ويعودهم الصبر على المشاق لنيل أغراضهم، أما من يستسلم للنعيم ويخلد إلى الراحة فمحال أن يكون عظيما.
ولنذكر الآن أهم الواجبات: (2-1) الواجبات على الإنسان لله
في العالم قوة خفية تحركه، وتدير شؤونه، هي علة وجوده وبقائه، وهي سر ما نشاهد من نظام دقيق وقوانين لا تتخلف، وظواهر تتتابع بانتظام، نجوم قد دق نظام سيرها
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وفصول تتعاقب بدقة تستخرج العجب، ونباتات وحيوانات جلت حياتها عن الوصف - هذه القوة هي لله رب العالمين.
لهذه القوة نحن مدينون بكل شيء لنا، بحياتنا وبصحتنا وبحواسنا وبكل ملاذ الحياة وصنوف النعيم.
فواجب علينا حبه وإجلاله وشكره، نحبه لأنه مصدر كل خير لنا، وهو الذي يمدنا من قدرته بكل ما لنا من وجود وقدرة، ونحبه لأنه الموجود الكامل الذى لا حد لكماله، ونحبه لأن من طبيعتنا أن نحبه، فكل إنسان على الفطرة يشعر بحنين إلى إله يفزع إليه عند الشدائد، ويتضرع إليه في كشف السوء عنه، ويجد في الإلتجاء إليه سلوة وأسى عند المصائب، ومشجعا على العمل وباعثا على التضحية إذا دعا الواجب.
ومن آثار حبه التعبد بأشكال العبادات المختلفة، فإنها خير ما تكون إذا دعت إليها حرارة الحب وكانت مظهرا من مظاهر الإخلاص لله والطاعة له، وإلا كانت مجرد حركات وصور وأشكال لا روح لها.
وإن من أحسن أنواع الشكر لله الخضوع لقوانين الأخلاق والعمل بما تقتضيه، ذلك لأن الله خلق هذا العالم وجعل سعادته مرتبطة بأشياء من صدق وعدل وأمانة ونحوها، وشقاءه وفناءه في أضدادها، ثم أمر بما يوصل إلى السعادة وسماه خيرا، ونهى عما يجلب الشقاء وسماه شرا، وتلك الأمور التي توصل إلى السعادة هي بعينها قوانين الأخلاق، فمخالفها عاص لأمر الله جاحد لنعمه، ومطيعها مطيع لأمره مؤد لواجبه.
إذا امتلات النفس عقيدة بما قدمنا - من أن قوانين الأخلاق هي أوامر الله - صدرت الأعمال عنها ممزوجة بقوة تجعلها أقوى أثرا وأكثر نفعا، ولذا ترى أن أكثر من اندفعوا لنصرة الحق وتشددوا في التمسك به أو قدموا أنفسهم فداء للفضيلة كانوا ممتلئين عقيدة بالله ووجوب طاعته، ألهبتهم حماسة رغبة في رضاه وشوق إلى لقائه. (2-2) واجب الإنسان نحو نفسه
يجب على الإنسان نحو نفسه أن يكمل ذاته جسميا وعقليا وخلقيا، فهو مكلف أن يرعى هذه الأمور الثلاثة (جسمه وعقله وخلقه) وأن يبلغ بها ما يستطيع من كمال، ولنذكر كلمة نوضح بها ما يجب في كل ناحية من هذه النواحي الثلاث.
الناحية الجسمية:
كان الإنسان أول أمره يعيش عيشة ساذجة، يخرج إلى الجبال أو يتجول في الغابات يجمع ما يقتاته في يومه، ولم يكن إذ ذاك مكلفا بهذه الفروض الكثيرة التي قيدته بها المدنية، فلا زراعة ولا تجارة ولا تخصص في عمل، فلما أرتقى وعاش عيشة المدنية سببت له ضعفا في صحته، لأنه حرم الإقامة طويلا في الهواء الطلق، وعوض عنها عيشته في منازل لاتستوفي شرائطها الصحية، وبالغ في أسباب الترف والرفاهية، واعتاد كثيرا من العبث كالتدخين ونحوه، وأجهد نفسه في العمل رغبة في جمع المال ليسد به المطالب الكثيرة للمدنية، كل هذا ونحوه أثر في صحة المتحضر فكان أضعف جسما وأقل احتمالا للجهد، اعتبر ذلك في الحيوانات، فإن الطيور وأنواع الحيوان التي تغلب عليها الإنسان فحبسها في قفص أو في منزل واستخدمها في شؤونه أسرع إليها الذبول وكانت عرضة لكثير من الأمراض.
إن جسم الإنسان آلة كسائر الآلات يجب لبقائها وقدرتها على أداء العمل أن تغذى الغذاء الصالح لها وأن يعنى بها، يجب للجسم الهواء النقي والغذاء الصالح والرياضة والإعتدال في العمل.
وإن سوء الصحة أكبر تلف يصيب الإنسان، فهو يضعف قدرته على العمل، ويختصر حياته، ويفسد شعوره، وفي كثير من الأحيان يكون ضعف البدن سببا في سوء الخلق وملل العقل وعدم قدرته على الإنتاج.
إن صحة البدن هي أساس كل ما له قيمة في الحياة من مال وحياة ومتاع، ومما يستوجب الأسف أن هذه الصحة لا تقدر تقديرا صحيحا إلا بعد ضياعها أو تعرضها للخطر، وأن كثيرا من الناس لا يراعون قوانين الصحة إلا إذا ألجئوا إلى ذلك بسبب ضعفهم، وكان أسهل أن يقوا أنفسهم من الضعف قبل حصوله.
لا يستطيع الإنسان أن يكون إنسانا كاملا ناجحا في الحياة نجاحا حقا إذا كان مريضا أو ضعيف الجسم، وأقدر الناس على الإنتاج أطولهم عمرا في صحة، نعم إن كثيرا من عظماء الرجال كانوا مرضى، ولكنهم من غير شك كانوا يكونون أكثر إنتاجا وأصح نظرا وأعظم خيرا لأمتهم وللعالم لو كانوا أحسن صحة، ونجاح هؤلاء مع مرضهم دليل على أن قوتهم العقلية أو الخلقية غير عادية حتى استطاعوا أن يأتوا بما أتوا به على الرغم من مرضهم.
مرض البدن أو ضعفه ذو أثر كبير في الخلق، فمن العسير أن يكون إنسان كامل الخلق وهو ممعود أو مكبود أو ضعيف الأعصاب، إنك تراه غالبا ضيق الخلق غضوبا يائسا متبرما بالحياة، وكثيرا ما يسائل نفسه: هل هذه الدنيا تساوي شيئا، وينشد مع أبي العلاء قوله:
تعب كلها الحيا
ة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
فخير إجابة لهذا أن يقال له: أصلح معدتك أو كبدك أو أعصابك تر أن في الدنيا ما يسر، وأن فيها ما يحبب الحياة.
إن تضخما قليلا في بعض غدد المخ يجعل من الصعب على الإنسان أن يعبر عن فكره، وصدمة لموضع من مواضع المخ تجعل الإنسان معتوها، واختمارا في المعدة يحول كل جميل سار في الحياة إلى قبيح مؤلم، وأخذ ملعقة من دواء يزيل هذا الإختمار يحول العالم في نظره إلى ما كان عليه من بهجة وسرور.
كان «كارليل» ممعودا، فقال صديق له مساء يوم مشيرا إلى السماء: ما أجمل هذا المنظر! إنه يبعث الحكمة إلى نفس الإنسان، فأجابه «كارليل»: إنه لا يبعث عندى إلا الأسف والحزن وقال مرة: «إن تسعة أعشار بؤسي وأكثر من تسعة أعشار أخطائي يرجع إلى اضطراب معدتي» ومثل ذلك كثير، مما يدل على ما لحالة البدن من تأثير كبير في العقل والخلق.
إزاء هذا كان واجبا على الإنسان السعي في أن يكون صحيحا وقويا، وذلك بأن يتخير من العادات في أكله وشربه وتنفسه واستحمامه وعمله ما يؤثر أثرا حسنا في صحته، وألا يفرط في غذاء عقله على حساب جسمه.
يقول بعضهم: «من مرض فقد أجرم» وهذا صحيح في كثير من الأحيان، لأن كثيرا من الأمراض يمكن اتقاؤه باعتياد النظافة والإعتدال في المأكل وانتظام المعيشة ونحوها، كما أن كثيرا من الأمراض يمكن الوقوع فيها باعتياد أضدادها.
الناحية العقلية:
يخرج الإنسان إلى هذا العالم جاهلا بكل شيء ثم يتعلم ما استفادته الأجيال قبله بتجاربهم وممارستهم للعالم الذي حولهم، وأمام كل إنسان طائفة كبيرة من الحقائق ينبغي أن يتعلمها.
وأول ما ينبغي أن يتعلمه تمرين حواسه حتى يكون ما تدركه صحيحا، فإن المواد الأولى للمعلومات إنما تأتي من طريق الحواس - السمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحوها - فيجب أن يكون إدراكنا الذي ينشأ عنها صحيحا، ولا يكون ذلك إلا بتمرينها وتعويدها أن تكسبنا المعلومات الحقة من نفسها لا من طريق التلقين - يجب أن يمرن الإنسان حواسه حتى يعرف بالتقريب طول الحجرة إذا نظر إليها، ووزن الشيء إذا وضعه في يده، وكم ميلا مشى، وما منزلة الصوت في القوة والضعف، وأن يكون دقيق الملاحظة فيعتاد إذا نظر إلى شيء ثم غاب عنه أن يعرف أوصافه حتى يستطيع أن يحدثك عنه في جلاء ووضوح - كل هذه الأمور تفيد عقله فائدة كبيرة، لأن كثيرا من الأخطاء العقلية ناشئ من الخطأ في المعلومات الحسية، وهذه ناشئة من إهمال الحواس وعدم تمرينها في مبدأ الحياة.
إن كسب الإنسان معلوماته بنفسه من طريق حواسه أولا ثم من طريق عقله ثانيا خير من معلومات يجمعها من الكتب من غير اختبار شخصي.
ولا يمكن النجاح العلمي إلا بصفات خلقية لا بد من توافرها: (1)
تحمل الصعاب والصبر عليها، فالوصول إلى الحق يحتاج إلى عناء ومكابدة في جمع الحقائق وامتحانها، واستخراج النتائج الصحيحة منها، فمن لم يتسلح بالصبر لا يمكنه أن يكون عالما، وكما قيل: «إن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك» ليس مجرد الحفظ والإستظهار بل ولا مجرد الفهم مما يصح أن يسمى علما، إنما العلم أن تمتحن الحقائق بنفسك وتبحثها لتتبين صحيحها من فاسدها. (2)
حب الحقيقة، فلا نندفع وراء عواطفنا في اعتقاد شيء أو عدم اعتقاده ما لم يثبت لدينا بالبرهان صحته، نتوقف في صدور الحكم إذا كانت البراهين لم تتوافر عليه، لا نخدع بحسن المظهر أو العبارات المنمقة حتى نصل إلى كنه الشيء ونزنه وزنا دقيقا، نلتزم الصدق في العلم فلا نصبغ الحقيقة بميلنا الشخصي ولا بشهواتنا وأهوائنا، ويدعونا حب الحقيقة إلى أن نوسع صدرنا للنقد يصدر على آرائنا وأفكارنا، نشغف بالقراءة فلا يكون كل غرضنا من العلم امتحانا ننجح فيه أو شهادة نحصل عليها، وإنما نقرأ لأن القراءة غذاء عقولنا، ولكن بجانب هذا يجب أن نتعلم كيف نقرأ، قال رسكن: «قد تقرأ كل ما في دار الكتب الإنجليزية ثم تصبح بعد - كما كنت - إنسانا غير متعلم، ولكن إذا أنت قرأت عشر صفحات بإمعان في كتاب جيد كنت إلى درجة ما إنسانا متعلما» وقال آخر: «لا تعمل القراءة أكثر من تزويد العقل بالمعرفة، أما التفكير فهو الذي يجعل ما نقرأ جزءا من أنفسنا، يجب أن ننعم النظر ونطيل الفكر فيما نقرأ، وليس يكفي أن نثقل أنفسنا بالمعلومات الكثيرة نكدسها، فما لم نمضغه ونهضمه لا يغذينا ولا يكسبنا قوة».
الناحية الخلقية:
أهم أسباب الوقوع في الرذائل شيئان: (1)
الأثرة أو التغالي في حب النفس. (2)
الجهل.
فالأثرة نوع من أنواع الضعف متأصل في الإنسان، فكل امرئ يتحزب لنفسه ويفكر فيها أكثر مما يفكر في غيره، ويدعوه ذلك في كثير من الأحيان أن يضحي بمصالح غيره وسعادتهم لمنفعته الشخصية، ذلك هو ما نسميه الأثرة.
حارب المصلحون هذه الأثرة كثيرا ونجحت تعاليمهم، ففرق كبير بين أثرة المتوحشين وأثرة الممدنين، ولكنها لا تزال باقية، ولا يزال الطريق طويلا أمام الناس حتى يستطيعوا أن يعاملوا غيرهم كما يعاملون أنفسهم، ولا تزال هناك عوامل تحيي في النفوس هذه الأثرة كالحرب وتزاحم الناس على وسائل العيش.
وهذه الأثرة أصل كبير من أصول الشر، فلو بحثت عن أكثر ما يرتكب من الجرائم لرأيت أن سببها التغالي في حب النفس، وأن المجرم لم يستطع أن يتصور أن يضع نفسه موضع من أجرم معه، ولو وضع نفسه وغيره في مستو واحد ما استباح لنفسه الإجرام.
والسبب الثاني: الجهل؛ ونعني به الجهل بأن الناس مثلنا، يحسون إحساسنا، ولهم من الحقوق مالنا، وعلينا من الواجبات ما عليهم، فالإنسان يتخيل أن ليس لغيره مثل إحساسه، وأنهم لا يتألمون من الشر كما نتألم، وأن ليس لهم من الحق في الحياة والسعادة ماله، ومن أجل ذلك يتخذهم وسائل لمنفعته الشخصية، وقد حمله على هذا التفكير السيئ السبب الأول وهو الأثرة.
إذا زال هذا الجهل واتسع مجال الفكر وعرف الإنسان حقا أن الناس مثله سواء بسواء في شعورهم وحقوقهم وواجباتهم حقق القواعد الذهبية التي وضعها الأنبياء والمصلحون مثل «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» و«اليد العليا خير من اليد السفلى» وفي ذلك تحقيق المثل الأعلى للأخلاق. •••
مراعاتك جسمك حتى يكون صحيحا قويا، وعقلك حتى يكون صحيحا قويا، وخلقك حتى يكون صحيحا قويا، هو ما يجب عليك نحو نفسك، وهذا وحده السبيل لسعادتك وسعادة أمتك بك. (2-3) واجب الإنسان نحو أسرته
لكل الحيوانات - تقريبا - مأوى تأوى إليه، فللطائر وكره، وللسبع عرينه، وللنحل خلاياه، ويكاد يكون هذا المأوى أعز شيء عندها، فما أسعد الطائر يرفرف بجناحيه يروح ليلا إلى وكره، وما أخوفه إذا اقترب أحد منه فهدد بيضه أو فرخه، وما أضرى السبع إذا قصد أحد عرينه، لا شىء يثير الخوف والغضب عند هذه المخلوقات أكثر من أن يمس بسوء مأواها.
كذلك الإنسان يجب أن يكون بيته أعز بقعة على الأرض عنده، إن علاقة الإنسان ببيته أقوى من علاقة الحيوان بمأواه، ذلك لأن حاجة الحيوان الصغير إلى أبويه قليلة إذا قيست بحاجة الطفل، فصغار الطيور مثلا بعد أسابيع قليلة تقوى وتطير، وتفارق عشها وتستقل بنفسها، وتبني لها عشا خاصا بها، وتضعف علاقتها بآبائها إن كان ثم علاقة. أما الطفل فلا بد له من سنين طويلة حتى يستطيع أن يستقل بنفسه، وإذا استقل فلا تزال العلاقة بينه وبين أسرته قوية متينة، وسبب ذلك أن بناء الإنسان أكثر تركبا، ومطالب الحياة لديه أكثر تعقدا، فهو محتاج إلى زمن أطول حتى يتسلح للكفاح في هذا العالم ويؤدي واجبه.
في هذا البيت يتعلم الطفل أهم دروس الحياة، ولو خرج إلى العالم قبل أن يستكمل تربيته المنزلية لكان متوحشا، فالبيت في الحقيقة هو أكبر ممدن له.
في هذا البيت يتعلم كثيرا من الدروس، فمن حبه لإخوته وأخواته ووالديه يتعلم درس حب الناس وحب الوطن، ومن طاعته لوالديه يتعلم طاعة قوانين البلاد وقوانين الأخلاق.
وإذا كان للبيت من المنزلة ما بينا كان علينا نحوه واجبات نجملها فيما يأتي:
يجب على كل فرد في الأسرة أن يعمل على أن يكون بيته أسعد مكان، فخشونة المعاملة وخشونة القول والإساءة وإثارة الشحناء ونحو ذلك كل هذه إذا كانت خارج البيت رذيلة فهي في البيت أرذل.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الناس يتجملون في أخلاقهم مع أصدقائهم ومن يتعاملون معهم فإذا حلوا في بيتهم تبدلت أخلاقهم إلى قسوة وخشونة وفظاظة وانقلب ذلك الصوت الهادئ المؤدب إلى هجر في القول وسوء في الأدب، والحق أن أدل شيء على الأخلاق الحقيقية هو خلق البيت لا خلق الشارع، فخلق الشارع خلق التصنع، والإختلاف في المعاملة بين أهل بيته ومن في الخارج يدل على أن الخلق الجميل ليس شيئا في نفسه، وإنما هو كالثوب الجميل يلبسه إذا خرج ويخلعه إذا عاد.
كذلك يجب أن نشعر أن منزل الأسرة للأسرة جميعها، فليس من الحق أن يستأثر أحد الأبناء بخير ما فيه، ولا يرعى إلا نفسه، ولا يهتم إلا بما يعود على شخصه.
أول واجب على الأبناء الطاعة للأبوين إلا في أحوال نادرة يأمر فيها الأبوان بالخطأ الواضح.
يجب أن يشعر كل فرد أنه مسئول - بقدر ما يستطيع - عما يحفظ للبيت سعادته ونظامه ونظافته وحسن العلاقة بين أفراده، وإن خطأة يخطئها أحد منهم تهدد سعادة المنزل وتعرضه للشقاء.
ليست الأمة إلا عدة أسرات، وليست المدينة إلا عدة بيوت، والسلوك الذى يسلكه الناشئ في بيته ليس إلا صورة مصغرة لسلوكه بعد في أمته، وإذا كان منبع النهر ملوثا تلوث النهر، فصلاح الأمة وصلاح البلاد دائما هو بصلاح الأسرة. (2-4) واجب الإنسان نحو وطنه (الوطنية)
الوطنية حب الإنسان لبلاده، أرض آبائه وأجداده، وإنما نحب وطننا لما بيننا وبينه من الصلات المتينة، فقد تربينا في جوه وبين قومه، وصرنا منه بمنزلة الفرع من الشجرة، كون هواؤه وتربته أجسامنا، وصارت قوانينه وعرفه عاداتنا، وأصبحت طريقة أهله في مأكلهم وملبسهم وكلامهم طريقتنا، نحن إليه إذا نزحنا عنه، ويهيج أشجاننا إليه ذاكرنا له، ونأنس بقربه، ونعتز بعزته، ونهون بهوانه.
على أن حب الوطنية يكاد يكون طبيعيا في كل إنسان، حتى لنرى بعض الحيوانات تحن إلى أوطانها كما تحن الطيور إلى أوكارها، ولقد ينشأ البدوى في بلد جدب، ومكان قفر، وهو مع ذلك يسعد بوطنه ويقنع به ويفضله على كل مصر «وترى الحضرى يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره»
2
هذا هو السر في أنك ترى البلد تفشو فيه أنواع الحميات، أو يكون مثارا للبراكين من حين إلى حين، أو عرضة لطغيان الماء أو عصف الرياح، ثم لا يبرحه أهله، ولا يعدلون به بلدا سواه «قيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شىء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشى أحدنا ميلا فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى».
ويكون حب الوطن عند أكثر الناس في حالة كمون إلى أن يدهم وطنهم خطر، أو توجد دواع تنبهم، فتتنبه مشاعرهم، ويظهر حبهم لوطنهم بأجلى مظاهره، ويدعوهم للعمل على خدمته، فيبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نصرته، والذود عن مجده وحريته.
مظاهر الوطنية:
يستطيع الإنسان أن يخدم وطنه من طرق عدة: (1)
الدفاع عن البلاد إذا هوجمت أو أريد التعدى على حريتها، وهذه هي وطنية الجنود، وقد ظهر هذا النوع من الوطنية بأجلى مظاهره في الحرب العظمى، فقد بذلت فيها الدماء من كل فريق من المتحاربين بسخاء حفظا على البلاد من التعدي عليها أو على حريتها. (2)
وقف الحياة على خدمة الوطن، وهذه وطنية السياسيين والمصلحين، فالسياسيون يديرون دفة البلاد نحو ما يرقيها ويعلي شأنها، ويقودون الرأي العام إلى ما فيه مصلحة الوطن، فإن رأوا رأيا لم يرضه عامة الناس عملوا ما يرونه حقا، ولم يثنهم من عزمهم تهمة يتهمون بها ولا نقد يوجه إليهم، يفضلون عمل الحق ولو أهينوا على عمل خطأ يرضي الجمهور وإن كرموا، عمادهم إخلاصهم ومرشدهم وجدانهم، وأما المصلحون فإنهم يرون موضوع الداء فيعالجونه، وكثيرا ما يحدث أن الداء يتأصل فيها حتى تألفه وتظنه السلامة، فإذا دعاها المصلح إلى العمل على الخلاص منه قامت في وجهه وعارضته وحسبته خارجا عليها، كما قال الله تعالى:
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
ولكن المصلح يزيده الإضطهاد تمسكا برأيه ودفاعا عنه، ولا يزال الناس يلتفون حول رأيه شيئا فشيئا حتى يصبح المذهب المقرر والرأي السائد، ويعجب الناس إذا نظروا إلى ماضيهم كيف كانوا يعتنقون هذا المذهب الفاسد، وكيف لم يدركوا فساده بمجرد الدعوة إليه. (3)
أداء الواجب: وهذه وطنية الناس كلهم، فأداء كل واجبه اليومي في عمله وفي بيته ومع أولاده وأصحابه ومن يعاملونه وانتخابه خير الناس إذا انتخب، ومساعدته المشروعات النافعة بماله وعمله وجاهه.. كل هذه وطنية صادقة صحيحة ترفع شأن الوطن وتعلي مكانته. (4)
تشجيع المصنوعات الوطنية والحاصلات البلدية وتفضيلها على غيرها ما أمكن، كما أن وطنية الصانع والمنتج تقضي عليهما أن يبذلا الجهد لجعل المصنوع والمنتج في حالة لا تقل عن أمثالها مما يرد من الخارج، وعلى الحكومة مساعدة ما تنتجه البلاد نفسها بما تضع من نظام الضرائب ونحوهما، وإن الأمة إذا ساعدت المصنوعات والحاصلات البلدية تكون قد ساعدت على حفظ الثروة في بلادها وجعلتها تنتقل من يدها إلى يدها الأخرى.
وبعد، فكل إنسان يستطيع بعمله ولو حقيرا أن يخدم وطنه، وليست خدمة الوطن مقصورة على العظماء، بل إن العظماء لا يكون لهم أثر كبير ما لم تؤيدهم الأمة، فالقائد الكبير إنما فخره نتيجة عمله وعمل الجنود الصغار، بل وعمل من صنع للجنود نعالهم وملابسهم ونحو ذلك، والسياسي العظيم لا يصل إلى غرضه إلا بمعونة كتاب يعينونه في فروع من العمل مختلفة، وأفراد يبذلون ما يحتاج إليه من المال وهكذا، الأمة كالساعة، كل آلة لها عمل، ولا بد من أداء كل آلة عملها لينتظم سيرها، وإن كان يختلف عمل الآلات أهمية، وسير هذه الآلات وانتظامها لا تقع عليه العين عادة، وإنما مظهر هذا الانتظام سير العقارب، فإذا دلت على الأوقات بالضبط دلنا ذلك على أداء كل آلة وظيفتها وإلا لا، كذلك الحوادث العظيمة في الأمة والنجاح الكبير لها مظهره عظماء الرجال والمصلحون، ولكن ما كان يتم ذلك في الحقيقة لولا أعمال آلاف من الناس لم يعرفهم التاريخ، فهؤلاء الآلاف منزلتهم منزلة آلات الساعة الخفية، والعظماء بمنزلة عقربي الساعة هما مظهران لأعمال عدة دقيقة، غير أن الشأن في الساعة أنه إذا تعطلت آلة منها وقفت الساعة جميعا أما في الأمة فإذا تعطل أحد أفرادها عن السير حملت الأمة عبأه وسارت، فالجندي في الجيش إذا خر صريعا سار الجيش وتحمل عبء الجندي، وكان الأولى للجيش ألا يخر أحد منه صريعا، وأن يحمل كل واحد عبأه فقط.
فالفلاح في زرعه الأرض وعنايته بالبقر والغنم، والنجار في صناعته، والتاجر ببيعه وشرائه، والجندى بمحاربته، والكناس في الشوارع يكنس الأقذار، والأم تربي بنيها وتعني بالبيت وشؤونه والخادم بخدمتها، والأطباء بمحاربتهم الأمراض ومعالجتهم المرضى، ورجال الحريق بإطفائهم النار، ورجال العلم الذين ينشرون العلم ويحاربون الجهل، ورجال السياسة الذين ينصرون الحق ويخذلون الباطل بأقوالهم وأعمالهم، والشعراء والموسيقيون وجميع رجال الفن الذين يمدون الحياة بالسعادة، ويشعرون الناس بالجمال، كل هؤلاء يخدمون وطنهم بعملهم، وكل هذه الأعمال لا بد منها لسير الأمة إلى الأمام، وكل هؤلاء إذا أدوا أعمالهم باتقان ولم يراعوا فيها مصلحتهم الشخصية فحسب بل راعوا فيها خيرهم وخير الناس فهم وطنيون صادقون يفخر الوطن بهم، ويشرف بعملهم. (2-5) واجب الإنسان نحو الإنسانية عامة
النوع الإنساني مؤلف من أمم وقبائل مختلفة لكل منها ميزات وخصائص، وهى مع كثرتها جسما واحدا، كل أمة وكل قبيلة عضو من أعضائه، يستفيد كل عضو من سلامة باقي الأعضاء ويتضرر بما يصيبها، فالحي في المدينة إذا كان قذرا غير صحي هدد جميع أجزاء المدينة بالخطر، وانتشار الوباء في جزء من مملكة يعرض المملكة جميعها للضرر، والمخترع يخترع آلة جديدة فيستفيد من اختراعها عدد كثير، والعالم يستكشف حقيقة علمية فيشترك في الإستفادة منها سائر العلماء في أنحاء الأرض، والأمة تجني جناية كأن تشهر حربا فيتضرر العالم كله منها ضررا بليغا، وهكذا.
يجب أن يشعر الفرد أنه عضو في الهيئة الإنسانية، يحب الخير للناس جميعا من أي جنس كانوا ، وبأية لغة تكلموا، وفي أى صقع سكنوا، ويشعر نفسه بالشفقة والرحمة على البائسين أيا كانوا، ليس النوع الإنساني إلا أسرة كبيرة تقوم الأمم فيها والقبائل مقام الأفراد في الأسرة، فيجب أن يكونوا جميعا متعاونين على ترقية نوعهم وتحقيق الخير للإنسانية عامة.
إن الإنسانية مصابة بمواضع ضعف كثيرة، فكثير من بقاع الأرض حرمت ضروريات الحياة، يعيش أهلها عيشة بؤس وشقاء، تفتك بهم الأمراض وتكتسحهم الأوبئة، ويفسد حياتهم الجهل، واجب علينا إزاء هؤلاء أن نرقيهم ما استطعنا وأن نرسل إليهم أشعة النور والعلم ونمدهم بوسائل العيش، كذلك تحدث كل يوم كوارث مزعجة، فإصابة عمال، وحوادث اصطدام، وغرق وحريق، ونكبات زلزال، وثوران بركان، ونحو ذلك من مصائب الحياة، فالإنسانية توجب إعانة هؤلاء المنكوبين بكل الوسائل، كالذي ترى من جمعيات الإسعاف والهلال الأحمر والصليب الأحمر والجمعيات الخيرية، كل هذه تحتاج إلى مال ينفق منه على أغراضها ومساعدات تقدم لها.
كثير من المرضى حرموا وسائل العلاج، فقر مدقع، وبيوت قذرة، ومعيشة تعين المرض على الفتك، فهؤلاء لا بد لهم من مستشفيات تنفسح لهم، وأطباء يتولون علاجهم، وهذه لا بد لها من مال ورجال.
آباء مجرمون حكم عليهم بالسجن فحرم أولادهم العائل الذى يعولهم، أو تجار أفلسوا أو قعد بهم المرض عن مواصلة السعي فحرمت أسرهم ما يقيم أودهم، وأفراد نكبوا بعمى أو صمم أو عاهة جعلتهم من العاطلين لا يجدون ما يأكلون، كل هؤلاء وهؤلاء لا بد أن ترحمهم الإنسانية فتزيل كربهم، وتأخذ بيدهم، بإنشاء المعاهد والمستشفيات وجميع المرافق، يجب أن يتساند القادرون لحمل العبء عمن ضعفوا عن مواصلة السير في الحياة، وتخفيف ويلاتهم، ولذلك وسائل كثيرة كالإشتراك في الجمعيات التي أشرنا إليها قبل، والإحسان إلى البائسين ونحو ذلك من ضروب الخير. •••
قد كانت أخلاق الناس الأولين قبلية،
3
لا يرون الخير إلا ما فيه نفع قبيلتهم، وليس عليهم حرج في أن يسلبوا مال غيرهم، ويستبيحوا دماءهم، فما يرتكب نحو قبيلة غير قبيلتهم لا يعد جريمة، وإنما الجريمة أن يتعدى أحد أفراد القبيلة على مثله، وليس للفضيلة ولا الرذيلة قيمة ذاتية أو نظر لنتائجها عامة إنما هي فضيلة أو رذيلة تبعا لمن تقع عليهم، وفي بعض القبائل إلى الآن من يعاقب بالموت من يسرق من قبيلته، ويكافئ ويشجع من يسرق من غيرها، وكثير من السائحين والمستكشفين يقتلون أو يعذبون إذا وقعوا في أيدي هذه القبائل، ولا يشعر القاتلون بحرج من ذلك لأنهم لا يرون قتلهم إثما، فلما ارتقي الناس قليلا اتسع نظرهم وكانت أحكامهم الأخلاقية أقرب إلى الصواب، فكانوا ينظرون إلى الأمة المكونة من جملة قبائل كأنها جسم واحد، ولكنهم كانوا ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة العداء كما كان الشأن عند اليونان قديما، كان العالم الإنساني عندهم ينقسم إلى قسمين: يونانيين ومتوحشين، يعتقدون في جبلهم (أوليمبوس) الذي لا يبلغ ارتفاعه إلا 9700 قدم أنه أعلى جبل على وجه الأرض، وأنه مسكن الآلهة، ويستبيحون الإسترقاق من غيرهم، حتى أن أرسطو كان يقول: «إن الأرقاء حيوانات مستأنسة لها عقل» ولهذا النظر لم يكن اليونان يعدلون في غيرهم.
ارتقى الناس فيما بعد فكانوا في حكمهم بالخيرية والشرية والحسن والقبح أوسع نظرا، تبودلت التجارات بين الأمم، وحسنت الصلات، ووجدت القوانين الدولية، والأخلاق الدولية، ولم ينظر الفرد من أمة إلى الفرد من أمة أخرى نظرة العدو لعدوه، وإن كانت لا تزال عند الأمم وفي النفوس بقية موروثة من آبائنا المتوحشين، ومن أفظع هذه الآثار الحروب بين الأمم، والناس سائرون إلى الكمال، وستتغلب حتما فكرة الإنسانية فينظر الإنسان إلى الإنسان من أى جنس كان كأنه أخوه، لا يظلمه ولا يخونه، يعدل معه كما يعدل مع أفراد أسرته، وسيضمحل النظر الشخصي أو الجنسى خضوعا لسنة النشوء والإرتقاء، ويحل محله النظر العالمي، فينظر كل فرد إلى النوع الإنساني كأنه جسم واحد، يعمل على ترقيته، وتتعاون الأمم وتتبادل المنافع، وترمي كلها إلى غرض واحد هو كمال النوع.
وهذا النظر لا يتنافى مع الوطنية، فكما أن الفرد في الأسرة يعمل لخيره وخير أسرته كذلك الفرد في الأسرة الكبيرة - وهي الجنس البشري - يعمل لخير وطنه وخير الإنسانية.
الفصل التاسع
المثل الأعلى
(1) معنى المثل الأعلى
قبل أن نشرع في بناء بيت يضع المهندس له رسما، وقبل أن يضع هذا الرسم كانت في ذهنه صورة كاملة للبيت يستملي منها صورته التي يرسمها. وكذلك الشأن في واضع الرواية، قبل أن يخرجها إلى الوجود كانت مرسومة في ذهنه، وكل إنسان يجب أن تكون عنده صورة كاملة لما يود أن تكون عليه حياته المستقبلة، وكثيرا ما يسائل الإنسان نفسه: ماذا أكون؟ ما الذي أطمح أن أكونه في مستقبل حياتي؟ ما الإنسان الكامل الذي أسعى لأن أتمثله يوما ما؟ فالصورة التي في ذهننا نود تحقيقها ونستملي منها لنجيب على هذه الأسئلة تسمى في عرف الكتاب الحديثين «المثل الأعلى».
وهو يميز الإنسان عن غيره من الحيوان، فإنا نرى الحيوانات تعيش على نمط واحد، ليست في رقي مستمر، فمعيشة القط قديما هي معيشته اليوم، وكان النحل يبني خلاياه على أشكال سداسية كما يبنيها الآن، أما الإنسان فدائم الرقي، هو اليوم غيره في القرن الماضي بل غيره بالأمس، لأن أمامه «مثلا أعلى» يجد في الوصول إليه، وكلما قرب منه سبقه المثل.
ويجب أن يكون لكل إنسان «مثل أعلى» يسعى لتحقيقه ويوجه أعماله للوصول إليه، ذلك لأن الإنسان في هذه الحياة كقائد السفينة في البحر المتلاطم الأمواج، لا يمكنه أن يصل إلى المرفأ حتى يعرف أين المرفأ، ويرسم خطة للوصول إليه، وإلا تنكب، وكانت سفينته عرضة للارتطام، وكذلك يحيط بالإنسان قوى مختلفة: شهوات تتجاذبه، وصعوبات تعترضه، ومؤثرات متباينة، فإن لم يحدد غرضه ويعين مثله الأعلى تقسمته هذه القوى واضطربت مسالكه.
وللمثل الأعلى تأثير في النفوس، فهو دائم الشخوص أمام نظر الإنسان يجذبه نحوه ويدعوه لأن يحققه. وإن أعمال الإنسان وطريقته في الحياة تدل على مثله الأعلى «ما هو»، وكل المؤثرات في الأخلاق من بيئة ومنزل وتعليم إنما تصلح الإنسان بواسطة إصلاح المثل الأعلى، أما المؤثر الوحيد مباشرة فهو ذلك «المثل». (2) اختلاف المثل الأعلى
تختلف المثل العليا عند الناس اختلافا يكاد يكون بعدد رءوسهم، فهذا مثله الأعلى رجل غني متمتع بكل ملذات الحياة، وذلك مثله إنسان كامل العقل، قد تفوق في العلوم وتضلع من المعارف، وآخر مثله وطني يدافع عن حقوق وطنه ويرفع مستوى أمته، كذلك يختلف سذاجة وتركبا فقد يكون مثل شخص صورة ساذجة رسمها مما يسمعه من والديه، وقد يكون مثل آخر صورة مركبة قد رسمها بعد أن بحث في الأخلاق بحثا علميا، وعرف الفضائل ورتبها حسب ما صح عنده من مقياس الخير والشر.
والإنسان الواحد يختلف مثله من حين لآخر، والأمة الواحدة تختلف مثلها كلما تدرجت في معارج الرقي، وليست الصعوبة أن يجد الإنسان أو الأمة مثلا أعلى، فالمثل كثيرة لا عداد لها، وإنما الصعوبة اختيار أحسنها وأنسبها.
وليس في وسع الأخلاقي ولا الفيلسوف أن يرسم مثلا أعلى دقيقا يوافق كل إنسان وكل أمة، فالمثل الذي يتفق مع غرائز إنسان ودرجة عقله من الرقي والبيئة التي تحيط به ربما لا يوافق الآخر، لاختلافه فيما ذكرنا، اللهم إلا إذا رسم الأخلاقي أو الفيلسوف صورة عامة اقتصر في رسمها على ما يوافق سواد الناس، كالخياط يعمل ثوبا واسعا يصح أن يلبسه كثيرون مع تعديل بسيط.
وكل الذي نستطيع أن نقوله: إنه ينبغي أن يكون المثل الأعلى للشخص صورة كاملة تمثل خير إنسان يستطيع الشخص أن يكونه في كل شأن من شؤون حياته، ففي عمله مثله أن يكون أحسن ما يستطيع: من جد وأمانة وإتقان ومهارة، وفي سياسته لنفسه مثله أن يكون ضابطا لنفسه، يعمل بإرشاد عقله، وفي معاملته للناس مثله أن يعاملهم كما يحب أن يعامل، وأن يحب الخير لهم كما يحبه لنفسه. (3) مم يتكون المثل الأعلى
أهم عامل في تكون المثل المنزل والمدرسة والدين، فتربية الناشئ المنزلية، وما يسمعه من أبويه، والنظام الذي يسير عليه بيته وما يراه في المدرسة، وما يسمعه من مدرسيه، وما يلزمونه بقراءته من الكتب، وما يحببونه إليه من عظماء الرجال، والدين الذي يتدين به، وما يحويه من نظام، وما يرسمه من شكل الحياة الأخرى، كل ذلك له أكبر الأثر في تكوين المثل الأعلى، وكذلك غرائز الإنسان الطبيعية لها أثر كبير في انتخاب الصورة التي تتخذ مثلا، فالميول الموروثة من شجاعة وهمة أو جبن وخمول تعين على تحديد المثل الأعلى، وهى عامل قوي في تكوينه. (4) نمو المثل الأعلى (رقيه وانحطاطه)
يكاد يكون لكل إنسان مثل أعلى ولكن لا يشعر به من أين أتاه، وسبب ذلك أن المثل يتكون مع الإنسان في نشأته وينمو بنموه، فلم يكن شيئا جديدا منفصلا عنه حتى يشعر به، ويعرف متى أتاه، ومن أين جاءه، يتكون المثل جرثومة في أثناء التربية المنزلية، ويكون لما يسمعه من القصص - ولو خرافية - دخل في تكوينة، ثم يتوارد عليه التغير كلما وجد مؤثر جديد، من رواية يقرؤها أو حكاية يسمعها أو تمجيد لعمل عظيم، أو ذم لعمل حقير، وإن في طبيعة الناشئين في أول حياتهم ميلا إلى سماع قصص الأبطال وكبار الأعمال وعجائب الحوادث، وذلك - ولا شك - مما يساعد على تنمية المثل عندهم، فإذا خرج الشاب إلى معترك الحياة كان لتجاربه في عمله، وتبادل الأخذ والعطاء مع الناس ما يحدد غايته في الحياة وينير أمله ويوضح مثله، وباتساع نظر الإنسان في الحياة وكبر عقله، يكمل المثل وتتم أجزاؤه.
وكما أن المثل عرضة للكمال والإتساع كما بينا كذلك هو عرضة للنقص والضيق، فالعمال الذين يقضون حياتهم في عمل يدوي محدود، ثم لا يصادفون بعد قضاء نهارهم ما يفيد عقلهم، أو يوسع نظرهم، يضيق مثلهم، ويتحدد أملهم، وذلك شأن طائفة كبيرة من العمال وكتبة الدواوين الذين لا يؤدون في الحياة غير عملهم الآلي، فلا يرقون مداركهم، ولا يوسعون أنظارهم، وحياتهم ليست إلا يوما واحدا متكررا.
وفي ضيق المثل خطر عظيم، فالمثل هو الذى يبعث في الإنسان روح العمل، ويزيد في نشاطه وقوته، وهو الذى يصحح حكمه على الأشياء، فالإنسان عادة عند الحكم على شىء أو نقده يقيسه بمثله، ثم يحكم بالخطأ أو الصواب، وبالخير أو الشر، فإذا تحدد المثل وضاق قل نشاطه وساء حكمه، وعلى العكس من ذلك إذا ترقى مثله.
الفصل العاشر
الفضيلة
(1) معنى الفضيلة
الفضيلة هي الخلق الطيب، والخلق هو «عادة الإرادة» فإذا اعتادت الإرادة شيئا طيبا سميت هذه الصفة فضيلة، والإنسان الفاضل هو ذو الخلق الطيب الذي اعتاد أن يختار أن يعمل وفق ما تأمر به الأخلاق، وبذلك يكون الفرق بين الفضيلة والواجب واضحا، فالفضيلة صفة نفسية، والواجب عمل خارجي، وعلى هذا يقال: فلان أدى الواجب ولا يقال: أدى الفضيلة بل حاز الفضيلة.
وقد تطلق الفضيلة على العمل نفسه فيقال: «فضائل الأعمال» وليس يعنى بها كل عمل أخلاقي بل الأعمال العظيمة التي يستحق فاعلها الثناء الجزيل، فلا نسمي دفع ثمن ما اشترى فضيلة، إنما يسمى الإتيان بالعمل الكبير مع تحمل المشاق في سبيله فضيلة، ويشهد لهذا المعنى اشتقاق الكلمة نفسها، فإنها مأخوذة من الفضل وهو الزيادة، وعلى هذا المعنى تكون «الفضيلة» أخص من «الواجب». (2) اختلاف الفضائل
تختلف قيمة الفضائل في الأمم اختلافا كبيرا، فلو أنا وضعنا لأمة قائمة تتضمن الفضائل مرتبة حسب أهميتها لها لوجدناها تخالف ما يجب أن يوضع لأمة أخرى، ذلك لأن ترتيب الفضائل في كل أمة يجب أن يتبع مركزها الإجتماعي وظروفها المحيطة بها، وما يفشو فيها من أمراض أخلاقية، وما اعتورها من أشكال حكومات ونحو ذلك، فترتيب الفضائل في الأمة المحكومة غيره في الأمة الحاكمة، وفي الأمة الآخذة بحظ وافر من المدنية غيره في الأمة البدوية، وفي الأمة البحرية غيره في الأمة ساكنة الصحراء وهكذا، فالأمة المهددة بالحروب ترى الشجاعة أهم فضيلة، والأمة الآمنة المطمئنة ترى العدل خير فضيلة، والأمة التي تحيا على الصناعة ترى الأمانة والإستقامة عماد الفضائل، وهكذا.
ويختلف أيضا مفهوم الفضيلة الواحدة باختلاف العصور، فما كان يفهم من الشجاعة عند اليونان غير ما يفهم منه في العصور الحديثة، قد كادوا لا يفهمون منها إلا الصبر على تحمل الآلام الجسمية، واليوم نفهم منها ما هو أعم من ذلك، حتى إنها تشمل تعبير الإنسان عن رأيه من غير خشية لمن حوله، والعدل تطور مفهومة تطورات عدة حسب تطور الأمم في حالتها العقلية والإجتماعية، والإحسان إلى الفرد بالتصدق عليه قد كان يعد من أهم الفضائل في القرون الوسطى حتى وضع موضع النقد في العصور الحديثة، واعترض عليه بأنه لا يميز فيه بين المستحق للإحسان وغير المستحق تمييزا يوثق به، وبأنه يشل المحسن إليهم، ويقعد بهم عن العمل ويميت ما في نفوسهم من شرف وإباء، واستحسن المحدثون إنشاء جمعيات للإحسان تحسن إليها الأفراد وهي التي تتولى الإنفاق على المعوزين بعد أن تدرس حالتهم وتعرف فقرهم، ولا تكتفي هذه الجمعيات بإعطاء المال إلى المحتاجين، بل توجد عملا لمن لا عمل له، وتنقذ أولاد البائسين من آبائهم حتى لا ينشئوا نشأتهم. ولا يصابوا بمرضهم، فتنشئ المدراس الصناعية، وتعلمهم علما عمليا يكتسبون منه أقواتهم، وقد اهتم كثير من الأمم الممدنة بإنشاء هذه الجمعيات، وحرمت إحسان الفرد للفرد، وحضت على إحسان الفرد للجمعيات.
وهكذا الشأن في كثير من الفضائل، قد هذبها رقي العقل وتقدم المدنية.
كذلك تختلف قيمة الفضائل باختلاف حالة الأفراد وأعمالهم، ففضيلة الكرم بالنسبة للفقير ليست من الأهمية بالدرجة التي لها بالنسبة للغني، ولا الفضائل التي في الدرجة الأولى للمسن هي بعينها الفضائل التي في الدرجة الأولى للشاب، ولا فضائل المرأة مرتبة ترتيب فضائل الرجل، ولا فضائل التاجر هي نفسها فضائل العالم وهكذا. ومن الصعب على الأخلاقي التعمق في التفصيلات، وبيان الإختلافات الدقيقة بين الأشخاص التي يترتب عليها اختلاف في قيمة الفضائل.
وكل الذي نستطيع أن نقوله إن الناس جميعا - مهما اختلفوا - مطالبون بفضائل عامة من صدق وعدل ونحوهما يجب أن يتصفوا بها، وأنهم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم يستوون في شيء واحد، وهو أن كلا منهم مطالب أن يضع في الدرجة الأولى من الأخلاق ما يناسب حالته ويتفق مع مركزه الإجتماعي وعمله الذى يؤديه، وإن اختلف تطبيق ذلك. (3) أقسام الفضيلة
بعض الفضائل يمكن أن تدخل في فضائل أشمل منها، كالأمانة، فإنها تدخل في مفهوم العدل. وكالقناعة فإنها تدخل تحت العفة، وبعض الفضائل يكون مولدا من فضيلتين أو أكثر، كالصبر فإنه ينتج من العفة والشجاعة، وكالحذر، من العفة والحكمة، فما أصول الفضائل التي هي أساس لغيرها؟
قد ذهب «سقراط»
1
إلى أنه «لا فضيلة إلا المعرفة» يرى بذلك أن معرفة الإنسان الخير والشر تكفي وحدها لعمل الخير وتجنب الشر، وإقدام الإنسان على الشر ليس له من سبب إلا الجهل بنتائجه، ألا ترى الإنسان إذا رأى سبعا ضاريا لا يقدم على عرينه، وإذا رأى هوة سحيقة لا يتردى فيها وهكذا، فلو علم الإنسان نتائج الشر علما جازما صحيحا لم يقدم عليه، فكل الشرور ناشئة من الجهل، ولو علم المرء أين الخير لعمله حتما، وعلل ذلك بأن كل إنسان بطبيعته يقصد الخير لنفسه ويكره لها الشر، فمحال أن يفعل ما يضرها وهو عالم بضرره، فما يصدر عن إنسان من الخطأ إنما منشؤه الجهل بما يعقب العمل من نتائج أو الشك فيها، وعلاج الشرير أن يعلم نتائج الأعمال السيئة التي تصدر عنه علما صحيحا، ولتعويد إنسان الخير وجعله مصدرا للفضيلة يعلم نتائج الأعمال الحسنة.
وهذا خطأ واضح فكثيرا ما نعلم الخير ونتجنبه، ونعلم الشر ونأتيه، فمعرفة الخير ليست كافية في الحمل على فعله، بل لا بد أن ينضم إليها إرادة قوية حتى يعمل على وفق ما علم.
وعلى رأي «سقراط» ليست هناك في الحقيقة إلا فضيلة واحدة وهي «المعرفة» وإن شئت فسمها «الحكمة»، وليس غيرها من الفضائل كالشجاعة والعفة والعدل إلا مظهرا من مظاهرها وصادرا عنها.
ورأى «أفلاطون»
2
أن في الإنسان قوى ثلاثا إذا اعتدلت نشأت عنها الفضائل، وهذه القوى هي: القوة العاقلة، وهذه إذا إعتدلت نشأ عنها فضيلة الحكمة، والقوة الغضبية، وهي إذا إعتدلت نشأ عنها الشجاعة، والقوة الشهوية أو البهيمية وهي إذا إعتدلت نشأ عنها العفة وهذه الفضائل الثلاث باعتدالها جميعا ينشأ عنها العدل، فالعدل تتصف به النفس عند أداء هذه القوى الثلاث وظائفها باعتدال، وعندما تكون متساندة بحيث تتعاون كل قوة مع أخرى. فأصول الفضائل عنده أربعة: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
أما «أرسطو»
3
فكان يذهب إلى أن أساس الفضائل «خضوع الشهوات لحكم العقل» وبعبارة أخرى «تسليم زمام الشهوات للعقل يقودها» وهناك طرفان ينبغي تجنبهما، الطرف الأول محاولة استئصال الشهوات ، والطرف الثاني إرخاء العنان لها والإنهماك فيها، إنما الفضيلة الإعتدال، فلا يطغى أحدهما على الآخر.
وقد جر هذا القول «أرسطو» إلى وضع «نظرية الأوساط» أى أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، الإفراط والتفريط، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الشرف والبخل، والعفة بين الفجور والخمود إلخ. وهناك فضائل لم تضع اللغة أسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي أن الفضيلة في هذه الحالة أيضا وسط بين رذيلتين.
وقد اعترض على هذه النظرية بأن هناك كثيرا من الفضائل لا يظهر فيها أنها وسط بين رذيلتين كالصدق والعدل، فليس هناك إلا صدق وكذب، وظلم وعدل.
وبأن بعض الفضائل ليس وسط الرذيلتين، فإن الشجاعة ليست على بعدين متساويين من التهور والجبن، بل هي أقرب إلى التهور، وكذلك الكرم أقرب إلى الإسراف منه إلى البخل.
واتبع بعض المحدثين طريقة أخرى في تقسيم الفضائل، فقالوا: إن الفضائل إما فضائل شخصية، كضبط النفس وتهذيبها، وإما فضائل اجتماعية كالعدل، فالفضائل الشخصية هي الفضائل التي تنظم حياة الفرد، وتجعل ملكاته وقواه في حالة تعادل ورقي، وأما الفضائل الإجتماعية فهي الفضائل التي تجعل الإنسان في وفاق مع من حوله من الناس وترقي شؤونهم، نعم إن النوعين من الفضائل يتوقف كل منهما على الآخر، فإنه إذا انعدمت الفضائل الشخصية لا يمكن تحصيل الخير للمجتمع، ولا سيره في طريق رقيه، ولا إيصال الحقوق للناس، وإذا انعدمت الفضائل الإجتماعية ساءت أخلاق الفرد، ولم يستطع أن يرقي نفسه ترقية تامة، ولكن يمكن التمييز بين النوعين بسهولة. (4) طرق غرس الفضائل
للفضائل وسائل مختلفة تعين على غرسها، نذكر هنا أهما: (1)
فأول ذلك تكوين العادات الصالحة في الطفل منذ صغره، وذلك عمل الآباء في بيوتهم، والمدرسين في المدارس، وخصوصا المدارس الأولى، فهم بإلزامهم الطفل أن يكرر عملا صالحا يصبح عادة له، كتعويده النظافة وقول الصدق والطاعة ونحو ذلك، وإذا تأصلت هذه العادات أصبح لها من السلطان عليه ما يقرب من الطبيعة التي خلق عليها الإنسان، ولذلك قالوا: «العادة طبيعة ثانية» وبعد أن ينشأ الناشئ وينمو عقله يصبح تكوين العادات الصالحة موكولا إليه هو، وهو المكلف بها والمسئول عنها، فإذا عني بنا آباؤنا ومربونا في صغرنا، وعنينا بأنفسنا في شبابنا بتكوين العادات الصالحة عنيت هذه العادات بنا في بقية حياتنا، وجنينا من ورائها ربحا عظيما، فنحن كالمصور يعمل صورة من جبس لين لا يلبث بعد أن يتصلب، فإن اعتنى بالصورة وجملها كانت - مدة بقائها - زينة تسر الناظرين، وإن لم يعن بها وخرجت مشوهة جمدت على شكلها وكانت غصة للرائين.
والإنسان يكاد يكون مجموع عادات تمشي على الأرض، فطريقته في معيشته تعتمد على عاداته، بل هو سعيد أو شقي بالعادة، أمين أو خائن بالعادة، شجاع أو جبان بالعادة، فإذا عني بنا في صغرنا ربحنا كثيرا في حياتنا. (2)
ومما يعين على غرس الفضائل «القدوة الصالحة»، لأنها تثير الشعور، وتحي الضمير، وتكون القدوة بأمور: (أ)
الصداقة، فالإنسان يقترب جد القرب من أخلاق من يصادق، وكما قال بعضهم: «خبرني من تصادق أخبرك من أنت» وتقليد الصديق لصديقه ظاهر في نواح مختلفة - في القول - فنحن نبدأ نتكلم بالألفاظ التي يتكلم بها الصديق، فإذا كانت سيئة بذيئة شعرنا في أول الأمر بكراهيتها والإشمئزاز منها، ثم نتعود سماعها بتكررها على آذاننا، ولا نشعر بما كنا نشعر به من اشمئزاز، ثم لا نلبث أن ننطق بها كما ينطق صديقنا، كذلك - في الفعل - فنحن نعمل أعمال أصدقائنا بحكم ما فينا من ميل إلى التقليد، ننسخها كما ننسخ صفحة أمامنا، بل نحن نقلد أصدقاءنا في كثير من أعمالهم من غير شعورنا، فالكلمات التي نسمعها منهم والأعمال التي تصدر عنهم تحفظ في أذهاننا، ثم تبعثنا على العمل على وفقها ولو لم نتعمد ذلك.
والصديق يؤثر في صديقه خيرا كان أو شرا، فالصديق السيئ ينضح أفكارا سيئة وأقوالا سيئة وذوقا سيئا يتشربها صديقه، والصديق الصالح ينضح أفكارا صالحة وأقوالا نقية وذوقا طاهرا يتأثر بها صديقه.
كل هذا يوجب علينا أن نعني كل العناية بتخير الأصدقاء، وأن نفر من الصديق السيئ كما نفر من المحموم خشية العدوى، ونعده خطرا يتهدد أخلاقنا، نهرب من مجلسه، ونهرب من سماع قوله، ونهرب من رؤية عمله، لأن الشر الذى يصدر منه يعلق بنا. (ب)
كذلك، من القدوة الصالحة التي تعين على الفضيلة سير الأبطال ورجال الأخلاق، فالقراءة في كتب تراجم العظماء وقصصهم وأعمالهم في حياتهم يودع في أذهاننا ذخيرة نقلدها في أعمالنا، وكما أن كثيرين ممن أجرموا كان سبب إجرامهم قراءة رواية لص أو مشهد سينما أو نحو ذلك، كذلك كثير من العظماء إنما كانوا عظماء برؤيتهم القدوة الصالحة وتتبعهم لسيرة بطل رأوه أقرب إلى نفوسهم، فعرفوا تفاصيل حياته، فكانت منبعا لعظمتهم.
الحياة الأخلاقية حياة تأثر وتأثير، فكل إنسان يتأثر بمن حوله ويؤثر فيمن حوله، كالشيء الحار والبارد، فإنهما إذا تلامسا اكتسب الحار برودة والبادر حرارة، فيجب أن نعني بهاتين الناحيتين، فمن ناحية التأثر يجب ألا نختلط إلا بمن يفيدنا التأثر بهم، ومن ناحية التأثير يجب أن نكون قدوة صالحة لأصدقائنا والذين يعاملوننا، ونعلم أن عملنا الشر ليس مقصورا علينا، بل سيسهل لآخرين أن يعملوا الشر مثلنا، وأن يكون مثلنا الأعلى أن لو عرضت حياتنا بجميع دخائلها لم يجد الناس فيها إلا خيرا يحتذى. (3)
كذلك مما يعين على غرس الفضائل دراسة علم الأخلاق، فكل علم يمنح دراسة عينا ناقدة في دائرة الأشياء التي يبحث عنها، وكذلك الشأن في علم الأخلاق، فدارسه أقدر على نقد الأعمال التي تعرض عليه وتقويمها تقويما مستقلا غير خاضع إلى إلف الناس وتقاليدهم، بل هو يستمد آراءه من نظريات العلم وقواعده ومقاييسه، وهذا يعينه على أن يكون فاضلا.
وكثير من العلوم كالرياضة والطبيعة وتقويم البلدان الغرض منها مقصور على معرفة نظرياتها وقواعدها، أما علم الأخلاق فله غرض أسمى وهو التأثير في إرادتنا وهدايتها، وحملنا على أن نشكل حياتنا ونصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، ونحصل خيرنا وكمالنا، ومنفعة الناس وخيرهم، فهو ينير السبيل أمام الإرادة، ويشجعها على عمل الخير ويثبطها عن فعل الشر.
فعلم الأخلاق لا يفيدنا ما لم تكن لنا إرادة تنفذ أوامره وتجنبنا نواهيه. •••
عادات صالحة نعتادها من صغرنا. وقدوة حسنة تحيي ضمائرنا، من أصدقاء منتقين، وكتب مختارة تشرح سير الأبطال وعمل الصالحين، ودراسة لعلم الأخلاق تشحذ ذهننا لمعرفة الخير والشر، وتستحث إرادتنا للعمل على وفقه، كل هذه أكبر ما يعين على غرس الفضائل في النفوس.
ولسنا نستطيع عد الفضائل جميعها، والكلام على كل منها تفصيلا، لذلك نختار بعض الفضائل الهامة ونشرحها. (5) الصدق (5-1) معناه
هو أن يخبر الإنسان بما يعتقد أنه الحق، وليس الإخبار مقصورا على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد وهز الرأس ونحوهما، وقد يكون بالسكوت من غير قول ولا فعل، فمن ارتكب جريمة ورأى غيره يؤنب على ارتكابها ثم سكت فقد كذب، ومن الكذب المبالغة في القول مبالغة تجعل السامع يفهم منه أكثر من الحقيقة، كما إذا بالغ إنسان في وصف شيء بالعظم أو الكبر أو الصغر حتى أفهم السامع أكثر من حقيقته.
ومن الكذب أن يحذف المتكلم بعض الحقيقة ويذكر بعضها إذا كان ذكر ما حذف يجعل لما ذكر لونا خاصا.
وهناك طريقة واحدة للصدق وهو «أن يقول الإنسان الحق كل الحق، لا شيء غير الحق».
وإنما كان الصدق فضيلة لأنه أهم الأسس التي تبنى عليها المجتمعات، ولولاه ما بقى مجتمع، ذلك لأنه لا بد للمجتمع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض، ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا، وقد وضعت اللغات لهذا التفاهم الذي لا يمكن أن يعيشوا بدونه، ومعنى الإفهام أن يوصل الإنسان ما في نفسه من الحقائق إلى الآخرين، وهذا هو الصدق.
يتجلى لك ذلك في المجتمعات الصغيرة كالأسرة والمدرسة، فكلاهما لا يبقى إلا بالصدق، فلو كذب الطلبة في كل ما يتكلمون، وكذب عليهم مدرسوهم في كل ما يعلمونهم ويحدثونهم ما بقيت المدرسة، وكذلك البيت. وإذا كان المجتمع لا يمكن أن يبقى إذا كان كل ما يتكلم فيه كذبا كان من الواضح أن يتضرر بقدر ما فيه من الكذب، فقد يبقى إذا غلب فيه الصدق على الكذب ولكنه يكون فاسدا منحطا.
ويدلك على ضرورة الصدق أن أغلب المعلومات التي وصلت إلينا بالسماع أو القراءة مبناها الصدق، وعليها يعتمد الإنسان في معاملاته وتصرفاته، فلو كانت كذبا لكانت الأعمال المبنية عليها خطأ وضلالا، ولما وصل إلينا من العلم إلا شيء قليل، وهو ما يمكننا أن نجر به بأنفسنا، وهو لا يغني في الحياة.
ومن أجل هذا عد الصدق أساسا من أسس الفضائل، وجعل عنوانا لرقي الأمم وانحطاطها.
ومما يشاهد في شأن الكذب أن الكذبة الواحدة قد تستوجب عدة كذبات لتغطيها، ذلك لأن الكاذب يخلق في الدنيا بكذبه ما لم يكن، يخلق خيالا لا يتفق مع الواقع، وقد يضطره هذا الخيال الذي خلقه أن يكذب كثيرا ليوفق بين الواقع والخيال ومحال ذلك.
ولا يزال الإنسان يكذب حتى يفقد ثقة الناس به وتصديقهم له حتى فيما هو صادق فيه، كما روى عن «أرسطو» أنه سئل ما ضرر الكذب قال: (ألا يثق الناس بقولك حين تصدق) وكل إنسان في هذه الدنيا في حاجة شديدة إلى ثقة الناس به سواء كان تاجرا أو طبيبا أو مدرسا أو محترفا حرفة، فمن فقد ثقة الناس به فقد حرم خيرا عظيما.
وكما يكذب الإنسان على غيره كصاحبه وأخيه يكذب على نفسه، وكثيرا ما يكون ذلك، كمن يحاول أن يقنع نفسه بأنه بذل ما في وسعه لأداء ما يجب عليه، وهو في الحقيقة لم يفعل ذلك، وكما يحصل كثيرا من محاولة المرء أن يخلق لنفسه الأعذار عن كسله أو بخله أو قسوته أو جبنه غشا لنفسه وخداعا، وصرفا لها عن الحق، وقد يغلو المرء في هذا الأمر حتى يصير عادة له، وحتى لا يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب. (5-2) أنواعه
وهناك أنواع من الكذب قد وضعت لها أسماء خاصة كالنفاق، وهو أن يظهر الإنسان غير ما يبطن، اشتقته العرب من النافقاء وهو إحدى حجرة اليربوع، يخفيها ويظهر غيرها ليلجأ إليها عند الحاجة، ومن هذا سمي الرجل الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر منافقا، فهو كذب عملي، ومن هذا النوع أيضا من يظهر الصداقة ويبطن العداء ، وكل من يظهر بمظهر ينافي حقيقته منافق مذموم.
وكالملق أو التملق وهو أن تمدح آخر بما لا تعتقده فيه لتدخل على قلبه السرور رجاء أن تنال منه منفعة أو نحو ذلك.
وضد النفاق والملق الصراحة، وهي أن نفتح قلوبنا لمن نخاطبهم، وأن نصدق في التعبير عما تكنه ضمائرنا، والكلمة مأخوذة من قولهم: «لبن صريح» إذا ذهبت رغوته وكان خالصا، فالصريح من الناس من يخلص من الغش ويظهر لمن يحدثه حقيقة ما في نفسه.
وقد يخطئ قوم في فهم الصراحة فيظنون أنها تقتضي أن يقول الإنسان كل حق لكل إنسان. وهذا ليس بصحيح، فهناك مجال للقول ومجال للسكوت. وليس من الصراحة أن تجرح إحساس الناس وتؤلم مشاعرهم من غير حاجة تدعو إلى ذلك، أو أن يحدث الطبيب الناس بأمراض من يعالجهم من الأسر إذا كان ذكر ذلك يسيئهم، كما أنه ليس من الصراحة أن تفخر بأعمالك، أو تفشي ما تعرفه من أسرار نفسك أو بيتك، أو جيرانك أو أصدقائك، ولو كان ما تحدث به حقا، وإنما الصراحة ألا تقول - إذا قلت - إلا الحق، ولكن لا تقوله إلا لمن له الحق أن يعرفه.
ومن ضروب الكذب الممقوت «خلف الوعد» فمن وعد آخر وعدا وفي نيته عند وعده ألا يفي فقد كذب، وكذلك من كان في نيته الوفاء ثم أخلف لا لعذر أو لعذر يستطيع التغلب عليه، في خلف الوعد إضرار بالموعود كاضاعة وقته أو إيجاد أمل كاذب عنده أو نحو ذلك.. والوعد دين، فكما يجب وفاء الديون يجب وفاء الوعود، ويجب الإقتصاد فيها حتى لا يعد الإنسان وعدا إلا وفى. (5-3) هل يباح في أية حالة من الأحوال؟
ولا يحق لإنسان بحال من الأحوال أن يفتح على نفسه باب الكذب، بل ينبغي أن يلتزم الصدق في جميع أقواله وأعماله. ولسنا ننكر أن التزام الإنسان الصدق في كل ما يقول ويفعل يستلزم مشقة كبيرة، ويحتاج إلى عناء ورياضة نفس وصبر وشجاعة، ذلك لأنه قد يعرض للإنسان في حياته اليومية مسائل دقيقة يرى فيها قصار النظر أن الكذب أنفع، وأنه لا مفر منه، ونحن نورد لك أمثلة من أقواها ونبين حجتهم في الكذب ثم نبين وجه الخطأ فيها. (1) ناشئ ابتدأ يتعلم فن الشعر عرض عليك قصيدة له لم تستحسنها. فهل تصدق وتقول: إنها قصيدة سقيمة المعاني، ظاهر فيها التكلف سخيفة النسج، وحينئذ تكون قد آلمته وجبهته، وقد يكون قولك سببا في تركه الشعر مع أنه لو شجع لصار شاعرا مجيدا، أو خير أن تكذب وتقول: إنها قصيدة جميلة فتدخل على قلبه السرور، وتشجعه على السير في طريقه حتى يبلغ غايته؟
والجواب أن هناك مندوحة عن الكذب، فإن المسئول إذا كان لا يجيد الشعر ولا يستطيع الحكم عليه يمكنه أن يقول بحق «لست من الشعر بالمنزلة التي تخول لي الحكم» فإن كان يجيد أو يستطيع أن يميز بين جيده ورديئه فليستحسن من الأبيات ما هو حسن في نظره، ولينتقد بلطف وأدب مواضع النقد عنده، ويرشده إلى طريقة التخلص من عيوبه، فهذا صدق لا يؤلم، وفيه من الفائدة ما ليس للمدح الصرف الكاذب، إنما يؤلم النفس احتقار الشيء جملة، وأن يقال الصدق بخشونة وفظاظة، أما النقد المؤدب فأشهى إلى نفس طالب الحقيقة من القول الكاذب المزوق. (2) الكذب في الحروب، فقد ترى أمة محاربة لأخرى أن تكذب عليها للإيقاع بها، كأن تقول: إنها ستهاجمها من جهة لا تريدها، أو تشرع بالفعل في الهجوم من ناحية وفي عزمها الهجوم من ناحية أخرى، تريد بذلك التعمية عليها، فهل يصح أن نلزمها الصدق فنضيع عليها النصر مع أن الحرب خدعة؟
والجواب أن الكذب في الحروب ليس كذبا في الحقيقة، لأن الأمة باعلانها الحرب على أمة أخرى قد أعلنتها بألا تفاهم بينهما، وحيث لا تفاهم لا كذب، لأن معنى إعلانها الحرب أنها ستفعل معها ما تستطيع من الإيقاع بها ولو بالخديعة، فمثلها مثل من قال لآخر: «سأقص عليك خبرا كاذبا» ثم قصه عليه، فليس هذا بكذب لأنه لم يخبره بغير ما يعتقد، فإن اعتقد السامع صدق الخبر فاللوم عليه. (3) وأدق من هذا وأصعب ما يحدث كثيرا، يكون لأم ولد مرض بالسل مثلا، وهي التي تمرضه وتعنى بشؤونه، وكان قد مرض لها ولد من قبل بذلك المرض ومات، استدعت الطبيب ففحصه وعرف مرضه فسألته: هل هو مصاب بالسل؟ سألته وهي مرتبكة مرتجفة تخشى أن يكون الجواب نعم، أفليس من الحكمة أن يقول الطبيب: إنها «نزلة شعبية» حتى تسترد قوتها وتعني بالولد. وهو أشد ما يكون حاجة إلى عنايتها. أو يقول الحق فتفقد قواها، وترتبك في تمريض ابنها، فيثقل المرض عليه ويسرع ذلك إلى موته؟
والجواب أن الناظر إذا قصر نظره على هذه الحادثة في وقتها رأى أن الكذب قد يكون واجبا، ولكنه إذا وسع نظره رأى أن الأم ستعلم أن مرض الولد كان السل لا النزلة الشعبية، وأن الطبيب قد كذب عليها رحمة بها، وسيعلم الناس ذلك فلا يثقون بقوله مهما أكد لهم عن المرض، ولو علم الناس أن الأطباء جميعا يتبعون هذه الطريقة لفقدوا الثقة بهم، فهذا الكذب قد أضاع معانى اللغة، وأزال الثقة بين الناس، وينبغي للإنسان عند الحكم على شيء أن يوسع نظره ليرى ما يترتب عليه من الإضرار في المستقبل القريب والبعيد.
ومع هذا فإنا نوجب على الطبيب أن يتخير الألفاظ التي يستعملها لأداء الخير. وأن يفتح على المريض وأهله باب الأمل بالقدر الذي يعتقد، ولكن لا يحيد عن الصدق.
على أنه إذا كان الصدق قد يودي بحياة بعض الأفراد، والكذب ينجيهم - وإن كنا لم نعثر في حياتنا اليومية على شىء من هذا - فلم لا نضحي بهذه الأنفس القليلة في سبيل الحق، وفي سبيل المحافظة على معاني اللغة، وثقة الناس بعضهم ببعض، وهي كلها ركن عظيم من أركان العمران؟ إذا كان من الصواب أن نضحي بآلاف النفوس للمحافظة على مملكة أفلا يكون من الحق أن نضحي بنفوس معدودة، ونحتمل أضرارا محدودة، للمحافظة على الحق؟
فلندع هذا النوع من الجدل، ولنلزم أنفسنا بقول الحق، كل الحق، في كل حال. (6) الشجاعة (6-1) معناها
الشجاعة هي مواجهة الآلام أو الخطر عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس، فالذي يرى النتائج ويخاف من وقوعها ثم يواجهها في ثبات رجل شجاع، وما دام الإنسان يعمل في موقفه خير ما يعمل فهو شجاع، فالقائد الذي يقف في خط النار فيرتعش، ويخاف أن ينزل به الموت، ثم يضبط نفسه، ويؤدي عمله كما ينبغي قائد شجاع، بل هو شجاع أيضا إذا رأى أن خير عمل يعمله أن يتجنب الخطر، وأن الواجب يقضي عليه أن ينسحب بجنوده حيث لا خطر، فإن هو أضاع في موقفه رشده، أو ترك موقفا يجب أن يقفه، أو فر بجنوده من خطر كان عليه أن يواجهه، فهو جبان.
فليست الشجاعة تعتمد على الإقدام والإحجام، ولا على الخوف وعدمه، إنما تعتمد على ضبط النفس وعمل ما ينبغي، فإن ضبط الشخص نفسه، وعمل ما يجب أن يعمل في مثل موقفه رغم خطر أمامه، ورغم ما يشعر به من خوف، فهو شجاع، وإلا فلا.
وليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف، فقد يكون الخوف فضيلة وعدمه رذيلة، فالخوف عند إمضاء عقد سياسي مثلا أو إنهاء أمر خطير فضيلة، إذ هو يحمله على الروية حتى يختمر رأيه، وفضيلة أن يخاف الإنسان من ثلم عرضه وشرفه، فليس بشجاع من يدخل الحانة ويشرب جهارا، أو يقامر على ملأ من الناس غير هياب ولا وجل، فذلك ضعف في الشعور لا شجاعة.
إنما الجبن المذموم والخوف المرذول أن يبالغ الإنسان في الخوف، أو يهول في الشيء المخوف، فمثلا كل إنسان عرضه لكلب كلب يعضه، أو سلك ترام يصعقه، أو سيارة أو قطار يدهمه، أو نار تشب في بيته، أو مكروه ينال منه، كل هذه الأشياء تخيف، ولكن الجبان يبالغ في الخوف منها، ويخشى جد الخشية من وقوعها، ثم يحمله خوفه على اجتناب العمل، فلا يركب مركبا - مثلا - خوف أن يغرق به، ولا يرحل عن وطنه إذا لم يجد عملا خوف أن يدركه الموت، ولكن الشجاع لا يفكر كثيرا في احتمال الشر، ثم إذا وقع لم يطر قلبه شعاعا، بل يصبر له، ويتحمله في ثبات، إن مرض لا يضاعف مرضه بوهمه، وإذا نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف من شدته.
وعلى الجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا بالجبان الذي يخاف مما لا يخاف منه.
وليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن كثيرا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود، فرجال المطافئ، والأطباء، وعمال المناجم، وصيادو الأسماك في البحار عند اشتداد الرياح وتلاطم الأمواج، والممرضات اللائي يتعرضن للأخطار بتمريض المصابين بالأمراض المعدية، وربانو السفن التجارية، كل هؤلاء وأمثالهم شجعان يتحملون الأخطار كما يتحمل الجنود، ويقابلون الشدائد في صبر وثبات.
ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات، ويتصرف فيه بذهن حاضر، وعقل غير مشتت، قد يرى إنسان نارا تلتهم بيته، أو لصا يغشى منزله، أو قطارا يكاد يهشم رجلا، أو سفينة أشرفت على الغرق، فإن فقد رشده، وأضاع صوابه، وحار طرفه، ودله عقله، ولم يدر ماذا يفعل، كان جبانا. وإن هو ملك نفسه، وثبت قلبه، وتصرف في الأمر على أحسن وجه، كان شجاعا حقا. كالذي حكى عن عبد الملك بن مروان أنه أتاه في يوم واحد خبر مقتل ابن زياد، وهزيمة جيشه، ودخول ابن الزبير فلسطين، وثوران ثورة في دمشق، ومسير ملك الروم إلى الشام، فما تزعزع ولا طاش، وقد رؤي في هذا اليوم ثابت الجنان، غير مقطب الوجه، ثم شغل ملك الروم بمال يؤديه إليه، ووجه جيشا إلى فلسطين فاستردها، وسار إلى دمشق فأسكن فتنتها. (6-2) الشجاعة الأدبية
لما تقدم الناس في المدنية لم يكونوا في حاجة كبرى إلى الشجاعة البدنية كما كانوا يحتاجون إليها أيام بداوتهم، فظهر للشجاعة معنى جديد يسمونه الشجاعة الأدبية، يعنون بها أن يبدي الإنسان رأيه وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به، أو تقولوا عليه، ومهما جر ذلك عليه من غضب عظيم، لا يخاف من تحمل ألم يصيبه في سبيل قول حق يقوله، أو مبدأ هام ينشره، فلو رأى في مسألة غير ما يراه علماء وقته أو من حوله من الناس، أو خالف حاكما أو عظيما، جاهر برأيه غاضا عما يناله من الأذى، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابا ولو لم يقع رفضه موقعا حسنا.
والتاريخ مملوء بكثير من الناس ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل قول الحق ونصرته، وصبروا على الآلام عشقا للحق وهياما به، واستعذبوا طعم الرزايا تنزل بهم لأنهم يحبون الحق أكثر مما يحبون أنفسهم، ومنهم الأنبياء والمرسلون والشهداء ونوابغ العلماء، فقد أوذوا في الحق فتحملوا الأذى، وباعوا أنفسهم وأموالهم مرضاة له، كالذي حكى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد جاء إليه عمه أبو طالب ينصحه بالعدول عن دعوة الناس فقال له: «يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
ومن هؤلاء «سقراط» الفيلسوف اليوناني، فقد علم شبان أثينا ما وصل إليه علمه، وبذل جهده في تثقيف عقولهم وتقويم أخلاقهم، فلما بلغ سن السبعين أتهم بأنه يجحد آلهة اليونان، ويضلل الشبان، فحكم عليه بالإعدام، وكان في استطاعته أن ينجو بنفسه إذا هو تعهد أن ينقطع عن التعليم، ولكنه أصر على قول الحق وأضاع نفسه.
وفي تاريخ العرب كثير من أمثال ذلك «فابن رشد» الفيلسوف الشهير المتوفى في سنة 595ه اضطهد من أجل اشتغاله بالفلسفة، وسجن ونفى فلم يعبأ بذلك كله. «وابن تيمية» أحد الفقهاء المشهورين المتوفي سنة 728ه أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره في بعض المسائل فوشوا به إلى السلطان فسجنه، فظل يكتب الرسائل في سجنه يؤيد بها مذهبه، ويدحض بها حجج معارضيه.
وفي العصور الحديثة لولا أن قوما من العلماء ضحوا كثيرا في قول الحق ما تقدم العلم والمدنية إلى الحد الذى نراه «فجاليليو » الفلكي الإيطالي (1564-1643م) اخترع التلسكوب فرأى به أن المجرة ليست إلآ نجوما كثيرة، وأن في القمر جبالا وأودية كالتي في الأرض، ورأى به كلف الشمس، وكان يعلم أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا لتعاليم «بطليموس» القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، فاضطهده من أجل ذلك بعض القسيسين، وأمروه بالكف عن تعاليمه، فلم يستطع الصبر عن الحق، فأخذ وسجن وعذب كثيرا من أجل تعاليم يعرفها كل تلاميذ المدارس اليوم. «ودارون» الفليسوف الإنجليزي (1809-1882م) لم يعذب كما عذب من قبله بسجن أو نفي أو قتل، ولكنه عذب بالإنتقاد المر من رجال عصره فتحمله، وأبان الطريقة التي اتبعها النبات والحيوان في نشوئه وارتقائه، ولم يقعد به ضعف صحته عن البحث وراء الحقيقة، فكان على الرغم من مرضه وألمه يجري التجارب ويجتهد أن يتعلم دائما أشياء جديدة عن الدنيا التي يعيش فيها، «وكامبانلا» الفيلسوف الإيطالي (1568-1639م) قد أغضب بعض القسيسين والأمراء بتعاليمه الجديدة، فقد كان يقول: إننا نستطيع أن نتعلم من امتحان الأشياء التي حولنا كالأشجار والأزهار والجبال والأنهار أكثر مما نتعمله من كتب الفلاسفة القدماء أمثال «أرسطو» وكان يقول: إن هناك نظاما للحكم خيرا من النظام الحاضر لا يستبد فيه الحكام بالشعب، وقد سجن من أجل أقواله هذه، وعذب عذابا شديدا، واستمر في الحبس خمسا وعشرين سنة، ثم أفرج عنه.
فواجب أن نقف بازاء الحق نصرح به وندافع عنه ونعشقه، ونتحمل الآلام في سبيله، ونتخذ من ذكرنا مثلا صالحا في حياتنا.
ومن هذا النوع من الشجعان من يهجر لذته وراحته، ويتحمل الآلام، لخير الناس وإسعادهم، كمن يرى مرضا اجتماعيا في أمته فيخصص حياته لدراسته ومعرفة أسبابه، ثم يتحمل المتاعب في سبيل إصلاحه، وكأن يرى الأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة يعملون في المعامل ساعات طويلة في أماكن غير صحية بأجر قليل، لا يرحمهم ولا يشفق عليهم أصحاب المعامل ورءوس الأموال، فيشبون ضعفاء جهلاء يقسون على من دونهم كما قسى عليهم، أو يرى أولاد الشوارع ينشئون ولا علم ولا عمل فيكونون بعد مجرمين يعبثون بالأمن ويعثون في الأرض فسادا، أو يرى فقراء يألمون في الحياة آلاما جسيمة يقضون أطول زمن في العمل وينالون أقل أجر، تشتد مزاحمتهم على العمل، ويخضعون لنظم شاقة، يسكنون مساكن غير صحية وهم مع ذلك يستأجرونها بأجرة باهظة إذا قيست بمساكن الأوساط والأغنياء، أثمان طعامهم ووقودهم وحاجاتهم أغلى مما يدفعه الأغنياء لأنهم مضطرون إلى شراء كميات قليلة في أوقات يقل فيها الصنف، تكثر بينهم الأمراض والوفيات، ويشتد بهم الضيق بمجرد قعودهم عن العمل لأنهم لم يستطيعوا أن يوفروا شيئا من أجورهم وقت عملهم، بيوتهم وحاراتهم تشمئز منها النفس قذارة، اضطرهم الفقر إلى الإزدحام في الحجرة الواحدة مع ما يفشو فيهم من الأمراض، تنشأ بينهم أبناؤهم وبناتهم فيجدون حولهم جوا خانقا من سكر وعربدة وتسول ومسكنة وكذب جر إليها الفقر وسوء الحال، فيخضعون لذلك مضطرين، ويسيرون سير آبائهم وهم في ذلك مجبرون لا مخيرون، فمن رأى شيئا من ذلك أو نحوه من الأمراض فخصص حياته لمعالجته، وضحى بكثير من مصلحته لمصلحة أمته، وصبر على ما يناله من الشدائد، وتغلب على ما يصادفه من العقبات، كان أشجع من جندي في خط النار. (6-3) علاج الجبن
الشجاعة والجبن ونحوهما من الفضائل والرذائل تعتمد على الوراثة والتربية معا، فنحن نرث من آبائنا بذور شجاعتهم أو جبنهم، ولكن يجب ألا ننسى أن للتربية أثرا كبيرا، فهي إذا كانت صالحة زادت الشجاع شجاعة، وقللت من جبن الجبان، وإذا عولج الجبان علاجا ناجعا فقد يبرأ من مرضه، وليس للجبن علاج واحد، بل ينبغي أن ينظر إلى سببه، ثم يتخذ له العلاج اللائق به، شأن جميع الأدواء، فقد يكون سببه الجهل بالشيء، فالعلاج إذا العلم به، كالذي يرى شبحا في الظلام فينزعج منه وترتعد فرائصه، فإذا علم أنه حجر أو متاع أنس به وزال خوفه، ومن هذا النوع أكثر ما يخيف في الظلام من عفاريت ونحوها.
ويتصل بهذا عدم الإلف، فكثيرا ما يكون سبب الجبن، فالإنسان إذا لم يأنس بالشيء ويألفه يجبن أمامه، كالطالب الذى لم يتعود الخطابة فإذا هو حاولها تهدج صوته، وجف ريقه، وارتعشت أطرافه، ومن لم يتعود غشيان المجالس ومخالطة الناس يخاف منهم ويلجئه الجبن إلى حب العزلة، فإن هو اضطر يوما إلى الإجتماع بهم علاه الخجل، واضطربت حركاته، وزاد ارتباكه، وثقل على الناس وثقلوا عليه، وعلاج هذا الإلف والتعود، فلا يزال الرجل يتكلف الخطابة حتى يصير خطيبا، والجرأة حتى يصير جريئا.
ومما يفيد في هذا الباب أن يفرض وقوع النتائج التي تكون إن وقع المكروه ثم يهونها على نفسه، فلو تصور أنه خطب فلم يجد وانتقده السامعون ثم صغر هذه النتيجة وهونها تشجع ولم يجبن، ولو قرر الأطباء أن تعمل له عملية جراحية فقدر الموت واستصغره قابل العملية بثبات وهكذا.
ومن العلاج أن ينظر إلى نتائج كل من الجبن والشجاعة فإذا ظهر له أن ما يصل إليه من الخير إذا هو تشجع أكبر مما يصل إليه من الجبن استحثه ذلك على الشجاعة، فمن جبن عن أن يرحل عن بلده لطلب رزق أو علم فلينظر ير أن من المحتمل أن يصيبه مرض في رحلته أو يموت في غربته، ولكن من المؤكد أنه إن لم يرحل ضاق رزقه، أو قل علمه وكان جبانا حتما، فإن ذلك النظر قد يحمله على أن يكون شجاعا، لا سيما إن علم أن ليست الحياة أن ينبض قلبه، ويأكل في اليوم ثلاثا، إنما الحياة أن يعمل وينفع، ويستفيد ويفيد.
تذكر وقت جبنك سير الأبطال، وأكثر من مطالعة تاريخ حياتهم تستشعر الشجاعة، وتمتلىء حماسة، وتحس بقوة تدفعك إلى العمل على مثالهم، والسير في طريقهم. (7) العفة أو الإعتدال أو ضبط النفس (7-1) معناها
ضبط النفس - أو العفة بأوسع معانيها - هو اعتدال الميل إلى اللذائذ، وخضوعه لحكم العقل، وليس ذلك مقصورا على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضا اللذات النفسية، كالإنفعالات والعواطف، فلا يسمى الشخص «ضابطا لنفسه» إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من مأكل ونحوه، واعتدل أيضا في انفعالاته فلم يغضب لأي داع، ولم يندفع في السير وراء عواطفه، كأن يحن حنينا شديدا إلى وطنه إذا نزح عنه، أو يفرط في حزن لفقد عزيز عليه، وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم القدرة على ضبط النفس كالشراهة والدعارة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان.
تتضمن هذه الفضيلة أن يكون الإنسان سيد نفسه لا عبدا لشهوات تسيره كما تشاء. (7-2) الزهد وآراء الناس فيه
والناس إزاء الملذات أصناف، فمنهم من ذهب إلى الزهد وقمع الشهوات، وقالوا: «إن شهوات النفس غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات قد استحدثتها، فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي، وعبد هوى لا ينتهي، ومن كان بهذه الحال لم يرج له صلاح، ولم يوجد فيه فضل» هؤلاء يرون أن أرقى أنواع الحياة الأخلاقية محاربة الشهوات، فلا يتزوجون - مثلا - ولا يأكلون اللحوم، ولا يمكنون النفس من مأكل أنيق، أو مقعد وثير، أو ملبس جميل، وقد شنع «سنيكا»
4
على من يشرب الماء مثلجا في أيام الحر، وقال: «قد انتزع الترف من القلوب ما كان بها من موارد الشفقة وأسباب العطف حتى صارت أشد بردا وقسوة من الثلج والجليد» وبالغ بعض الزهاد فلم يكتف بقمع الشهوات بل تعداها إلى تعذيب النفس بالقيام في الشمس في أشد ساعات الحر، والتمرغ على الرخام في الشتاء، وهكذا، وهذا مذهب أكثر المعتنقين له من الناقمين على الحياة، المتشائمين من كل شيء في الوجود، المصابين بفقر الدم، الذين ضعفت شهواتهم لضعف جسمهم، وقد يرى هذا الرأي أيضا من قويت صحته وكمل جسمه، واشتدت شهواته، ولكن كانت إرادته أشد وسلطانه على نفسه أقوى، وأقوى ما يكون ذلك إذا أتى من ناحية العقيدة الدينية.
والزاهدون أنواع: فمنهم من يرفض أن ينعم في الحياة بالمأكل الشهي ونحوه لأنه يرى أن الإستمرار في طلب اللذائذ يسبب ألما، فتصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت، وتتجرع مع ما تنال غصصا من الآلام، أضف إلى ذلك أن كثرة التمتع باللذة يفقدها قيمتها، فمن يأكل كل يوم طعاما شهيا يصبح بعد مدة وهذا النوع من الأكل عنده عادي، حتى تكون مقدار لذته منه تعادل لذة من قنع بالقليل، يرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه يرفعه فوق حوادث الزمان، ويجعله يرى أن لا قدرة للحوادث ولا للدهر على إخضاعه، وهذا الشعور يحرر الإنسان من ربقة الخوف - وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية - فهم في الحقيقة يفرون من لذة للذة أخرى أكبر منها، هي لذة الراحة والطمأنينة وعلو النفس.
هؤلاء نظرهم شخصي أكثر منه اجتماعيا، فهم يبغون لذة أنفسهم، غاية الأمر أنهم وجدوها في الراحة وعدم الإنغماس في الشهوات.
ومن الزاهدين نوع آخر أرقى من هؤلاء، زهدوا في اللذائذ لأن ذلك وسيلة إلى إسعاد الناس وراحتهم، كما فعل عمر بن الخطاب، لم يشأ أن يمتع نفسه بالملذات لأنه رأى أنه إن فعل ذلك توسع الولاة ومن بيدهم أمر الأمة في البذخ والنعيم حتى يرهقوا الرعية، فزهد ليسعد الناس، ومن هذا الصنف كثير من المصلحين والعلماء الباحثين، يهجرون راحتهم ليستكشفوا ما يوفر الراحة على الناس، وهؤلاء - أيضا - في الحقيقة لم يضحوا بلذتهم، بل هم من صنف راق، يجدون - في شعورهم بأنهم مصدر لإسعاد الناس - لذة قلما تعادلها لذة.
ومن الزهاد صنف يتزهد تدينا، يتقربون إلى الله بالإمتناع عن التمتع بملذات الحياة، ولهؤلاء نقول: أن الله تعالى شرع الشرائع لإسعاد الناس، وقد رضى عمن اتبعها لأنه عمل لإسعادهم، فمن هجر لذته هو في عمل صالح يرضي الله - وبعبارة أخرى يسعد الناس - كان عمله مقبولا، وكان من الصنف الثاني، ولكن من ظن أن الله يرضى عن الزهد لأنه زهد فقد أخطأ، لأنه تعالى لم يجعل تعذيب النفوس سبيلا لرضاه، وماذا ينال الله والناس ممن انقطع للعبادة وزهد في الحياة! مدح رجل عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأنه يقوم الليل ويصوم النهار وينقطع للعبادة فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «فمن يقوم بشأنه»؟ قالوا: كلنا قال: «كلكم خير منه»، وحقا ليس يصح لأحد أن يستحل أن يأكل من عمل الناس ولا يعمل هو في الحياة للناس شيئا، إنما يرضى الله عمن هجر لذته ليسعد قومه، وليس من العقل تحمل الألم لأنه ألم. (7-3) الإفراط في الشهوات
ومن الناس من يرى - على عكس هؤلاء الزهاد - أن يطلق لنفسه العنان، ويمكنها من كل ملذات الحياة، يرون أن الإنسان في هذه الحياة إنما خلق ليتنعم، ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا، وينهمك فيها ما استطاع، وهذا ضار بالفرد وبالمجموع معا، فلو أبحنا لكل فرد أن يتلذذ كما يشاء ما انتظم شأن مجتمع، ولتعارضت شهوات الأفراد، وكانت الفوضى المطلقة، وإن جمعية أفرادها ليسوا أعفاء - أعنى أنه لا تحكمهم إلا شهواتهم الجسمية - لتحمل معها بذور الإنحلال والإنحطاط. (7-4) الاعتدال
وفضيلة العفة تتطلب من الإنسان القصد في اللذائذ، فإن هو أفرط فانهمك في شهواته، أو فرط فأماتها، وبالغ في الزهد، فقد حاد عن سواء السبيل، خير طريق في الحياة أن ينيل الإنسان نفسه ملذاتها الطيبة، ويعطيها مشتهياتها ما لم تخرج عن حدود الأخلاق، فذلك أدعى إلى نشاطها وأقرب إلى طبيعتها، إنما يجب ألا تتجاوز الحدود الشرعية، ففي داخلها من الملذات ما هو أضمن لسعادة الفرد والمجموع
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة
وكثيرا ما يكون من المصلحة أن يمنع الإنسان نفسه مما لا بأس به حذرا مما به بأس، كالذي حكى عن بعضهم أنه أشعل لفافة فأحس منها بلذة شديدة فكان ذلك حاملا له على ألا يدخن، وسبب ذلك - على ما يظهر - أنه تخوف من نمو الرغبة عنده في التدخين، وخشي شدة تسيطر العادة عليه فيما بعد، وكان إحساسه اللذة علامة هذا الخطر فتركه.
وأشير هنا إلى مبدأ الأستاذ «جيمس» القائل: بأنه يجب أن نحافظ على قوة المقاومة، ونتبرع بعمل صغير كل يوم، لا لسبب إلا مخالفة النفس والهوى، فإن ذلك يعيننا على مقاومة المصائب إذا حان حينها.
فليس يقتضي ضبط النفس القضاء على الرغبات والشهوات، وإنما يقتضي تهذيبها واعتدالها، وجعلها خاضعة لحكم العقل، ففي القضاء على الشهوات قضاء على الشخص وعلى النوع، وفي اعتدالها سعادتهما جميعا.
أهم أنواع ضبط النفس (1)
ضبط النفس عن الغضب:
فمذموم أن يكون الإنسان سريع الغضب يخرج عن عقله للكلمة الصغيرة والسبب الحقير، وليس الغضب بالخطأ دائما، فهناك حالات يمدح فيها، فلو رأيت شابا يعذب صغيرا لم يجن جناية، أو ضعيفا لا يستحق عذابا، أو حيوانا لا حول له ولا حيلة، فحق أن تغضب، كذلك طبيعي أن يغضب الإنسان إذا عومل معاملة لا تتفق وشرفه أو نحو ذلك، فلا بد له من الغضب ليدرأ عن نفسه أو غيره الظلم.
ولكن هذه الحالات قليلة إذا قيست بغيرها من حالات الغضب، فأكثر حالاته رذيلة مذمومة، ولذلك عد رذيلة، وعد ضبط النفس عنه فضيلة.
وأكثر ما يدفع الإنسان إلى الغضب أثرته وحبه الشديد لنفسه، وكثرة التفكير في حقوقه، فيتخيل فيما لا يغضب احتقارا له ونيلا منه، وكثيرا ما يستسلم لغضبه فلا يعي ما يقول، ولا يعقل ما يفعل، ويظن أنه بذلك يظهر بمظهر المحترم لنفسه، المحافظ على كرامتها، وهو إنما يظهر بمظهر الطائش الأحمق.
والإنسان في غضبه حاكم غير منصف، يبالغ في الشيء ويسوئه، فهو كواضع على عينيه منظارا يكبر ويشوه، وهو لا يرى وقت غضبه إلا الأغلاط، ولذلك تراه يحكم حتى على أعز الناس عليه أحكاما قاسية، والواجب أن نتريث ونسائل أنفسنا هل نحن محقون في غضبنا؟ أو ليس لما عمل أو قيل محمل حسن؟ هل الشىء يغضب حقيقة بالقدر الذي أرى؟ أو ليس لمن أغضبني حسنات كثيرة بجانب هذه الإساءة؟
واجب ألا نستسلم للغضب، وأن نسلم زمام انفعالاتنا لعقلنا. (2)
ضبط النفس عن الإسترسال في الإنقباض والسخط:
لأن ذلك يكدر صفو الحياة، وفي الناس كثير من هؤلاء المتشائمين الساخطين الذين يرون أن لا أسوأ من هذا العالم، وأن لذائذه لا تكاد تذكر بجانب آلامه، وحامل لواء هذا المذهب في العصور الحديثة «شو بنهور» الفيلسوف الألماني (1788-1860م) كان يرى أن حياة الإنسان سلسلة آلام ونزاع وكفاح، وأن هذا العالم أسوأ ما يكون، فيه من الآلام والشرور أكثر مما فيه من اللذائذ.
وأغلب ما يكون هذا النظر عند من ضعفت صحتهم، أو ساءت أعصابهم، أو توالت عليهم المصائب من موت أو فقر أو نحوهما، فتظلم الدنيا في أعينهم، ولا يرون فيها إلا ما يؤلم، أحب الشعر إليهم أمثال شعر أبي العلاء، وخير نغمات الموسيقى عندهم ما يبعث على البكاء.
ويظهر أن هؤلاء قد قصرت مشاعرهم عن إدراك ما في العالم من ملذات، فمثلهم كمثل عمي الألوان، الذين يدركون بعضها دون بعض، والحق أن الدنيا مملوءة بالمسرات والمؤلمات جميعا «ولولا سوء النظم الإجتماعية الحالية وفساد التربية الموجودة لكانت السعادة حظ أكثر الناس إن لم أقل كلهم».
إن الناس يخطئون في اعتقادهم أن ما يحيط بالإنسان من الأمور الخارجية هي التي تجعله ساخطا أو راضيا، بائسا أو منعما، نعم إن الإنسان قد يكون أقدر على السعادة في بعض الظروف دون بعض، ولكن الظروف نفسها لا تجعله سعيدا، فكثيرا ما تتوافر وسائل السعادة عند قوم وهم مع ذلك أشقياء بأنفسهم، لأنهم يخلقون من كل شىء ما يستوجب السخط، ويلونون كل ما يرون باللون الأسود.
إن السعادة أو المسرة تعتمد على أنفسنا أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، ويجب أن يتعلم الإنسان «فن المعيشة» وكيف يكون راضيا ولو لم يكن كل شيء حوله وفق ما يتمنى. (3)
ضبط النفس عن الإسترسال في الشهوات الجسمية:
ولا سيما الخمر والنساء، فهما شر ما يقع فيه الإنسان، ويفسد عليه حياته، ويضعف من روحانيته، ويقلل من حريته، ويسوقه إلى أسوأ حياة، وطريق الإحتياط لذلك عدم التعرض للمغريات، فلا يجالس المستهترين الذين لا يتحرجون من قول الهجر والحض عليه، ولا يقرأ الروايات المثيرة، ولا يغشى أماكن اللهو غير المؤدب، يصحب من قويت شخصيتهم ونظف لسانهم، وطهر روحهم، وأوجب ما يكون ذلك في السن بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين، ففيها تنمو الشهوات وتبعث على الشرور، فلو لم يحصن الشاب بوسط صالح ورفقة مؤدبة، ويعن بما يوضع في يده من كتب، وما يشاهد من تمثيل، وما يغشى من مجتمعات كان عرضة لأحط أنواع الشرور، في هذه السن يكون المرء عرضة للتحول، وأكثر ما ساءت حالهم وفسدت أخلاقهم كان فسادهم في هذا الدور، وقل أن يسقط أحد بعد أن ينجو منه. (4)
ضبط الفكر
فلا يتركه يهيم في كل واد، ويتجول في كل مجال، فالفكر إذا حام حول الشرور يوشك أن يقع فيها.
وعلى الجملة فضابط نفسه كراكب الفرس الذلول، يقصد حيث أراد، فيوجهها كما يشاء، ومن لم يضبط نفسه كراكب الصعبة، لا يسيرها كما يهوى، ولا يصل إلى غرضه بالسير كما تهوى.
في ضبط النفس حفظ الصحة، وطمأنينة العقل، والسعادة، والحرية، وسلطان كسلطان القائد على جنده، أو الربان الماهر على سفينته. (8) العدل (8-1) معناه
العدل نوعان: نوع يوصف به الفرد فيقال إنسان عادل، ونوع يوصف به المجتمع أو الحكومة، ولنتكلم على كل قسم. (8-2) العدل بين الأفراد
فالعدل في الأفراد إعطاء كل ذي حق حقه، ذلك أن كل إنسان لما كان عضوا من أعضاء الجمعية كان له الحق في التمتع بنصيب من الخير الذى ينال المجتمع، فأخذ الإنسان نصيبه لا أكثر، واعطاؤه الناس حقوقهم لا أقل، هو العدل، فالغضب والسرقة ظلم لأن في كليهما أخذ ما للغير ومنعه عن حقه، والبائع الذى يكيل للمشتري أو يزن أقل مما اتفقا عليه ظالم لأنه لم يعطه حقه وهكذا.
ومن أعدى أعداء العدل «التحيز» وهو ميل الإنسان لأحد المتساويين ميلا يجعله يعطيه أكثر من حقه، وينقص الآخر حقه، فالقاضي مثلا يجب ألا يفرق في سيره مع الخصوم بين غنى وفقير، وأسود وأبيض، وذى جاه وعديم الجاه، لأن عمله إنما هو أن يطبق القانون على الأفراد، والناس أمام القانون سواء، فيجب ألا يجعل مجالا لحبه أو كرهه، ولا لغنى الخصم أو فقره، ونحو ذلك.
وكثيرا ما يتحيز الإنسان لآخر ويخطئ في أحكامه لتحيزه، وهو مع ذلك غير شاعر بأنه متحيز، ومعتقد الإنصاف فيما يرى، ومن أجل هذا يجب على الإنسان شدة مراقبته نفسه، وحذره من الوقوع في الخطأ.
ويحمل على التحيز أمور: (1)
الحب، فمن يحب إنسانا يتحيز له، كالوالدين قلما يريان الخطأ في عمل أولادهما. (2)
المنفعة الشخصية، فاحساس المرء بأن أحد الجانبين يكسبه منفعة لا تكون في الجانب الآخر يجعله يتحيز لأحد الجانبين. (3)
المظهر الخارجي، فحسن منظر شخص، وجمال هندامه، وفصاحة قوله، وآدابه في الحديث كثيرا ما تبعث على التحيز وتبعد عن العدل.
وواجب يقظة الإنسان في حكمه واجتهاده ألا يتغلب عليه هوى أو ميل يصده عن العدل.
وقد كان قدماء الرومانيين يمثلون إلهة العدل بامرأة معصوبة العينين، ممسكة ميزانا ذا كفتين بإحدى يديها، وسيفا باليد الأخرى، ويرمزون بعصب عينيها إلى أن العادل ينبغي أن يعمى عن الإعتبارات التي تجعله يتحيز من غير حق كغنى وجاه، وبالميزان إلى أنه يجب أن يزن لكل إنسان حقه بالقسط، وبالسيف إلى أنه يجب أن يلجأ إلى القوة في تحقيق العدل عند الحاجة إليها، وفي ذلك يقول الله تعالى:
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس .
ويحمل على العدل: (1)
عدم التحيز، فالذي ينظر إلى الشيء مجردا عن الهوى أقرب إلى تحقيق العدل. (2)
توسيع النظر ورؤية المسألة من وجوهها المتعددة، فعند الخلاف في أمر يجب على كل من المتنازعين أن ينظر إلى محل النزاع من الجهة التي ينظر إليها خصمه أيضا، والقاضي عند فصله في الخصومة يجب أن ينظر إلى وجهة كل خصم. (3)
أن يجعل مدار الحكم على الباعث للعامل على عمله لا على مظهره الخارجي، فقد يكون ظاهر العمل سيئا، ومستفزا للغضب، ولكنه صادر عن باعث شريف ونية حسنة، كالذي يقسو على ولده ليربيه. (8-3) العدل في المجتمع
والمجتمع العادل هو المجتمع الذي له من النظم والقوانين ما يسهل لكل فرد من أفراده أن يرقي نفسه على قدر استعداده، فلا يكون المجتمع عادلا حتى تتوافر لكل طائفة من الناس وسائل رقيهم، ففي الأمة مثلا طائفة من التجار يحتاجون في تجارتهم إلى تلغراف وبريد وسكك حديدية وهكذا، وطائفة من الناشئين يحتاجون إلى مدارس يتعلم فيها كل من أراد أن يتعلم، وفيها من النظم والعلوم ما يسد حاجة كل طالب، وطائفة من المتخاصمين يحتاجون إلى قضاة وقوانين تردع الجناة وتحفظ حقوق الناس وهكذا، فإذا قامت الأمة بكل هذا حق لها أن تسمى مجتمعا عادلا، وإلا فهي مجتمع ظالم.
والمطالب بتحقيق العدل في المجتمع كل فرد من أفراده، فكل إنسان مطالب أن يعمل لتحقيق العدل في مجتمعه على قدر استطاعته، فإذا احتاجت مدينة إلى مستشفيات مثلا فعلى الخطيب أن يخطب حاثا على إنشائها، وعلى كتاب الجرائد أن يكتبوا، وعلى الشعراء أن يشعروا، وعلى الأغنياء أن يتبرعوا، وعلى كل ذي قدرة وجاه أن يستعمل قدرته وجاهه في مساعدة المشروع، ثم على من في يدهم تنفيذه أن ينفذوا، فإذا لم يعمل كل فرد ما عليه فالأمة كلها آثمة ظالمة، يقع عليها ضرر تقصيرها، حتى الأفراد الذين أدوا ما عليهم، لأن المجتمع كما قدمنا جسم عضوي، وذلك هو شأن الجسم العضوي، فلو أن القلب أدى ما عليه ولكن المعدة لم تؤده عوقب كل عضو في الجسم حتى القلب.
وإذ كانت حكومة كل مجتمع هي القائمة بالأمر فيه فهي لا تعد عادلة إلا إذا قامت بواجبها خير قيام، وليس واجبها أن تحصل الخير لنفسها، ولكن أن تحصل للمجتمع الذى تحكمه أقصى ما تستطيع أن تحصله، وقد عبر أفلاطون عن هذا بقوله: «إن خير حكومة هي التي تضع كل فرد من الأمة في خير مكان يليق به، ويستطيع أن تظهر فيه مواهبه، ثم تمده بما يحتاجه لأداء ما عهد إليه» وعلى هذا لا تكون الحكومة عادلة إلا إذا قامت بهذه الوظيفة، وهو تكليف للحكومة شاق، من المشكوك فيه أن يتحقق يوما ما، مهما صغر المجتمع ورقيت حكومته.
وأقل من هذا تكليفا ما قاله بعضهم من أن الحكومة تعد عادلة ما دامت لا تضع العراقيل في سبيل أفرادها، وتتركهم أحرارا يعملون ما يشاءون لترقية قواهم وملكاتهم وأعمالهم، حسب استعدادهم، إلا عند الضرورة القصوى، أما إذا كان بعض أفراد الشعب يريد مثلا أن يتعلم فيجد السبيل قد سدت أمامه، أو التاجر لا يستطيع أن يرقي تجارته للعقبات التي تضعها الحكومة في سبيله، فإذ ذاك لا يمكن أن توصف حكومة هذا الشعب بالعدل. (8-4) العدل والمساواة
كثيرا ما يقرن العدل بالمساواة، ويعتقد كثير من الناس أن العدل في المساواة، والظلم في عدمها، وقد أخذت هذه الكلمة محلا كبيرا في العقول من عهد الثورة الفرنسية، فقد كان شعارها «الحرية، المساواة، الإخاء»، «كل الناس أحرار، كل الناس متساوون، كل الناس إخوان».
في الدنيا وسائل كثيرة من وسائل الحياة الطيبة كالثروة التي لا بد منها للأكل الطيب والملبس الطيب والمسكن الصالح واقتناء الكتب النافعة، والقدرة على الرياضة البدنية والعقلية، ونحو ذلك، وهذه الثروة لا تكفي لسد مطالب كل الناس، فهل من الحق والعدل أن يتساوى الناس في هذه الوسائل الموجودة أو الحق والعدل في عدم المساواة؟ هل من العدل أن توزع الثروة من أراض ومناجم ومتاع على الناس بالسواء فلا يكون غنى وفقير ولا أرباب أموال وعمال؟
تغالى قوم في ذلك، فطلبوا المساواة في وسائل الحياة كالمال ونحوه، وذكروا لذلك حججا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها.
والحق أن المساواة التامة لا تمكن لأسباب، أهمها: (1)
أن الناس مختلفون بطبيعتهم في قواهم وملكاتهم، فمنهم الذكي والغبي، والحاذق والأبله، والكفء وغير الكفء، هكذا خلقهم الله، وهكذا ولدوا، فمن الخرق أن نمكن الأغبياء والبله وغير الأكفاء من إدارة الأعمال الواسعة، وأن نمنحهم منحا كبيرة لا يستطيعون أن يتمتعوا بها، فإنا إذا منحناهم ذلك أساءوا استعمالها، ولم ينتفعوا بثمرتها، مع أنا لو أعطيناهم ضروريات العيش فحسب، وأعطينا ما زاد للكفء القادر سعد الجميع. (2)
أن الإختلاف بين الناس يبعثهم على الجد، فالفقير إذا رأى الغني يتمتع بأكثر مما يتمتع به هو جد في العمل ليكون مثله، وحامل الشهادة الثانوية إذا رأى حامل الشهادة العالية يمتاز بميزات أكثر منه رغب وعمل ليكون مثله، وتمتع بعض الناس بالملبس الجميل والمسكن العظيم والسيارات الفخمة يثير في النفس حب العمل لتصل إلى النتيجة المنشودة، ويبعث على الإختراع ويرغب المتزاحمين في استكشاف خير الطرق لنجاح عملهم، وفي ذلك خير للإنسانية على العموم، أما إن نحن سوينا بين الناس لم نجد ما يحملهم على الجد، وقد فطر الناس - متوحشهم ومتمدينهم - على أن الأمل يسيرهم، والرغبة في عيش خير من عيشتهم هي التي تشجعهم.
ومع أن دعاة المساواة لم يصلوا إلى غرضهم فقد كان لهم أثر كبير في تحسين حالة العمال، وترقية طبقة الفقراء، بزيادة أجورهم، وتقليل ساعات عملهم، وإنشاء المساكن الصحية لهم، ونحو ذلك.
فالحق أن المساواة المطلقة في كل شيء لا تمكن، وليست من العدل، خصوصا بعد ظهور أن الناس مختلون بالطبيعة، إنما هناك أشياء تعقل فيها المساواة وهى عدل وعدمها ظلم، من ذلك: (1)
المساواة أمام القانون، بمعنى أنه لا فرق أمامه بين غني وفقير، وشريف وغير شريف، كل يعاقب على جريمته إذا أجرم، وعند وضع القانون ينبغي ألا تفضل طبقة على طبقة. (2)
المساواة في الحقوق، فكل إنسان له من حق الحرية وحق الحياة ونحو ذلك ما للآخر، ليس لأحد الحق في أن يخطب أو ينشر رأيه دون الآخر، بل الكل في ذلك سواء، للأمير من الحق ما لأحد الرعية، وللغني ما للفقير. (3)
المساواة في المناصب، أعني أنه ليست المناصب مقصورة على فئة خاصة، بل كل من تتوافر فيه الصلاحية للمنصب له الحق فيه، وليس للاعتبارات الأخرى كالغنى والجاه دخل في التفضيل. (4)
المساواة في التصويت في الإنتخاب، فليس ذلك حق الأغنياء دون الفقراء، وهذا النوع موضع خلاف بين العلماء، ولم تتبع الأمم نمطا واحدا في السير عليه. (8-5) العدل والرحمة
كثيرا ما يقول الناس: «الرحمة فوق العدل» يعنون بذلك أن العمل حسب ما تقتضيه الرحمة أفضل من العمل حسب ما يقتضيه العدل، وهذا ليس بصحيح على عمومه، بل قد يكون صوابا وقد يكون خطأ، ونحن نذكر أمثلة مما تستعمل فيه هذه الجملة: (1)
موظف ليس كفئا، لا يحسن عمله، ولا يفيد الناس، أريد الإستغناء عنه من أجل ذلك لكنه كبير في السن، ورب أسرة وفقير، فيقال: «الرحمة فوق العدل» أى أن العدل يقضي بالإستغناء عنه، والرحمة تقضي ببقائه في عمله، ولكن يجب أن نطبق في هذه المسألة العدل لا الرحمة، فالعدل هنا فوق الرحمة، وليست الرحمة فوق العدل، ذلك لأن الضرر الذي ينال الناس من إهماله في عمله، وعجزه عن القيام به يفوق الضرر الذى ينال الموظف وأسرته، ولأن «المصلحة» التي يشتغل فيها ليست ملجأ للإحسان يرتزق منها مع عدم كفايته، بل هو يأخذ أجره في مقابل عمله، فمن لم يحسن عمله لم يستحق أجره، وكونه رب أسرة وفقيرا يجعله يستحق الإحسان لا من «المصلحة» ولكن من معاهد الإحسان. (2)
عامل ترام «كمساري» تريد أن تشفق عليه فتعطيه ثمن التذكرة ولا تأخذها منه «لأن الرحمة فوق العدل» وهذا أيضا خطأ، لأن ثمن التذكرة ليس ملكك، ولكن ملك الشركة ولا يصح أن تحسن من مال غيرك إلا برضاه، فإذا أردت الإحسان فأعطه من مالك الخاص بعد أن تدفع ثمن التذكرة. (3)
لص قبض عليه وهو ينتشل «محفظة» فأخذ يستعطف الناس ويبكي ليفرج عنه فيقولون: «الرحمة فوق العدل» وليس ذلك بصحيح، لأن معاقبة السارق من حق الأمة، فلا يملك العفو عنه بعض الأفراد. (4)
مسجون سجن ظلما وعدوانا يراد العفو عنه، فيقال: «الرحمة فوق العدل» وهو خطأ أيضا لأن العدل يقتضي كذلك ألا يسجن، فالرحمة والعدل يتفقان في المطلب، وليست الرحمة فوق العدل.
نعم في بعض المواضع يكون استعمال الجملة صحيحا، كما إذا كان لك دين على آخر فرحمته وتركت دينك، أو أجلته حتى يوسر، فالعدل أن تأخذه والرحمة أن تتركه أو تؤجله، والرحمة فوق العدل.
وجملة القول أن الجملة صحيحة إذا كان الذى يرحم هو الذى يملك حق العدل، ثم هو يتنازل عن حقه في العدل ويرحم، أما الرحمة حيث يكون العدل من حق غيره فخطأ بين كما مثلنا. (8-6) العدل والإحسان
كذلك كثيرا ما يقرن العدل بالإحسان، ونعني بالعدل أداء الواجب من غير تحيز، وبالإحسان الفضل في أداء الواجب والزيادة عليه، ولنضرب لذلك مثالا يتجلى فيه معنى الإحسان.
هب أن اثنين اشتركا في عمل، وكان أحدهما قويا والآخر ضعيفا، فموقف القوي مع الضعيف لا يعدو أحوالا ثلاثة:
الأول:
أن يستغل القوي مركزه، ويقول: إنني أقوى منه، فلأنتهز فرصة ضعفه وأكلفه عمله وجزءا من عملي، فإذا لم يعمل أجبرته واتخذت ما أستطيع من الوسائل لإرغامه، وهذا موقف يمثل المبدأ المشهور «الحق للقوة» وهو مبدأ سار عليه الناس في حالة بداوتهم وهمجيتهم. ولا يزال يطبق بين المتمدينين وإن كان أقل من قبل، وهذا هو «الظلم» بعينه.
الثاني:
أن يقول القوي: إن علي نصيبا من العمل، وعلى زميلي نصيبا، ولست أستغل قوتي فأحمل زميلي فوق نصيبه، ولا أطبق مبدأ «الحق للقوة» ولكن أعمل واجبي لا أكثر ولا أقل، وليعمل هو نصيبه لا أكثر ولا أقل.
وهذا الموقف هو العدل، يتساوى فيه العاملان بأن يعمل كل واجبه.
الثالث:
أن يقول القوي: إني أستطيع بحكم قوتي أن أرغم زميلي على أن يعمل أكثر من نصيبه، وأستطيع أن أعدل معه فأكلفه نصيبه فقط، ولكن سأعمل فوق ذلك، سأعمل نصيبي وأعينه على نصيبه، سأساعده في نصيبه لأنه أخي، ولأني لو كنت مكانه لتمنيت أن يعينني زميلي، فلأعاملة بما أحب أن أعامل به لو كنت مكانه، ولو كنت أنا الضعيف لتمنيت أن القوي يحمل عني بعض العبء، فلأحمل الآن بعض عبئه جريا مع القاعدة الذهبية «أحب لأخيك ما تحب لنفسك».
هذا هو «الإحسان» وهو موقف أشرف من العدل، وأعلى منه شأنا. (9) الإعتماد على النفس (9-1) معناه
من أهم الفضائل الإعتماد على النفس، ويمكن الإنسان أن يعودها من صغره، فلو أن الوالدين أفهما أطفالهما وجوب عنايتهم بأنفسهم في نظافة ملابسهم وانتظامها وأنهم هم المسئولون عن ذلك كان هذا بذرة للاعتماد على النفس.
ويستطيع الوالدان أن ينميا هذه الفضيلة بالإصغاء إلى ما يبديه الطفل من الأسئلة والإجابة عليها، وإظهارهما احترام آرائه ومناقشتها، وإبداء ما فيها من ضعف، في لطف، مهما كانت الأسئلة والآراء سخفية.
إذا سلك الوالدان هذا المسلك شعر الطفل بأن له شخصية محترمة ، فنما عنده حب السؤال، وحب تكوين الآراء، ولم يصبح ببغاء يردد فقط ما يسمع ويرى، وزاد عنده الشعور كذلك باحترام ما لغيره من شخصية، فهو يعامل اصدقاءه وزملاءه بالطريقة التي يعامله بها أبواه، فيصغي للآراء المخالفة لرأيه، وينقدها في أدب، فيزيد ذلك في نمو شخصيته واستقلاله.
كذلك مما يعين على نمو هذه الفضيلة أن يجعل الوالدان لأولادهم «مالية خاصة» يستولون عليها، ويتصرفون فيها بحريتهم، ثم يصحح الوالدان ما ارتكب الأطفال من أخطاء فيها، وهذا هو الطريق الوحيد لتدريبهم على تحمل المسؤولية، وشعورهم بالشخصية، فبيع الأطفال وشراؤهم، ونجاحهم أحيانا وغبنهم أحيانا، يجنبهم الخطأ في المستقبل، وأكبر برهان على ما نقول ما نرى من شبان حرموا المال في صغرهم ثم أعطوه دفعة واحدة في شبابهم فأساءوا التصرف، ووقعوا في أضرار جسيمة، لأنهم لم يدربوا التدريب الكافي منذ نشأتهم.
فإذا ذهب الطفل إلى المدرسة، وعوده المعلمون الإستقلال بنفسه في بعض أعماله، كحل بعض المسائل الحسابية، والكشف في المعاجم عن الكلمات التي لم يفهمها، وتركوه ونفسه يفكر في المعضلات، ويتفهم بعض الجمل الصعبة التي تعترضه نمت عنده هذه الفضيلة.
إن من اعتاد ألا يتحمل شيئا من العبء بل ترك غيره يحمل عنه عبأه لا يستطيع بعد السير في الحياة، فالتلميذ الذي ينتظر جاره حتى يحل المسائل ثم ينقلها منه، أو ينتظر المدرس دائما حتى يشرح له ما غمض عليه لا يمكن أن يأتي يوم يكون فيه متعلما حقا، فالشجرة التي تسندها دائما على حائط لا تحمل نفسها، إنما الشجرة التي نمت بنفسها، واعتمدت على ذاتها هي التي تقاوم العواصف، وتكون أصلح للبقاء.
والإعتماد على النفس وسيلة من وسائل الإقتصاد، فالأم التي تعتمد في كثير من شؤون بيتها على نفسها تقتصد كثيرا، والرجل الذي عود نفسه أن يصلح الأشياء الصغيرة في بيته يوفر كثيرا، وهكذا.
كذلك هو الوسيلة الوحيدة للتعلم، فالطفل لا يستطيع أن يتعلم المشي إلا إذا اعتمد على نفسه وسقط ثم قام، ولا يستطيع أحد أن يتعلم السباحة بقراءة كتاب فيها، إنما يتعلم ذلك باعتماده على نفسه وفشله مرة ونجاحه أخرى، وإنما نتعلم القراءة والكتابة بمحاولاتنا، فإذا اقتصرنا على أن نسمع غيرنا يقرأ، ونظرنا غيرنا يكتب، فمحال أن نقرأ أو نكتب، وهكذا الشأن في كل علم.
وليس يمكن أن يدوم الزمن الذى يحمل عنا عبأنا فيه آباؤنا، بل لا بد من يوم نحمل فيه عبأنا وعبء غيرنا، فكان حتما أن نتسلح من صغرنا بالإعتماد على النفس حتى إذا جاء ذلك اليوم كنا على استعداد لمواجهته، سيأتي اليوم الذي نكلف فيه أن نحصل المال ننفق منه على أنفسنا ومن نعولهم، فلا بد أن نمرن من صغرنا على العمل الذي نعد أنفسنا له من تجاره أو منصب أو حرفة، وهب أننا أغنياء ولسنا في حاجة إلى منصب أو عمل فليس من الحق أن نعيش عالة على العاملين، بل الحياة نفسها عبء ثقيل إذا لم تلطف بالعمل.
وطريقة إعدادنا لذلك أن نتسلح بالعلم وبالخلق، فكل تجارة وكل منصب وكل حرفة لا يفلح صاحبها إلا إذا علم ما يتصل بها وتخلق بما يلزمها. (9-2) كيف نربي فضيلة الإعتماد على النفس؟
من خير الوسائل لذلك أن يعود المعلمون الطلبة أن يواجهوا العقبات بأنفسهم، وأن يطلبوا منهم بذل الجهد في حلها، ولا يلقوا إليهم بالمعلومات إلا بعد أن يعمل الطلبة أذهانهم فيها، وكلما أجهد الطالب نفسه في الإستفادة كان أقرب إلى النجاح، فليس أعلم الناس من كان لديه أحسن مكتبة، لأن هذه المكتبة لا تفيده إلا بقدر ما يهضم منها. وهذا هو السبب في أن أبناء الفقراء وأوساط الناس - عادة - أقرب إلى النجاح من أبناء الأغنياء، لأن الأولين تدعوهم قلة المال إلى بذل الجهد، ومحاسبتهم أنفسهم على ما ينفقه عليهم آباؤهم، ويعملون لأنفسهم حيث يرتكن أولاد الأغنياء في كثير من شؤونهم على غيرهم.
إن الصعوبات التي يلقاها الإنسان في حياته هي التي تصقل ملكاته، والإنهماك في الترف والنعيم يورث الخمول، وليس يجلى الذهب إلا في البوتقة، اعتبر في ذلك بالنبات، فإن النبات الذى تربى في حديقة المنزل وبين جدرانه، ولم يعتد العطش، ولم يقابل العواصف، يكون نباتا رقيق الحال لا يعيش إذا تعرض للجو الخارجي، وعلى العكس من ذلك ما نبت في الصحراء بين الشمس القاسية، والريح العاتية، كذلك الناشئ إذا نشأ في مهد النعيم وعود أن يرى كل شيء حسب ما يطلب لا يستطيع أن يكون رجلا يواجه الحياة.
يجب أن نتعود الإستقلال في الرأي فلا نقتصر على أن نكرر ما نسمع، ونعني بالإستقلال في الرأي أن نكون فكرنا من أنفسنا، ندرس الشيء ثم نعتقد ما يؤدينا إليه بحثنا ولو خالفنا في ذلك غيرنا، وقد كان ذلك دائما عمل المصلحين وكبار الرجال، يفكرون بعقولهم لا بعقول غيرهم، ولا يتبعون رأي غيرهم إلا إذا قام البرهان على صحته، ثم إذا رأوا حقا قالوا به مهما كانت نتائج قول الحق.
للاعتماد على النفس لذة يشعر بها الإنسان وإن قلت نتائج ما يصدر عنه، فكلنا يسر من ربح قليل أتى ببذل الجهد، ولا يرضى عن كثير قدم إليه احسانا، والرجل يسر ببيته وإن قل متاعه، لأنه نتيجة مجهوده العزيز عليه.
النضال في الحياة هو الذي يكون المرء، والعقبات التي يصادفها في طريقه فيبذل الجهد في تخطيها هي التي تربي نفسه، وتعده لأن يكون عظيما، والإنسان قد يتعلم من فشله أكثر مما يتعلم من نجاحه، فلا خوف من بذل الجهد أن يعقبه فشل ما دام يفتح عينيه ويدرس التجارب التي عاناها، ويتجنب الأخطاء في مستقبل حياته، فقائد الجيش يتعلم كثيرا من الوقائع التي هزم فيها، والسياسي يتعلم كثيرا من مواقف فشله، والعالم في دراسته يستفيد كثيرا مما ارتكب من أغلاط، والخطيب الماهر ما كان كذلك إلا بعد أن خطب مرارا وسخر الناس منه، وكذلك الكاتب والشاعر والفنان.
فإن أردت النجاح فاعتمد على نفسك في تعلمك وفي تجارتك وفي منصبك، وتعلم مما أخطأت، فإن هذا هو السبيل الوحيد للنجاح. (10) الطاعة
رأينا فيما سبق أن الإنسان عضو في جمعيات كثيرة: عضو في جمعية الأسرة، وعضو في جمعية المدرسة، وعضو في جميعة الأمة، وهكذا.
لكل جمعية من هذه الجمعيات قوانين لا بد أن تتبع وإلا لا يمكن بقاؤها ، ففي الأسرة - مثلا - يجب على الوالدين أن يطعموا أولادهم ويربوهم، وعلى الأولاد أن يتبعوا أوامر والديهم، وإلا لما بقيت الأسرة، فلو أن كل طفل في الأسرة فعل كما يهوى، ولم يخضع لأي أمر، ولم يعن الوالدان أية عناية بأطفالهما، لصارت معيشة الأسرة مستحيلة. ولو أن كل تلميذ في مدرسة سار كما يشتهي، حضر أو لم يحضر، وإذا حضر فعل ما يشاء، ولم يفعل ما يشاء، وفعل كذلك المعلمون في المدرسة، لم تعش المدرسة أياما، ولو أن كل جندي في الجيش اعتبر نفسه مساويا للقائد، وعمل برأيه فسار يمينا إذا أمره القائد أن يسير شمالا، لم يكن هذا جيشا صالحا، وكان نصيبه الفشل لا محالة.
من هذا يتضح أن لكل جمعية من بيت ومدرسة وجيش قوانين لا يمكن أن تبقى هذه الجمعيات بدونها، وأن صلاحها بطاعة قوانينها.
والعصيان في كل مجتمع يجر إلى الفوضى، لأن معنى العصيان إنعدام القانون، وإقامة الفرد شهوته وهواه مقام القانون، ومعنى هذا أنه يريد أن يتخذ الناس إرادته وهواه قانونا بدل القانون الأخلاقي، وإرادة الفرد لا يمكن أن تقهر القانون الأخلاقي كما لا يمكن أن تقهر القانون الطبيعي، فلو اجتمع الناس أن يغيروا طبيعة الماء وقوانين الجذب ما أمكنهم، كذلك لا يمكنهم أن يغيروا طبائع المجتمعات وتغيير ما يصلحها وما يفسدها، فخير وسيلة لاصلاحها الجرى حسب القوانين التي تبقيها وترقيها.
بعض هذه القوانين الأخلاقية التي لا بد منها للمجتمع وضعت في القوانين الوضعية كتحريم السرقة والقتل، وبعض القوانين كترك الحسد والكذب ترك للأفراد وضمائرهم، وكلها قوانين أخلاقية يجب إطاعتها، فإن إطاعتها مجلبة للخير والسعادة، ومعصيتها مجلبة الشر والشقاء.
قد يشعر الإنسان أن في إطاعة الأمر ذلة، وأن في العصيان حرية، وهذا خطأ في التفكير، فإن في الطاعة الحرية، وفي العصيان ضياعها، قد يتخيل الطالب أن المعلم إنما يأمره حبا في الأمر، ورغبة في إظهار السلطة، وليس كذلك، فإن الآمر العاقل إنما يأمر مراعيا المصلحة العامة، وهو مثلك خاضع لها، وكل الفرق أنه بحكم مركزه وتجاربه تعود أن ينظر إلى الخير بأحسن مما تنظر، فالحق أن الآمر والمأمور كلاهما يطيع، يجب ألا يأمر الآمر إلا بما فيه خير المأمورين، أفرادا ومجتمعين، فالمأمور لا يطيع لأجل الطاعة نفسها، ولا الآمر يأمر لذة في الأمر، وإنما نأمر ونطيع ليصل كل منا إلى سعادته وفلاحه.
وهناك مواقف يجب ألا نطيع فيها، كما إذا أمرنا من صديق بسرقة شيء، أو غش في امتحان، أو تزوير في ورق، أو انتخاب من لا يصلح، هنالك يكون العصيان فضيلة لأن في إطاعة هذه الأوامر وأمثالها خروجا على الأخلاق ومخالفة للضمير، ونحن ملزمون باتباع قوانين الأخلاق وسماع صوت الضمير، وإنما أمرنا بالطاعة للوالدين والمعلمين وأمثالهم لأن ثقتنا بهم جعلتنا نعتقد أنهم أوسع منا نظرا، وأصح رأيا، فهم إذا أمرونا فإنما يأمرون بما يتفق والأخلاق، وإذا نهوا فإنما ينهون عن المنكر والإثم، وهم - بحكم صلتهم ومركزهم - لا يودون لنا إلا الخير.
والحق أن الطاعة هي الفضيلة البارزة التي تميز بين المتمدينين والمتوحشين، في الأمة الممدنة يطيع الطفل أوامر أبويه علما منه بأن لا سعادة للأسرة إلا بالطاعة، والأطفال يتعلمون الطاعة في البيت فيطيعون في المدرسة، لأنهم يشعرون أن الحياة المدرسية لا تكون سعيدة إلا بالطاعة، ولا قيمة للمدرسة إلا بالطاعة، وإذا خرج من المدرسة إلى الحياة العامة فهو مطيع لقوانين البلاد، مطيع لقوانين الجمعيات التي ينتسب إليها. وعلى العكس من ذلك الأمة التي لم تأخذ بحظ وافر من المدنية، ففي كل مجتمع عصيان، في البيت، وفي المدرسة، وفي محال اللهو، وفي سماع المحاضرات، وفي الشارع، ومظهر هذا العصيان عدم النظام، فإن النظام إنما يكون بمراعاة القوانين الموضوعة والقوانين المتعارفة، والسير على وفقها من غير انتظار رقيب، ولا محاسبة إلا محاسبة الضمير.
وخير الطاعة ما صدرت عن قلب لا خوفا من عقوبة أو رغبة في مثوبة. (11) الإنتفاع بالزمن
الزمن كالمال، كلاهما يجب الإقتصاد فيه وتدبيره، وإن كان المال يمكن جمعه وادخاره لوقت الحاجة بخلاف الزمن .
قيمة كل من الزمن والمال في جودة إنفاقه وحسن استعماله، فالبخيل الذي لا ينفق من ماله إلا فيما يسد رمقه فقير، كمن كانت أمواله مزيفة، كذلك من لم ينفق زمنه فيما يزيد في سعادته وسعادة الناس فعمره مزيف.
إنا نعيش في زمن محدود، ليل ونهار يتعاقبان بانتظام، ليس يطغى أحدهما على الآخر، وحياة مقسمة تقسيما محدودا، صبا فشباب فكهولة فشيخوخة، ولكل قسم عمل خاص لا يليق أن يعمل في غيره، كالزرع إذا فات أوانه لم يصح أن يزرع في غيره، وحياة محدودة، فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت.
وما فات من الزمن لا يعود، فالصبا إذا فات فات أبدا، والشباب إذا مر مر أبدا، والزمن المفقود لا يعود أبدا.
وإذا كان محدودا وكان لا يمكن أن يمد فيه أو يقصر، وكانت قيمته في حسن إنفاقه، وجب أن نحافظ عليه ونستعمله أحسن استعمال.
وليس للانتفاع بالزمن والمحافظة عليه إلا طريق واحد، هو أن يكون لك غرض في الحياة ترضى عنه الأخلاق فتنظم زمنك للوصول إليه.
وإنما يضيع الزمن بأمرين:
الأول:
ألا يكون للإنسان غرض يسعى إليه، قال عمر بن الخطاب: «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة» - فما أضيع زمن قارئ يقرأ ما يقع في يده من الكتب من غير أن يكون له غرض معين، كبحث موضوع خاص أو دراسة مسألة خاصة - وما أتعب من يمشى في الطريق لا لغرض، يسير من شارع لشارع ويتنقل من حانوت لآخر لا لغرض معين - وتحديد الغرض يوفر من الزمن الشيء الكثير، ويسير الإنسان في الحياة على هدى، كلما صادفته أمور عرف كيف ينتخب منها ما يغذي غرضه، ويتجنب ما لا يتفق معه، إن الذين لا يحددون أغراضهم ويتركون الزمن يمر عليهم كما يمر على الجماد قلما يصدر عنهم خير كبير أو يأتون بعمل عظيم، والإنسان بلا غرض كالسفينة في البحر بلا مقصد.
ويلاحظ أن أكثر الناس عملا أوسعهم زمنا، ذلك لأنهم محدودو الغرض، فهم يوجهون أعمالهم لنيله، ولا يصرفون زمنهم في التردد والإختيار، ولا يكونون كرة في يد الظروف تلعب بهم كما تشاء، بل هم الذين يخلقون الظروف ويتصرفون فيها حسب أغراضهم في الحياة.
الثاني:
مما يضيع الزمن أن يكون للإنسان غرض محدود ولكنه لا يخلص لغرضه، فلا يجد للوصول إليه، ولا يعمل ما يتفق معه.
عدم الغرض وعدم الإخلاص له هما اللصان اللذان يسرقان الزمن ويضيعان فائدته.
ومن نتائج هذين العدوين التأجيل، وعدم الدقة في مراعاة الوقت المحدود للعمل، وعدم المواظبة - فتأخر دقائق عن البدء المحدد معناه ضياع دقائق من وقت العمل، وذلك يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما الإسراع في العمل وعدم الدقة فيه ليعوض الزمن الفائت، وإما التعدي على أوقات خصصت لواجبات أخرى - ومن هذا النحو تأجيل العمل إلى وقت غير وقته، فالعمل المؤجل قلما يعمل، وإذا عمل فقلما يعمل بإتقان كما إذا كان في وقته.
وليس يتطلب الإنتفاع بالزمن أن نعمل باستمرار، وألا نترك وقتا للراحة، وإنما يتطلب أن نستعمل أوقات الراحة والفراغ استعمالا يجعلنا أقدر على العمل، فإذا صرفنا وقت الفراغ في كسل وخمول لم ننتفع به ولم يفدنا في العمل، وإذا نحن صرفناه في لعب مفيد أو في رياضة بدنية أفادنا ذلك في عملنا، وأنالنا من القوة ما نستطيع أن نخدم بها غرضنا، وكان هذا تدبيرا واقتصادا.
الزمن هو المادة الخام للإنسان، كالخشب الخام في يد النجار والحديد في يد الحداد، فكل يستطيع أن يصوغ منه حياة طيبة بجده، وحياة سيئة بإهماله، ولأجل أن نجعل لحياتنا قيمة يجب أن نقضي أوقاتنا فيما يتفق وأغراضنا.
ومما يعين على الإنتفاع بالزمن أن نعرف - بعد تحديد الغرض - هاتين المسألتين: (1)
كيف نبتدئ العمل. (2)
وكيف نستمر فيه حتى ننتهي منه.
لعل من أشق الأشياء معرفة الإنسان كيف يبتدئ عمله، وكثير من الزمن يذهب سدى في التفكير في ذلك - ترى الطالب يريد مذاكرة دروسه فيفكر بم يبدأ، فيرى أن يبدأ بالعلوم الرياضية مثلا، ويشرع في ذلك ثم يستصعبها فيشرع في غيرها وهكذا، فهو يصرف زمنا طويلا قبل أن يبدأ بجد - أضف إلى ذلك أن بدء الشيء صعب عادة لعدم المران، أو لأنه انتقال من راحة لذيذة إلى عمل يشق عمله.
وعلاج الأمر الأول - وهو بم يبدأ - أن يفكر - قبل العمل - في أولى الأشياء بالبدء، ويدرس وجوه الترجيح ثم يرتب ما يليه وهكذا، ثم يعزم عزما قويا لا يشوبه تردد، ولا يسمح لنفسه بتغيير ما عزم عليه مهما صادفه من الصعوبات، أما من يرى أن البدء صعب عليه ويرى نفسه منصرفة عن العمل فما يفيده في ذلك أن يقرأ فصلا من كتاب يشجعه على العمل، أو قطعة من الشعر تثير ميله إلى الجد وتعيد إليه نشاطه، أو يستحضر في ذهنه نتائج الكسل والجد، أو يتذكر أشخاصا جدوا فنبغوا في الحياة.
فإذا بدأ فقد قطع شوطا بعيدا للنجاح، بعد ذلك يجب أن يستمر، وإنما يستمر بالعزم القوي الثابت، ويشجعه على ذلك أن يكون العمل الذى يختاره في الحياة عملا يتفق ونفسه، أعني أن يكون عنده استعداد له وميل إليه، يشعر منه بفائدة ولذة، فأكثر أسباب الملل، يرجع إلى سوء اختيار العمل. (11-1) أوقات الفراغ
إن استعمال أوقات الفراغ استعمالا حسنا من أهم مسائل الحياة التي يجب العناية بها والتفكير فيها، فإن أكثر أعمارنا تذهب سدى لأنا لا نعرف كيف نستعمل أوقات الفراغ، يقضيها الأطفال في الحارات والشوارع بلا فائدة، ويقضيها الشبان والشيوخ على «القهوات» حيث لا هواء نقيا ولا منظرا حسنا ولا رياضة بدنية ولا فكرية - أوقات طويلة تذهب في كلام لا قيمة له، أو لعب لا يفيد، ولا يقصد منه إلا «قتل الوقت» - وأثر ذلك في أوقات العمل كبير، فمن لم يعرف كيف يلهو لم يعرف كيف يجد.
لعل من أهم الأسباب لذلك قلة الأندية للرياضة البدنية في الأحياء المختلفة، ففي أكثر الأحياء لا تجد مكانا يرتاض فيه إلا الشارع «والقهوة». يجب أن تكون أندية اللعب والحدائق والمكاتب في كل حي من الأحياء.
أضف إلى ذلك أن جهل الأمة وعدم تربيتها تربية صحيحة يفسد ذوقها، وهذا هو السبب في أنك تجد «القهوة» والروضة والمكتبة والملعب في حي واحد ثم تجد «القهوة » وحدها هي العامرة بالزائرين.
وسبب ثالث وهو أن فقدان السعادة المنزلية في بيوتنا جعلنا نفر من البيوت - التي كان يجب أن تكون أعز شيء عندنا - إلى الأندية العامة نمضي فيها أنفس أوقاتنا. وسبب فقدان السعادة المنزلية يرجع في الأغلب إلى انتشار الفقر وجهل الزوجين، وعدم معرفتهما «فن الحياة». (12) التعاون
التعاون نوعان: تعاون بين أفراد الأمة الواحدة، وتعاون بين الأمم (12-1) التعاون بين أفراد الأمة الواحدة
الإنسان مدين بحياته ووجوده للمجتمع، فلولا اجتماع أبويه وتعاونهما ما وجد ولا تربى، وليس يستطيع بعد أن ينقطع عن العالم ويتجرد من كل ما كسبه منه، فهو حتى لو عاش في جزيرة وحده، إنما يستعمل - في تحصيل رزقه وصيد الحيوانات التي حوله - الآلات التي علمه إياها المجتمع، بل هو لو لم يتخذ معه آلات ولا كساء فإنما يجمع ما يقتاته وينسج ما يلبسه بمعلومات هو مدين بها لمجتمعه، فالتعاون بين الأفراد لا بد منه للحياة، وكلما تقدم الناس في الحضارة كانت حاجتهم إلى التعاون أشد، ويظهر ذلك جليا إذا قارنت بين سكان القرى وسكان المدن، فالفلاح يزرع، وهو يطحن ويخبز، ولا يستعين على ذلك إلا بأهل بيته، وقد ينسج ملابسه بنفسه من صوف غنمه، ويربى أولاده في حقله، وعلى الجملة فمطالب الحياة لديه بسيطة قليلة، يقوم في أكثرها بنفسه وأهله، أما ساكن المدن فمحتاج إلى مخبز يعد له الخبز، ولبان يحضر له اللبن، وفي ملابسه يحتاج إلى مراكب تستورد له ملابسه من الخارج، وخياط يخيطها له، ومدارس تربي أولاده، وترام أو سيارات ينتقل عليها، وجرائد يقرؤها، ونحو ذلك من المطالب التي يستغني القروي عن كثير منها.
وكثرة الحاجات والمطالب، وشدة الحاجة إلى التعاون، ألجأت الناس إلى توزيع الأعمال، وتخصيص كل طائفة لعمل، وتعاون كل طائفة من العمال مع الأخرى.
أنظر - مثلا - إلى الكتاب الذى تقرؤه، فقد اشترك فيه ألوف من العمال قبل أن يصل إلى يدك، وتعاون عليه طوائف من الصناع كل طائفة تخصصت لعمل، فطوائف لصنع الورق قد تخصصت كل جماعة لنوع من صناعته، هؤلاء لعجينته، وهؤلاء لصقله وهكذا، والمؤلف الذى ألف الكتاب قد اشترك في إعداده للتأليف جماعة كثيرون، ربوه وأعانوه وعلموه حتى استطاع أن يؤلف، وإذا نظرت إلى المطابع التي طبعت الكتاب اتسع مجال النظر، فكم من الصناع اشتركوا في صنع آلات الطباعة! وصنع الحبر، وصنع الحروف! وكم من العمال صفوا الحروف ثم طبعوها! وهكذا، ولولا هذا التعاون بين طوائف العمال ما وصل الكتاب إلى يدك.
وتوزيع العمل على الناس، وتخصيص كل طائفة بعمل ساعد على الإتقان، كالذي ترى في لاعبي الكرة، فلو أنك رتبت اللاعبين، وكلفت كل لاعب عملا خاصا، انتظم اللعب، وكان أوفى بالغرض، وعلى العكس من ذلك إذا أنت سمحت لكل لاعب أن يأتي بكل أعمال اللعب من غير تحديد.
كذلك كان هذا التوزيع من وسائل توفير الزمن وتوفير المال، فالقمح لو اشتغل أفراد في حصاده، وآخرون في طحنه، وطائفة ثالثة في خبزه، أخذ زمنا أقل في إعداده، وكان أرخص مما إذا اشتغلت طائفة واحدة بالحصاد والطحن والخبز معا.
لعلك نظرت إلى آلة من الآلات الكبيرة كآلة الطباعة، أو آلة رفع المياه، أو توليد الكهرباء، وكيف رأيت أن كل آلة مركبة من أجزاء مختلفة، كل جزء له عمل خاص، فعجلات ومكابس ونحوها تتحرك حركات مختلفة، وكل جزء يتحرك حركة مناسبة للآخر، ومؤدية لتحصيل الغرض من الآلة، كذلك الناس والحياة، هم آلة كبيرة، كل يؤدي عملا جزئيا، وكل يتعاون مع الجزء الآخر في عمله، ولو قعد جزء هام من العمال عن العمل لوقف سير العمل جميعه، كما إذا وقف جزء هام من آلة الطباعة، وكل جماعة من الناس صالحون لنوع من العمل قد لا يصلحون لغيره، فالواجب أن يعملوا ما صلحوا له وأن يؤدوا عملهم على أحسن وجه، علما بأن بقية أجزاء الأمة يتوقف عملها على عملهم، وإن لم تر ذلك عيونهم.
كثيرا ما تقرأ أو تسمع أن بعض المؤلفين وعظماء الرجال ماتوا غرقا من إهمال ربان سفينة، أو سقط عليهم البيت من إهمال مهندس، أو نحو ذلك، كل هذا يدلنا على أن كل إنسان في أمة يتعدى عمله غيره من الناس، وقد يصل أثر ذلك إلى حياتهم، وهذا يجعلنا نشعر بالمسئولية الملقاة على عاتقنا، ويوجب علينا أن نخرج العمل الذى عهد إلينا كأحسن ما نستطيع، كما يوجب علينا ألا نحتقر من يعمل غير عملنا، كل يؤدي واجبا، وكل لا بد من عمله لسير الأمة، فالمؤلف إنما يستطيع أن يتفرغ للتأليف لأن غيره من الناس يشتغل له في إعداد مأكله ومشربه وملبسه، وأنت إنما تتعلم وتتفرغ لتحصيل علمك لأن غيرك قد كفاك مؤونة السعي لتحصيل العيش، وهكذا الناس، كل خادم وكل مخدوم، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولا يصح أن يسمح بالتعاون بين الأفراد أو الشركات إذا كان في ذلك ضرر بالأمة، كما يحدث في الإحتكار، فلو اتحدت شركات المياه والنور على رفع السعر حتى أرهقوا الشعب كان هذا ضربا من التعاون بين هذه الشركات، ولكنه تعاون ضار لا ترضى عنه الأخلاق، إنما ترضى الأخلاق عن أنواع من التعاون تزيد في رقي الأمة، كالتعاون على حماية العمال من أرباب رءوس الأموال، وكجمعيات التأليف، ونوادي الفنون والألعاب الرياضية، وجميعات البر والإحسان، وجمعيات التعليم، فإن التعاون بين هذه الجمعيات والنقابات يزيد في سعادة الأمة ويعين على نهوضها. (12-2) التعاون بين الأمم
هناك نوع آخر من التعاون هو التعاون بين الأمم، وذلك على ضروب شتى.
من ذلك التعاون التجاري، فخيرات هذه الأرض قد وزعت على العالم، فالبن والقطن والأرز والفاكهة والفضة والذهب والحديد ونحوها ليست مجموعة في بقعة واحدة، وإنما يكثر في أمة بعض الأشياء ويقل البعض الآخر وهكذا، فتحتاج الأمم إلى التعاون وتبادل ما بينهم من الخيرات، ولو أن كل أمة قصرت حياتها على ما عندها من خيرات لا تخمت في بعض الأنواع، وأحست بالجدب والفقر في البعض الآخر، ولم تستطع - على العموم - أن تعيش عيشة سعيدة، فبهذا التبادل تتعاون الأمم على السعادة، ولذلك كان من السخافة أن تعمد أمة إلى إفناء أمة أخرى إذ يكون مثلها مثل تاجر يعمد إلى إحراق منزل عميله.
كذلك تتعاون الأمم في نشر الحضارة، ولعل أوضح مثل لذلك اليابان، فقد رأت حاجتها إلى اقتباس المدنية الغربية فأرسلت البعثات إلى الممالك المختلفة لتدرس نظمها، وكانت النتيجة أن نظمت بحريتها على نمط البحرية الإنجليزية، وجيشها على النمط الألماني واقتسبت آلاتها من النمط الأمريكي أحيانا والإنجليزي أحيانا وهكذا.
وكذلك تتعاون الأمم في الإختراع والإستكشاف فالإنجليز أمدوا العالم بالآلات البخارية، وأمريكا وصلت إلى درجة عظيمة في استعمال الكهرباء، وعنها أخذ العالم، والكيمائيون الألمان اخترعوا كثيرا من عجائب الكيمياء، والفرنسيون استكشفوا كثيرا من ميكروبات الأمراض، ونجحوا في وصف علاجها، ولما اتجهت الأذهان لترقية الطيران تسابقت الأمم المختلفة، كل يدخل عليه نوعا من التحسين، وكل يريد الفوز والغلبة، وكل يستفيد مما يدخله الآخر من الإصلاح.
كذلك الشأن في العلوم والآداب والفنون، يظهر فيلسوف كبير في أمة فتنتفع الأمم الأخرى بعلمه، وتظهر رواية جميلة أو قطعة موسيقية ممتعة فتمثل أو توقع في الممالك الأخرى، حتى يكاد يكون العالم أو الأديب أو الفنان عالميا، نتاجه للأمم كلها لا لأمته.
وتبادل الآراء نوع من التعاون، فالأمة ترسل بعثاتها إلى الأمة الأخرى تدرس آراءها وتستفيد منها، كالذي ترى في المؤتمرات، تعقد لمختلف الموضوعات، كمؤتمر التربية، ومؤتمر التاريخ، ومؤتمر الجغرافيا، ونحو ذلك، يجتمعون من عدة أمم فيتبادلون الأفكار، ويستفيد كل مما وصل إليه بحث الآخرين.
وتتعاون الأمم على ما يصيب إحداها من الكوارث، فزلزال مسينا، وثوران البراكين، ونحو ذلك يحل بالأمم أعظم المصائب، فتتعاون الأمم على درء الشر، وإغاثة المنكوبين، بما يتبرعون به من مال ورجال.
ومن مظاهر هذا التعاون ما كان بين الحكومات، فالمعاهدات بين الأمم في تبادل البريد والتلغرافات ونحو ذلك أثر من آثاره، وكذلك تعاقد حكومات الأمم المختلفة على منع تجارة الرقيق، ومحاولتهم الآن التعاون على نقص التسليح، والعمل على منع الحرب، وإحلال عصبة الأمم محل تحكيم السلاح، وإن كان ذلك مما لا يزال أملا يرتجى. (13) خلاصة
وبعد، فهذه الفضائل وأمثالها لا يرقى الإنسان في اكتسابها إلا بأمرين:
الأول:
محاسبة النفس وسؤالها من حين إلى حين في أية فضيلة ارتقيت وفي أيتها ضعفت، هل أنا اليوم أصدق منى أمس، وإلى أية درجة نجحت في إلتزامي الصدق، بهذا الإمتحان ونحوه يستطيع الإنسان أن يتتبع نفسه ويراقبها في سيرها.
إذا رأيت نفسك تغضب كل يوم فاجتهد أن يمر يوم لا تغضب فيه، ثم اجتهد أن يمر يومان فثلاثة، فإذا نجحت في مرور أيام لم تغضب فيها فتصدق بصدقة شكرا لله على تقدمك في النجاح في كسب هذه الفضيلة، وانتقل إلى غيرها وهكذا.
الثاني:
الإرادة القوية المسيطرة على النفس، فالإرادة قابلة للتمرن، ومثلها مثل من يبتدئ في ركوب دراجة (بسكليت) فهو في أول أمره يختل توازنه، ولا يستطيع أن يسيطر عليها، يعلم ما يريد ولكن لا يستطيع أن يصرفها كما يريد، وبالتدريج والمرانة تطيعه الدراجة، وتنتظم حركته، وتصبح تحت سلطته، ويسير في سهولته سيرا آليا.
وهذا هو ما ينبغي في سيطرة الإنسان على نفسه، يكون لإرادته من القوة ما تستطيع به أن توجه النفس إلى ما تعتقد من خير وصواب.
Unknown page