وحين سفور الصبح تقدم الجيشان للقتال، وبرزت صفوف العجلات وصاح المصريون صيحتهم المعروفة: حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، ثم قدموا بأنفسهم في معترك الموت لا يلوون على شيء، فالتقوا بالعدو في صدمات قاتلة واشتدوا عليه كما اشتد عليهم، وقاتلوا بالقسي والرماح والسيوف، ولاحظ الملك أحمس بالرغم من اشتداد القتال أن قلب جيش العدو يدير المعركة بمهارة فائقة ويرسل القوات هنا وهناك بانتظام ودقة، فعاين القائد البارع فإذا به غير حاكم هيراكونبوليس، وإذا به الملك أبوفيس نفسه الذي أهدى إليه التاج المرصع بالجواهر في قصر طيبة بجسمه البدين ولحيته الطويلة وبصره الحاد فتحفز أحمس لهجمات شديدة، وقاتل قتال الأبطال البواسل وحرسه يرد عنه هجمات العدو، فلم يلق فارسا من القوم إلا جندله في غمضة عين، حتى هابوا نزاله ويئسوا من التغلب عليه، وطال أمد القتال، واندفعت إلى الميدان قوات جديدة من الجانبين، فاستمر القتال على عنفه وشدته حتى أوشك النهار أن يزول، وفي تلك الساعة وقد نهكت قوى الطرفين انقضت قوة من عجلات الرعاة على جناح المصريين الأيسر بقيادة رجل شديد البأس، وضغطته ضغطا شديدا لم تفد معه المقاومة المنهوكة القوى، ومضت تصنع لنفسها ثغرة تندفع منها لتطويق القوى المحاربة أو للهجوم على المشاة؛ فأدرك أحمس أن ذاك القائد ذا البأس تحين في تعبهم فرصة مناسبة، وأنه ادخر قوته ليضرب ضربة قاضية، وخشي أن يظفر الرجل بغرضه فيوقع الاضطراب في صفوف جيشه المتراصة، أو يوقع مذبحة في مشاته؛ فرأى أن يقتحم قلب العدو بقوته ليضيق عليه، فيجد القائد الداهية نفسه شبه محاصر، ولم يتردد لأن الموقف كان خطيرا دقيقا، فأمر جنوده بالهجوم وهجم على القلب بحركة فجائية قوية، واشتد القتال إلى درجة مروعة مفزعة، واضطر العدو أن يتقهقر تحت الضغط الشديد، وحينذاك أرسل أحمس قوة من العجلات لتطويق القوة التي تشتد على جناحه الأيسر، ولكن القائد كان داهية بارعا؛ فعدل خطته بعد أن كاد يحدث الثغرة المطلوبة ورمى بقوة صغيرة من عجلاته تهجم على العدو، وتقهقر هو وبقية القوة بسرعة إلى جيشه، وفي أثناء هذه العملية الدقيقة استطاع أحمس أن يرى القائد الجسور وأن يعرف فيه خنزر حاكم الجنوب الجبار ببنيانه المتين وعضلاته الفولاذية؛ وقد كلفت هجمته الجبارة المصريين صرعى كثيرين من زهرة فرسان العجلات، وانتهى القتال بعد ذلك بقليل، فعاد الملك وجيشه إلى معسكرهم، وكان أحمس يقول متوعدا غاضبا: «لا بد أن نلتقي يا خنزر وجها لوجه ...» واستقبله رجاله بالدعاء، ووجد بينهم شخصا جديدا هو أحمس إبانا، فتفاءل من وجوده في المعسكر وسأله: ماذا وراءك أيها القائد؟
فقال أحمس إبانا: النصر يا مولاي، لقد أوقعنا بأسطول الرعاة الهزيمة وأسرنا أربع سفن كبيرة من وحداته وأغرقنا نصفه، وفرت سفن لا تغني ولا تعين.
فتهلل وجه الملك، ووضع يده على منكب القائد وقال: لقد كسبت لمصر بهذا النصر نصف الحرب، وإنني بك جد فخور.
فتورد وجه أحمس إبانا وقال بسرور: ما من شك يا مولاي في أننا دفعنا ثمن النصر غاليا، ولكن أصبحت لنا السيادة المطلقة على النيل.
فقال الملك بلهجة رزينة: كبدنا العدو خسارة كبيرة أخشى ألا نجد عوضا منها، والفوز في هذه الحرب لمن يقضي على فرسان عدوه.
وسكت الملك هنيهة ثم استدرك: إن حكامنا في الجنوب يدربون الجند ويبنون السفن والعجلات ولكن تدريب فرسان العجلات يتطلب زمنا طويلا، فلن ينفعنا في المعركة التي نخوض غمارها إلا استبسالنا حتى لا تواجه مشاتنا عجلات العدو مرة أخرى.
7
استيقظ الجيش مرة أخرى عند مطلع الفجر وأخذ في التأهب والاستعداد، وارتدى الملك لباسه الحربي واستقبل في خيمته رجاله وقال لهم: لقد صح عزمي على مبارزة خنزر!
فارتاع حور لهذا القول وقال برجاء عظيم: مولاي، ينبغي ألا تشل ضربة طائشة عملنا المجيد.
وتوسل كل قائد إلى الملك أن يأذن له في قتال حاكم الجنوب، ولكن أحمس شكرهم وقال لحور: لن يشل عملنا خطب وإن جل، ولن يعوقه مصرعي إذا صرعت، فلا يفتقر جيشي إلى القواد ولا تعوز بلادي الرجال، وما كان لي أن أضيع من بين يدي فرصة أواجه بها قاتل سيكننرع، فدعني أقاتله حتى أقتله لأوفي دينا في عنقي نحو روح كريم يراقبني من العالم الغربي: ولتنزل لعنة الرب بالمترددين الخائرين!
Unknown page