فابتسم لاتو وأشار إلى إسفينيس، ثم حنى هامته قائلا: إليكم أيها السادة ولي عهد المملكة المصرية، حضرة صاحب السمو الفرعوني الأمير أحمس.
وتصايح كثيرون: التاجر إسفينيس ولي عهد مصر الأمير أحمس؟
أما أحمس إبانا فقد سجد بين يدي الأمير وهو يبكي، فسجد الجميع وراءه، منهم من يبكي ومنهم من يهتف فيتصاعد الهتاف من أعماق قلبه!
واستأنفت القافلة رحلتها والفرح يشمل وحداتها جميعا، يود رجالها لو تطير بهم طيرانا إلى نباتا حيث ينتظرهم مليكهم المعبود كاموس وأمهم المقدسة توتيشيري .. ومضت أيام وليالي، ثم لاحت في الأفق نباتا بأكواخها الساذجة ومبانيها المتواضعة، وما زالت تقترب وتدنو وتظهر معالمها حتى رست القافلة إلى مرفئها، وشعر بالقافلة بعض الجنود فقصدوا إلى قصر الحاكم، وتجمع حشد النوبيين على الشاطئ ليشاهدوا السفن والقادمين عليها، ونزل المصريون إلى الشاطئ يتقدمهم الأمير أحمس والحاجب حور، ثم جاءت عربة مسرعة ونزل منها حاكم الجنوب رءوم، فحيا الأمير والقادمين معه، وأبلغهم تحية الملك وأسرته، وأخبرهم أن جلالته ينتظرهم في القصر، وهتف الرجال للملك طويلا، ثم ساروا في جموع غفيرة وراء أميرهم يتبعهم جمع غفير من النوبيين.
وكانت الأسرة الفرعونية تجلس تحت مظلة كبيرة في فناء قصر الحاكم، وقد غيرت تلك السنوات العشر منها ما غيرت، فترك الجد والصرامة والحزن في نفوسهم جميعا آثارا لا تمحى أبد الدهر، وكان أكبرهم تأثرا بالدهر، الملكتان توتيشيري وأحوتبي، فجف عود الأم المقدسة ومالت قامتها إلى الانحناء قليلا، وحفرت الآلام في جبينها الوضاء تجعداتها، ولم يبق من توتيشيري القديمة سوى بريق عينيها ونظراتها الدالة على الحكمة والصبر، وأما أحوتبي فقد جلل رأسها المشيب، وارتسمت على وجهها الحسن مسحة حزن ووجوم.
ولما رأى الشعب مليكه، سجد له، ثم تقدم أحمس من أبيه وقبل يد والدته الملكة ستكيموس وجدته أحوتبي وتوتيشيري، وقبل جبين زوجته الأميرة نيفرتاري، ثم وجه خطبته إلى الملك قائلا: مولاي لقد تعهد آمون عملنا بالنجاح، فإلى جلالتكم أقدم أول كتائب جيش الخلاص.
فلاح السرور في وجه الملك، وقام واقفا ورفع الصولجان تحية لقومه، فهتفوا له طويلا، ثم أقبلوا عليه يقبلون يده رجلا رجلا، ثم قال لهم كاموس: حياكم الرب أيها الطيبيون الشجعان الذين فرق البغي بيننا وبينهم، فقضى عليهم أن يساموا الخسف، كما قضى علينا أن نذوق مرارة الغربة عشرة أعوام كاملة، ولكن أراكم رجالا تأبون الضيم وتؤثرون مشقة الاغتراب وتعب الكفاح عن الرضى بالسلامة في ظل الذل، كما عهدتكم دائما وكما عهدكم أبي من قبل، فجئتم تصلون جناحي بعد أن تمزق أو كاد، وتثبتون قلبي وقد أرعشه جفاء الدهر، وكان من رحمة الرب آمون أن جاء أطهرنا قلبا وأعظمنا أملا الأم توتيشيري في المنام، وأمرها أن تبعث بابني أحمس إلى أرض الآباء والأجداد ليأتي بالجنود الذين يخلصون مصر من عدوها ومذلها، فبعثت بابني كما أمر الرب وأتى بكم، فمرحبا بكم جنود مصر وجنود كاموس، وسيأتي غدا آخرون؛ فلنستوص بالصبر ولنعد إلى العمل؛ وليكن شعارنا الكفاح، وأملنا مصر، وإيماننا آمون.
فصاحوا جميعا كرجل واحد: «الكفاح ومصر وآمون ...» ثم قامت توتيشيري واقفة وتقدمت خطوات متوكئة على صولجانها، ثم قالت للرجال بصوت قوي سليم النبرات: يا أبناء طيبة المجيدة الحزينة، تقبلوا تحيات أمكم الكبيرة، ودعوني أقدم لكم هدية صنعتها بيدي لكم لنعمل جميعا تحت ظلها.
وأشارت إلى أحد الجنود بصولجانها، فاقترب من الرجال وقدم إليهم علما كبيرا عليه صورة معبد آمون يحيط به سور طيبة ذو الأبواب المائة، فتلقفته الأيدي بحماسة، ودعوا لأمهم دعاء حارا وهتفوا لها ولطيبة المجيدة، فابتسمت توتيشيري وأضاء وجهها نور بهيج، وقالت: يا أبنائي الأعزاء، أصارحكم بأني لم أستسلم إلى اليأس أبدا، وقد أوصانا سيكننرع يوم الوداع بأن نحذر اليأس، وما زلت أدعو الرب أن يمد في أجلي حتى أرى طيبة مرة أخرى ترفرف على قصرها أعلامنا ، ويجلس على عرشها كاموس فرعون مصر العليا والسفلى، وقد أصبحت اليوم أدنى إلى أملي بعد أن ضمت إلي سواعدكم الفتية.
فتعالى هتاف القوم مرة أخرى، وجعل الملك يسأل عن رجالات مصر وكاهن آمون ومعبد الرب، والحاجب يجيبه بما عرف، ثم قدم الأمير أحمس إلى أبيه أحمس بن إبانا ابن القائد بيبي، فرحب به الملك وقال له: أرجو أن تكون لي كما كان أبوك لأبي قائدا باسلا، فعاش لواجبه ومات في سبيله!
Unknown page