ومضت الأيام بطيئة ثقيلة ولكنها حافلة بجلائل الأعمال التي اشتركت في إنجازها أكبر العقول وأشد السواعد وأعلى الهمم؛ وكانوا جميعا لا يبالون مشقة العمل ولا انقضاء الزمن ما دام يدنيهم إلى أملهم الأسمى وهدفهم الأعلى، ولكن حدث ذات يوم وكان مضى على الحصار عدة أشهر أن رأى الحراس عجلة قادمة ناحية الحصن وعلى مقدمها يخفق علم أبيض، فاستقبلها بعض الحراس ووجدوا بها ثلاثة رجال من الحجاب؛ فسألوهم عن وجهتهم؟ فقال كبيرهم: إنهم رسل الملك أبوفيس إلى الملك أحمس، وطير الحراس النبأ إلى الملك؛ فعقد الملك مجلسا من حاشيته وقواده في سرادقه، وأمر بإدخال الرسل إليه، وجيء بالرجال يسيرون في تواضع وانكسار وقد ذهبت عنهم الخيلاء والكبر وبدوا كأنهم من غير قوم أبوفيس، وانحنوا بين يدي الملك وحياه كبيرهم قائلا: حياك الرب أيها الملك.
فرد عليه أحمس قائلا: وحياكم يا رسل أبوفيس .. ماذا يريد ملككم؟
فقال الرسول: أيها الملك، إن رجل السيف مغامر ينشد النصر، ولكن قد يدركه الموت. ونحن رجال حرب وقد مكنتنا الحرب من وطنكم فحكمناه قرنين أو يزيد كنا فيهما السادة المعبودين، ثم قضي علينا بالهزيمة فغلبنا على أمرنا وأجبرنا على الاعتصام بقلعتنا، ونحن أيها الملك رجال أشداء نقدر على تحمل الهزيمة كما قدرنا على جني ثمار النصر.
فقال أحمس غاضبا: أرى أنكم أدركتم ما يعنيه هذا المجرى الجديد الذي يحفره قومي فجئتم تستعطفون.
فهز الرجل رأسه الضخم وقال: كلا أيها الملك، نحن لا نستعطف أحدا ولكنا نقر بالهزيمة، وقد أرسلني مولاي لأعرض عليك أمرين تختار منهما ما تشاء: فإما الحرب إلى النهاية، وفي هذا الحال لن ننتظر وراء الأسوار حتى نموت جوعا وعطشا، ولكنا سنقتل الأسرى من قومك وهم يزيدون على ثلاثين ألفا، ثم نقتل نساءنا وأطفالنا بأيدينا ونحمل على جيشك في ثلاثمائة ألف مقاتل ما منهم إلا كاره للحياة متعطش للانتقام.
وسكت الرجل ريثما يجمع أنفاسه ثم استدرك قائلا: وإما أن تردوا لنا الأميرة أمنريدس والأسرى من قومنا وتؤمنونا على أرواحنا وأموالنا ومتاعنا، فنرد لكم رجالكم ونخلي هواريس، ونولي وجوهنا شطر الصحراء التي جئنا منها، تاركين لكم بلادكم كما تشاءون ؛ وبذلك ينتهي الصراع الذي استمر قرنين من الزمان.
وسكت الرجل، فعلم الملك أنه ينتظر جوابه، ولم يكن الجواب حاضرا ولا مما تسعف فيه البداهة، فقال للرسول: هلا انتظرت حتى نقطع برأي؟
فقال الرسول: كما تشاء أيها الملك، فقد أمهلني مولاي نهار اليوم.
28
واجتمع الملك برجاله في مقصورة السفينة الفرعونية وقال لهم: أشيروا علي برأيكم.
Unknown page