لم يكن يرى إلا عينين تقدحان شررا لا يعرف لغته، أهو شرر الحقد أم شرر الغيظ أم شرر السخط؟ لم يكن يعرف، وكذلك لم تعرف عيناه إلا هذه النظرات التي تجمدت على شعاعها ألوان شتى من الكراهية والحقد والغيظ والسخط لا تتيح فسحة من مكان لبصيص عطف أو رضى.
وكانت أمه لا تثرثر بالحديث مع أبيه أو معه، فهي لا تتكلم إلا لتقول شيئا يحتاج إلى كلام. لم يسمعها في حياتها تتكلم لمجرد الكلام لمجرد هذه الثرثرة الفارغة التي يستمتع بها النساء وكثيرا ما يستمتع بها الرجال أيضا.
كانت أمه في عيشتها التي أجبرها ميلاده عليها ترى نفسها سجينة في سجن منفرد لا يدرك أحد مقدار الغضب الذي يغتلي في نفسها. ولا سبيل للغاضب أن يثرثر، وغضبها هذا من نوع خاص؛ فهي لا تستطيع أن تبين عنه أو تكشف خوافيه، بل هي تخشى أن يطلع عليه أحد، ولهذا لم يكن عجيبا أن تزم شفتيها كضلفتي باب لسجن تغتلي بين جنباته ألوان من عذاب.
وهكذا انغلقت شفتاه مشدودتين كأوتار من آلة من آلات التعذيب تأبى أن ترن بغير أصوات الحقد والكراهية والألم والهوان.
هذا التركيب الذي صنعته طبيعة الحياة التي يحياها فرغلي جعلت منه تلك النواة التي اجتمع عليها عمران الفوال وشلبي المبوع وعطية سيد أحمد وفرحات عبد الباسط. ودون أن يتم بينهم اتفاق ودون تعاقد تكشف عنه الألفاظ ثم التعاهد، لقد تقاربت أرواحهم وتمازجت، وأحسوا أنهم يستطيعون هم الأربعة أن يكونوا نسيجا متميزا عن هذا النسيج الضخم الذي نسجت خيوطه من كل التلاميذ الآخرين.
إنهم يكرهون هذا النسيج الآخر في تكوينه الكامل وفي خيوطه التي صنعته. إنهم يكرهون التلاميذ الآخرين جماعة وأفرادا، ويشعرون أنهم هم، وهم فقط في خمستهم، الجديرين بالحياة حين ينبغي أن يحرق جميع هؤلاء التلاميذ. فهؤلاء التلاميذ ما هم إلا أبناء الأغنياء الذين يستطيعون أن يلبسوا أكثر من حلة وأكثر من حذاء، وما الآخرون الذين يصادفونهم إلا الأغبياء الذين يسمحون لهم بهذا الغنى ولا يحاربونه، كما يجب أن يحارب كل شيء لا يملكونه.
وما هي إلا أيام حتى راح هؤلاء النفر الأربعة بزعامة خامسهم فرغلي يصنعون ما يعتقدون أنه الواجب الأول لمن كان في مثل حالهم.
ودهش ناظر المدرسة والمدرسون والفراشون والتلاميذ حين جاءت فسحة الغداء فإذا هم يجدون صنابير الشرب جميعها مكسورة، والماء يتدفق في شكل سيل ويأمر الناظر فتقفل محابس المياه ويبحثون عن الفاعل ولكن هيهات. ولا تمر أيام كثيرة حتى تتواتر الشكاوى إلى الناظر من طلبة بعينهم أنهم حين قاموا عن مقاعد أدراجهم كانت بنطلوناتهم مليئة بالحبر الذي كان ملقى على المقاعد بشكل خفي لا يلحظ، ولو كان عند الناظر أية فكرة عن عصبة فرغلي لاستبان أن هذا لم يحدث إلا في الفصول التي كان هؤلاء الخمسة من بين تلاميذها. ولعل أسوأ ما صنعته العصابة هو ذاك الذي تولاه فرغلي شخصيا بمساعدة شلبي المبوع فقط؛ لأن الفرصة لاحت حين كانا هما فقط أمامهما ولم يتسع لهما أن يستدعيا الآخرين.
كانا يمران أمام مصلى المدرسة وفجأة استرعت نظرهما كمية الأحذية المرصوفة أمام الجامع. - معك مطواة. - معي.
وفي لحظات سريعة حاسمة شقا فردة واحدة لكل زوج من الأحذية، والفكرة بقدر جرأتها تدل على عمق التجربة في الإيذاء؛ فإن شق فردة واحدة يستغرق نصف الوقت، وهو مع ذلك يقضي على الأحذية جميعا قضاء مبرما.
Unknown page