ولكن التلاميذ لا يخرسون وإنما هم يضحكون، لا يريد أن يسكت، وهو واقف مكانه لا يدري ما هذا الذي يحيط به، وينقذه المدرس أخيرا. - اقعد يا فرغلي.
وقعد ... ولكن ما هذا الذي يجري حوله؟! ما هذه الواحدة التي ضحكوا منها؟! ظل ذاهلا طول الدرس وما تلاه من دروس، وفى الفسحة ظل يحاول مرة أخرى أن يكون قطعة من هذا النسيج الذي يكون تلاميذ المدرسة لكنه أحس أنه قطعة مستقلة عن قماش التلاميذ، شيء لا ينسجم معهم ولا ينسجمون معه. انتبذ مكانا قصيا أمن إليه واطمأن أنه مخفيه عن الآخرين، وراح يفكر فيما حدث له في يومه الأول هذا في المدرسة. أي شيء فيه يجعله كيانا لا يلتئم مع كيانات الآخرين! أية عجينة تجعل منه صنفا منفردا غير مقبول من أبناء مدرسته! إنه طفل مثلما هم أطفال، له أب وله أم، ولا شك أن لكل منهم أبا وأما أيضا؛ لا بد من خافية لا يدريها وهم يدرونها.
ما هي؟ لماذا ينقبض عن كل أمثاله ليصبح مادة معزولة غير صالحة أن تذوب في الكل كما يذوب جميع هؤلاء الأفراد في كل واحد.
هو لا يدري. إنما كل الذي يدريه أنه عجينة أخرى أو أنهم جميعا من عجينة مغايرة لطبيعته.
أكمل اليوم وانتهب الطريق إلى أمه وارتمى على ركبتها وبكى كما لم يبك من قبل ورفعت الأم وجهه إليها، ونظرت إلى عينيه. رأت ذلة وانكسارا ودهشة حائرة وألما عاصفا وطوفانا من الأسئلة يتفجر في رأسه وقلبه ومشاعره، ولكنه لا يدري كيف يبدأ وبماذا يبدأ ... ترك الدموع والبكاء العالي الضجيج يتولى عنه السؤال وصمت هو.
وحين التقت عيناه بعيني أمه وجدها قد فهمت عنه ما لم يقله فتخافت صوت البكاء شيئا فشيئا ثم انتحى من البيت جانبا وتكوم فيه وألقى برأسه إلى ركبتيه في ذلة وهوان لا يدري مأتاهما ولكنهما يعصفان به عصفا أخيذا، وينتاشان قلبه في عنف صاخب وبيل.
ما إن دخل فهيم من باب البيت حتى سارعت تحية تقول له في حسم: فهيم، فرغلي من بكرة يروح مدرسة البندر.
كان فهيم يقفل باب البيت حين انفجرت هذه القنبلة، حتى إذا استدار ورأى وجه تحية جال بعينيه في الحجرة، ورأى فرغلي في كومته البشرية، ورآه وهو يرفع إليه في جهد رأسا تجاهد الذل لترتفع، ورأى عينين تجاهدان الهوان يطل إصرار ساطع لا لبس فيه.
ولم يسأل فهيم لماذا؟ فقد كان ينتظر هذا اليوم، ويكاد يوقن أنه ملاق فيه ما يلاقيه في لحظته تلك. ونكس فهيم رأسه: حاضر.
وكان في هذه اللفظة أشياء كثيرة تتعاوج في حروفها القليلة ... كيف استطاعت كلمة واحدة أن تحمل كل هذه المعاني؟! معجزة هذا الإنسان كيف يستطيع في تلوينة صوت أن يجعل كلمة واحدة تحمل كل هذا الألم والشعور بالذنب والخضوع والأسف لابنه، والضيق بزوجته، والهلع لمستقبل ابنه، والامتثال لقدر هو نفسه الذي قدره على نفسه.
Unknown page