وأدار لها رأسه فطالعت نصف وجهه وعينا من عينيه وخافت؛ كيف استطاعت أن تعاشر عينين هذه إحداهما؟! وسمعته يقول: أبقيها عليك، لن تجرئي على إظهارها، لمن ستظهرينها؟ للناس لتقولي لهم إنك تزوجت زواجا باطلا، أم لابنك لتقولي له إنك نسبته إلى غير أبيه بعقد مزور؟ أبقيها فقد تكون ذكرى لك في وقت تحتاجين فيه إلى ذكريات. - ولماذا أحتاج إلى ذكريات ومعي ابنك أو بنتك؟ - أبقي عليك الورقة وما تنتظرينه. سلام عليكم.
وخرج ونظرت إلى الباب يقفل من خلفه، وعجيب أن تذكر كلمة السلام الآن.
وظلت في صمتها المروع وانطبق الصمت على الحياة جميعا ... وساد البيت نوع من الصمت المفزع، وكيف له أن يهدأ وفى أجوائه ثلاث جثث أم زوجة، ومشروع ابن أو بنت، وصديق عمر.
17
الزواج والجنين والمال
أنا أعرف ما ارتكبت، وأستحق ما أنال، ولكن أنت ما ذنبك؟ - تزوجته. - ليس هذا ذنبا. - لقد أجرمت. - في حقه؟! - في حق نفسي. - لعلك أحببته. - أتظنني ساذجة إلى هذا الحد. - ليس الحب سذاجة. - إنه لا يعرف الحب. - ربما عرفته أنت. - الذي لا يعرف الحب لا يمكن أن يستطيع أحد أن يحبه. - وكنت تعرفين هذا؟ - كما أعرف اسمي، وكما لا أعرف أصله. - لا تعرفين أصله! - كان بالنسبة لي نباتا شيطانيا يستطيع أن ينبت في غير أرض ومن غير بذرة. - ولم تحبيه؟ - لقد أجبتك. - فلماذا تزوجته؟ - أغراني وميض الجاه. - أمثلك يغريه وميض الجاه؟ - وخفت. - وعرفت الخوف أيضا؟ - الجاه يخيف. - ما الذي أخافك؟ إنك فنانة، إنك مفروضة على المجتمع بأمر من السماء التي منحتك الموهبة. - ولكن المجتمع لم يصبح حرا، ولن يصنع شيئا إذا حرمته السلطة هذه الموهبة التي يعجب بها. - الآن فهمت. - ألم تكن فهمت؟ - فهمت لماذا أطعته وتزوجتني. - لقد ازداد سعارا وازددت خوفا. - إنى أعذرك. - وأنا أحمل وليدا هو أملي، وعلي أن أحافظ عليه. - أي وليد هذا الذي تحافظين عليه؟ - لماذا تقول هذا؟ - ألا تدرين ماذا فعلت بهذا الوليد؟ - كل ما فعلته أنا مرغمة عليه. - إلا أنك حملته. - ألم أكن مرغمة على ذلك؟ - كنت تستطيعين أن تمنعي الحمل. - كنت أحاول أن أترضى أباه، وأضمن أن يظل حماية لي. - من أجل مصلحتك الشخصية إذن حملت هذا الوليد. - لم أكن أدري. - كنت لا تريدين أن تدري. - حاسبتني وما حاسبتك. - المجرم لا يحاسب. - فمن يحاسب؟ - من يستطيع ألا يكون مجرما؟ - فأنت معترف! - مختلس، لص، مشترك في جرائم منها القتل؛ فكم سكت على عمارات أعلم أن الأساس فيها سيؤدي إلى قتل سكانها! إن مثلي يحمل على أكتافه جرما أعظم من الحساب. - وها أنت تدفع الثمن. - أن أكون زوجا لك؟ - أن ترغم على ما لا تريد. - هذا أبسط كثيرا مما يجب أن أنال ومما سأنال؛ فالوضع الذي نحن فيه لا يمكن أن يستمر. - أي نحن تقصد؟ - أنا وفرغلي وممدوح ويحيي ووصفي وكثيرون وكثيرون. - كيف تنوي أن نحيا؟ - نحن لا نحيا. - أقصد أنا وأنت. - أمر هذا متروك لك تماما، أو لمن فرض علينا هذا الوضع. - هو لا يهمه إلا أن يذيع أمر زواجك بي، وقد تم هذا، وأن ينتسب الطفل إليك. - وهل ستقبلين هذا؟ - القبول يكون مع الاختيار. - ولكن الولد ما ذنبه؟
ربما كنت على كل ما ذكرته من جرائم اسما أخف وطأة على الطفل من اسم أبيه الحقيقي. - ولكن انتساب الابن إلى غير أبيه أمر في ذاته يعتبر ظلما فادحا لهذا الابن. - إذا عرفه. - وهل أنت واثقة أنه لن يعرفه؟ - سواء عندي أن أكون واثقة أو غير واثقة، أنا لا أملك الاختيار. - إذن فسيبقى زواجنا حتى تلدي الجنين. - ليس هذا ضروريا، يمكن أن تطلقني بعد شهر أو شهرين إذا شئت. - وهل تزوجتك حتى أطلقك؟ - أعرف أن الزواج باطل. - وأنا أيضا أعرف ذلك. - وأعرف أنك تعرف. - كلانا ضحية، وأنا أترك لك حرية التصرف. - ليس مجال الاختيار واسعا على كل حال. سيكون كل منا في غرفة. - أمرك. - فلا داعي لارتكاب خطيئات أخرى لسنا مرغمين عليها. - وإلى متى تريدين الزواج؟ - هذا إليك. - أنا لا يضيرني أي وقت تشائين. - إذا لم يكن عندك مانع فليكن بعد الولادة ببعض الوقت حتى يتأكد الناس أنك أبوه. - لا بأس. - أنت رجل طيب. - ولكني مجرم. - يستطيع فرغلي أن يجعل الطيبين مجرمين. - السذاجة الفاضحة تستوي مع الإجرام الغريزي. - كنت تستطيع أن تكون خيرا من هذا. - ربما. - هل أساء إليك هذا الزواج إساءة أخرى غير غضب أسرتك؟ - أسرتي أمرها هين. - إذن هناك ما هو أدهى؟ - خطيبتي. - هل كنت خاطبا؟ - وأوشكت أن أقدم الشبكة. - وهل يعلم فرغلي؟ - لا يمكن؛ لم يكن من الممكن أن أخبره. - لماذا؟ - إنها من أقربائي وأبوها رجل شريف. - أيغضب هذا فرغلي؟ - فرغلي يكره أسرتي كما يكره كل أسرة، أما أن يكون أبوها شريفا فهذا ما لا يمكن أن يحتمله. - فكيف أقدمت على الخطبة؟ - توهمت أنه قد يغفرها لي ما دمت سأظل سائرا بين الخطين اللذين يرسمهما لكل واحد منا. - والآن؟ - لا أمل. - أنا مستعدة أن أخبرها بكل شيء. - تزداد الأمور سوءا. - لماذا؟ إنك مرغم. - هل ستقولين لها سبب إرغامي؟ مصيبة! هل ستقولين لها أني أستر زواجا لم يعلن؟ مصيبة أكبر! سأصبح في نظرها قوادا شرعيا. هل ستقولين لها بأن الزواج بيننا ليس صحيحا؟ مصيبة أكبر وأكبر؛ محتال وزان وقواد! - فماذا تنوي أن تفعل؟ - لقد اخترت طريقي وعلي أن أسير فيه حتى النهاية. - أترى له نهاية؟ - لكل شيء نهاية، حتى طريقنا هذا له نهاية. - انتظر ... خبرني. - ماذا؟ - لقد ذكرتني بالنهاية. - بماذا ذكرتك؟ - أنت طبعا تنوي أن تطلقني. - حين تأمرين. - ليس هذا هو المهم. - فما هو المهم؟ - بالطبع لقد كونت ثروة. - طبعا. - ومن المؤكد أنك ستتزوج في وقت من الأوقات. - أظن ذلك ... لا أدري. - المهم ماذا ستصنع بثروتك هذه؟ - طبعا تقصدين بعد موتي. أظن ... أظن ... - وهل في هذا ظن؟ إنك طبعا لن تعطيها أو تعطي منها لابن فرغلي أو بنته. - ماذا تريدين أنت؟ - غير معقول أن تحرم أبناءك لتعطي وليدا الصلة بينك وبينه هي الإرغام والقهر والإذلال وقتل الأمل وقطع الصلات بينك وبين خطيبتك التي كنت تحبها، لماذا تعطي ابن هذا الذي فعل بك كل هذه الأفاعيل مالا؟ وما علينا من هذا جميعا؟ لماذا تعطي شيئا من ثروتك لطفل ليس طفلك على كل حال. - وفرغلي أيضا لن يعطي ابنه أو بنته منك شيئا. - فرغلي عنده أولاده الرسميون ولا يمكن أن يعلن أبوته التي فعل كل هذه السفالات ليخفيها، لقد أذلني وأذلك وزيف أبوة ابنه. أبعد كل هذا سيعطيه؟ طبعا لا ... طبعا لا! - إذن ... - إذن لم يبق لهذا الجنين الذي أحمله طفلا كان أو طفلة إلا أنا. - إنك ثرية. - إنك واهم. - تكسبين كثيرا. - إننا نكسب كثيرا ولكننا نضطر إلى إنفاق أكثر مما نكسب. لا بد لنا من مظهر براق، سيارة فاخرة، أفخم ثياب. - وفرغلي؟ - أعطاني المؤخر، قال إنه حقي وما أخذته منه في مدة الزواج القصيرة أوشك أن ينتهي؛ فأنا لم أعمل أثناء الزواج إلا أعمالا قليلة. فقد شغلني عن العمل بمواعيده غير المنتظمة، وأهم شيء في عملنا المواعيد. - وماذا ستفعلين؟ - آه ... وأعطاني عشرة آلاف جنيه مقابل أن أجعل الزواج سرا. - مبلغ كبير. - ولكنه عاد واقترض منه خمسة. - اقترض؟! فرغلي يقترض! - كان قد تمكن مني وأراني كيف يستطيع أن يمحو اسمى من دفاتر الفن واقترضه. - تقصدين اغتصبه. - لك أن تختار من الأسماء ما تشاء؛ لا يهم. - وأنفقت الآلاف الأخرى. - اشتريت سيارة ... الموقف مرعب. - إذن ... - ليس أمامي إلا العمل. - أظن ذلك. - إننا نحن الفنانين حياتنا قصيرة ومستقبلنا في يد الحظ وحده، قد يقبل علينا الجمهور فترة ثم ما يلبث أن يزهدنا، ونحن لا نعرف لماذا أقبل ولماذا زهد. والجمال والشباب والنضارة فترة قصيرة فإذا اطمأن بنا القلق على دوام الجمال ظلت المرآة تخيفنا في كل يوم؛ لأن التجعيدة الواحدة في وجهنا معناها النهاية. أرأيت لا بد أن أعمل في هذه الفترة المحدودة برغبة الجمهور وإرادته المحدودة بشكل مؤكد بتقدم الزمن وانطفاء مصابيح التألق الإلهي ما تعمله غيري أضعافا مضاعفة لأضمن لهذا الجنين أن يعيش بعد موتي. فلن يجد أحدا له بعد موتي، لم أكن أفكر في هذا، أعطني التليفون من فضلك. لا بد أن أبدأ فورا ... الآن ... فورا. •••
وبدأت وبدأت بجنون، ولم يعد يعنيها ما يعني الأخريات أن يكون اسمها بعرض الشاشة، وأن يكون وحده عليها بلا مزاحم، ولم يعد يعنيها أطويل دورها أم قصير، ولم ترفض أي برنامج في الإذاعة؛ أصبح المال هو هدفها الأول والأخير. وربما قال قائل كلهن كذلك، وإنهن كذلك إلا أن بعضهن يحببن أن يتظاهرن بالفن وبالفهم للأعماق؛ تلك الكلمة التي يقولها كل من يعمل في هذا الميدان دون أن يعنيه مدلولها وإنما يعنيه أن يستمتع بنطقها، وبعضهن أيضا يحببن أن يبدين أنهن عازفات عن العمل وأن الملل أصابهن من سعة الشهرة.
استغنت إسعاد عن كل هذه المتع من التدلل وادعاء الزهد في العمل والتظاهر في الرغبة عن الشهرة، واندفعت كحريق تبحث عن المال.
وفي هذا اللهيب كانت تعرف أن مثيلاتها ينلن المال أيضا من طرق أخرى ولم تكن هذه الطرق غريبة عليها ولكنها لم تكن تبذل نفسها لمال، وإنما حين يطيب لها أن تفعل. أما اليوم فقد استطاعت أن تقمع هذه النفس وأصبح المال هو الشيء الوحيد الذي يطيب لها أن تصل إليه وهي تأمل حين يكبر ابنها ألا يسمع عنها ما يشين. وأحس نديم أن هذا الطريق يجلب عليه خزيا مشهرا أمام الناس؛ فإن أحدا لا يعرف العلاقة الحقيقية بينه وبين زوجته إلا فرغلي، وحاول أن يحتج فصرخت به: أنت تعرف حاجتي إلى المال. - وسمعتي؟ - وهل لمثلنا سمعة؟!
Unknown page