لم يكن الأصدقاء يتأخرون في جلستهم إلى أكثر من العاشرة والنصف أو الحادية عشرة على أكثر تقدير. ثم ينصرف كل منهم إلى بيته.
وفي ليلة انتهت بهم الجلسة وأراد فرغلي أن ينصرف مع نديم فإذا فتحي يقول له فجأة: فرغلي هل لا بد لك من دادة؟
وضحكوا وارتبك فرغلي. - تعال يا أخي معي الليلة نتمشى قليلا على النيل؛ فأنا قد نمت اليوم بعد الغداء ولا أحس أني أريد أن أروح. - وهو كذلك؛ هيا بنا.
وأجرى فتحي الحديث فقد كان أكثر الخمسة حبا للحديث، وكان يجد متعة لا تماثلها متعة وهو يستمع إلى نفسه، وكان فرغلي خير من يستمع له؛ فقد علمته حياته الصمت، وأصبح ذا قدرة عليه قل أن تتوافر لآخرين، وكان يطلق من حين لآخر تلك الأنة التي يطلقها دائما المستمع الذي لا ينوي الكلام؛ فيدرك فتحي أن صاحبه يستمع ويستوعب. تكلم عن كثير؛ عن حكم البروليتاريا، وعن الجنة المنتظرة، وعن فساد الرأسمالية وما زال ينفذ من موضوع إلى موضوع حتى: قل لي يا فرغلي لماذا لا تنضم إلينا؟ - ماذا؟ - ماذا يعمل أبوك؟ - موظف بالسكة الحديد . - ما درجته؟ - ليست عالية على كل حال. - فهو كادح. - وفلاح. - وفلاح أيضا. - زوجته عندها أرض وهو يزرعها لها. - زوجته! تقصد أن أمك ليست معه. - ماتت.
قالها في حسم ودون أي تردد أو تفكير. - فمن ينضم إلينا إذا لم تنضم أنت؟ - ولكن هذه الجمعيات ألا تحتاج إلى مصاريف. - على ذكر المصاريف هل أنت بايخ مثل نديم وترفض أن أستعمل شقتك؟ - هذا اتفاق بيني وبين نديم. - ومن سيقول له؟ - ولكن ... - اسمع، سأعطيك جنيها في كل مرة أستعملها فيها؛ أنا رجل عملي. - أخاف أن ... - جنيه! جنيه كامل. - لا بأس. - اتفقنا. ماذا قلت بشأن انضمامك لنا. - كنت أسألكم من أين تنفقون؟ - لا شأن لك. - كيف؟ - أنت تريدني أن أصبح واحدا منكم. - الاشتراك معنا له درجات، في البداية لن تعرف إلا القليل أو ما هو أقل من القليل ثم تتدرج. - ولكن أنت تعرف أن مواردي لا تسمح أن ... - موارد ماذا يا أستاذ؟ إننا سنعطيك مرتبا. - كم؟ - على حسب ... - كيف؟ - أقدمك إلى المسئول عني وهو يقرر. - ماذا تعني يقرر؟ - يقرر ما تستحق من مرتب. - يعني كم؟ - لن يقل عن سبعة جنيهات مثلا للتحرك. - قليلة. - لعلها تكون أكثر. - أفكر. - وفيم تفكر؟ إن المستقبل لنا وستلعب بالفلوس لعبا إلى جانب أشياء أخرى، ستنبسط على الآخر. - وهو كذلك. - موافق. - على بركة الله. - عود نفسك على تعبيرات أكثر تقدمية. - وهو كذلك. - والشقة. - متى تريدها؟ - أهي خالية باكر؟ - نعم. - هاك الجنيه. أين المفتاح؟ - هذا هو، ولكن إياك أن تصنع مفتاحا مثله لأن نديما لو عرف ستكون قطيعة بيننا.
أنا سأعطيك المفتاح عندما تطلب، وكل ما عليك أن تخبرني بالموعد قبله بفترة لأعرف لك إن كان مناسبا أم غير مناسب. - وهو كذلك. - مع السلامة. •••
منذ ذلك اليوم أصبح فرغلي كثير الصلات، والغريب أو ربما ليس غريبا أن المنفى الذي فرض على طفولته مكنه أن يشكل هذه الصلات في الصورة التي يريدها؛ يسمع كثيرا ويتكلم قليلا، والغريب، أو ربما ليس غريبا، أيضا أن أمين وإخوانه عرفوا أنه يعمل مع فتحي وإخوانه، كما عرف فتحي ومن معه أنه متصل بأمين وزملائه. والغريب، أو ربما ليس غريبا، أن هذه الصلة المزدوجة قد أكسبته عند كل فئة قدرا من الأهمية غير متاح للآخرين الذي ينتمون إلى جهة واحدة من الجهتين.
وكلا الجانبين عرف صلة فرغلي بالجانب الآخر عن طريقه هو، فقد أبلغ أمينا باتفاقه مع فتحي في أول لقاء له بعد هذا الاتفاق. كما أنه أعلن في يوم تقديم فتحي له إلى المسئول صلته بأمين. وهكذا استطاع أن يحمل من خيانته للتجمعين ولاء لكل تجمع فأولاه كل تجمع على حدة ثقة كاملة، واستطاع فرغلي بما يكسبه من مبالغ تعتبر خيالية بالنسبة إليه في هذه الأيام أن يضفي على هندامه الكثير من الأناقة.
لم يكن فرغلي يعلم أن فتحي بؤرة تجتمع عندها وعند زملائه عيون أخرى، ولم يكن يعرف أيضا أن أمين ومن معه ملتقى عيون إن اختلفت في شخوصها فهي تصدر عن نفس مصدر العيون الأخرى.
واستطاعت تقارير هذه العيون أن تلتقي، واستطاع المصدر الذي يبثها أن يدرك الدور الذي يقوم به فرغلي.
Unknown page