Khulasat Tarikh Ciraq
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
Genres
ويشتد معظم السيل في أواخر آب في بلاد النوبة، وبعد شهر في القاهرة والمدالث، ويبقى على حاله زهاء ثمانية أيام ثم يبتدئ بالنقصان سريعا، حتى إذا جاء كانون الأول رجع النيل إلى موطنه المألوف.
وأما سهل بنجاب فإنه سهل متسع، منحدر إلى جهة الجنوب الغربي من هضاب كشمير، وهذا السهل يسقيه نهر السند وخمسة أنهر تجتمع فيه، وهي: الجيلام، والجيناب، والراوي، والبياس، والسطلج؛ ومن ذلك سمي السهل بنجاب (أي خمسة أنهر بالفارسية)، وهي أرض قديمة الحضارة على ما نراه في واديي الفراتين والنيل. (5) العمران النهري
قد لاحظ الباحثون من العلماء أن أول ما ابتدأت الحضارة في بلاد المدالث (الدلتا) المعتدلة الهواء، وهي مدالث «الفراتين، والنيل، وبنجاب» قبل أن ترتقي في سائر البلاد، وسبب ذلك أن المياه هي مادة الحياة والنماء لجميع الكائنات، والبلاد التي ينقطع عنها الماء يعقبها الفناء بل العفاء؛ فمدالث النيل كانت سببا للعمران المصري، ومدالث بنجاب كانت علة الرقي الهندي، ومدالث الفراتين ساقت الناس إلى العمران العراقي الشهير في التاريخ.
ومن البديهي أن الطعام من أول ضروريات الحياة، وهو لا يكثر إلا حيث تتدفق المياه العذبة، فإذا كثر في بلاد احتاج أصحابه إلى إرسال ما زاد أو يزيد عندهم إلى الديار التي تحتاج إليه؛ ليعتاضوا عنه بما يرغبون فيما لا يوجد عندهم منه، وهذا ما دفع الناس إلى اختراع وسيلة يتراسلون بها ويتفاهمون ويتكاتبون، ولا سيما لتدوين ما يهم الوقوف عليه من الحوادث والأمور المهمة التي تفيد الخلف إذا حفظت ودونت، فكانت هذه الحاجة أم اختراع الكتابة، وهذه أصبحت أقوى أساس للعمران، وأصدق وسيلة لرقي الحضارة. ثم حاول الإنسان تعميم هذه الفوائد المدونة في جميع البلاد حتى النائية منها بنفقات زهيدة، فكان ذلك علة اختراع المطبعة، فعمت بها المعارف والعلوم، ومنذ ذاك الحين نشطت الحضارة نشطها من عقال، فاتسع نطاق العمران، وانتشر الرقي في الأرض كلها جمعاء، وزادت الرغبة فيه كل الزيادة. (6) أرض شنعار أو أرض شمر وأكد (تمدنها - أنهر البلاد ومدنها)
يروي لنا الكلدان في كتبهم التي وصلتنا روايات عجيبة في المخلوقات الأولى؛ فقد زعموا أنها مخلوقات غريبة الصورة والهيئة، خيالية الخلق، ظهر في وسطها الإنسان عريانا أعزل، وبعد ذلك ظهر الإله «يونس» من خليج فارس، فأنس إليه الناس، وأخذ يهذبهم ويمدنهم، وكان جسمه جسم سمكة، ورأسه وصوته رأس إنسان وصوته، وكانت رجلاه البشريتان تخرجان من ذنبه السمكي البينية.
ومهما يكن من هذه الرواية فإن الذي ينظر أراضي هذه الديار ويقابلها بأراضي النيل يرى مشابهة عظيمة، يرى أن الإنسان حاول الاندفاع إلى الرقي كما حاوله ساكن وادي النيل، وقد ساقه إليه غنى الأرض وثروتها؛ أي ما على وجهها من العزيل (وهو الطين الأحمر، ذاك الثوب الذي يخلعه دجلة في الربيع على ابنته المحبوبة الأرض العراقية المباركة)، فتقذف حينئذ ما في أحشائها من الكنوز؛ أي أثمارها وحبوبها، وذلك لأدنى عمل يعمله الزراع على حد ما يفعله زارع وادي النيل. على أن بين ماء النيل وماء الفراتين فرقا؛ فماء الرافدين يجري على وجه غير مطرد؛ إذ يفاجئ الزارع ويضره أضرارا بليغة، بخلاف ماء النيل، فإنه يوافي البلاد بمواسم معلومة ومحدودة، ويكون قدومه إلى تلك الديار سببا لفرح الفلاح وسعادته. الفراتان يجريان بين جبال من الرمال، مفتوحي الواديين لغزوات البدو المبثوثين في غربيهما، ولغزوات أهالي الجبال المنتشرين في الجبال القائمة في شماليهما وشرقيهما. والنيل يجري في أرض لا يلحقها الأذى؛ ولهذا لم ترتق هذه البلاد إلا من بعد أن تمكن أهلها من ردع جماح الطبيعة وأبنائها الهمل، بخلاف النيل فإن أهله تقدموا في الحضارة وأوغلوا فيها قبل سكان هذه الديار لخلو واديه من تلك الموانع.
ومع ذلك كله إننا نرى أهالي هذه البلاد قد خطوا خطوة في الحضارة في نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وحفروا أنهرا عديدة، وبنوا مدنا كثيرة بالطابوق (الآجر)، وفي كل مدينة منها حاكم يحكمها، وإله يعبد فيها خاصة، ويجمع الكل حاكم عام ممتد سطوته على البلاد كلها.
وأشهر المدن التي بنيت يومئذ في العراق؛ أي في جنوبي الجزيرة، وهي نبور (وهي المعروفة اليوم باسم نفر، وكان إلهها الليل يعبد في جميع المدن)، وكيش (وهي اليوم تل الأحيمر)، ولجش (تلو)، وأورك (الوركاء)، وأور (المقير)، وأريدو (أبو شهرين)، ولارسا (سنكرة)، وغيرها من المدن التي كانت في شمالي العراق أوبي (أو أوبيسر، وهي اليوم أبو حمشة، وعند العرب الأقدمين باحمشا).
في وادي النيل كان لجميع الأهالي لسان واحد، أما هنا في وادي الفراتين في الأرض التي تسميها التوراة أرض شنعار (بكسر الأول، ولعل القراءة الصحيحة بفتحه)، فكان فيها أقوام من سلالتين مختلفتين، ولهم لغتان، كل منهما تختلف عن صاحبتها، ويسمى القطر الشمالي «أكد»، وسكانه أقوام ساميو الأصل، أولاد عم العرب والعبريين والفينيقيين والسريان، طويلو اللحى سودها ومتموجوها، وقد احتل القطر أجدادهم قادمين من ديار العرب في زمن واغل في القدم. وأما القطر الجنوبي المجاور لمصب الرافدين فاسمه شمر، وسكانه أقوام لا رابط يربطهم بقوم من أقوام الأرض الذين نعرفهم، محلوقة لحاهم وشواربهم وشعور رءوسهم، وأنوفهم بارزة دقيقة الأطراف، وشفاههم رقيقة حسنة، فأي الفريقين كان الأول في هذه الديار الفراتية؟ فلا يمكننا الجواب عنه الآن، وهذان الفريقان وإن كان أحدهما يختلف كل الاختلاف عن صاحبه، إلا أنه من البديهي الذي لا ينكر أن كلا منهما استعار من الآخر معارف شتى، وكلاهما كان يبعث بالهدي إلى آلهة البلاد، مثلا إلى «الليل» إله نفر.
ويصور الشمريون إلههم بصورة أكدية، وأخذ الأكديون عن الشمريين الكتابة، ذلك الاختراع الذي اخترعوه في أرض الفراتين (كما اخترع مثله سكان النيل قبلهم ببضعة ألوف من السنين)، إلا أن كتابة الشمريين لا تشبه التصاوير كما تشبهها الكتابة المصرية التي يرى فيها صور أناس وحيوانات وطيور، أما خط الشمريين فهو عبارة عن مجموع خطوط ذاهبة في الطول والعرض بهيئة مسامير أو أسافين قصيرة، ومن ذلك اسمها اليوم عندنا، وهو الخط المسماري، أو الإسفيني.
Unknown page