المقدمة
أقسام التاريخ وفوائد دراسته
1 - في الجزيرة القديمة قبل الإسلام
2 - الجزيرة في عهد الإسلام
الخاتمة
المقدمة
أقسام التاريخ وفوائد دراسته
1 - في الجزيرة القديمة قبل الإسلام
2 - الجزيرة في عهد الإسلام
الخاتمة
خلاصة تاريخ العراق
خلاصة تاريخ العراق
منذ نشوئه إلى يومنا هذا
تأليف
أنستاس ماري الكرملي
المقدمة
هذا كتاب اقترحه علي ناظر معارف بغداد بعد الاحتلال البريطاني بأكثر من سنة، وهو الذي رسم لي فصوله، فلبيت طلبه واستخلصته من نحو ستين مصنفا بين عربي وفرنسي وإنكليزي وتركي ولاتيني، وأتممته في نحو ثلاثة أشهر؛ لأنه اقترحه علي في حزيران سنة 1918، ولم أشرع به إلا في أيلول، لاشتداد الحر في بغداد في فصل القيظ؛ ولهذا لم أنهه إلا في تشرين الثاني، ولولا أن هذا التأليف موضوع للمدارس لذكرت أسماء المناهل التي وردتها بلوغا لهذه الأمنية.
وقد توخيت غالبا ذكر الأعلام على ما هي معروفة عند العرب، وأعدت كثيرا من الأعلام السامية الأصل إلى نصابها الذي نقلت عنه ولم أجار المعربين الحديثين الذين نقلوا تلك الألفاظ الشرقية عن الإفرنج، فجاءت مشوهة غاية التشوية، حتى إنه لا يهتدى إليها ولا إلى أصلها، وهو عيب فاش بين أهل الصحافة والتآليف الحديثة، مما يؤسف على صدوره من أقلامهم.
وقد أجملت في بعض المواطن، وفصلت في مواضع أخرى تبعا لحاجة أبناء البلاد إلى معرفة واسعة لبعض الحقائق، وإلى دراية غيرها دراية مجملة.
وقبل الختام أرفع عبارات الشكر إلى حضرة أستاذي الشهير والعلامة الكبير السيد محمود شكري أفندي الألوسي، الذي نظر فيه وهداني إلى عدة أمور لا مندوحة عنها، وأرفع أيضا فرائض الإقرار بالمعروف والإحسان إلى المنسنيور لويس مرتين الكرملي، نائب قصادة العراق والجزيرة؛ لما تفضل علي بنقل فصول عديدة من الإنكليزية إلى الفرنسية، ومنها نقلتها إلى العربية.
أقسام التاريخ وفوائد دراسته
يقسم التاريخ قسمين: التاريخ المدني، وهو المراد به إذا أطلقنا كلمة التاريخ، والتاريخ الطبيعي، وهو علم المواليد الثلاثة: الحيوان، والنبات، والمعادن؛ وليس الكلام عنه هنا.
ويتفرع التاريخ المدني إلى فرعين، وهما: عام، وخاص، فالتاريخ العام يتضمن تاريخ البشر عموما، ويقسم اعتياديا إلى أربعة أعصر، وهي: العصر القديم منذ خلق آدم إلى سقوط مملكة الرومان وانقراضها في سنة 476م، والعصر المتوسط يبتدئ منذ سنة 476 وينتهي سنة 1453، وهي سنة فتح العثمانيين لمدينة القسطنطينية، والعصر المتأخر من سنة 1453 إلى سنة 1789، والعصر الحديث أو الحالي، ويبتدئ من سنة 1789 إلى يومنا هذا.
والتاريخ الخاص يشمل أيضا التاريخ المفرز، وهو المختص بموضوع واحد، كمملكة، أو ولاية، أو دولة، أو بلدة، أو بيت، أو شخص، ويشمل أيضا تاريخ الحوادث؛ أي ما يتعلق بعصر واحد أو حادثة مأثورة، كحرب البسوس مثلا وتاريخ الجاهلية. ويسمى التاريخ الخاص بعدة أسماء بحسب موضوعاته، كتاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، والتاريخ السياسي ... إلى غيرها. وإذا كتب التاريخ كتابة ساذجة سنة فسنة يسمى بالأخبار، أو تاريخ القرون، أو تاريخ الوقائع (وبالإفرنجية: قرونولوجية)، وإذا كان كاتبه يكتب ما شاهده بنفسه أو كان له مدخل فيه يسمى كتابة تذكرة أو أخبارا. وإذا لم يتكلم إلا عن نفسه، فيعرف بالترجمة الخاصة أو الذاتية، وإذا اعتبر التاريخ في نسقه؛ أي في طريقة مأخذه في ذكر الحوادث فتتبع كاتبها الزمن بترتيب، فهو أخبار الأيام أو تاريخ السنين. وإذا تكلم عن شعب فقط أو أمة من الأمم فيعرف بالسير، وإذا ذكر الحوادث التي جرت في وقت واحد عند أمم مختلفة، فيعرف بالحوادث العصرية، ويسمى بغير هذه الأسماء بحسب المجرى الذي يجري فيه.
ومهما يكن من أقسامه فإن دراسة التاريخ من أوجب الدروس على الإنسان؛ لأنه بالوقوف عليه يعرف ما مضى، فيتحقق أن المساوئ لا تلد إلا أضرارا لصاحبها، وأن الحسنات لا تنتج إلا منافع لصاحبها، وما من أمة ارتقت إلا بعد أن عرفت تاريخ سلفها، وما انحطت إلا لما جهلت تاريخه؛ لأن المرء لا يندفع إلى العمل إلا بما يرى ويؤثر على حواسه الباطنة والظاهرة، ولا يقعد عن الجد والدأب إلا إذا لم يكن له دافع يدفعه إليه. هذه هي المنافع الكبرى التي لا يغض عنها، فضلا عن سائر المنافع التي لا تخفى على المطالع.
فمنها أن الإنسان يحب البقاء ويؤثر أن يكون في زمرة الأحياء، فأي فرق بين ما رآه أمس أو سمعه وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين، فإذا طالعها فكأنه عاصرهم، وإذا علمها فكأنه حاضرهم.
ومنها أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان، ورأوها مدونة في الكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال؛ استقبحوها وأعرضوا عنها واطرحوها، وإذا رأوا الولاة العادلين وحسنهم وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأن بلادهم وممالكهم عمرت وأموالها درت، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما ينافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي رفعوا بها مضرات الأعداء وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى.
ولما كان الوقوف على ديار العراق والجزيرة مما يهم كل إنسان يريد الوقوف على مبادئ التاريخ وتقدمه؛ أتينا بهذا التأليف ليتحقق ما في الأمنية.
الجزء الأول
في الجزيرة القديمة قبل الإسلام
أحوال المدالث الفراتية الجغرافية ومقابلتها بمدالث
1
مصر وبنجاب (1) الجزيرة القديمة
المراد بالجزيرة عند العرب: الأرض التي تحيط بها المياه من كل جانب أو تكاد، فهي تنطبق على ما يسمى بالجزيرة حقيقة، وعلى ما يسمى بشبه الجزيرة أيضا. ولم ينظر العرب إلى نوعية هذا الماء المحدق بتلك الأرض، فسواء كان عندهم ذلك الماء ماء بحر أو ماء نهر؛ ولهذا قد أطلقوا منذ القديم اسم الجزيرة على ما يسميه الإفرنج «ميسو بوتاميا»؛ أي بين النهرين. وهذا الذي نريده هنا بلفظ الجزيرة، فهي الديار الممتدة، من هضاب أرمينية إلى مصب شط العرب. (2) أحوال المدالث الفراتية الجغرافية
تعال نركب طيارة تحلق بنا في الجو، ونذهب بها إلى المحل الذي ينبع منه الفراتان: دجلة، والفرات، فإذا صعدنا مجرى كل منهما نرى ماءهما ينبط من محل في أرمينية من أسفل جبل كان يعرف عند الأقدمين باسم «نغاطس »، وهو الذي يسميه العرب في عهدنا هذا جبل نمرود، أو جبل ذي القرتين، وعند الترك «كلشن طاغ»، وهو أعلى الجبال التي تطرد بين البحر الأسود ونجد إيران، وفي بعض المواضع منه يبقى الثلج على مدار السنة. أما ماء الفرات فيتجمع من واديي مراد وقرمصو، فإذا جمع بينهما هرب بمياههما إلى الشرق، ثم يفر بها إلى الغرب دافعا إياها في مختنقات جبال وعرة وأودية ضيقة، فإذا جاوز ملطية قفز قفزة فجائية كأنه يحاول الفرار إلى الجنوب الغربي، فيخدس لنفسه معبرا في الطورس، طالبا بحر الروم الذي يميل إليه كل الميل، ثم كمن يرعوي عن غيه يعود إلى الجنوب الشرقي في جهة خليج فارس. أما دجلة فإن مخرج رأسه من «جوار مراد»، لكنه يجري في الغرب إلى الشرق في جهة مخالفة لجهة شقيقه، فإذا خرج من الجبال يميل إلى الجنوب، ويحاول أن يدنو من أخيه الفرات رويدا رويدا، فإذا صار في جوار بغداد أخذ كل واحد منهما يحاول مصافحة أخيه كأن الواحد يقول لشقيقه: تعال نجتمع في هذه المدينة القديمة ونتعاهد على ألا نتفارق، فيكاد كل واحد منهما يتفق مع الآخر؛ إذ لا يفصل الواحد عن الآخر إلا مسافة بضع ساعات في سهل مطمئن، وكأن عدوا سمع ما ينجم من اتفاقهما إذا ما اجتمعا في بغداد، جاء فوشى بالواحد بعد الآخر إلى صاحبه وفرق بينهما، فأخذ كل منهما يسير على موازاة شقيقه وهو ينظر إليه شزرا مسافة 20 إلى 30 ميلا، ثم يعودان فيفترقان ولا يتفقان إلا بعد أن ينحدرا نحو ثمانين ساعة؛ إذ يتحققان أن الفراق لا يفضي إلا إلى هلاك كل منهما في الفلوات المحرقة، فيتصافحان عند القرنة، ومن هناك ينحدران مشتركي القوى ليصبا في خليج فارس.
والفرات يرحب من جهة يساره عند وسط مجراه بزائرين، وهما: البليخ، والخابور، ومنذ اتصل به الخابور إلى أن اجتمع بأخيه لا يزوره أحد، أما دجلة فإن زواره أكثر من ذلك، فإن الزابين الأعلى والأسفل يأتيان فيرويانه بمياههما، ثم يجاريهما في هداياهما عظيم وديالي، وكل من الفراتين تجري فيهما السفن في أغلب قسم من منحدرهما، فالسفن تجري في الفرات من سميساط، وفي دجلة من الموصل، وعند ذوبان الثلوج - ويكون ذلك في أوائل نيسان أو أواسطه - يغتاظ الفراتان، فيرغوان ويزبدان ويحبلان غصبا من الربيع؛ فيطفحان بمياههما ويطغيان على ما جاورهما من الأرضين، فاعلين ما يفعل النيل في ديار مصر، ولا يعودان إلى مألوف مجراهما إلا في أواخر أيار أو أوائل حزيران، عندما يبتدئ الحر بكسر شوكة هذين الشقيقين المستبدين. (3) تكون أرض العراق
لم يكن منظر الفراتين في كل عصر على ما نشاهده اليوم؛ لأنهما عند خروجهما من الجبال ما كانا يرويان في العهد السابق للتاريخ إلا السهل الممتد أمامهما فقط، وهو سهل ثانوي التكون يعرف بالجزيرة، وأرضها في غاية الخصب عند ضففهما وضفف سواعدهما وفي الأمكنة التي تنبط فيها العيون، وفيما سوى ذلك فإنها قفرة جردة. والطرف الجنوبي من السهل كان بمنزلة شاطئ البحر، وكان الرافدان يدفعان فيه والواحد عن الآخر على مسافة عشرين ساعة في خليج يحده من الشرق آخر إسناد جبال إيران، ومن الغرب جبال الرمال التي تتأخر نجد بلاد العرب.
والقسم الأسفل من سقي الفراتين أرض حديثة النشوء بالنسبة إلى غيرها مما يجاورهما من الشمال، وقد أنشأها تراكم غريل الرافدين وسائر الأنهر، كعظيم، وديالي، وكرخا (خواسب) التي كانت تجري على هواها حيثما شاءت، ثم ينتهي بها الأمر إلى إفراغ مياهها في البحر. أما اليوم فإنها أصبحت من سواعد دجلة ومن ممداته بمياهها، وفي عهدنا هذا نرى مدالث شط العرب (دجلة العوراء سابقا) تتقدم بسرعة، ويظهر جرف جديد قدره زهاء 1500 متر كل سبعين سنة، أما في الأعصر الخالية فكان نموه أبين مما هو اليوم، ولعله كان يرتفع 1500 متر في كل سبعين سنة.
في العصر الذي أقام أجداد الكلدان الأولون في وادي الفراتين كان خليج فارس داخلا في البر نحو مسافة أربعين ساعة عما هو عليه الآن، وكان الفراتان يدفعان في البحر متوازيين غير متحدين، ولم تختلط مياههما إلا بعد ذلك بألوف من السنين. (4) مدالث النيل وبنجاب
وما يقال عن الفراتين يكاد يقال عن النيل وبنجاب، فإن النيل ينبع من أرض وراء خط الاستواء، وإذا جرى مسافة جاءته جميع المياه التي تجري من البحيرات الكبرى الواقعة في أفريقيا الوسطى، ودفعتها إلى نحو الشمال خلال فلوات عظيمة تقطعها غابات ومستنقعات، ثم يدفع فيه من اليسرى بحر الغزال ما يطفح منه، وعن يمناه مصب فيه نهر سبات والنيل الأزرق والتكزة، وهي مياه تنزل كلها من جبال بلاد الحبش، ثم يصطدم بعد ذلك بنجد الصحراء الكلسي، ويحفر فيه لنفسه فراشا متمعجا تقطعه خمس مرار شلالات، ثم ينحدر رويدا رويدا نحو بحر الروم بدون أن يزيده ماء أحد السواعد. والقسم الشمالي من واديه بين شلال أسوان والبحر أنشأ في كل وقت أرض مصر الشهيرة في التاريخ، وهو يطغى كما يطغى الفراتان، ويكون طغيانه من الأمطار الغزيرة التي تنزل في شباط كل سنة على أنحاء البحيرات العظام، وحينئذ يعظم النيل ويخرج من مجراه، فينشر الطغيان بسرعة من الجنوب إلى الشمال، وفي بضعة أشهر ينتشر في الوادي كله، وفي نحو أواخر نيسان يصل إلى بلدة الخرطوم، حيث يزداد بما يمد من النيل الأزرق، ثم يسير رويدا رويدا خلال بلاد النوبة، ويصل ديار مصر في أوائل حزيران فينبه عليه في أسوان في نحو 8 منه، وفي 17 من الشهر المذكور يصل إلى مصر القاهرة، وبعد يومين يعم المدالث كلها.
ويشتد معظم السيل في أواخر آب في بلاد النوبة، وبعد شهر في القاهرة والمدالث، ويبقى على حاله زهاء ثمانية أيام ثم يبتدئ بالنقصان سريعا، حتى إذا جاء كانون الأول رجع النيل إلى موطنه المألوف.
وأما سهل بنجاب فإنه سهل متسع، منحدر إلى جهة الجنوب الغربي من هضاب كشمير، وهذا السهل يسقيه نهر السند وخمسة أنهر تجتمع فيه، وهي: الجيلام، والجيناب، والراوي، والبياس، والسطلج؛ ومن ذلك سمي السهل بنجاب (أي خمسة أنهر بالفارسية)، وهي أرض قديمة الحضارة على ما نراه في واديي الفراتين والنيل. (5) العمران النهري
قد لاحظ الباحثون من العلماء أن أول ما ابتدأت الحضارة في بلاد المدالث (الدلتا) المعتدلة الهواء، وهي مدالث «الفراتين، والنيل، وبنجاب» قبل أن ترتقي في سائر البلاد، وسبب ذلك أن المياه هي مادة الحياة والنماء لجميع الكائنات، والبلاد التي ينقطع عنها الماء يعقبها الفناء بل العفاء؛ فمدالث النيل كانت سببا للعمران المصري، ومدالث بنجاب كانت علة الرقي الهندي، ومدالث الفراتين ساقت الناس إلى العمران العراقي الشهير في التاريخ.
ومن البديهي أن الطعام من أول ضروريات الحياة، وهو لا يكثر إلا حيث تتدفق المياه العذبة، فإذا كثر في بلاد احتاج أصحابه إلى إرسال ما زاد أو يزيد عندهم إلى الديار التي تحتاج إليه؛ ليعتاضوا عنه بما يرغبون فيما لا يوجد عندهم منه، وهذا ما دفع الناس إلى اختراع وسيلة يتراسلون بها ويتفاهمون ويتكاتبون، ولا سيما لتدوين ما يهم الوقوف عليه من الحوادث والأمور المهمة التي تفيد الخلف إذا حفظت ودونت، فكانت هذه الحاجة أم اختراع الكتابة، وهذه أصبحت أقوى أساس للعمران، وأصدق وسيلة لرقي الحضارة. ثم حاول الإنسان تعميم هذه الفوائد المدونة في جميع البلاد حتى النائية منها بنفقات زهيدة، فكان ذلك علة اختراع المطبعة، فعمت بها المعارف والعلوم، ومنذ ذاك الحين نشطت الحضارة نشطها من عقال، فاتسع نطاق العمران، وانتشر الرقي في الأرض كلها جمعاء، وزادت الرغبة فيه كل الزيادة. (6) أرض شنعار أو أرض شمر وأكد (تمدنها - أنهر البلاد ومدنها)
يروي لنا الكلدان في كتبهم التي وصلتنا روايات عجيبة في المخلوقات الأولى؛ فقد زعموا أنها مخلوقات غريبة الصورة والهيئة، خيالية الخلق، ظهر في وسطها الإنسان عريانا أعزل، وبعد ذلك ظهر الإله «يونس» من خليج فارس، فأنس إليه الناس، وأخذ يهذبهم ويمدنهم، وكان جسمه جسم سمكة، ورأسه وصوته رأس إنسان وصوته، وكانت رجلاه البشريتان تخرجان من ذنبه السمكي البينية.
ومهما يكن من هذه الرواية فإن الذي ينظر أراضي هذه الديار ويقابلها بأراضي النيل يرى مشابهة عظيمة، يرى أن الإنسان حاول الاندفاع إلى الرقي كما حاوله ساكن وادي النيل، وقد ساقه إليه غنى الأرض وثروتها؛ أي ما على وجهها من العزيل (وهو الطين الأحمر، ذاك الثوب الذي يخلعه دجلة في الربيع على ابنته المحبوبة الأرض العراقية المباركة)، فتقذف حينئذ ما في أحشائها من الكنوز؛ أي أثمارها وحبوبها، وذلك لأدنى عمل يعمله الزراع على حد ما يفعله زارع وادي النيل. على أن بين ماء النيل وماء الفراتين فرقا؛ فماء الرافدين يجري على وجه غير مطرد؛ إذ يفاجئ الزارع ويضره أضرارا بليغة، بخلاف ماء النيل، فإنه يوافي البلاد بمواسم معلومة ومحدودة، ويكون قدومه إلى تلك الديار سببا لفرح الفلاح وسعادته. الفراتان يجريان بين جبال من الرمال، مفتوحي الواديين لغزوات البدو المبثوثين في غربيهما، ولغزوات أهالي الجبال المنتشرين في الجبال القائمة في شماليهما وشرقيهما. والنيل يجري في أرض لا يلحقها الأذى؛ ولهذا لم ترتق هذه البلاد إلا من بعد أن تمكن أهلها من ردع جماح الطبيعة وأبنائها الهمل، بخلاف النيل فإن أهله تقدموا في الحضارة وأوغلوا فيها قبل سكان هذه الديار لخلو واديه من تلك الموانع.
ومع ذلك كله إننا نرى أهالي هذه البلاد قد خطوا خطوة في الحضارة في نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وحفروا أنهرا عديدة، وبنوا مدنا كثيرة بالطابوق (الآجر)، وفي كل مدينة منها حاكم يحكمها، وإله يعبد فيها خاصة، ويجمع الكل حاكم عام ممتد سطوته على البلاد كلها.
وأشهر المدن التي بنيت يومئذ في العراق؛ أي في جنوبي الجزيرة، وهي نبور (وهي المعروفة اليوم باسم نفر، وكان إلهها الليل يعبد في جميع المدن)، وكيش (وهي اليوم تل الأحيمر)، ولجش (تلو)، وأورك (الوركاء)، وأور (المقير)، وأريدو (أبو شهرين)، ولارسا (سنكرة)، وغيرها من المدن التي كانت في شمالي العراق أوبي (أو أوبيسر، وهي اليوم أبو حمشة، وعند العرب الأقدمين باحمشا).
في وادي النيل كان لجميع الأهالي لسان واحد، أما هنا في وادي الفراتين في الأرض التي تسميها التوراة أرض شنعار (بكسر الأول، ولعل القراءة الصحيحة بفتحه)، فكان فيها أقوام من سلالتين مختلفتين، ولهم لغتان، كل منهما تختلف عن صاحبتها، ويسمى القطر الشمالي «أكد»، وسكانه أقوام ساميو الأصل، أولاد عم العرب والعبريين والفينيقيين والسريان، طويلو اللحى سودها ومتموجوها، وقد احتل القطر أجدادهم قادمين من ديار العرب في زمن واغل في القدم. وأما القطر الجنوبي المجاور لمصب الرافدين فاسمه شمر، وسكانه أقوام لا رابط يربطهم بقوم من أقوام الأرض الذين نعرفهم، محلوقة لحاهم وشواربهم وشعور رءوسهم، وأنوفهم بارزة دقيقة الأطراف، وشفاههم رقيقة حسنة، فأي الفريقين كان الأول في هذه الديار الفراتية؟ فلا يمكننا الجواب عنه الآن، وهذان الفريقان وإن كان أحدهما يختلف كل الاختلاف عن صاحبه، إلا أنه من البديهي الذي لا ينكر أن كلا منهما استعار من الآخر معارف شتى، وكلاهما كان يبعث بالهدي إلى آلهة البلاد، مثلا إلى «الليل» إله نفر.
ويصور الشمريون إلههم بصورة أكدية، وأخذ الأكديون عن الشمريين الكتابة، ذلك الاختراع الذي اخترعوه في أرض الفراتين (كما اخترع مثله سكان النيل قبلهم ببضعة ألوف من السنين)، إلا أن كتابة الشمريين لا تشبه التصاوير كما تشبهها الكتابة المصرية التي يرى فيها صور أناس وحيوانات وطيور، أما خط الشمريين فهو عبارة عن مجموع خطوط ذاهبة في الطول والعرض بهيئة مسامير أو أسافين قصيرة، ومن ذلك اسمها اليوم عندنا، وهو الخط المسماري، أو الإسفيني.
وأهل وادي الفراتين كأهل وادي النيل، ينقشون ألفاظهم على صفائح من الحجر، وإن كان الحجر عندهم أغلى وأندر مما هو في وادي النيل؛ لأن الجبال التي تقطع منها هذه الحجارة هي بعيدة عن مدن العراق، بخلاف المدن التي في وادي النيل، فإن مقاطع الحجارة قريبة منها.
وسكان وادي النيل كانوا يستعملون في أشغالهم المألوفة الورق المتخذ من البردي، وأما سكان وادي الرافدين فكانوا يستعملون في مثل هذا المقام الطابوق (الآجر) والشمامات والصفائح المتخذة كلها من الفخار، وقد وجد من هذه الرقم ألوف وألوف محفور عليها كلها أنواع الإفادات والأنباء، وكانت مدفونة تحت الأرض، وقد حفظت كتابتها أحسن حفظ كأنها خرجت اليوم من يد عاملها، وهناك ألوف غيرها تنتظر أيدي الحفارين ليبرزوها إلى عالم الظهور والمطالعة والاستفادة والإفادة، ومن وقف على بعض ما ورد في هذه الزبر الحجرية أو الفخارية يتحقق أن السلطة كثيرا ما انتقلت من يد إلى يد، ومن بيت إلى بيت، ومن قوم إلى قوم، ومن مدينة إلى مدينة، ومن الشمريين إلى الساميين، ومن الساميين إلى الشمريين، وذلك قبل المسيح بنحو 2800 سنة وبعدها. وليس هنا محل لإيراد أسماء ملوك الذين ملكوا في أرض شنعار قبل ألوف من السنين، ولا سيما أن أغلب هذه الأسماء لم تألفها آذاننا ولا تنطبق على أصول لغاتنا في هذا العهد، ولا بد من إيراد بعض منها لتكون بمنزلة مثال لما هناك من هذه التراكيب السمجة التي نستغني عن إيراد ما بقي منها، وهي نحو: لوجالشا جنجور، وأنشا جكوشانا، ولوجاليكجو بنيدود، ونحوها من الأسماء التي تصلح لأن تتخذ للطلاسم والعزائم، أو لإبعاد الجن والشياطين عن بني آدم، والمراد من إيرادنا بعض الأمور عن شنعار وأرض النيل أن أهالي ذلك العصر كانوا قد جروا شوطا بعيدا في الحضارة، وقد ابتعدوا كثيرا عن الإنسان الأول.
وفي ذلك العهد كانت الأرض تنقسم إلى قطرين: قطر قد ضربت عليه سرادق الجهل بظلماته، وقطر قد غرق في نور العلوم والمعارف، وهو المعروف أصحابه بالمتمدنين؛ فمدن القطر الذي كان واغلا في الحضارة قد تعارض المدن الكبرى الشرقية في عهدنا هذا بدون أن يلحقها أدنى شائبة، فإنك كنت ترى في تلك المدن طرقا طويلة ضيقة متمعجة، نشأت من حيطان البيوت العظيمة التي بنيت باللبن، وكانت معاطاتهم ومعاملاتهم تجري على أحسن وجه، وتكتب لإحكام أمورهم الوثائق والسندات والحجج والمقاولات والمبايعات والقرض، إلى غيرها، وكانت تختم بالخاتم على معجون الطين، ثم تشوى في النار لتحفظ من كل ضرر، وكانت فائدة توقيع هذه الخواتم بمنزلة توقيع الأسماء أو الإمضاءات في عهدنا هذا، وزد على هذا كله أنه أنشئ في عهد الملك حموربي دستور أحكام، ولعل هذا الملك قد سبق إلى مثل هذا الدستور، فلم يصل إلينا، أو أن مثل ذاك الدستور كان يجري بين الناس بالمعاطاة، بدون أن يكون مدونا على صفحات الصفائح، وكان لأهل ذلك العهد درجات في المقامات والمجالس على حد ما هي موجودة اليوم، وكان «لابن إنسان» بمقام ممتاز صرح، به دستور أحكام بابل، وهو يختلف عن مقام «الفقراء»، وكان في ذلك العهد المماليك والعبيد، كما كان يوجد رجال أحرار.
وكنت إذا خرجت من البلدة ترى طرقا واسعة، والأشجار عن يمينك ويسارك، وتلك الطرق تنحدر بك انحدارا وئيدا لا تشعر به، تغضي بك إلى المزارع أو الغابات أو غيطان النخل التي تزكو من سقي الفراتين أو من ماء الأنهر؛ لأنك إذا التفت إلى حيثما أردت كنت ترى الترع والجداول في كل جانب، وقد شقت لتسقي تلك الأرضين التي أصبحت كلها جنات بفضل المياه، ولا جرم أن الترع أو الأنهار لم تشق في وقت واحد، بل هي عمل أجيال
على وجه تلك البقعة المباركة، وفي بعض المواطن كانت مستنقعات عديدة عظيمة، فاتخذ لها مصارف ومجار؛ لكي لا تبقى في موطنها وتفسد الهواء، فانتفعوا بها بعد أن حولوها سواقي وجداول، وزرعوا ما جزر عن أرضها الماء، فجاءت مزارع زكية وبساتين بهية، وكان من أهم أمور كل حاكم من حكام بلاد شنعار ومن أعظم مفاخرهم أن يحفر أحدهم ما اندفن من الترع والأنهار، أو أن يشق أنهارا جديدة، وما كانوا يتفاخرون في غير هذا. وحيثما كان يدخل الماء بقعة كانت تتدفق فيه الخيرات والغلات، وتزكو فيه الأشجار، وتكثر فيه الأثمار، وقد ذكر هيرودوتس، الذي طوي بساط أيامه قبل المسيح بنحو خمسمائة سنة، ما هذا معربه:
من جميع البلاد التي نعرفها نرى أرض العراق أزكاها تربة، وأخصبها مادة للحنطة، ولم تحاول هذه أن تحمل تينا أو عنبا أو زيتونا،
2
لكن تزكو فيها سائر الحبوب أي زكاء، حتى إنها لتعوض عما لا تنبت من تلك الأثمار والأشجار، ولقد تؤتي الحبة الواحدة المزروعة مائتي ضعف، وقد يزداد على ذلك بعض السنين، فتفوق الأرض نفسها فتعطي بدل الحبة الواحدة ثلاثمائة حبة، وعرض ورق الحنطة والشعير يبلغ هناك أربع أصابع. هذا، ولا أذكر شيئا عن ارتفاع سوق الذرة والسمسم؛ لأني أظن أن الذين لم يكونوا في ديار العراق لا يصدقون أبدا ما ذكرته عن زكاء حبوبها، ومع كل ما يقال عن ثروة أرض العراق، فمساحة ما يمكن سقيه وزرعه محدود بخلاف ما يتصور عنه، فلقد ذكروا أن المساحة الكبرى التي أمكن أن تحرث وتزرع وتسقى في الزمان القديم كانت تتراوح بين 20000 و30000 كيلومتر مربع، والباقي - وهو 70000 كيلومتر مربع من الأرض الغريلية - كان يترك على حالته الأولى.
3
في العهد القديم كان الشنعاري إذا سار في أرضه فلا يقع طائر بصره إلا على غابات تزدحم فيها النخيل والغرب والصفصاف، ويمتد السهل بين يديه بقدر ما كان يبلغ بصره من مدى الأفق.
وكان إذا أوغل في شرقي دياره لمح جبال إيران تتتالى أمامه كأنها الأغنام تأخذ بعضها برقاب بعض، ويرتقي بعضها فوق بعض، كأنها درج توصلك إلى أبعد أوج من الجو، ولعل هذا المنظر هو الذي دفع أهالي هذه البلاد إلى البناية المتدرجة التي ترى في بعض مشيداتهم وقصورهم، فكان السطح يعلو السطح الآخر، لتتمثل أمام عيونهم الجبال البعيدة عن أنظارهم، ويغروا من منظر السهول التي قد أتعبت أبصارهم، هذا فضلا عن أن الحر هو الذي كان أول سائق لهم لبناية السطوح؛ لأنه إذا اشتد في هذه الديار تعذر على الإنسان سكنى الغرف فيعلو السطوح ليلا؛ ترويحا للنفس، وشما للهواء العليل، وهربا من حر الحجر الذي لا يطاق.
ومما بنوه مدرجا هياكلهم، حتى إذا اعتلوها ليلا ذكرتهم صهواتها خالق تلك النيرات المنثورة في القبة الزرقاء نثار فرائد الدرر على بساط أزرق، ولما كانت الأمور تقود الإنسان من شيء إلى شيء ساقه هذا المنظر الرائع إلى رصد النجوم والكواكب، فكان أهل شنعار أول من عني برصد محاسن السماء على قواعد مطردة، وفاقوا من تقدمهم في هذا الفن البديع، وما زالت مجموعة معارفهم فيه تزداد وتتسع جيلا بعد جيل حتى اتصلت بعدهم باليونان، وهي - والحق يقال - لم تكن راقية كما يتوهمه بعضهم، لكن اليونان زادوا عليها زيادة تذكر، وكذلك فعل الرومان، فتقوم منها علم النجوم وعلم التنجيم معا، إلا أن أساس تلك المعلومات كان مبنيا على ما وضعه الكلدان، وهم الذين كانوا يزعمون أن حظوظ الناس وسعودهم ونحسهم متوقفة على بروج السماء وكواكبها وعلاماتها وظواهرها، وقد بلغ بهم الرصد إلى أنهم عرفوا ما كان ثابتا من تلك النجوم وما كان متحيرا، مع أن الأجرام النيرة التي تغشى تلك القبة الزرقاء تعد بالألوف والملايين، ولقد تصوروا في تلك النيرات صورا وهمية، انتقلت أسماؤها إلى الخلف إلى يومنا هذا، كالعقرب مثلا، والرامح الذي نصفه إنسان ونصفه حيوان، والجدي بذنب سمكة، وكان للشمريين معنى خاص بالسيارة التي نسميها إلى اليوم الزهرة، ويشركونها بمعبودة الحب والولادة، وكان مركز عبادتها في أورك (الوركاء). (7) الملوك الأولون لشمر وأكد (سرجون أكد وخلفاؤه)
لما كان يحكم على أرض شنعار كلها - أي أرض شمر وأكد معا - ملك واحد يرعى رعيته بصولجانه، كانت تلك الأرض عبارة عن قوة متجمعة تتمكن من أن ترسخ في جميع البلاد المجاورة التي أصحابها دون شنعار قوة وتمدنا وحضارة. ويظهر أن تجمع هذه القوى وازدحامها في مركز واحد هما من خصائص هذا الزمن لا من خصائص الخضوع لملك واحد في العصور الخالية الواغلة في القدم. ويحق لنا أن نفكر أن الحرية الشخصية كانت أثبت في القبائل الأولى منها في مدن شنعار وديار مصر، وكان من المحتم على الرجل المتشوف إلى أن يتقدم في السلطة المنتظمة أن ينزع من نفسه شيئا من حريته الحاسية التي نشأ فيها، وينقاد إلى أخلاق ترضي الجميع. أما ملك شمر وأكد فكان في نفسه مطامع أعلى، كان في نيته أن يكون سلطانا مطلق الأمر والنهي؛ ففي نحو سنة 2500 قبل المسيح - على ما ذكره المحققون - دفع سرجون ملك أكد جيوشه الظافرة إلى ما وراء تخوم شنعار شرقا وغربا، شمالا وجنوبا؛ ففي الشرق أخضع لصولجانه العيلاميين (الذين يسميهم العرب بني غليم. راجع القاموس مادة غلم، بالغين المعجمة؛ وابن خلدون 2 و13) في القطر المرتفع المعروف عند العرب باسم خوزستان، واليوم هو جزء من مملكة فارس، في الجنوب الغربي في نحو طرف القسم المطمئن من الأرض الغريلية التي يجتمع فيها النهران ، وسكانه اليوم أقوام يتكلمون لغة خاصة بهم، لا تشبه السامية ولا الشمرية، وكانت حاضرته السوس المعروفة اليوم باسم ششتر، وكان أولئك القوم لا يدينون بعض الأحيان للملوك الشمريين والأكديين، فيقومون ويغيرون على مدن شنعار.
وكانت حضارة عيلام مقتبسة في صورتها الخارجية من شنعار، أما في الجنوب فإن سفن سرجون كانت تمخر مياه خليج فارس ليوصل جزائر البحرين بمملكته، وهي الجزائر التي تتصل اليوم بدولة أخرى عظمى بواسطة بواخرها الجسيمة. وفي الشمال كانت جحافل سرجون تصعد دجلة وتدوخ قبائلها السامية؛ فلقد وصلت على الأقل المدينة الأرمنية المعروفة اليوم بديار بكر؛ إذ وجد فيها صفيحة شبيثية (بازلتية) لابن سرجون، ووارث مملكة أبيه، ومدينة حران (التي يسميها بعضهم خطأ: هاران) المتربعة في سهل الجزيرة، أخذت من عمران شنعار شيئا قليلا وكثيرا، وهي التي أصبحت في القرون المتتالية مركز عبادة خاصة بسين القمر الإله، إله شنعار. وفي غربي الفرات دوخ سرجون بلاد قوم ساميين آخرين اسمهم العموريون، وكانوا قد توطنوا سورية الشمالية بين الفرات والبحر، وبلغ سرجون بحر الجنوب الكبير، وكانت سفنه تذهب لتمكن سطوته في قبرص، وهي جزيرة لاحقة بدولة بريطانية العظمى، كأن البحرين بالإمبراطورية المذكورة بواسطة السفن أيضا. وعلى ما ترى، كان سرجون قد دوخ العالم كله، ذلك العالم الذي كان يعرفه الشنعاريون، أما وراءه فكانت ظلمات الهمجية تغشى ما بقي من العالم الذي كان وراء فتوحاتهم. قلنا دوخ كل العالم، ولعلنا بالغنا في الكلام؛ لأن في ذلك العهد نفسه، وفي زمن فتوحات سرجون الكثيرة، كان ملوك وادي النيل اختصوا بأنفسهم فلسطين وفنيقية، ولا جرم أنهم واصلوا وراسلوا ملك أكد. نعم، إن سرجون أصبح يومئذ ملك أقطار الأرض الأربعة وسيدها؛ لأن الشنعاريين كانوا يعتبرون البلاد الواقعة في الأصقاع البربرية المكتنفة بالظلمات غير جديرة بأن تعد بين البلاد.
إن الدولة الأكدية العظيمة - دولة سرجون - لم تدم طويلا؛ فمن بعد قرنين انتقل الصولجان من جديد إلى أيدي الشمريين؛ إذ جاءت مدينة أور (المعروفة بأور الكلدانيين في التوراة، وهي المسماة اليوم: المقير )، وأقامت على العرش ملوكا من أبنائها. والبلاد التي دوخها سرجون خارجا عن شنعار انتقضت، ثم قدم الفاتحون العيلاميون وساقوا أسيرا آخر ملك من ملوك أور. والظاهر أن شنعار بعد هذا الأمر سقطت من عظمتها، فتطايرت شظاياها، وأصبحت كل شظية منها دويلة قائمة بنفسها. وإذا نظرنا بوجه عام إلى ما يمكن العثور عليه من تاريخ شنعار نرى أنه يتعذر على الشنعاريين أن يستعيدوا دولتهم الضخمة، أو دولة طويلة البقاء. نعم، إننا نرى من وقت إلى وقت قيام بيت من الملوك الشمريين أو الأكديين يقبضون على أزمة المملكة، لكن ذلك لا يدوم طويلا، وإن كانوا يجمعون في قبضتهم التسلط على البلاد كلها. إن تاريخ شنعار المتقطع يخالف كل المخالفة تاريخ ديار مصر؛ لأن تاريخ هذه الديار يتسلسل تسلسلا عجيبا أن انتقل من يد ملك واحد مستقل إلى يد ملك آخر مستقل مدة 4000 سنة تخللها فترة يسيرة. ولعل سبب ذلك التقلب في بلاد شنعار وجود عنصرين قديمين مختلفين مع لغتين متغايرتين، بخلاف بلاد وادي النيل، فإن أهاليها يرجعون إلى عنصر واحد، ويتكلمون لسانا واحدا؛ هذا فضلا عن أن بلاد مصر كانت قد انحازت عن سائر البلاد بالبحر الذي يفصلها من جهة، وجبال بلاد العرب أو هضابها من الجهة الأخرى. وأما بلاد شنعار فإنها كانت شاغرة مفتوحة لكل من يهجم عليها ومن كل جانب منها.
إن تاريخ شنعار السياسي متقطع، إلا أن حضارته بقيت ثابتة غير متزعزعة خلال أزمنة الملوك الذين تداولوها، والطوارئ المختلفة التي طرأت عليها؛ فالأراضي كانت تزرع وتسقى، وأهاليها كانوا يبيعون ويشترون ويدونون حساباتهم ويكتبون مراسلاتهم على صفائح الفخار، وكانوا يعبدون أربابهم على ما كان يفعله أجدادهم، وكان أهل الجبال وأهل السهول يزدحمون في شنعار ويترددون إلى غاباتهم وبساتينهم بدون مانع يمنعهم، ويتعجبون من محاسن أرضهم، بل من محاسن فردوسهم، وهو أمر لم يروه خارجا عنها، كانوا يرون في بلادهم شنعار حيطانا سميكة من الطاباق، وأبراجا حسنة البناء، كأنها تناغي السماء. كانوا يرون صور حيوانات ووحوش جسيمة، رسمت طبقا لأصول صناعة توارثها الخلف عن السلف، ولها مزايا خاصة بها لا توجد في غيرها، وهي كلها منحوتة في الحجارة، أو منقوشة على الآجر، أو مصبوغة بأصباغ ملونة أحسن تلوين متلألأ في الشمس الباهرة النور. كانوا يرون أسواقا يتزاحم فيها الناس من كل حدب وصوب، ذوو ثياب واسعة طويلة، تنحدر على أقدامهم الحافية، أو التي فيها نعال خفيفة لا يسمع منها حس، وهم يمشون في شوارع كثيرة التراب والعجاج. كانوا يرون بضائع وأموالا معروضة للناظرين، وأقمشة نفيسة مزركشة أو مطرزة على ما كان يفعله الشنعاريون، زركشة وتطريز لم ينافسهم فيهما أحد من الأمم، وقد بزوا فيها على سائر الأقوام المجاورين لهم. أو يرون فيها بضائع معروضة وقد جيء بها إلى بلادهم على ظهور الجمال أو الحمير، وقد نقلوها من البلاد المجاورة. إلا أن الشنعاريين كانوا محرومين من شيء واحد، إنهم كانوا محرومين في عهد سرجون أكد من الخيل الجياد؛ لأن القبائل المتجولة في الشمال كانت قد اتخذت الحصان خادمها، بل رفيقها، ولم تكن تعرف الطريق المؤدية إلى الجنوب، لا سيما الطريق المؤدية إلى بلاد شنعار نفسها، وكذلك لم يكن للفراعنة ذلك العهد جياد لجر عجلاتهم، كما لم يكن للأعراب الرحل جياد لركوبها. (8) تأثير حضارة شنعار وديار مصر على سائر البلاد
القوة مهما كانت - مادية أو أدبية أو عقلية - لا بد من أنها تؤثر أثرا عظيما على من يكون حولها أو يراجع صاحبها. وهكذا كان الأمر في حضارتي شنعار وديار مصر على سائر بلاد ذلك العهد التي كانت تجاورهما. فإن الأقوام الأجلاف كانوا يتقدمون في الحضارة بطريقتين مهمتين ملامستين للأقوام العراقية، إحداهما النظر إلى معيشة سكان النيل والفراتين، ونقل ما يرونه إلى أهاليهم بعد عودتهم إلى بلادهم، فإنهم كانوا يرون نتاج العلوم، والفنون، والصنائع، والأشغال المحفورة والمنقوشة، والأسلحة، والأقمشة الفاخرة، فكانت كلها تنفث في صدورهم أفكارا تدفعهم إلى أن يجلوا أعظم الإجلال أولئك الذين كانوا يبرزون إلى عالم الوجود مثل تلك المآثر. وأما ملك أكد، أو ملك أور، فإنه رفع منار الحضارة والرقي، بحيث أخذ نوره يضيء إلى بعد سحيق، وغدا كل واحد من الناس يستضيء به ويفرغ ما في إمكانه ليضاهيه في عمله، ومثل هذا جرى بعد ذلك بقرون عند الرومان، فإن رقيهم كان قد طبع في نفوس أقوام الشمال الذين كانوا يدنون منهم احتراما وإجلالا ما كانوا لينسوهما البتة. وعليه، أصبح رقي أبناء الفراتين مما يحتذى أن كان له مزايا خاصة به وبصنائعه وأشغاله، وأخذ يتعدى البلد بعد البلد، والصقع بعد الصقع لتحقيق حضارة تعم أقواما عديدين. وما يجدر ذكره ولا يغمط شكره أنه سبق عمران سرجون عمران آخر لم يبزغ إلا فجره، وذلك في سواحل البحر المتوسط، وجزره الواقعة قريبة منه، وقد أخرج السر آرثر إيفنس شيئا من آثاره وبقاياه من جزيرة أقريطش (كريد)، ومما لا نغض عنه الطرف أن تأثير عمران شنعار وديار مصر كان يصل إلى قبرص لقربها من السواحل، وقد ثبت ذلك؛ إذ رؤي فيها أن سكانها اعتاضوا عن الأدوات الحجرية بالأدوات الشبهية (البرنزية). (9) بزوغ شمس حضارة بابل وظهور حموربي
ذكرنا الطريق الأولى التي إذا سار فيها الأقوام الأجلاف يرتقون في الحضارة والعمران، أما الطريق الأخرى فهي الاندغام أو الاندماج في أمة راقية أو الانضواء إليها؛ فقد كان يقع أن قبيلة من القبائل الضخمة أو القوية تنحدر من الجبال أو تطرأ من الفلوات وتأتي فتستحكم البلاد، وتنشئ فيها مملكة، ثم تمعن في الحضارة التي اقتبستها عند احتلالها البلاد، وتدفعها إلى أقصى غاية منها، وتجري على عادات أهاليها الدينية، فتبعث بهديها إلى آلهة شنعار على ما هو جار في عوائد أهل البلاد، وتتخذ لغتي شمر وأكد، وتتخلق بأخلاق ملوك البلاد. وأحسن مثال لتأييد قولنا هذا ما وقع للآموريين، فإنهم جاءوا واستوطنوا البلاد المذكورة في نحو الألف الثالث قبل المسيح، ونحو المائة الخامسة بعد الملك سرجون، وفي نحو 2000 سنة قبل الميلاد أقبل شيخ أموري اسمه «سموابو»، وأنشأ لنفسه مملكة في أرض شنعار، واتخذ له عاصمة جديدة، وهي مدينة كانت واقعة على الفرات، لم تكن ذات شأن في مدن القطر، اسمها «باب إيلو»، ومعناه : باب الآلهة، وهي التي نحت منها العبريون اسم بابل، فصحفها اليونان وقالوا «بابلون»، وقام من هذا البيت بعد مائة سنة ملك اسمه حموربي، وهو أكبر مشترعي بلاد شنعار في التاريخ، وبه دخلت البلاد مرة أخرى تحت جناحي ملك واحد بعد أن أصبحت كتلة واحدة عجنته يداه؛ فقد ذكرت تواريخ حموربي المدونة في عهده كيف جمع هذا الملك أفراد تلك الأمة ونهض زاحفا بهم على ملك أور فافتتحها، وكذلك فعل بمدينة لارسا (سنكرة الحالية)، ونقل أسلابهما إلى عاصمته بابل، ثم حارب العيلاميين واحتل بلادهم المتاخمة لبلاده، فأوقف بذلك غاراتهم، ومد جناح سطوته وشوكته إلى ما وراء شنعار إلى أعالي دجلة، وأدمج ديار آشور في دياره، وكانت هذه البلاد واقعة في منحدر دجلة ناظرة إلى جبال إيران، وكانت تتصل من الشرق بسهول الجزيرة الخضراء، وهواؤها أطيب من هواء شنعار المشهور بشدة حرارته. وكان أهالي تلك الديار ساميين مثل الأكديين والأموريين، ولسانهم قريب من لسان الأكديين، وكانت أشهر حواضرهم آشور أو آثور على دجلة، ثم امتد اسم المدينة حتى عم الصقع كله، فالشعب نفسه، فالآلهة المعبودة فيها. وكان الآشوريين قد ابتنوا مدينة أخرى قبل أن يدوخ حموربي ديارهم، اسمها نينوى، وكانت واقعة أعلى منها من جهة منحدر دجلة، وكانت نيتهم أن يفوقوها على آشور حتى يكسف نورها نور آشور. وكان تمدن آشور كتمدن شنعار، وآلهتها كآلهتها بدون فرق، إلا أن أخلاقهم على ما يظهر كانت تميل إلى الحرب والقراع أكثر مما كانت تميل إليه أخلاق الشنعاريين، يبين ذلك من هذا الأمر: وهو أن أشتر (أو عشترتة) معبودة شنعار الكبرى، كانت إلهة اللذات عندهم، وكانت عند الآشوريين معبودة الحرب. وفي عهد حموربي البابلي أصبحت بلاد آشور كلها تعتبر جزءا من مملكة شمر وأكد.
ولم يكن حموربي ملكا مغوارا أو فاتحا، بل كان أيضا حارسا حريصا على إدارة بلاده، يشهد على ذلك رسائله التي أنفذ بها إلى الضباط الملكيين، وعماله الذين كانوا في جنوبي المملكة، وهي الرسائل التي اكتشفت حديثا، فيظهر منها أنه حول كل فكره وانتباهه نحو إسقاء الأرضين وإروائها، تلك الأرضين التي يتوقف عليها حياة السكان وعمرانهم، ولقد كان يحفر ما يدفن منها، ويصلح ما يفسد، ويشق ترعا جديدة في المواطن التي بدت فيها الحاجة. وفي هذه السنين الأخيرة اكتشف العلامة الفرنسوي المسيو دمرغان القوانين التي أنشأها لبلاده، وقد نقلها إلى الفرنسوية لأول مرة الأب فنسان شيل الدومنيكي، وقوانينه هذه من أجزل الفوائد، والمقابلة بينها وبين شرائع موسى من الأمور التي تعرض لفكر الباحث بدون أن ينبه عليها. ولقد صارت مرمى أبحاث طلبة العلم منذ أن ظهرت إلى عالم الوجود، وقد اتخذ واضعها طريقة ابتدائية للتمييز بين طبقات الناس؛ فقد قال في جملة ما سنه: «إذا أتلف واحد عين رجل شريف تقلع عينه، وإذا رض عضوا شريفا يرض عضوه.» وقال في موطن آخر: «إذا أتلف رجل عين رجل فقير، أو رض عضوا من أعضائه يؤدي منا من الفضة.» والقضاء في أمور الخلق أخشن حكما وأقطع نفوذا؛ فقد قال في جملة ما سنه: «إذا عالج طبيب شريفا لجرح بليغ بمبضع من شبه (برنز)، وسبب وفاته، أو إذا بزل دملة في عين شريف بمبضع من شبه، وسبب تلف عينه، تقطع يد الطبيب.» «إذا بنى بان بيتا لرجل، ولم يكن بناؤه مكينا، وانهدم البيت الذي بناه، وسبب وفاة صاحب البيت، يقتل ذلك الباني.»
لا جرم أن شرائع حموربي لا تمثل مطلقا أفكار رجل خصوصي، لكن أفكار التشريع والأخلاق السائدة يومئذ في شنعار في القرن الألف قبل الميلاد؛ ولهذا يجب أن ينظر إليه نظرنا مستندا أصليا يعتمد عليه من يهمه أمر نشوء فكرة الخير والشر بين الناس.
وبعد أن ولى عهد هذه الدولة الأمورية البابلية، ابتلع في الآخر العنصر السامي العنصر الشمري، وغدت اللغة الشمرية لغة مماتة، حفظت بجنب اللغة الأكدية بمنزلة لسان ديني على حد ما كانت اللغة اللاتينية في العصور الوسطى، وأصبحت اللغة السامية منذ ذاك الحين لغة سواد الناس في شنعار كلها.
نشأت الدولة الأمورية وترعرعت، ثم اكتهلت فهرمت، ثم طوت بساط أيامها وانقرضت ، وآخر خلف لحموربي تشير إليه الآثار يبين كأنه يعود إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل المسيح. وبعد ذلك انتشر أقوام في تلك الديار وحيثو آسية الصغرى المعروفة بالأناضول، وهم أقوام لم نسمع بهم إلى اليوم، وفدوا إلى بابل وأخذوا معهم صورة الإله الخاص ببابل؛ أي مردوخ (المعروف باسم عام هو بل تخفيف: بعل؛ أي الرب أو السيد)، ثم قدم الديار المذكورة قوم من الجبال القائمة بين بابل وفارس اسمهم الكاشو (أو الكشيون)، فجاءوا من الشرق وأوغلوا في قلب البلاد، وأقاموا على عرش بابل واحدا من ملوكهم. وإننا لنجد أثرا لهذه الدولة مدة قرن، ثم يكتنف البلاد ظلمات فوق ظلمات زهاء قرنين، لا نرى فيها ما يفيدنا عن أخبار أرض شنعار شيئا يذكر. (10) إبراهيم والقوافل السامية
تفيدنا التوراة أن الله خلق العالم وما فيه مع الإنسان في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، وسمى الرجل الأول آدم، والمرأة الأولى حواء، وأعطاه إياها معينة له، وأقامهما في جنة لذيذة، ثم طردا منها لمخالفتهما أمر الله، وأكلهما من ثمرة الشجرة التي منعا عن أن يأكلا منها، وهي الشجرة المعروفة باسم شجرة معرفة الخير والشر.
وأخذ الناس يكثرون من صلب آدم وحواء، ونموا نموا بينا، لكنهم أخطئوا أمامه تعالى؛ فأبادهم بطوفان هائل سلم منه نوح وأهل بيته، ومن نوح عمرت الأرض من جديد، فهو الأب الثاني.
وبعد أن مضى على الطوفان نحو ألف سنة اختار الله إبراهيم، وعقد عهدا معه ليجعله رأس أمة مصطفاة، وكان الخليل قد ولد في مدينة أور (وهي التي نسميها اليوم: المقير)، وكان يقيم يومئذ في حران، وهو ابن تارح، فقال الله له: «اخرج من بلادك ومن أقاربك ومن بيت أبيك إلى البلاد التي أريكها، وأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأجعل اسمك عظيما وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، وبك تتبرك جميع بيوت الأرض.» فحينئذ غادر إبراهيم بلاده وذهب إلى البلاد التي ذكرها له الرب.
وفي ذلك العهد كانت القوافل تجري على الوجه الذي نراها تجري عليه الآن بدون أدنى تغيير، فكان أهل البيت الواحد يجتمعون وأناسا آخرين، ويأخذون معهم خيما وزادا وأدوات طبخ وشرب، ويأخذ أصحاب البيوت المترفهة خداما ورئيسا للطريق يسمونه عكاما، ويكرون لهم دواب من واحد مهنته السير بين مدينة ومدينة وقد عرف الطريق أحسن معرفة، ويكون أغلب سير القوافل في فصول السنة الطيبة، مثل الربيع والخريف، وقد تكون الأسفار أيضا في الصيف، لكن المسافرين يسرون في الليل ولا يسيرون في النهار، ويضربون خيمهم على كل حال قريبا من الماء بجانب نهر أو عين ماء أو بئر أو صهريج لضرورة الماء، ويمشون كل يوم من 7 إلى 9 ساعات، بموجب طول المراحل وقصرها.
وهكذا فعل إبراهيم، فإنه أخذ سارة ولوطا ابن أخيه وجميع أموالهما التي اقتنياها، والنفوس التي امتلكاها في حران وخرجوا، فأتوا أرض كنعان، ومن بعد أن قاسى هو ومن معه شدائد الطريق وأنواع المشقات، ألقى عصا ترحاله في كنعان من بعد أن ذهب إلى مصر، فلم تطب في عينيه لسوء آداب فرعون ومن معه من الرؤساء. وكان مقام إبراهيم في كنعان في جوار جرار، ثم في حبرون، وهناك جدد الأزلي عهده معه ووعده بأن البلاد كلها تكون لذريته.
وأقام في تلك الأرض هو وابنه إسحاق وحفيده يعقوب بأمن وسلام، وولد ليعقوب اثنا عشر ولدا، وكان أحدهم يوسف، يبغضه إخوته أشد البغض؛ لأن أباه كان قد ميزه عن سائر إخوته بمحبة خاصة، فباعوه لقافلة تجار كانوا يذهبون إلى مصر، وأقنعوا أباهم أن سبعا
4
افترسه، وفي مصر اشتراه فوطيفار، أحد كبار موظفي فرعون، وما عتم أن أصبح قيما على مال سيده، ثم رقي حتى صار أول وزير لفرعون. وفي سنة من السنين ساقت المجاعة إخوته إلى مصر، فذهبوا يشترون حنطة، فأظهر نفسه لهم وأخذهم إلى بين يدي الملك، فقال حينئذ فرعون: «قل لإخوتك: اعملوا هذا، حملوا دوابكم واذهبوا وعودوا إلى أرض كنعان، وخذوا أباكم وعيالكم وارجعوا إلي فأعطيكم من أحسن ما في ديار مصر، فتأكلوا شحم الأرض.» فذهب إذا إسرائيل مع كل ما كان له ، ووضع بنو إسرائيل يعقوب أباهم وصغار أولادهم ونساءهم على مركبات بعث بها فرعون ليحملوا عليها، وأخذوا معهم أيضا مواشيهم وأموالهم التي اقتنوها في بلاد كنعان، ويعقوب وكل أهل بيته معه وهبطوا مصر، فأقاموا بين شعبة من شعب النيل وبين الصحراء في أرض جشن، حيث نموا نموا عظيما، وأصبح أبناء يعقوب ويوسف أصل الأسباط الاثني عشر، وهؤلاء أولادهم: «يهوذا، وشمعون، وبنيامين، ودان، وأفرائيم، ومنسى، وبساكر، وآشير، ونفتالي، وزبولون، ورؤبين، وجاد.» (11) الخروج من مصر وأمر موسى
5
مضت أيام وأقبلت أخرى، فأقيم على عرش مصر فرعون آخر لم يكن يعرف يوسف البتة، وكان عدد بني إسرائيل يخيفه، فأخذ يشدد عليهم ويعنيهم ويحملونهم أشغالا لا تطاق، وأمر بقتل جميع الذكور الذين يولدون. ثم إن امرأة من سبط لاوي من بعد أن ولدت وأخفت ولدها مدة ثلاثة أشهر وضعته على النيل في قفة في الموضع الذي كانت تستحم فيه ابنة فرعون على مألوف عادتها، فحنت عليه الأميرة، وسمته موسى (أي المنشول من الماء)، وربته في قصرها وعلمته جميع علوم مصر. ولما كان موسى ابن أربعين سنة رأى مصريا يضرب عبريا فقتله غير، وفر إلى برية سيناء، وبقي فيها منفيا نحو أربعين سنة.
ولما مات فرعون ظهر الله لموسى في عليقة محترقة، وأمره بأن يعود إلى مصر لينجي شعبه من الرق، فذهب هو وأخوه هارون، وطلب إلى فرعون أن يطلق ليقدموا قرابينهم في البرية، فلم يحصل على ما طلب إلا من بعد أن أنزل في وادي النيل عشر ضربات وأباد أبكار المصريين. وبعد أن غادروا بلاده تتبعهم في البحر الأحمر، وكانوا يعبرونه يابسا أمامهم، وكانت مياهه تنطبق على المصريين لتبتلعهم، فلما خرج موسى وبنو إسرائيل من البحر ترنموا بأنشودة تغني شهرتها عن ذكرها.
وفي كل أعماله أظهر موسى من الحزم والعزم وقوة الفكر وحسن الإدارة ما جعله في مصف الرجال المشترعين الكبار، ولا يمكن أن ينسى أو ينكر فضله. (12) آشوريو نينوى الصناديد وفتح مصر
بينما كانت مصر تسير في وجهها في طريق الحضارة والعمران، وأخذ بنو إسرائيل يتجمعون أمة تتقوى مع الزمن، كانت السيادة تنتزع من أيدي شنعار لتنحصر أو لتنتقل إلى قوم سامي آخر يعرف بالآشوريين من أقارب الأولين، وكان ذلك في نحو السنة التي بين 1600 و600 قبل المسيح. وبينما كان نور شنعار يتضاءل كان نور آشور يشتد، وما زال الرقي يسير بهم صعدا حتى أصبحت مملكتهم حسنة التنظيم، ولها من المطامع في الفتوحات ما لا مطمح وراءه، وكانت حضارتها وديانتها وعلومها وصناعتها وكتابتها مقتبسة كلها من شنعار، إلا أنها أدخلت عليها من التحسين والتجديد والإصلاح ما يكشف عن روح جديد في جميع ما تأتيه، وكانت مغرمة بالغزو والفتح والتبسط في مناكب الأرض وأسنمتها، ولم تتوفق في بادئ الأمر تحقيق أمانيها لما كان يعترضها من عزائم أعدائها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. عن الشمال والشرق كانت جبال لا يذل سكانها لأول هاجم عليها، ومن الجنوب كان الشنعاريون أصحاب التمدن القديم، وفيهم من عزة النفس ما يدفعهم إلى أن يدفعوا أحياء ولا يقبلوا الخنوع لأمة حديثة النشأة، أمة الآشوريين. وأما إيغالهم في جهة ديار الشام وآسية الصغرى فكانت تصدهم جبال أخرى منيعة سكانها رجال أشداء لا يذلون بسهولة.
وبعد أن نشأت الدولة الآشورية وظهرت للوجود وتمثلت قواها ومظاهر حياتها في قلبها ودماغها - أي في مدينتي آشور ونينوى - عادت إلى البطش والفتك بعد أن استجمعت قواها، ونجحت في إنشاء دولة أوسع وأكبر، دولة وجدت إلى عهدها وكان يرعاها ملك واحد. وبعد أن انتابها العز والذل، الرفعة والضعة، النصر والدحر، العثار والإنعاش، أخذت تمتد متبسطة في الأرض، وأول ما كان ذلك في القرن الثاني عشر قبل المسيح. فالملك تغلث فلسر (تغلتي فلاشرا) دوخ في الجهة الغربية المشيان والكماجنيان في بلاد هضاب أعالي الفرات بين الجزيرة وآسية الصغرى، ثم سار مظفرا نحو الشرق متوقلا جبال كردستان، وواغلا في البلاد التي نسميها اليوم أرمنية حتى الشمال، وقهر الممالك الصغيرة الواقعة في شمالي سورية، واجتاز لبنان نحو الساحل الفينيقي، وتمكن من رؤية البحر المتوسط، فلما سمع بدنوه ملك مصر أهداه هدايا ليدفعه عنه، فعاد إلى دياره واستحوذ على أرض شنعار، إلا أن ملك بابل أنزل بجيوشه الآشورية أعظم النكبات وأعادها إلى ديارها. وابن تغلث فلسر أخذ بثأر أبيه. وفي هذا الحين سمعنا باسم بغداد للمرة الأولى بدون أن تكون مدينة عظيمة بين مدن شنعار، وبأن الآشوريين دوخوها. وبعد عدة ملوك اضمحلت سلطنة آشور مدة أعصار متطاولة، وهذا ما يسمى بدولة آشور الأولى.
وبعد أن خمد ذكرهم في تلك المدينة عاد فنبه قبل عهد النبي أشعياء. وفي سنة 860ق.م اجتازت جيوش الآشوريين للمرة الثانية جبل لبنان، وأكرهوا فينيقيي ساحل البحر على أن يؤدوا دلائل الإكرام لملكهم. وقبل المسيح بنحو سبعمائة سنة عادت السطوة الآشورية إلى التقدم خطوة خطوة على طول فلسطين، التي أصبحت بمنزلة الجسر يصل البحر بالبر، وقد اعتمد رأسه على المملكة الضخمة القائمة في وادي النيل. وفي ذلك الحين أخذت البلاد المصرية باسترجاع قواها المتبددة؛ ففي أعالي النيل في المكان الذي نرى فيه اليوم مدينة «الخرطوم» كانت مملكة تعرف ب «كوش»، وهي التي يسميها اليونان «إثيوبية»، وكان ملوكها مصريي المحتد والحضارة، وكان صولجان الملك بيد دولة مستقلة، فانحدر ملك كوش إلى أرض أجداده ليفتتحها، فتوفق لما نوى وجمع بينها وبين بلاده الكوشية، وجعلها مملكة واحدة، وكان ينتظر أن تصطدم الحضارتان: النيلية، والجزرية أو الفراتية، فوقع، وذلك أن سنحاريب أقبل في سنة 701ق.م بجيش جرار نحو الساحل، وقد ولى وجهه شطر البلاد المصرية، فالتحم الجيشان، الآشوري والمصري، في سهل الفلسطينيين، فولى المصريون الأدبار، وكان النصر حليف الآشوريين، وظهر كأن الساعة قد حانت للآشوريين أن يوغلوا في بلاد النيل، إلا أن الأمنية لم تتحقق ساعتئذ؛ لأنه بينما كانت جيوشهم مرابطة على حدود الصحراء بين فلسطين ومصر فاجأها طاعون جارف وكاد يفنيها عن آخرها، لولا أنها أسرعت فعادت إلى وطنها، وكان سبب هذا الطاعون هجوم طوائف عظيمة من الجرذان على أولئك الجيوش الآشورية، ففعلت بهم ما لم يفعله أعداؤهم.
مضت سنوات والآشوريون يحاولون في أثنائها الزحف على مصر فلم يتوفقوا؛ إذ حبطت خططهم كلما أرادوا تحقيقها. وفي سنة 670ق.م عبر الآشوريون «رفح» الواقعة على حافة البادية، وكسروا الجيوش المصرية قريبا من التخوم في ملحمتين أريقت فيهما الدماء، وبعد أربعة أيام دخلوا منف بأبهة وعظمة، والمصريون مقهورون أذلاء صاغرون، وأضاف آسرحدون إلى ألقابه السابقة لقب: «ملك مصر وكوش»، وشيد في نينوى قصرا جليلا رائع الحسن والبهاء، وفتح له في صدره جادة وضع فيها تماثيل أبي الهول على ما شاهده في ديار مصر.
وبلغت دولة الآشوريين أقصى السعة والامتداد في عهد آشور بنيبل بن آسرحدون (766-625ق.م)، فإن جيوشه الظافرة صعدت أعالي النيل حتى وصلت طيبة أو طيوة عاصمة الصعيد (وفي بعض مكانها اليوم الأقصر وكرنك)، فاكتسحوها وساقوا أهلها أسرى بعيدا عن بلادهم، فكان هدم هذه المدينة العظمى - مدينة الإله آمون - نكبة من أعظم النكبات على أبناء مصر، وقد أثرت ذكراها على مخيلتهم ومخيلة جميع الشرقيين، حتى إنها لم تنس ولن تنسى. (13) الكلدان وانحطاط الجزيرة في القرن السادس قبل المسيح وتعالي سطوة الفرس وتفوقهم على الساميين
بقيت بابل صاغرة لآشورية حينا من الدهر، ثم نفضت عنها غبار الذل والمسكنة، فجيش نبوبلصر جيشا لهاما وزحف به عليها، فأفلح في سعيه. وكان نبوبلصر كلدانيا، وكان الكلدانيون من الأمم الآرمية الأصل، نزلوا الشرق قبل بضعة قرون فأسسوا فيه مملكة مستقلة لاصقة ببابل، وحاضرتها واقعة على ضفة الفرات المقابلة لها.
ثم أخذ الكلدانيون يترسبون رويدا رويدا إلى بابل، وينتشرون في تلك الديار، حتى تبسطوا في البلاد كلها، وأصبح بعد ذلك معنى «كلدية» و«بلاد بابل» شيئا واحدا. ولما قام على عرش بابل ملك كلداني الأصل سهل حينئذ امتزاج الكلدان بالشنعاريين، واقتبس كل من الشعبين ما ينقصه لنفسه، فاستعار الكلدان إكرام الآلهة القديمة من الشنعاريين، وعبدوها بأشكالها المعروفة منذ العهد البعيد، واتخذوا الكتابة المسمارية لقضاء أشغالهم وأمور معاشهم، وأخذ البابليون من الكلدان علم النجوم وعلم التنجيم، ومنذ ذاك الحين امتزج علم النجوم بديانة الشنعاريين، حتى إنه في العهد اليوناني الروماني أصبح معنى «الكلدان» يفيد معنى «المنجمين».
ثم إن نبوبلصر حالف ملك ماذي ليقاوم معه ملك آشور ، فزوج ملك ماذي ابنته بنبوكد نصر
6
ابن نبوبلصر توثيقا لعرى الولاء. وفي سنة 608ق.م أخذ الماذيون نينوى والفاتح الآري «هدم كل الهدم مزارات آلهة آشور، وأفنى كتبهم المقدسة، وأبى أن يبقي واحدا منها، واكتسح مدنهم وغادرها قاعا صفصفا كأنها لم تكن.» وهكذا اقتسم الماذيون والكلدان أو البابليون الدولة الآشورية القديمة، فأخذ الماذيون القسم الشمالي، وأخذ الكلدان القسم الجنوبي.
وفي عهد نبوكد نصر (سنة 604-562ق.م) عادت بابل فلبست حلة سلطة جديدة، وماست بثوب مجد سني، وبعد أن مضى عليها مائتا سنة في بدء أمرها وهي تختال عجبا وسؤددا على باقي البلاد، قضت نيفا وألف سنة وهي تابعة لدولة أخرى، أو محافظة على استقلال كله صعوبات، وفي الآخر جاهرت به غير هيابة، فتلألأ مجدها، وسطع نور عزها، لكن ذلك كان عبارة عن شمس أصيل الحضارة الشنعارية القديمة قبل أن تتوارى عن الأنظار؛ فهذه العودة الجديدة إلى المجد والفضل لم تتجاوز عمر نبوكد نصر رافع لوائها وباني معاهدها، وقد وافق وقوع هذا التجدد زمن تمخض حوادث الدهر بشعبين آخرين، قد خصا من بين جميع الشعوب والأمم بأن يدفعا المجتمع البشري وتصوراته وتخيلاته المستقبلة إلى أبعد مدى من العقليات الدينية والدنيوية، وهما: اليهود، واليونان؛ إذ على آرائها تبنى معاهد العقائد والعلوم، فتكون هي السائدة أو الباقية في الأرض، وما عداها يذهب هباء منثورا في الكون.
أما من جهة سعة مملكة بابل والكلدان فإنها كانت دون دولة آشور القديمة في قسمها الجنوبي في عهد آشور بنيبل.
والبائن في نحو هذا العهد انتقلت عيلام إلى يد جيل آري يتصل بالماذيين نسبا، وكان مركزه في الديار الجبلية من الجهة الجنوبية الغربية، وقد أسس دولة جديدة تدفع الجزية إلى ملك ماذي، وكانت بلاده فيما نسميه الآن «ولاية فارس»، وضمت إليها ديار عيلام التي حطمت كما حطمت دولة تلك البلاد مع ملوكهم الذين هم من أبنائها في أيام مملكة آشور الأخيرة، وسوف تسمع عنهم كثيرا فيما يأتي من مطاوي التاريخ، وكانوا يسمون أنفسهم «فارسا»، ومنه اسم «الفرس» عند العرب الذي وصل إلينا.
وقد حاول نبوكد نصر أن يمد سطوته إلى ما جاوره من البلاد، ويبلغ وادي النيل، لكنه مع ما بذل من الهمة والسعي الحثيث لم يتمكن مما منى نفسه به، إلا أنه مد صولجانه إلى سورية وفلسطين، وهما بمنزلة الجسر للعبور إلى ديار مصر، ورضي بإقامة ملك من صلب داود يحكم على تلك الربوع، ولكن إلى أجل مسمى، بيد أن الدسائس التي كانت تدس بين أورشليم وبين بلاد مصر بلغت مبلغا أي مبلغ، حتى إن الجيوش البابلية لما أخذت أورشليم للمرة الثانية اكتسحت المدينة المقدسة وهدمت هيكل سليمان، بعد أن حاول الملك صدقيا أن يتخلص من سطوة قاهره، ولكن سعيه ذهب أدراج الرياح، وسيق اليهود أسرى إلى ديار بابل ومعهم آخر ممثل للسلالة الملكية العتيقة.
وقد أفرغ نبوكد نصر كنانة وسعه لإصلاح شئون شنعار وتجديد معالمها وإحياء معاهدها، فحفر الأنهر، ورمم الترع، وبذل همه في إسعاد العباد وتأمين البلاد، فوسع بابل وزاد في محاسنها ومآثرها، وهو لا يعرف الملل ولا يصيبه الكلل، فشاد هياكلها المتهدمة، ورفع رءوسها إلى عنان السماء، ونقش جلائل أعماله على الآخر باللسان القديم وحرفه العتيق المعروفين في البلاد، لتشهد بأنه وجد أيضا في بابل ملك قدير مخلص العبادة للإله «بل» أو «بنو»، وكانت مدينة بابل مبنية في فسحة مستقيمة الزوايا، تكسيرها ميلان ونصف في ثلاثة أميال، ولها سوران: خارج، وداخل، وكان المقبل إليها من الخارج لا يدخلها إلا من بعد أن يجوز أسوارها الواسعة الواحد بعد الآخر، وكان عرض الواحد منها بين العرض، حتى إن عجلتين كانتا تسيران أو تتلاقيان على أعلاه. وبعد الدخول تنبهر عينا المسافر مما يشاهد ويرى.
وكان الفرات يشق هذه الحاضرة شقا، وكانت أبنية الآجر فيها منحصرة في القسم الموجود بين الحيطان من تلك الفسحة، وقسم منها كان عرصة للبساتين ومزرعا للحنطة، حتى إذا ما ضايقها العدو في يوم حصار تستطيع أن تطعم أبناءها، وكانت الهياكل ترتفع فوق البيوت المألوفة بهيئة أبراج بسطوح بعضها فوق بعض، كما كانت تسمو صعدا مباني نبوكد نصر الجديدة، وكان أحدها بناية بطبقات قد ركب بعضها بعضا، وتلك البنية هي قصر الملك، وكان قسم منه في ضفة من الفرات، والقسم الآخر في الضفة الثانية؛ أي إنه كان راكبا الفرات ركوبا، وكان يجمع بين القسمين سرب تحت النهر. والقصر وحده كان عبارة عن مدينة، وكانت جدرانه مغشاة بنقوش حيوانات مرسومة على الآجر بأصباغ زاهية لا تمحى، وقد خص رسمها بأهل البلاد دون غيرهم، وعلى وجه غريب تناقله الخلف عن السلف. وكانت قبة القصر المذهبة تتألق ضياء عن مكان سحيق، ولا سيما لأن الشمس في هذه الربوع تبقى سافرا لا يحجبها حجاب البتة في أيام القيظ. ولا جرم أن هذا القصر الملكي كان متصلا بالجبل المصطنع، ذلك الجبل الذي وصفه لنا اليونان باسم «البساتين المعلقة»، وكان الذي حداه إلى صنعه أن امرأته المادية كانت تذوب أسى لوجودها في بلاد كلها سهول منبسطة، فأراد زوجها أن ينقل لها تلال بلادها، فابتنى لها جبلا متدرجا متفاوت السطوح يذهب صعدا في الهواء، وقد بناه كله بالآجر قائما على عقود محكمة الشد، وتلك السطوح كثيرة التراب لتتمكن الأشجار الكبيرة من أن تنمو فيه بدون أن ترى نفسها في أرض غريبة، وكنت ترى هناك ينابيع ماء وشلالات متنوعة تروي تلك الأشجار المثمرة على تباين أشكالها، كما أن هناك سراديب مظلمة لذيذة الموقع في أيام القيظ الشديدة الحر.
وقد كانت بابل حاضرة تلك الديار الغنية قلبها الحي ومركز حركتها في أمر التدبير والسياسة والغنى، ولا جرم أنها كانت كذلك حتى لما كانت خاضعة لغيرها في أمر سياستها؛ فقد كانت محط رحال الأقوام ومتصل تجاراتهم ومجتمع قوافلهم؛ إذ كانت تزدحم فيها بياعات أهل الشمال وبلاد العرب والهند وبحر الروم وسكان الغرب، وفيها ملتقى أناس من عناصر شتى ولغات مختلفة وألوان متغايرة، وفيها كانوا يختلطون بعضهم ببعض، فهي بابل بالحقيقة. وفي محلة من أحياء الحاضرة التي كان يخرقها من جهة إلى جهة «الطريق السلطاني» كانت الشركات التجارية ومخازنها الواسعة، منتسقة على طول ترعة «ببكودو»، ومما يجدر ذكره أن في أيدي طلبة الآداب المسمارية الخط في ديار الإفرنج نحو أربعة آلاف صفيحة من الآجر أو أكثر يطالعونها، وهي عبارة عن دفاتر المحل التجاري الكبير لأصحابه «أجي وأولاده»؛ فقد كانوا يتعاطون بيع غلات بابل والنخاسة (تجارة الرقيق)، ويمكننا أن نتحقق منها معاطيات تجارتهم وسعتها وثروتهم الضخمة منذ أيام نبوكد نصر إلى نحو مائة سنة بعدها.
ولم يكد نبوكد نصر يموت إلا ومات معه هذا الملك العريض؛ ففي مدة سبع سنوات (562-555ق.م) توالى على أريكة الإمارة ثلاثة ملوك، واضمحلوا في فتن وقعت في القصر، فانقرضت تلك الأسرة وزالت كل الزوال كأنها لم تكن. وأول من توج بعد اضمحلال آل نبوكد نصر كان «نبو ناهد»، وكان رجلا تقيا كثير الولع بالأبنية، إلا أن شعبه لم يحبه، وأراد أن يدفع عنه غائلة الفرس بانضمامه إلى اللوذيين والمصريين، فلم ينجح؛ إذ سقطت لوذية (سنة 546)، ولم ينتفع من سني سكون كورش ليحصن مملكته، فلما كان الهجوم (سنة 538) كسر شر كسرة وقبض عليه ومات بعد أيام قليلة، ومذ ذاك الحين أصبحت كلدية أو دار الكلدان من توابع مملكة الفرس.
والفرس جيل من الناس احتل البلاد الواقعة في شرقي عيلام، منذ أول انهيال الأقوام الآرية وهبوطهم من مواطنهم، فكانت تمتد ربوعهم من مصب نهر تاب في الغرب، إلى أنحاء مضيق هرمزد، وهي قفار، وماؤها لا يكفي لسقيها على طول الساحل، وفيها أنهر صغار لا غير، مثل التاب والبندمير والكراب، وكلها تدفع في البحر. أما ما بقي من سائر الأنهار فلا مجرى لها، بل تجتمع في بطون الأودية، فينشأ منها بحيرات يختلف امتدادها باختلاف الفصول. وكانت القبائل الفارسية قد اقتسمت تلك الأرجاء وكورتها كورا، منها: الباريتكينة (وهي اليوم جزء من عراق العجم)، والمرديانة، وكلتاهما في الجبال، والتكينة، وهي على طول الساحل، والكرمانية نحو الغرب، وابتنوا لهم فيها بعض القرى الضخمة، أشهرها: إصطخر (فرسيبوليس)، وبسا (فسر كد، أو معسكر الفرس)، وكانوا يدينون لملوك من صلب رجل اسمه هاخمنيش، كان زعيمهم في إبان هبوطهم البلاد، ثم انتزع واحد من فرع هذا البيت كورة أنشئت من العيلاميين الذين كان أفناهم آشور بنيبل، وأسس فيها إمارة دبر أمورها يئسبا وكورش الأول وقنبوسيا الأول (قمباسوس)، وأقروا بسيادة الماذيين عليهم ما يقرب من قرن.
ثم جاء كورش الثاني، وهو ابن قنبوسيا، ويعتبر من كبار الفاتحين الذين فتحوا الفتوحات الواسعة وفرشوا على الأرض بساط ملكهم الضخم، وحالما انتصب كورش على أريكة مملكة ماذي وتوج ملكا على الماذيين والفرس والعيلاميين أصبح مالكا لدولة أوسع من كل دولة سبقتها، من جهة الوحدة والارتباط والرجوع إلى الرأس الواحد، وأرصد بقية حياته ليزيد في بسط ملكه. أما تتويجه ملكا على الماذيين والفرس فكان في أكبتاتة في سنة 550ق.م على الأرجح، وأما سائر الدول، فلما رأت أن ظل السطوة الإيرانية في امتداد دائم، وأنه أوشك على أن يمتد إلى ديارهم، أوجست في نفسها خيفة، فتحالفت عليها، والمتحالفات هي: لوذية، ومصر، وبابل. بيد أن هذا الملك العظيم استحوذ على سرديس، فأزال بذلك مملكة لوذية، وظل سائرا في وجهه ممعنا في جوف آسية الصغرى، متجها إلى السواحل اليونانية على خط مستقيم. وبعد ذلك حول كورش نظره إلى الشرق، ومن سنة 545 إلى 539ق.م كان يحارب ويفتح المدن في الأرض التي نسميها اليوم ولايات بخارى، ومرود، وفيما وراء بحر قزوين، وفي أفغانستان، وبلوجستان. ولما كان أهالي تلك الديار يتصلون نسبا بالأقوام الإيرانية لم يخف كورش من انتقاضهم عليه، فزحف على بابل، وكان القابض يومئذ على أعنة الملك نبو ناهد، وهو وإن لم يكن من آل نبوكد نصر في الظاهر إلا أنه توفق رعاية الملك، فقبض عليه كورش وأسره، وصير أرض شنعار ولاية فارسية (سنة 537ق.م)، وأما مصر فقد ترك فتحها لابنه قنبوسيا؛ إذ عقد نيته على تدويخ قلب آسية، لكنه مات في معركة خاض غمارها في موطن قريب من إحدى ضفتي سرداريا (سنة 529ق.م).
وأتم ابنه قنبوسيا في مدة ملكه القصير (من سنة 529-521ق.م) فتح مصر، ثم اتفق بأن الموبذات الماذيين أعانوا برديا أحد النصابين، فاغتصب الملك مدة وجيزة، ثم انتقل الصولجان إلى يد فروع أخر من فروع الكيانيين وهو دارا (الذي يسميه بعضهم داريوس) بن يشتشب، سنة (521-485ق.م).
ودارا هذا من أعظم ملوك الفرس، فإذا كان كورش هو منشئ الدولة الفارسية فدارا منظمها ومرتبها، ولقد كابد الأمرين في عدة سنوات ليقمع جماح الفتن القومية، ويردع الشيوخ أو الأمراء الإيرانيين عن مطامح أبصارهم إلى امتداد ذلك الملك الضخم، الذي دخل في حوزة ملك الملوك؛ فهيئة الإدارة الملكية وتقسيم أراضي الدولة إلى مرزبات، وتوزيع الضرائب، هي كلها من أعمال دارا، وقد حاول أن يوسع ملكه في إحدى الجهات ويمعن في أرضها، فعبر البصفور ووطئ أوروبة، وأجبر مكدونية على أداء الجزية، ثم أوغلت جيوشه في جهة الشمال خلال البلاد التي نسميها اليوم بلغارية ورومانية، ثم خلال الطونة (الدنوب) في سهول جنوبي روسية، لكنه أخفق في زحفته، فاضطرت الجيوش الفارسية إلى العودة نحو الجنوب متكبدة خسائر، إلا أن دارا بقي قابضا على تراقية ومكدونية.
فيتضح لك مما تقدم بسطه أنه لم يكن يوجد في ذلك العهد في الأرض إلا مملكة واحدة، في طرفها الواحد جبال البلقان، وفي الطرف الآخر ضفاف نهر السند، وفي أقصاها شلالات النيل، وفي أقصاها الآخر سرداريا، فاجتماع عدة ممالك بهذه الصورة لم يحلم به أحد في القرون الماضية بأن يكون في قبضة رجل واحد. ومن خاصيات هذه السيادة العظمى أن الشعوب التي كانت تطأطئ رأسها لصولجان هذا العاهل الكبير كانت آمنة على نفسها، عائشة عيشتها الغريرة، ومدبرة شئونها بنفسها طالما كانت تعمل بأمره؛ أي: طالما كانت تؤدي الجزية وحصة الرجال اللازمة لجيوشه، فالحق يقال: إن جمع القوى في قلب المملكة الحديثة النشوء في مثل تلك الأيام التي كانت تصعب فيها المواصلات؛ إذ كانت في بدء أمرها، هو من الأمور العجيبة، ومما زاد ارتباط أجزاء مملكته بعضها ببعض أنه أقام نوعا من السعاة والرسل على طول الطرق الرئيسة في مملكته ليضم الأطراف النائية منها إلى قلبها، فتجري مجاري الحياة في عروق هذا الجسم العظيم. والديار التي هي مثل آسية الصغرى كان قد أودع جزءا منها إلى عناية حكامها الوطنيين الذين فيها، والجزء الآخر إلى الحكام الإيرانيين الذين كان لهم قصور خاصة بهم في الديار المذكورة، وكان بيدهم الربط والحل بقدر ما يحتمله المقام الخاص بهم، وكانوا كأنهم ملوك صغار في تلك الربوع، وكان المبدأ المألوف في الإدارة الفارسية ألا يتدخل كبارها القابضون على زمام الأمر في شئون داخل الأقوام التي أخضعت لحكمهم، وكان الملك راضيا عنهم طالما يحكمون باسمه حكما عادلا ويبقون مخلصين لعرشه؛ فالمدن اليونانية الواقعة على سواحل آسية الصغرى كانت مثلا تحت حكم ملوك يونان، وقد وافق على تعيينهم الملك الفارسي، فإذا عدلوا عن محجة العدل والإخلاص أبدلهم حالا بغيرهم.
ونرى مثالا آخر من نوع هذه الإدارة الكثيرة التسامح ما حدث في اليهودية؛ فإن بابل لما انتقلت إلى يد كورش سمح هذا الملك لجميع الأسرى اليهود أن يعودوا إلى أوطانهم إذا أحبوا، وأن يبنوا لهم هيكلا جديدا ليهوه آلهتهم، فعمل بهذا الإذن جماعة منهم وشادوا الهيكل على مكانه القديم، وأخذوا يكثرون وينمون حتى نشأت حوله مدينة يهودية جديدة، وكان لها شيوخ خاصة بها يديرون شئونها، ولما أنفذ الملك حاكما أو عاملا باسمه في اليهودية انتقاه بين يهود بابل، وهو نحميا.
على أن الإدارة مهما كانت حسنة في حد نفسها إلا أن الأمم التي كانت غريبة العنصر كانت ترى الخضوع للملك الأجنبي والانقياد لأوامره من أصعب المصاعب، فكانت تحاول أن تتحرر من هذه الربقة، ولا سيما لأن أمراء الملك كانوا يضربون عليهم ضرائب مختلفة من نقد أو عين أو رجال، فكانوا إذا رأوا أنه ينزح بأولادهم يشق عليهم الأمر أعظم مشقة؛ إذ أكثرهم يموتون في الحرب أو لا يعودون إلى أوطانهم لعلة من العلل، والأهالي الذين كانوا يبقون في بلادهم كانوا مكرهين على أن يحووا عندهم حامية الملك، وهو أمر لا يخلو من الأضرار الأدبية والمادية.
وإذا انتقلنا إلى وادي الفراتين نرى أن جانبا عظيما من أصحاب المعيشة القديمة كانوا باقين عليها بدون أدنى تغير، وكان أصحاب العناية منهم يدونون أشغال تجارتهم وشئونهم الشرعية حفرا على صفائح الفخار، متخذين لها القلم القديم المسماري.
وكانت معامل الأقمشة البابلية تعنى بأمورها، فيشتغل فيها مئات من الأيدي، وترى الهياكل غاصة بالسدنة. والظاهر من بعض الدلائل أن هياكل بابل انحطت بعض الانحطاط في عهد الكيانيين، وذلك إما لأن الملك كان على دين يخالف دين البابليين، فكان هؤلاء يخافون أن يضع يده يوما ما على كنون الآلهة، وإما لأن الكهنة كانوا يفكرون بعض الأحيان فيما يعود إلى أنفسهم من الأرباح أكثر مما كانوا يفكرون في أمر الآلهة. وأما الديانة نفسها فإنها بقيت سائرة في وجهها بدون أن يحل بها تغيير، والدائنون بها كانوا يحافظون على معتقدهم بخصوص حكايات الآلهة الملفقة، وشعائر السحر والتنجيم، متناقلين كل ذلك خلفا عن سلف. وكانت بابل أيضا مركزا عظيما للتجارة، فكأنها قرية نمل ونملها البشر، ويتعذر وجود مثلهم في القدر والعنصر في غير هذا الموطن.
وما عدا أن بابل كانت مملوءة تجارة وصناعة وديانة وأنسا وملذات، فإنها كانت أيضا نوعا ما قلب العالم. وكيف لا تكون كذلك وأرضها غريلية غنية هذا الغنى، حافلة بالسكان، واقعة في بؤرة البلاد المعروفة يومئذ! أفيهون فقدان امتيازها لمجرد انتقال صولجان الملك إلى أمة غير أمتها؟! فكانت بابل المدينة حاضرة الدولة الفارسية شتاء، وكان قصر الملك فيها قصر نبوكد نصر نفسه الذي كان بجانب الجنان المعلقة، وكان يقضي فيه ملك فارس أشهر الشتاء، وأما إذا أقبل الربيع بمحاسنه فإن الملك كان يظعن مع حشمه إلى شوشن حاضرة عيلام العتيقة، ثم يمعن مصعدا في الجبال الإيرانية إذا ما اشتدت حمرة القيظ فينزل إصطخر في إقليم فارس، أو ينزل البتانة حاضرة بلاد ماذي، في قصرها الفاخر البديع؛ قصر الأرز المنيع. (14) الهلين أو اليونان، إسكندر الكبير أو إسكندر ذو القرنين، السلوقيون، في الهلين أو اليونان
في الطرف الأقصى من غربي الدولة الفارسية الضخمة، احتك الفرس باليوانة المعروفين عند العرب باليونان، وعند الإفرنج بالهلين. وهذا الاحتكاك كان يسبب قلقا دائما لكل من الطرفين، ولا سيما لأصحاب تلك المدن الآسيوية التي كانت كل منها دولة قائمة بنفسها تريد الاستقلال والتمتع بحريتها، وألا يكون على سكانها رئيس يراقب أعمالهم ويسيطر عليهم سوى آلهتهم وشرائعهم، وكان في الجانب الآخر من بحر إيجى أناس آخرون من عنصرهم يطوون بساط أيامهم في البلقان، وهي دار أصل قوميتهم، وهي «الهلاس»؛ أي بلاد الهلين إن أطلق هذا اللفظ. وكان اليونان الذين في آسية يشتدون همة ويزدادون رغبة في العصيان كلما وردهم عون أو أيد من إحدى تلك المدن أو من عدة مدن من المدن الواقعة وراء البحر. وقد كان تمالؤ هؤلاء أولاد الأعمام منذ البدء؛ ولهذا كنت ترى الإيرانيين الفاتحين واليوانة الجمهوريين في قراع ونزاع دائمين. وبعد أن فتح كورش لوذيتها وليدية ونصف العالم المعروف كان يومئذ عند قدميه، جاءه ذات يوم وهو في سردس وفد قادم من مدينة صغيرة من مدن يوانة، واقعة في غربي إيجى اسمها «إسبرطة»، فلما مثل بين يديه قال له: «لا تضع يدك على مدينة من المدن اليونانية؛ لأن الإسبرطيين يستنكفون من ذلك.» فلما وقف كورش على قوة موفديهم لم يخشهم، لكنه عزم هو وابنه خشايرشا أن يستأصلا شأفة هذا الداء حسما للقلق وقمعا لجماح أولئك المتغطرسين، فيسحقاهم في عقر دارهم. فجيش دارا جيشا عليهم، لكنه لم يصل؛ لأن الأثنين قاموا عليه (سنة 490ق.م)، واضطروه إلى العود إلى السفن التي نقلته حينما نزلوا على سواحل أتيكة. فنهض ابنه خشايرشا، وسار في جيوش رجراجة على طريق تراقية ومكدونية، فلما وصل بلاتيا نكب فيها نكبة عظيمة (سنة 479ق.م) لم ينسها الفرس؛ إذ وطنوا أنفسهم على القعود مدة جيل أو جيلين لينسوا أوتينا سوء كسرة خشايرشا.
فلما رأى هذا الأمر اليونان، أخذت مدنهم تنسلخ عن الفرس الواحدة بعد الأخرى، ومدينة آثينة تمالئهم على عملهم عملا بمعاهدة بحرية عقدت عراها معهم، وبعد أن فكر الفرس في حيلة يحتالونها على أعدائهم وجدوا وسيلة موقنة يفككون بها ما تحكم من عرى ذلك التحالف، وتلك الوسيلة هي إلقاء بذار الفتن والتباغض والتشاحن بين المدن اليونانية، وإثارة الواحدة على الأخرى، فنجحوا بفضل ما صرفوه من الأبيض الفتان والأصفر الرنان، وهي طريقة عرفت في الشرق منذ القديم، ولا تزال جارية فيه إلى يومنا. وتمكن ملوك الفرس في آخر الأمر من إخضاع يونان آسية لصولجانهم مرة أخرى، وإكراههم على أداء الجزية وإيواء الحامية في مدنهم، ولو كانت تلك الثغور يومئذ في مأمن من كل هجوم أو غارة، وكان إذا عرض لقواد الجيوش اليونانية أو لمرازبة الفرس العصاة حدث خروج على الحكومة الفارسية في غربي مملكتهم فإنهم كانوا يجدون دائما بين اليونان أجراء يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم، ولضيق المقام لا نورد هنا إلا شاهدا واحدا إثباتا لما نقول؛ وذلك أن أخ أرتحششتا الثاني تربع على أريكة المملكة بواسطة جيش من الأجراء اليونان، حتى بلغ به إلى الفرات في موضع يسامت بغداد (سنة 399ق.م)، والحق يقال كان اليوانة جذوة نار دائمة، وجرثومة اضطراب وفتن في تخوم الدولة من جهتها الغربية، وكانوا أشد بلاء من الأقوام الطوارئ التي نزحت من قلب آسية، فسببت تلك القلاقل والزعازع في تخومها الشرقية، بل كانوا أسوأ مغبة من الأقوام العتاة الطغاة أقوام الهضاب، مثل الكشيين الذين كان يدفع إليهم الجزية الملك الأكبر نفسه لما كان يذهب إلى بابل وإصطخر مارا بديارهم الجبلية.
ومن الغريب أن هذه الدول الهلنية التي أقلقت كل الإقلاق وقتئذ بابل وشوشن، وأضرت بالمجتمع البشري لما كانت تسببه من الفتن والإحن، صارت بعد حين أعظم أمة نفعت أبناء آدم، اللهم إذا استثنينا شرذمة اليهود التي خرج منها نور العالم، وإلا فإن أولئك اليونان كانوا قد ولجوا مقاما جديدا من الأفكار في تلك المدن اليونانية، مقاما نسميه اليوم: «تمدن الغرب» مع سيادته العظمى على الطبيعة المادية التي هي من نتيجته، وأخذوا يحررون أفكارهم مما كان ينقل عن السلف من العوائد والعقائد، تحريرا لم يسبقهم إليه سابق، وكانوا يمحصون كل شيء بعد أن يعرضوه على نار العقل ونوره، ليعرفوا زائفه من خالصه، وممن اشتهر منهم وبرز في هذا الميدان: طالس الفيلسوف، أو ثالس، من مليطس بالقرب من أفسس على الساحل الآسيوي، فإنه بعد أن زار ديار مصر وقسما من آسية، واقتبس كثيرا من علوم ومعارف تلك الأرجاء، أصبح أبا العلم عند اليونان، قيل: وكانت ولادته سنة 636ق.م، وقيل: 640، ولا يعرف من أمره شيء على التحقيق، إلا أنه يعتبر منشئ الفلسفة اليونانية وأباها، وله معارف جليلة في الرياضيات والفلكيات، وهو أول من علم الهندسة في ديار اليونان، وينسب إليه عدة نظريات في هذا العلم، ويقال إنه هو أول من قاس سمكة الأهرام المصرية بالمقابلة بين ظلها في الهاجرة وظل جسم آخر، طبقا للسادسة من قضايا إقليدس، وقد حاول أن يؤول تأويلا طبيعيا أصل العالم، مخالفا في ذلك ما اتصل إليه من تواتر الخلف عن السلف، ناظرا إليه نظره إلى حديث خرافة، وذهب إلى أن كل شيء صنع من الماء المتخثر قليلا أو كثيرا. لا جرم أن هذا التأويل تأويل أعمى، لكنه كان منبثق العلم الحديث. وكان اليونان قد بدءوا أيضا في البحث عن أمر الخير والشر الواقع بين البشر ليعرفوا سير الدول وتنظيمها، وفي كل مباحثهم لا يلقون الكلام على عواهنه كما في السابق، زعما أن «هذا ما نقل إلينا عن آبائنا»، بل رفعوا المسألة إلى قولهم: «ما أحسن وجه يوجه إليه هذا الأمر في نظر العقل؟» فالجري على هذا المنحى من تدبر الحقائق دفع القوم إلى رقي دائم، ومنذ ذلك الحين بدأ اليونان ينظرون إلى الطبيعة بعين البصيرة لا بعين البصر، وجدوا في أن يمثلوا الأشياء بصورتها الحقيقية، ولا سيما هيئة الإنسان، فجرهم هذا الجد إلى إتقان الصناعة أي إتقان، حتى بلغوا فيها مبلغا لم يصل إليه قبلهم أحد، إن كان من جهة إدراك الحقيقة المنشودة، وإن كان من جهة شعورهم بمحاسن الجمال؛ فلقد أبرز اليونان في أيام الدولة الفارسية من مآثر الآداب اللغوية العظمى ما جعله أساسا للآداب اللغوية الحالية، لا سيما في أوروبة، ولقد وجد نتائج عقلهم هذا معدنا في مزاجهم الأدبي الخاص بهم، ولا سيما في مزاج أبناء الدول اليونانية ما لا غاية وراءه ، وكان اليونان شديدي الوطنية الضيقة الفكر، كثيري التعصب لعنصرهم، حتى كانوا يكرهون كل الكراهية من يقول بأنها دويلة لا دولة، وكانوا ينفثون في صدور أبنائهم أنهم أناس أحرار، وأن مقامهم فوق مقام الآسيويين؛ لأنهم كانوا يرون كأنهم خلقوا للذل والرق؛ إذ كثيرا ما كانوا يشاهدونهم يخرون سجدا لرؤسائهم البشر ويتضاءلون بين أيديهم أمر ما كان يستنكف منه اليونان، وما كانوا يريدون أن يقوموا به إلا أمام صور معبوداتهم.
7
فأخلاقيات اليونان وعقلياتهم الجديدة وصناعياتهم وأدبياتهم هي ما يطلق عليها اسم «الهلنية، أو الخصائص اليونانية» نسبة شاذة إلى بلاد هلاس، التي هي بلادهم الأصلية، على ما ألمعنا إليه قبل هذا، كما قالت العرب رازي، في النسبة إلى ري. ويجوز لنا أن نقول: إن في هذا اليوم الذي مثل رسول إسبرطة بين يدي كورش في سردس بدأت منازعة عظيمة بين هلاس وإيران في أيهما يملك غربي آسية الصغرى، ودامت هذه المنازعة بين القومين أكثر من ألف سنة، كان فيها الظفر للهلنية.
ولا جرم أن الفرس عرفوا ما لحضارة اليوانة من المنزلة والرفعة ولو بعض المعرفة، يشهد على ذلك أنهم كانوا قد أبقوا عندهم في قصور ملوكهم بعض أطباء يونان لما شاهدوا فيهم من الكفاءة وسعة الاطلاع، وكان أغلب الإيرانيين احتكاكا باليوانة الأشراف منهم الذين كان لهم ماشية في آسية الصغرى، والذين ربطتهم بهم منفعتهم في المعاملات اليومية أو في الأفكار الجديدة التي أدخلها هؤلاء الناس المتنورون، لكن لم يفكر الإيرانيون قط بأن اليونان يكونون يوما دولة تمكنهم من السيادة في آسية؛ لأنهم كانوا معروفين بحب الفتن والقلاقل والتخاذل والتنازع وشق العصا، أما في بلاد اليونان نفسها (أي إغريقية) فكان قد انتشر في النصف الأول من القرن الرابع أن تخاذل اليونان هو الحائل المكين دون سيادتهم، وهي وحدها تمكنهم من القبض على أعنة العالم؛ ولذلك قامت فيهم دعوة إلى بث توحيد الكلمة ولم شعث الأمة كلها، فكانت حقيقة دعوة إلى الجامعة الهلنية تضافروا فيها وتعاونوا ليحملوا حملة واحدة على الإيرانيين. وقد عرض إيسقراطس الهجاء أن يكون على رأس هذه العصابة ملك مكدونية، التي كان أهاليها مرتبطين باليونان نسبا، وكان رؤساؤها المدبرون لشئونها قد انحازوا إلى الهلنية في قسمها الأعظم. (15) إسكندر ذو القرنين، أو إسكندر الكبير
تحقق بين سنة 333 و323ق.م أكثر مما كان يتصوره إيسقراطس، وذلك في شخص إسكندر المشهور بالكبير عند الغربيين، وبإسكندر ذو القرنين عند العرب. ولد هذا القائد العظيم سنة 356ق.م في بلا، وهو ابن فيلبس وأولنبياس، وتخرج على أرسطو الحكيم الشهير، وكان مغرما بهوميرس وأشعاره منذ نعومة أظفاره، واحتذى مثال آخلس، فنبغ في الرياضة البدنية، كما نبغ في البدائع الفكرية، وهو وحده فقط تمكن من كبح جماح حصان والده «بوقيفال»، ولم يكد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى تولى إمارة المملكة في غيبة والده، وكان قد ذهب ليحاصر بوزنطية، ونجى والده في معركة مع التريبلة، وأنهى حرب خيرونية بنصر فاز به، وأفنى طابور الطيويين المقدس (338)، وتسنم العرش وعمره 20 سنة (336)، وفتح تراقية وإليرية، وأخضع لأمره إغريقية التي طمعت في غض إهابه، فظنت أنها تتملص من وهق فيلبس الذي طرحه في عنقها. وكانت أثينة وطيوة في رأس هذه الحركة، فدمر طيوة ولم يحترم منها إلا منزل «فنذار»، لكنه لم يتعرض لأثينة؛ لأنها طأطأت رأسها له (335)، ثم بعد ذلك شهر الحرب على الفرس حالا، فعين قائدا عاما لإغريقية كلها، فشخص من بلا في سنة 334 على رأس 30000 من المشاة و5000 من الفرسان، وبعد أن عبر الهلسبنطس (أي مضيق الدردنيل، أو بوغاز جناق قلعة) فل جيش دارا ملك الفرس على ضفتي الغرانيق (وهو اليوم قوجة جاي) 334، ودوخ آسية الصغرى كلها (الأناضول) بسرعة خاطفة، مع ما بذل ممنون الرودسي من الهمة الشماء لمقاومته. وقطع بسيفه الجزار في غرديوم (من أعمال فريجية) العقدة الغردية
8
فكان ذلك خير فأل لتملكه على آسية، واضطر أن يتريث في طرسوس لاستحمامه في قدنس وجسمه يرشح عرقا، فأصابه داء كاد يهلكه، إلا أن طبيبه الحاذق فيلبس عالجه فشفاه، وقهر دارا مرة ثانية في إسس (آياس) في قليقية (333)، وفي هذه المعركة قبض الإسكندر على أسرة دارا كلها، لكنه أطلق سراحها حالا وعاملها معاملة كريمة. وعقب هذا الظفر إخضاع صيدون (صيدا)، فثبت على عرشها عبد الأنيم، ثم إخضاع صور التي لم يفتحها إلا بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وتدويخ غزة بعد أن دافع عنها دفاع الأبطال قائدها بتيس. وفي الآخر افتتح ديار مصر، فبنى فيها الإسكندرية، ثم أمعن في ليبية لزيارة هيكل أمون (المشتري) (331)، فلقبه السادن بابن ذلك المعبود. ولما قفل راجعا من ديار مصر انتصر على دارا في إربل (من ديار آشورية) النصر الأخير؛ إذ عقبه موت دارا، فغدا الإسكندر سيد ديار فارس كلها، ودخل بابل بأبهة لا تضاهى، واستحوذ على السوس وإصطخر فأحرق قصرها في وليمة أفرط فيها كل الإفراط، ثم أخذ يتعقب قاتل دارا، وهو بسس المرزبان، وافتتح برثية وصغديانة (الصغد)، ودر بخيانة (سجستان وبعض قندهار)، وبقطريانة (بلخ). وفي ذلك الوقت لوث يده مضرجا إياه بدم كليتس، وبغض نفسه بتعذيب دمنس الغيلوتاسي، وكلستينس، وقتل برمنيون (329-328)، ولم يكتف بتدويخ دولة الفرس، بل غزا الإشكوذيين (الإسكوثيين) ففلهم فلا في جوار يكسرتس (نهر سرداريا)، ثم شمر عن ساعده لفتح الهند (327)، فانقاد له تكسيل، وفل عساكر فور الهندي على ضفة هيذاسب (نهر جيلوم في البنجاب)، وعامله معاملة ملكية، ثم أوغل في سيره حتى بلغ هيغاس (نهر ستلج)، ولما أبى جنده أن يتأثروه إلى ما وراء هذا النهر عاد أدراجه إلى بابل، وهناك نشر بساط الزهو والبذخ والأبهة الشرقية، وتغلب عليه متنعما متلذذا، فأطلق العنان لشهوات نفسه الأمارة بالسوء، فهلك سنة 323، ويظن أن أنتيبا ترسمه، ثم نقل رفاته إلى منفس، ومنها إلى الإسكندرية.
هذا هو ملخص ترجمة أكبر قائد وجد على هذه الأرض. والظاهر من آخر أعمال الإسكندر أنه عقد النية على أن يجعل دولته العظيمة خليطا من الهلنية والإيرانية، لما رأى في أبناء إيران من سمو الأفكار وعلو الهمة مما يعارض ما في نفوس الهلين، وكان يبدي التفاتا خاصا إلى أشراف الإيرانيين، وحاول إدماج العنصرين المتنافسين بواسطة الزواج، فتزوج هو أميرة من شرقي إيران (أفغانستان) اسمها روشنك (روكسانة)، وفي بعض الحفلات المشهودة لبس ثيابا فارسية، وكان مع ذلك يحافظ على مألوف عاداته من تقدير علم اليونان وصناعتهم منشطا لهما، وكيف لا يكون كذلك وهو تلميذ أرسطوطاليس وخريجه! وتمسكا بما فطر عليه من حبه لبلاده أقام في المواضع الخطرة من طرق المواصلات خلال أراضي المملكة نحو سبعين مدينة جديدة على الطرز الهلني، وجعل غالب أهاليها من المكدونيين واليونان، ولعله كان في نيته أن يبقي بابل كرسيا لتلك المملكة الهائلة العظم؛ لأن موقع أرض الفراتين الغريلية تبدو مركزا طبيعيا لها. هذه كانت نيته حينما عاد من الهند في سنة 323، وكان يفكر في فتوحات جديدة والتبسط في طول الأرض وعرضها. وحفر أحواضا جديدة لتحسين شئون سقي أراضي بابل الخصبة، وتطهير دجلة لتسهيل سير السفن عليه. ومما امتاز به الإسكندر عن سائر القواد الكبار أنه بذل سعيه في تعمير المدن أو حفظها أكثر منه من تدميره لها، ودفع الحضارة دفعة إلى الأمام لم يسبقه إليها سابق؛ فإنه ضم أمما بعضها إلى بعض، أمما كانت سابقا متباغضة متشاحنة، ونشر في الشرق أفكار اليونان، كما نشر في الغرب آراء الشرق وصنائعه وفنونه، ووسع نطاق الإبحار، فكان قد أمر بإنشاء أسطول ضخم في ثغور فنيقية، فنقلت أوصال سفنه إلى بابل، وهناك ركبها ليسيرها في البحار والأنهار. وبينما هو غارق في بحار هذه الأفكار الكبرى والخطط الوسعى احتضر في بابل قريبا من الفرات في قصر نبوكد نصر المبني بالآجر البديع الألوان الرائع الجمال. (16) السلوقيون
لما أشفى الإسكندر على الموت أسند ظهره إلى وسادة، ومد يده ليلثمها جميع الجند جريا على العادة المتبعة يومئذ، فدنا منه كبراء دولته وقالوا له: من تخلف على هذه المملكة الضخمة؟ قال: خليفتي عليكم أجدركم برعاية الملك والصراط المستقيم، وإني لأرى وقوع الشقاق بينكم، فحذار حذار منه. ثم سأله أحدهم: ومتى نحصيك في عداد من يعظم ويكرم ؟ فقال: لا أجل إلا إذا سعدتم بعدي وانتظم شملكم أحسن انتظام. فكانت هذه آخر أقواله، ولما توفي كان عمره 32 سنة و8 أشهر على أصح الآراء . واتفق عظماء الدولة على تولية أخيه أرهيديوس من قبل أن يولد ابنه، ثم ولدت روشند بعد ذلك ولدا ذكرا سمي إسكندر إيغوس، فقتله كاسندر مع أمه سنة 311، واقتسم القواد المملكة، فملك كل منهم في القسم الذي وقع له، وهذه هي دولة السلوقيين، وهي عبارة عن ثلاث ممالك، وهي: مملكة مكدونية وتراقية، ومملكة بطليموس وتشمل مصر وفلسطين، ومملكة سلوقس. ثم أخذت هذه المملكة بالتنازل والانحطاط مدة ثلاثة قرون متتالية حتى اضمحلت.
أما الهلنية فإنها لم تفقد شيئا من مزاياها، بل كسبت شيئا يذكر في عهد السلوقيين، إلا أنها مع ذلك كانت تتضاءل؛ إذ كانت تنسلخ عنها الكورة بعد الكورة لتنضم إلى الإيرانيين أو إلى ملوك تلك الربوع، وفي الوقت عينه كانت تؤسس مدن جديدة في آسية، أو كان يعاد تشييد البلدان القديمة على طرز يوناني حديث، وهو الأمر الذي شرع به الإسكندر، فبقي سائرا في وجهه، فكان ذلك سببا لاستفحال الهلنية وفشوها بين الآسيويين المبثوثين في السلطنة السلوقية، بل في قصور إيران نفسها التي كانت تقوم مقام الدولة السلوقية في مواطن عديدة؛ إذ اختلطت فيها الهلنية قليلا أو كثيرا حسب مقتضيات الأحوال.
ومما يؤسف لذكره أن سلوقس أخرب حاضرة بابل، تلك المدينة العتيقة الشهيرة، وإن شئت التحقيق فقل: نقل تلك الحاضرة إلى موطن يبعد 63 ميلا عنها، وأركبها شق دجلة، وهي التي سميت بعد ذلك «سلوقية على دجلة» التي أصبحت في برهة قاعدة نصف دولة الشرق، وهي التي سماها بعضهم ساليق؛ تمييزا لها من عدة مدن عرفت بسلوقية، كانت هذه أكبرهن وأوسعهن. وهي أقرب إلى جبال إيران من أنطاكية الشامية إليها، ولا جرم أن سكان بابل الأقدمين ظعنوا إلى الحاضرة الجديدة ولم يبق في تلك الخربة إلا جماعات من السدنة كانوا يحافظون على شعائر دينهم القديم في مدينة تزداد خرابا يوما بعد يوم، ويقومون بما يندب إليه الدين في الهياكل الأبراج التي كانت تخرج رءوسها الدقيقة من بين سائر الأبنية، وقد حكم عليها القضاء أن تنحط شيئا فشيئا في دركات الخمول والوحشة ، بينما كانت سلوقية تتيه عجبا بكونها مدينة يونانية حديثة الغضارة والنضارة، ينشق منها نور ومدنية جديدة، يتدفق متصببا على أنهار وجنات أرض شنعار القديمة. وهل يبلى اسم سلوقية وهي التي ولد فيها ونبع منها ديوجينس البابلي، أحد أعاظم كتاب الرواقيين ورأس مدرستهم في أثينة (156ق.م)، وكثير من البابليين تلقوا فيها علومهم وآدابهم اليونانية، ومن جملتهم بيروسس الكاهن البابلي الشهير، الذي وضع تاريخ بلاده باليونانية وأهداه إلى أنطيوخس الأول ابن سلوقس. ومن مشاهير علمائها أيضا سلوقس الرياضي الفلكي، وكان قد ذهب قبل كوبرنك إلى أن الأرض وسائر السيارات تدور حول الشمس، ولعله كان بابلي المولد.
ولو أخذنا طريق سلوقية بمائتي سنة قبل المسيح شاخصين إلى ماذي وفارس لعثرنا بالمدينة بعد المدينة، وكأنها نصفهم يونان ونصفهم وطنيون، ولسانهم الرسمي اليوناني، وأبنيتهم على الطرز اليوناني، كما كنت تشاهد في تلك المدن مدارس ومعاهد ومسارح لهو كلها يونانية. وبين الحواضر اليونانية البابلية الدار كانت يومئذ أرطميتة، وهي مدينة كانت واقعة بين الزوراء وخانقين، ومنها نبغ المؤرخ أبلودورس.
على أن الهلنية وإن تقدمت تقدما ذا شأن بعد الإسكندر ممتدة في البلاد طولا وعرضا، إلا أنها فقدت من صفتها؛ لأن حياة هذه المدن اليونانية المبثوثة بثا في أنحاء آسية كانت - ولا شك في ذلك - ظلا ضئيلا لحياة أثينة في عهد أفلاطون، وفي العهد اليوناني أصل النشأة المشهورة، هذا فضلا عن أن اللغة لا تجود إلا في أرض مصدرها، ولا تريع إلا فيها، وأما في مستنبتها أو منتقلها فلا تكون فيها إلا عائشة لا نامية. (17) انحلال الدولة السلوقية وظهور الدولة البرثية
الدول كأفراد البشر لها زمن طفولية وزمن شباب وزمن كهولة وزمن هرم وانحلال. والدول أيضا كأفراد من جهة طول العمر وقصره؛ فمن الأفراد من يعيش قليلا، ومنهم من يعيش طويلا حسب القوة المودعة في ذلك الجسم. وهذه الدولة السلوقية لم تعمر كثيرا، فإنها عاشت ثلاثة قرون، ثم دبت في جسمها عوامل الانحلال فأفنتها؛ ففي الشرق اضطر سلوقس مؤسس سلوقية إلى أن يسلم كور الإسكندر الهندية إلى الملك الهندي شندرا غبتا، الذي كان بنفسه مؤسس دولة جديدة في الهند، وكانت قاعدتها بطنة على نهر الكنج التي ابتنى فيها ملكها المذكور قصرا على طرز قصور ملوك فارس على ما أظهرته لنا الحفريات الأخيرة، وانفصل عنها أبعد الأقاليم عن إيران (مثل: بلخ والصغد الواقعتين في شمالي أفغانستان، وإمارة بخارى الحالية)، وذلك في نحو سنة 255ق.م في عهد ملوك يونان أصلهم من هذه البلاد. وهذه الهلنية - هلنية الشرق الأبعد - بقيت في وسط ملوك أجانب أو برابرة، وإن كانت قد قطعت عن الجسم الهلني الأصلي مدة تنوف على مائتي سنة، والآثار الباقية من هذه الهلنية هي أنواط ونقود معاصرة للتاريخ المسيحي، وكانت قد أبدت سيادة مؤقتة على أعظم قسم من شمالي الهند، اكتسب فيه اليوانة شهرة في آداب اللغة الهندية القديمة (السنسكريتية)، لا بمنزلة محاربة لليونان محاربة «سيئة»، وصبأ منندر الملك اليوناني إلى الدين البوذي وتبوذ (ويذكر اسمه في الآداب البوذية المقدسة محرفا بصورة ملندة). وفي سنة 248 أغار على إقليم برثية (خراسان الحالية) قوم أقبلوا من الفيافي، ويتصل نسبهم بالإيرانيين، وأسس قائدهم أرشك دولة مستقلة، عرفت بدولة البرثيين، أو البرث،
9
وأخذت تنمو مستمدة قواها من امتصاص قوى الدولة السلوقية والدولة اليونانية البلخية، وكان لهذه الدولة نوع من الزرادشتية (المجوسية)، وهي تظهر لشعب إيران ممثلة للمسألة القومية ومقاومة للأوروبيين، لكن الفرس لم ينظروا أبدا إلى الآرشكيين نظرهم إلى ملوك فرس حقيقيين؛ لما في دمهم من البداوة وفي أخلاقهم من الفظاظة والعنجهية، وقد ابتلعت الدولة الآرشكية في برثية أولا جارتها هرقانية، وهي الديار الكثيرة الغابات من منحدرات شمالي جبال البرز نحو بحر قزوين (وهي المعروفة اليوم بمازندران)، وفي عهد ملكها مثريدات الأول (170-138ق.م) ظهر على أعظم القسم من شرقي إيران آخذا إياه من يونان بلخ (بقطرية)، وفي عهد الملك المذكور خرج الحكم السلوقي من بلاد ماذي. وأما بلاد بابل فقد تنازعتها الأيدي مرارا عديدة، لكنها كانت للسلوقيين في سنة 144ق.م، إلا أنه يظهر أنها انتقلت إلى البرث قبل سنة 40، وفي تلك السنة استرجعها ملك سلوقي، وبعد سنتين وجد أن صاحبها ملك اسمه أرشك على ما وجد في رقيم كتب بالخط المسماري القديم، ثم استرجعها للمرة الثانية آخر ملوك السلوقيين، وهو الملك الصنديد أنطيوخس سيديتس في سنة 130، بل وتتبع البرث وطردهم من غربي إيران، وهناك انكسر هذا الملك وقتل في السنة التالية، فعاد البرث إلى بلاد بابل وانتقموا انتقاما عظيما من مدينة سلوقية التي كانت قد تخربت للدولة المالكة اليونانية.
ومنذ ذاك الحين إلى أربعة قرون ملك البرث إيران وبلاد بابل، وأصبحت دولتهم أعظم دولة في الشرق، والأرجاء التي كانوا قد افتتحوها كانت مغشاة بالمدن اليونانية على ما ألمعنا إليه. وبهذا المعنى عمرت الهلنية طويلا في عهد الحكومة «البربرية» مدة أجيال في الأقاليم التي فقدها اليونان. ونظن أن تجارة المملكة البرثية بقيت في أيدي اليونان. وأظهر الملوك البرث الأخيرون التفاتا عظيما للعنصر اليوناني، وكانوا يلقبون أنفسهم «محسني اليونان»؛ تقربا من رعاياهم اليونان، لكن هؤلاء كانوا يخيرون دائما عليهم كل فاتح أوروبي. (18) الرومان يتممون في الشرق: نفوذ اليونان أصحاب الشرائع والنظام
ما من دولة نشأت في العالم واتسع ملكها إلا وطمح بصرها إلى أرض شنعار، وكان لسان حالها يقول: «إنك لا تسمين عظيمة وغنية ما لم تمدي يدك إلى تلك الديار وتستظهري على أهاليها.» ولهذا رأينا جميع الدول القديمة تأتي الواحدة تلو الأخرى لتغزو هذه الأرجاء وتقبض على أعنتها حتى تقوم أقوى منها، فترغمها وتنزعها من يدها وتطردها عنها فتحل محلها. ولقد رأينا دولة البرث قد قويت شوكتها وامتد ظلها شيئا فشيئا على البلاد المجاورة لها، حتى أخذت تهدد دولة الرومان التي كان قد استفحل شأنها وقتئذ، فنشأ بين الدولتين نزاع وخصام، وكل منهما تحاول قهر الأخرى والاستيلاء على ديارها ومحق سطوتها من عالم الوجود لتأمن على حياتها وتوطد دعائم ملكها على أسس رصينة محكمة.
بعد أن مضى على وفاة الإسكندر نحو 250 سنة رأى الرومان أن العناصر غير اليونانية في آسية الصغرى ربحت ما كان قد بذل الإسكندر لتحسينه وإصلاحه أو تشييده كل ما في وسعه مدة عشر سنوات، فحاولوا إيقاف تقدمهم، فأنفذوا قائدا محنكا في جيش لهام، اسمه لوقيوس لوقلس، فنجح في مهمته وأفنى جيش البنطس قرب كوزيكس على بحر مرمرة (73)، وفي السنة التالية أخذ لوقلس ديار البنطس نفسها وألجأ مثريدات على أن يهرب إلى أرض تكران ملك الأرمن. وفي سنة 69 هجم لوقلس على تكران زاحفا بجنوده على تكرانوكرت (وهي التي سميت آمد بعد ذلك، واليوم تعرف باسم ديار بكر)، فانتصر فيها نصرا مبينا على الأرمن، مع أنهم كانوا أكثر عددا من الرومان، وبعد سنتين استرجع مثريدات بلاده البنطس. وفي سنة 66 قلد بنبيوس قيادة الجيوش الرومانية في الشرق، فطرد مثريدات مرة ثانية من أرضه فمات شريدا طريدا، وكفر تكران لبنبيوس ووضع تاج مملكته الصغيرة بيد الرومان، فأذنوا له أن يقبض على صولجان تلك الدويلة التي كانت يوما بيد أرتحشيا، أحد أسلافه.
ولم يكتف بنبيوس بالفتح والغزو، بل أراد أن ينظم البلاد التي استحوذ عليها؛ لأنه إذا تم النظام في دولة سارت سيرا حثيثا في التقدم والفلاح، وأول شيء عمله هذا القائد الكبير أنه كور البلاد كورا رومانية، وأقام عليها عمالا رومانيين، مثل كورة «آسية» التي قامت مقام المملكة الأتاليدية
10
سنة 133ق.م، وقسم آخر كالبيثينية، مع جزء من غربي البنطس، جعل كورة رومانية على حد سورية. وتركت أصقاع أخرى لبعض الأمراء هم عمال للرومان، فكانت رومة في آسية وارثة للإسكندر، ومناضلة عن الهلنية وباثة لدعوتها. ولقد عدت رومة في آسية وفي أبعد أصقاعها عداد سلطة يونانية أو هلنية، ولم تفكر رومة أبدا بأن تلتن
11
صقع الشرق، نعم، وقع مع الوقت تغيير في التخوم وإبدال في الأقسام المختلفة، ولكن التلتين
12
لم يكن من فكر الرومان، وكانت ممالك الأقطار تتساقط شيئا فشيئا تحت سيطرة رومة رأسا، كما فعلت ذلك غلاطية مثلا في سنة 25ق.م، واليهودية في سنة 6ب.م، وكبدوكية في سنة 17ب.م، والكماجينة في سنة 72ب.م. وخلاصة القول: أن الهلنية المدمجة في رومية بقيت مالكة لآسية الواقعة في غربي الفرات ومصر، وبقيت الإيرانية مالكة ملكا ثابتا لبلادها المسماة بإيران، وظلت هذه الحالة بدون أن تتغير تغيرا جوهريا في الطرفين المتقابلين، إلى أن حدث حادث قلب العالم ظهرا لبطن، وهو ظهور الدولة العربية التي سنتكلم عنها فيما يأتي من كتابنا. (19) الدولة الساسانية
في سنة 226ب.م نهض رجل من الهضاب الواقعة في جنوب غربي إيران، وهي الهضاب التي نشأت منها الدولة الكيانية، أو أرض فارس الحقيقية، يطالب بعرش كورش ودارا، وكان اسمه أردشير،
13
من أسرة معروفة في التاريخ باسم جده ساسان، فأنشأ دولة ثالثة متحمسة في الوطنية حكمت على نجد إيران وشوشن، ولقب نفسه بملك الملوك، وكانت الأسرة الآرشكية مع أصلها البدوي وقبولها للأخلاق اليونانية قد انقرضت أو كادت؛ لأن فرعا منها كان قد بقي حاكما في بلاد أرمنية ثم انقرض هو أيضا، وقام مقامه بيت فارسي صحيح النسب. وكانت الدولة الساسانية أصدق وطنية من الدولة الآرشكية، ولم يكن أمراؤها ملبين لسيادة القياصرة الرومانيين، وكانت ذات غيرة؛ لأنها كانت تعتقد بالزرادشتية القيمة، وقد أعيدت جدة هذه الديانة على ما كانت عليه من المعتقد والشعائر بهمة أبناء هذا البيت، وإذا كانت مبادئ الهلنية قد غرسها الإسكندر المكدوني في جميع المستعمرات الإيرانية في عهد الآرشكية، فإنها أخذت بالانحلال والاضمحلال في عهد الساسانية.
وكان الملك الجديد الأعظم الفارسي يطلب إلى سلطة الغرب أن ترد إلى إيران كل آسية. وفي سنة 230ب.م غزت عساكره الجزيرة وأوغلت في سورية وكبدوكية، حيث لم يدخل أحد من الفرس منذ غزوة البرثيين؛ أي قبل 270 سنة، إلا أن الرومان تمكنوا من دفع الفرس إلى ما وراء التخوم، وأخذوا الجزيرة، ولما تربع سابور الملك الساساني الثاني على سرير الملك طرد الرومان من الجزيرة، وقبض على والريانس - القيصر الروماني نفسه - وكان قد هبط البلاد المذكورة للتصيد (260ب.م) وغزا قليقية وكبدوكية، ثم استرجع الجزيرة باسم الرومان أذينة بن السميذع من آل حيران ملك تدمر العربي، وزوج زنوبية، وظل سابور على مقربة من طيسفون، وقلب عن السرير مختلسي الشرق الروماني في حمص، وهما كوياتس، وبلستس، وأبقى الشرق الروماني في الخضوع، فلقبه غليانس بلقب محترم
14 (أي: أوغسطس)، ثم خرجت الجزيرة بعد ذلك بقليل من أيدي الرومان، ثم عاد الإنبراطور كاروس فاسترجعها في سنة 283ب.م، وفي سنة 293 رجع الفرس فانتزعوها من أيديهم، وهذه المرة لم يطردهم الرومان إلى خارج فقط، بل ابتنوا قلعة حصينة في آمدا (أي ديار بكر) على دجلة قريبا من منبعه، وبنو قلعة أخرى في الموضع الذي سمي بعد ذلك تكريت، وهي كلمة مقطوعة من «كستلم تكريتس»؛ أي قلعة دجلة الحصينة.
15
ولما رسخت قدم الرومان في بلاد الشرق الأدنى بفضل ما بثوا فيه من النظام والقلاع والحصون، أصبح عصرهم من أزهى الأعصار في تلك الديار. نعم، إن السلوقيين أسسوا مدنا كثيرة يونانية في دولتهم، لكن الفتن والقلاقل كثرت في زمانهم، فلم يتمكنوا من نشر لواء المدنية الهلنية فيها، فالأيام المجيدة لتلك المدن اليونانية في آسية الصغرى وسورية وشمالي الجزيرة كانت في العهد الروماني، وبقايا المباني القديمة قد ترى إلى هذا العصر في كل موطن من مواطن جوف آسية الصغرى وسورية والجزيرة. وأسس الهياكل والعمد والمسارح والحمامات والميادين المدفونة تحت التلول، أو الأطلال الشاخصة الجليلة الشأن كما في بعلبك وتدمر وديار بكر وتكريت، تنطق بعظم تلك الأبنية وهمم رازتها وبناتها، وهي كلها راجعة إلى العصر الروماني، وتشهد على ثروة أصحابها ورقي حياتها التي كانت تطوى في تلك الأرجاء. نعم، ليس للآداب اليونانية اللغوية التي نشأت في الشرق الروماني الابتكار والفضاضة اللذان كانا لها في القرون التي سبقت الميلاد، لكنها كانت ثمرة أعمال جماعة مهذبة، حافظت على ما اتصل إليها من تلك الآداب اليونانية إن لم نقل إنها زادتها. وبين أسماء المشاهير من كتاب اليونان في العصر الروماني طائفة صالحة منهم منسوبة إلى مدن آسية الصغرى وسورية، من ذلك: ديون الذهبي الغم من بروسية، (وهي برصة الحالية) في بثينية (سنة 40-115ب.م)، ولقيان السموساطي (الشمشاطي) في أعالي الفرات، وهو كاتب صاحب مبتكرات، قوي العارضة في الآداب اللغوية اليونانية (120-180)، وكان لقيان سوري المحتد، ولم يتلق اليونانية إلا بعد أن بلغ أشده.
ولما تنصرت الدولة الرومانية اليونانية الأفكار بقيت ربوع الشرق تنقل ما يتيسر لها من ثمرات الحضارة الهلنية النصرانية، فكتاب سورية والجزيرة وضعوا مؤلفاتهم بالسريانية، فراجت الأفكار الدخيلة في سوق آدابهم أي رواج، وتضلعت تلك اللغة من التعابير والمصطلحات اليونانية الأصل، وازدادت ألفاظا جديدة؛ إذ اضطرتهم الحاجة إليها، فبلغت مبلغا لم تبلغه قبل ذلك العصر. وأما في آسية الصغرى (الأناضول) فلقد نبغ فيها فئة من الآباء الكتاب برزوا في تآليفهم اليونانية كل التبريز، حتى ليخال القارئ أن اليونانية لغتهم الوطنية، وهم جماعة متسلسلة متصلة الحلق، منهم الكبدوكيون الثلاثة، وهم: غريغورس النزينزي (329-389)، وباسيليوس القيصري (329-379)، وغريغورس النيصي (331-396). وأما آسية الصغرى الواقعة في غربي الفرات فقد كانت في ذلك الأوان قسما مهما من النصرانية، والتخوم التي كانت تفصل أوروبة عن آسية (بالنظر إلى الحضارة) لم تكن البصفور، بل دجلة والفرات، وإذا شاهدت نصرانية أوروبة ما حل اليوم بتلك الربوع من الخراب والدمار والتقهقر، ترى أن جزءا من أجزائها فني واضمحل. (20) الصنائع والفنون والريازة (فن البناء قبل الإسلام في بابل وآشورية وديار اليونان والرومان)
الصنائع والفنون على اختلاف ضروبها وأنواعها تجتمع كلها في واحدة، هي الريازة؛ أي صناعة البناء، بموجب قواعد وضوابط معلومة إذا راعاها الباني أقام ما يشيده على أسس متينة، وحفظه من السقوط أو التداعي الوشيك، بقدر مراعاته لتلك الأصول المعينة على إبقائه أو تخليده. وأهم الصنائع والفنون التي تشترك في الريازة أو تحسنها هي: النحت، والحفر، والنقش، والرسم، والتصوير. هذه هي المهمة. ثم تتفرع فروعا مختلفة وتنتقل إلى غير البناء فتنجلي بمظاهر متلونة وفي مواد شتى، ففي الريازة تظهر أقوم العلوم وأضبطها، كالرياضيات والحساب والهندسة وعلم المناظر، وكذلك علم العقائد وعلم الأخلاق، وسر تقدم الحضارة بفروعهن. والريازة كسائر العلوم والفنون والصنائع، نشأت جنينا، فحبت، فدبت، فترعرعت، فشبت ، فاشتدت حتى اكتهلت.
كانت المغاور والأكواخ أول سكنى البشر، واتخذت المواطن العالية وفرج الغابات من أوائل معابدهم، ووضع الطين طبقات، أو نضدت الحجارة ركاما، فكانت أوائل هياكلهم. وقولنا هذا لا يدفعنا إلى أن نستنتج أن الإنسان الأول كان وحشيا أو همجيا، بل إن التمدن المادي القليل النشوء قد يجتمع مع حالة عقلية وأدبية بعيدة الشأو، وما ابتدعته ضرائر الحياة وسذاجة الأذواق رقاه شيئا فشيئا الإمعان في الحضارة والشعور بالجمال وتطلب دعة العيش والتأنق فيه، فجاءت المباني بعد ذلك أصح هندسة وأرضى للذوق وأدل على أن أصحابها كانوا ذوي دراية ودربة. (20-1) في بابل أو في بلاد الكلدان
ناوأت كلدية أو ديار بابل بلاد مصر ونافستها في عمرانها، حتى إنه ليصعب على الباحث أن يبت السبق لإحدى الأمتين في مسألة الحضارة؛ لأن كلا منهما أوجدت ركابها في ميدانها، وحاولت غلبة صاحبتها أو طمسها لتنال قصب السبق، فإذا كلتاهما بلغت الغاية في وقت واحد، فكان لكل منهما فضل صاحبتها، ومن اجتماع فضلهما نشأت الحضارة القديمة وكل ما يتعلق بها.
ليس لنا في العراق من المباني القديمة ما يدلنا على ما بلغت إليه الريازة من الشأو والأوج؛ لأن الأبنية التي شيدت إنما شيدت بالآجر (بالطابوق)، ويتطلب صنعه وقتا طائلا ونفقات باهظة وعناية عظيمة إذا أريد إتقان إحراقه أو شيه، هذا فضلا عن أنه لا يصبر على طوارئ الجو وتقلباته صبر الحجر عليها؛ ولهذا إذا عني بان بتشييد أثر جليل أو قصر فخم ثم جاء بعده رجل آخر أراد تخليد اسمه، عمد إلى نقض بناء من تقدمه وانتزع منه ما يصلح لإقامة أثره ورفع بنيته، وبفعله هذا يميت ذكر من تقدمه ويحيي اسمه، فيستفيد فائدتين من عمل واحد، وقد حذا الواحد حذو الآخر إلى يومنا. وهذا ما يبين لك قلة الأبنية الجليلة أو دثورها، ويمنعك من أن تحكم على ما بلغت إليه هذه الديار من الرقي بالنظر إلى الآثار الباقية.
ولو لم يلجأ العلماء إلى الأرض ويبحثوا في دفائن أحشائها ما بقي فيها من البقايا ليستنطقوها عما كان على ظهرها في سابق الزمان؛ لما عرفنا منها اليوم شيئا مذكورا، وقد اتضح للإفرنج أن الأقدمين من البابليين والكلدان كانوا يتخذون نفس المواد التي يتخذها اليوم العراقيون في مبانيهم؛ أي الآجر (الطابوق)، وفي بعض الأحيان اللبن (الطابوق غير المشوي)، والجص، والرماد، والنورة، والقار، ولم يعرفوا الحجر والجيار كما عرفهما المصريون، فصبرت مبانيهم على نوائب الزمن إلى عهدنا.
وأشهر المباني التي اكتشفت آثارها في العراق كانت في أرك (الوركاء)، ولارسا أو لرسم (سنكرة)، وأريدو (أبو شهرين)، وأود (المقير)، ولجش أو سربرلا (تلو)، فوجدوا فيها هياكل وقصورا بناها ملوك معاصرون للفراعنة الذين شادوا الأهرام المصرية، وهي كلها مبنية على أرهاص (قواعد من طين أو لبن يرفع عليها البناء)، تسمك نحو عشرين مترا فتكون كالتل المصطنع حتى تدرأ الغرق عن البناء، ويبلغ سطحها أو أعلاها بمرتقى سهل المصعد للعجلات والخيل، وبسلم يكاد يكون محفورا في الأرهاص لصعود الناس إليها، وكان القصر نفسه عبارة عن كتلة مربعة أو مستطيلة، ولم يكن لجدرانه الشامخة الجرداء فتحات سوى باب أو عدة أبواب في كل وجه من أوجهه الأربعة، وكانت هذه الأوجه مزينة في الغالب بتجاويف موشورية الشكل إراحة للناظر إليها، وفي داخل القصر أفنية متداخلة، ويتيه في جنباتها المتسعة بعض السعة، وهناك غرف وعلالي ثخينة لحيطان، هي طويلة أكثر منها عريضة، تجمعها من فوق عقود حسنة، العقد تشبه في شكلها مهد الطفل، وينيرها من أعلاها كوى ضيقة، وفي إحدى زوايا القصر يرتفع برج هرمي الشكل يعرف عندهم بالزقورة، وهي من الأبنية الخاصة بالطرز الكلداني، ولكل زقورة سبع طباق، ولكل طبقة لون يختلف عن لون أختها، وموقوفة على رب من أربابهم، وهي: الشمس، والقمر، والسيارات الخمس، وشكل كل طبقة مكعب تام متناسق الوضع، وكل طبقة ترتفع عن أختها متأخرة عنها ومنقبضة، وعلى أعلى الطبقة الأخيرة معبد يعبد فيه إله المحل.
أما زخرف القصر فكان في نهاية السذاجة، فإن حيطانه كانت مغشاة بطبقة من الستوق،
16
أو من غلالة جصية كانت تخفي عن الأبصار منظر الآجر ، ويطبعون عليها نقوشا هندسية أو تصاوير بشرية أو حيوانية، وكانوا يعتاضون غالبا عن هذه الغلالة السريعة التلف بإزار يتخذ من الآجر الملون، يصبر على الزمان أكثر من الغلالة الجصية، وكانوا يجمعون بين الألوان جمعا تشبها شبا فضلا عن أنهم ينشئون منها زخارف تعجب العين وتشرح الصدر وتبسط النفس، فقد وجد من هذا الآجر شيء كثير كان مطمورا في الأرض، فأخرج فإذا ألوانه أزهى ما حر ما يمكن أن تكون.
وأما النحت عندهم فلقد وصلنا منهم أقل مما وصلنا من منحوتات المصريين، وأغلب التماثيل الكلدانية التي اكتشفت إلى الآن وجدت في لجش (تلو)، وهي محفوظة في اللفر، وهي منحوتة من المستماز (نوع من الحجر البركاني يعرف بالديوريت عند الإفرنج) الأزرق أو الأسود مقطوعة الرءوس، قطعها الحفارون المسلمون عند استخراجها من بطن الأرض لكي لا تعبد. وفي اللفر أيضا رءوس مقطوعة عن أجسادها وجدها صاحب الحفريات الفرنسوي المسيو دسا رزيك بعد أن أتلفت أجسادها، وهذه الرءوس ذات منظر ثقيل جهم، عريضة الأذقان مربعتها، قوية الوجنات، ثخينة الشفاه ذات شبق واضح، فطس الأنوف نجل العيون وطف الحواجب مقرونتها. أما الأجساد فترى تارة واقفة وطورا جالسة على كرسي بدون متكأ للظهر. أما الملبوس فهو عبارة عن رداء ضاف يمر تحت إبط الرجل الأيمن وينتقل إلى كتفه الأيسر، ثم يقع متوسعا شيئا فشيئا إلى أن يتهدل إلى عقبه. أما مثاني الرداء فظاهرة قليلا وعلى وجه مصطنع، ومعاريه منحوتة نحتا ثقيلا، غير أنه ينطق بالصدق. وقد أبدى الناحت من ناهض الهمة في صدق التمثيل ما يدهش كل ناظر إليه؛ فلقد نجح في إظهار ما في خاطره رغما عن صلابة الحجر؛ إذ خطط اعوجاج الأظفار وغضون الجلد بصورة عجيبة، بيد أنه لم يحافظ على تناسب أعضاء الجسم؛ فإن الكتفين والردفين عريضة، حتى بلغت وراء المقصود بالنسبة إلى علو مرتفع صدره وطول ساقيه.
وإلا فما عدا هذه الشوائب فإن تماثيل لجش هي صورة حقيقية لمن تمثلهم؛ ففيهم الملك جوديا وأمراء بيته، وترى كل واحد منهم بموجب سمته الخاص به، والظاهر أن الناحت في ديار الكلدان كالناحت في وادي النيل، يبذل ما في وسعه ليمثل الرجل الذي ينحته مدفوعا بدافع ديني؛ لأنه يتخيل أن التمثال هو مأوى نفس، ينتقل إليه بعض مزدوجها لكي لا يتألم هذا المزدوج؛ ولهذا أراد أن يكون هذا المسكن الحجري نسخة صحيحة من المسكن الجسدي. (20-2) في بلاد آشور
جرى الآشوريون في أبنيتهم على آثار الكلدان في مواد البناء، وزادوا عليها الحجارة الكلسية الكثيرة الوجود في جبال كردستان القريبة من ديارهم، فكانوا يضعون في الأسس قطعا من هذه الحجارة بدلا من الرهص، ويحكمون هندامها، وفي داخل أبنيتهم كانوا يتخذون صفائح رقاقا من تلك الحجارة، يؤزرون بها حيطانهم ويفرشون بها منبسط غرفهم.
وكان ترتيب هياكلهم وقصورهم بوجه عام على ما يرى في آل آشور (قلعة شرقاط الحالية)، وكلح (غرود الحالية في جوار الموصل)، ونينوى (كوى أنجق)، ودور شروكين (خرساباد)، مطابقا للنظام الذي يشاهد في هياكل الكلدان وقصورهم، من أفنية قوراء، وغرف معقودة، ودهاليز مطوقة يتحدر نورها من الكوس، وزقورات ملونة، إلا أنه يظهر أن الزخرف في الخارج والداخل كان أغنى وأزهى مما كان عند الكلدان، وكانت الأبواب مزينة بثيران رءوسها رءوس بشر، وتماثيل ضخمة تمثل البطل جلجامس يخنق أسدا، وكانت أسافل الحيطان مزينة بعض الأحيان بنطاق من حجارة، وفتحات الأبواب مؤطرة بإطار من الآجر الملون، يزيد رونقا وزهوا على رأس العقد، حيث تجتمع التصاوير الرمزية، وعند مدخل من مداخل حرم خرساباد كانت نخلتان من الشبه المذهب والنوافذ النادرة التي كانت تشرع في الطبقة العليا من الأبراج كانت مزينة بعمد خفيفة، يقرب طرز تيجانها من الطرز اليوناني، وعلى النوافذ جلفق (محجل أو درابزون) من الخشب المنقوش حفرا، وكانت حيطان حجرات الاستقبال مغشاة إلى الحجرات برسوم محفورة في الحجارة، تمثل المعارك والملاحم وصيد الملك الباني لذلك القصر.
أما النحت عندهم فكان تتمة النحت الكلداني وتقدمه ورقيه، إلا أن التماثيل نادرة؛ لأنها نحتت من مواد سريعة التلف، كالجص، والمرمر الكلسي، والحواري، والهيصمي، والبلنط، بخلاف المستماز الذي استعمله الكلدان. وأشهر هذه التماثيل تمثال آشور نرز هبل، فإنه محكم الصنع، يدل على مهارة ناحته، فإن محل رأسه من الملامح الناطقة بسرائر الضمير وإتقان التعبير ما لا يرى مثيله في رءوس تماثيل الكلدان، إلا أنه ذهب بمحاسنه ما يشاهد على رأسه وفي لحيته من وفرة الشعر المغضن المجعد. هذا، والجسم ممشوق حسن التناسب والسمت مهيب المقتبل، وإن كان عليه رداء قد التف به التفافا من العنق إلى الرجلين. فلا جرم أن الصانع أفرغ ما في مجهوده لتخليص منحوته من شوائب الشناعة والسماجة، وبعكس التماثيل فإن الصور المحفورة كثيرة، وتدل على مهارة في الصناعة وحرية في العمل وأنفة في نفس صاحبها، حتى لتبلغ مبلغا عظيما في التأثير على الناظر، مع أنه لم يكن لصانعها إلا وسائل في منتهى البساطة، وطرائق غير تامة. ومفعول ظهور المصورات كالأصل يبين في طور نشوئه، ولم يراع فيها تناسب الأشياء بموجب اتصالها بعضها ببعض، وإن شئت فقل إنه روعي فيها خطورة ما يراد عرضه على الناظر؛ فإن الناس الممثلين فيها هم بطول الأشجار. والذي ينظر إلى العساكر المشاة عند هجومهم على القلاع والحصون يخيل له أنهم أعظم منها. ومهما تكن عيوب هذه الرسوم فإن التصاوير المحفورة الآشورية تبقي في النفس أثرا لا ينشأ إلا في من ينظر إلى خلائق متحركة أو حية؛ فإنك تشاهد هناك أناسا يتقاتلون ويتحاربون ويتذابحون، وأناسا يتصايدون ويتداعبون ويتمازحون، وجميع الوقائع التي تمثل حسنة الالتحام والارتباط، حتى إن الصانع الماهر في يومنا هذا لا يحتاج أن ينقح فيها شيئا كثيرا إذا أراد أن يحلها من نفس الناظر المحل الذي يناسب تقدم عصرنا في هذا الفن، ويعرضها على الناظرين معرض ألواح مصورة. ومن خصائصها أنه قد رسم عليها رسما متقنا دقائق الأمور كجلائلها، حتى لتظهر لنا المعيشة الآشورية بمظهرها الحقيقي مع جميع تفاصيلها، فهي من هذا القبيل بمنزلة شاهد تاريخي يعتمد عليه في كتابة الوقائع، فضلا عن أنها تحفة من تحف الصناعة ذات فضل لا ينكر.
وأما صنائع المهن عند الكلدان والآشوريين والحفر على الخشب وحياكة الطنافس وصناعة الآنية الخزفية، فليس لنا منها إلا الشيء النزر. إلا أننا نعلم أن الآشوريين - ولا سيما الكلدان - نبغوا في التطريز، حتى إنهم كانوا يصورون على الأنسجة الصور التي نراها على جدران قصورهم، لكن صروف الزمان أفنت جميع ما صورته الإبرة. وكان الرومان واليونان يقضون منها العجب العجاب، ولقد صبر على تصاريف الدهر بقايا من مهنهم المعدنية، وأغلبها يشهد على حذق ولياقة؛ فإن الأوزان المتخذة من الشبه بصورة أسد رابض تدل على براعة صانعها، ولا سيما الرأس، فإنه يمثل الحقيقة تمثيلا لا يبقي لك فيها مطمعا. ومما يعد في المقام الأول من المهارة في الصنع تميثيلات الأرباب والمعبودات والتمائم وقطع النقوش التي تلصق على الكراسي والسرر؛ فإن فيها من محكم الحفر على المعدن ما يأخذ بمجامع القلوب. وأبواب قصر شلمناسر في بلوات، وهي أبواب من خشب كانت مزينة بضبات من الشبه علوها 26 سنتيمترا، وقد نقش عليها نقشا ناتئا زحفات الملك. وأحسن طائفة منها معروضة في أروقة دار التحف الإنكليزية في لندن، وهي نفس الأمثلة التي تشاهد على صفائح الرخام الكلسي، من معركة، وحصار، وطرد العدو، واللحاق به خلال بلاد الغابات والجبال ومعابر الأنهر، والمقادير فيها مصغرة، لكن صنعها شيء واحد، ويدل على حذق أصحابها في التصرف في المعدن، ويرى مثل هذا الإتقان والإحكام في مصنوعات العاج النادرة الوجود التي أفلتت من يد الضياع والتلف، ولا سيما في اللوالب والخواتم المتخذة من الحجر الأصم على اختلاف أنواعه، وتجمع من أخربة مدن كثيرة قديمة، ونحت المصنوعات الدقيقة لم يكن أدنى إتقانا من النحت الكبير؛ ولهذا كان للصناعة الكلدانية الآشورية مقام في عالم الحضارة القديم بجانب الصناعة المصرية في مختلف عصورها. (20-3) في ديار اليونان
كانت الريازة في عصر أبطال اليونان في نشوئها الأول، ولم يكن في قصورهم ومعابدهم شيء يذكر. وأما بعد حرب تروادة بأربعة أو خمسة قرون فكانت تتخذ الأبنية من الخشب، ومنذ الأولنبياذة الأولى (أي 776ق.م) أخذت الريازة تتقدم تقدما حثيثا في إغريقية، فشيد في كورنثس وأجينة ومغارة ودلفس وأولنبية وديلس وأثينة مبان جليلة فخمة. فهذه ثلاثة أطوار، وأما الطور الرابع - وهو بين سنة 479 و336ق.م - فإن الزيارة بلغت أبعد شأو أمكن للبشر أن يبلغوه؛ فإن اليونان تخلصوا في ذلك العهد من الفرس، فنبغ فيهم رازة تعقد عليهم الخناصر، ومن جملتهم : كليكراتس، وأكتينس، ومناسكلس، وكريبس، وأوبوليمس، وميتاجينس، وبوليكليتس، وزينكلس، فإنهم شادوا أبنية خالصة الطرز، منها: هيكل أيلون الديدمي في مليطس، ومعبد مينرفة بليادة في بريانة، وزون بخس في مغنيسية، ولا سيما هيكل ثسياس والبرثينون في أثينة، فإنها كلها مما يخلد الذكر لرازتها النوابغ، وحرب البيلوبونيس وإن كانت طامة عظيمة على مباني إغريقية إلا أنها لم توقف حركة الفن عن إتمام طريقه، وفي هذا العهد قامت أحسن المسارح وأبهاها: إغريقية، وصقلية، وإيطالية، وآسية الصغرى، ونشروا ألوية الزهو والتأنق في تشييد المصارع؛ أي ميادين الصراع المسماة عندهم بالسترا، والمراوض؛ أي ميادين الرياضة الجسدية المعروفة عندهم باسم الجمناسيون، وأفرغت قوالبهما إفراغا بحيث صارت معروفة، لا يتجاوز أحد حدودها ولا أحكامها. ومنذ أن تسلط المكدونيون على الإغريق (اليونان) دخلت الريازة طورها الخامس، وفيه فسد الذوق وأخذ يسير إلى الانحطاط؛ إذ فشت في البلاد الحروب الداخلية، فغادرها أمهر رازتها، وشخصوا إلى مصر وآسية لينحازوا إلى خلفاء الإسكندر، فرحب بهم بطليموس كل الترحيب، وبنى قصرا وشيد السرافيون ومنارة الإسكندرية الشهيرة، ودعا السلوقيون أيضا رازة ونحاتين يونانا فحسنوا مدن أنطاكية وأفامية وسلوقية التي أسسوها، وكذلك فعل أمراء برغامون.
إلا أن الحروب التي خاضوا عبابها مع الرومان أوقفت سير الفن، فحاول بعض خلفاء الإسكندر تعويض الضرر الذي لحق بالهلاس، فشرعوا ببناء هيكل ومسرح فخم في تيجية، وأعيد بناء هيكل المشتري الأولنبي ومراض في أثينة، وزينت ديلس بهياكل وتماثيل، ثم حانت ساعة قومية اليونان الأخيرة بسبب الحرب التي ثار نقيعها بين الآخيين والإيتوليين، فأخربت عدة مدن وكثيرا من الآثار الجليلة القديمة، فلم يبق فيلبس آخر ملوك مكدونية حجرا على حجر في برغامون، وهدم أكاذمية أثينة، والهياكل التي كانت تحيط بها. وكلما ساد الرومان في البلاد كانوا يعرونها من بدائعها ، وينقلون منها إلى إيطالية شيئا كثيرا وكل ما كان يقع في أيديهم من الطرف. ولما أخذ سلا أثينة هدم البيرة والمباني التي كانت تجاورها، ونقل إلى رومة طائفة من عواميد مقدس المشتري الأولنبي ليزين بها المشتري الكابيتولي، ولم يحترم الرومان آسية الصغرى ولا إغريقية الكبرى، فكان بذلك نهاية الريازة اليونانية.
وأما من جهة سائر العلوم المستظرفة فإن اليونان يدعون أنهم اخترعوها كلها، ومن جملتها النحت والتصوير والنقش، وهذا محض تبجح واختلاق؛ لأننا رأينا المصريين والكلدان والآشوريين واقفين على هذه الفنون، بينما كان اليونان غائصين في بحر ظلمات الجهل والهمجية. ويرجح أهل البحث والتحقيق أن المصريين علموا اليونان مبادئ صنع التماثيل. ولا جرم أن ككربس مؤسس أثينة أخذ معه من أرض الفراعنة صناعا مهرة أكفاء لبناء وتزيين هياكل مينرفة وسائر المعبودات التي أدخل عبادتها ذلك الصقع من بلاد اليونان. ومما لا ريب فيه أن آثار الريازة والنحت القديمة التي أقامها اليونان بادئ بدء في بلادهم تشاكل كل المشاكلة ما يجانسها في ديار الفراعنة، إلا أن ثم فرقا مهما، وهو أنه بينما كانت هذه الصنائع واقفة جامدة في ربوع مصر، كانت تسرع كل السرعة في أرجاء اليونان، حتى بلغت أبعد مدى من كمالها ورقيها.
وأول من عرف من اليونان بالنحت هو ديدال ابن حفيد أرختة ملك أثينة. وقد ذهب بعضهم إلى أن ديدال هذا هو اسم شامل لجماعة من الناحتين، وبعد حرب تروادة ارتقت النحاتة رقيا ظاهرا، ويظن أن فريقا منهم أخذوا من آسية الصغرى إلى بلاد اليونان ليقيموا هناك آثارا تخلد مآثر فاتحيهم، وكانت هذه الصناعة قد خطت خطوة بعيدة هناك في ميدان الإتقان. على أن مصنوعات هذا الفن لم تجلب إليها الأنظار جلبا صادقا إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، فارتقى صب المعادن في ذلك العهد، وكذلك الحفر عليها. وفي القرن السادس ق.م طرأ انقلاب عظيم في أفكار أهل الحذق من المصورين، حتى بلغت مصنوعاتهم إتقانا لا ينسى، ونبغ في كثير من المدن من مهرة الصناع رجال معدودون، ولا سيما في ساموس (سيسام)، وخيو (ساقص)، وسكيونا، وقد فتحت فيها مدارس لتلقي أصول هذه الصناعة وأحكامها. وما زالت النحاتة في رقي حتى كان ليسبس (المتوفى في القرن الرابع ق.م)، وبراكسيتيلس (المولود سنة 390ق.م)، فبلغ الإتقان على أيديهما مبلغا أي مبلغ ، حتى قيل عنهما إنهما أتيا المعجزات بمحاكاة الطبيعة، ولم يأت بعدهما من قاربهما في الصناعة. وقد أذن الإسكندر لليسبس أن ينحت تمثاله كما أذن لإبلس أن يصور صورته، فانتهى هذان الفنان في عصرهما، ثم لما كان عهد السلوقيين تدهورت الفنون والصنائع من قللها حتى ماتت. (20-4) في بلاد الرومان
لم يكن للرومان صنائع مستظرفة أو جميلة في يد دولتهم؛ لأنهم كانوا مشتغلين مدة أزمان متطاولة بالدفاع عن أنفسهم من هجمات أقوام إيطالية الوسطى، وبالحمل عليها حملات تنكل بهم تنكيلا وتمثل بهم تمثيلا. ولم يكن لهم ذوق للعقليات، ولم يكن لهم وقت يتفرغون لها، ولما احتكوا باليونان نهضوا يحاكونهم في جميع أعمالهم وآدابهم ومصنوعاتهم، لكنهم لم يفوقوهم البتة، بل ساووهم فيها وساووهم نادرا. وقد قلنا إن الرومان كانوا يخربون مباني اليونان البديعة في ديارهم وينقلونها إلى ربوعهم، فلما اغتنت رومية بمحاسن إغريقية وآسية حاولت أن تحصل على أبنية فخمة ضخمة واسعة كثيرة الزخرف، ففضلت لهذه الغاية الطرز الكورنثي الذي كان يمتاز عن سائر ضروب الطروز بوفرة الزخرف. بيد أن الطرز الروماني بقي معتبرا في نظر أهل الفن طرزا يونانيا فاسدا، مع ما فيه من الجلالة والفخامة والعظمة التي لا تنكر. قال فتروفس: «إن رازة اليونان كانوا واقفين على جميع العلوم التي كانت تساعدهم على إتقان صناعتهم، وكانوا قبل أن يشرعوا ببناء يخططون رسمه ومنظره، وينقشونه بألوان، ويصورونه أيضا صورة مصغرة.» وكان فريق منهم كتب رسائل جليلة بخصوص الأبنية التي شادوها، ولم تكن كتبا نظرية ككتاب فتروفس، بل كتب تروي ذكر الأشغال التي تمت على أيديهم، والأسباب التي حدت بهم إلى اختيار ذلك البناء من غيره، لكن لم يصلنا أحد هذه الكتب التي وصفها فتروفس لسوء الطالع. ومما امتازت به الريازة الرومانية عن اليونانية أنهم اتخذوا العقود في أبنيتهم؛ أي فن وضع الحجارة المنحوتة بعضها يدعم بعضا على شكل قوس مربع؛ فبالعقود تسنى لهم أن يقيموا أبنية أوسع وأكثر تفننا من أبنية اليونان.
وما يقال عن الريازة والنحت يقال أيضا عن سائر الفنون المستظرفة، مثل التصوير، والنقش، والرسم؛ فإن الرومان بلغوا في إكرامهم لنوابغ اليونان في هذه الفنون مبلغا كان يقرب من العبادة، وهذا ما اضطر القياصرة إلى جلب جماعة منهم إلى رومة ليفتحوا فيها مدارس يعلمون فيها أصول هذه الفنون، ففعلوا، لكن لم يفلح فيها الرومان كما أفلح اليونان، وبقي قصب السبق بأيديهم بدون أن ينزعه منها أحد من غير عنصرهم.
الجزء الثاني
الجزيرة في عهد الإسلام
(1) الفتوحات الإسلامية
قبل أن يظهر الإسلام بقليل كانت الديار الشرقية سبب الاهتراش والامتراش والقراع والنزاع بين الفرس والرومان؛ فتارة تكون البلاد بيد قوم، وطورا بيد قوم آخرين، ولم تكد تفرغ من الفتن والهرج والمرج، فآن لدولة ثالثة أن تدخل بينهما؛ ليكون لها القول الفصل في «المسألة الشرقية»؛ أي مسألة التملك على هذه الديار، ليزول سبب الخلاف بين الدول الطامحة بأبصارها إليها. وفي ذلك العهد لم يدر في خلد أحد أن ينهض العرب من ديارهم، وينفضوا عن أذيالهم الرمال التي علقت بها منذ عصور متطاولة، ويشمروا عن ساعدهم ليهجموا على الديار المجاورة لهم وينتزعوها من أيدي الفرس والرومان معا. كان الفكر الغالب بين أمم ذلك العهد أن البلاد تصير إلى يد الأقوى، ولا تقوى اليد إلا لمن يزاول العلوم والفنون ويعالجها؛ إذ القوة المادية تتلاشى أمام القوة العلمية التي من شأنها أن تكيد للعدو المكايد، وتسقطه في ما تنصبه له من الشباك والحبائل. ولذا كان الظن يحمل العقلاء على أن مصير بلاد الشرق يكون بيد اليونان إذا عادوا فقبضوا على ناصية العلوم، أو إلى الرومان إذا زال من بينهم الشقاق، وحافظوا على ما ورثوه من معارف اليونان. وأما العرب فكانوا بعيدين عن كل فكر؛ لأن رمال بلادهم كانت تثور بوجوههم إذا ما أرادوا قطع المفاوز التي كانت في ديارهم، وتحول دون كل أمنية تنشأ في صدورهم.
فما أعظم ما كان من عجب كبار الدنيا حينما علموا أن قد قام بين العرب في سنة 622ب.م رجل يدعو الناس إلى دين جديد هو دين الإسلام الذي امتد في البلاد العربية بسرعة البرق الخاطف، ثم أخذ ينتشر إلى ما جاوره من الديار، حتى إن الإنبراطور هرقل ملك الروم رأى بعد بضع سنوات من تخليص سورية من أيدي الفرس أنها خرجت من قبضته وانتقلت إلى أبناء إسماعيل (632-638)، وبعد سنتين (639-640) سقطت مصر من أيديهم، ولم يبق إلا ديار العجم لم تقع في قبضتهم، غير أن سيول المغازي الإسلامية كانت تتدفق متجهة إلى جبال إيران، ولم تضمحل الدولة الساسانية فقط (641)، بل أخذ ظل المجوسية يتقلص شيئا فشيئا من تلك الديار، حتى لم يبق فيها من أصحاب ذلك الدين إلا جماعات قليلة، أقامت جماعة منها في ديارها الأصلية الفارسية محافظة على دينها القديم، وفرت جماعات أخرى منها إلى ديار الهند، فتناسلوا فيها إلى يومنا هذا، وهم يعرفون هناك باسم «الفرس».
نشأ الإسلام طفلا صغيرا ثم ترعرع، ثم اشتد حتى انتشر في الأرض طولا وعرضا، وأصبح متسعه أعظم من ملك الإسكندر؛ لأنك تراه قد امتد من بلاد الحجاز إلى ربوع الشام إلى الجزيرة إلى إيران إلى قلب آسية الوسطى من جهة، وإلى ديار مصر وعلى طول إفريقية الشمالية إلى بلاد الأندلس من الجهة الأخرى. (2) عود الجزيرة إلى النهضة
احتل الجزيرة منذ القديم أمم جاءتها من أقطار مختلفة، وكان الكلدان والآشوريون قد هبطوها قادمين إليها من ديار العرب في فجر التاريخ. وكانت الجزيرة تنتعش كلما نزل بها قوم جديد. فاتفق لها في عهد الخلفاء الراشدين ما اتفق لها في سابق الأحقاب؛ فإن أبا بكر الصديق أنفذ إلى العراق خالد بن الوليد المخزومي، فافتتحه في سنة 12ه (632-633م)، وفي عهد عمر بن الخطاب فتح عياض بن غنم الجزيرة كلها (شمالي العراق) في سنة 18 و19ه (639-640م) على صلح الرها؛ وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من عياض بن غنم ومن معه من المسلمين لأهل الرها:
إني أمنتهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ومدينتهم وطواحينهم، إذا أدوا الحق الذي عليهم، ولنا عليهم أن يصلحوا جسورنا ويهدوا ضالنا، شهد الله وملائكته والمسلمون.
هذا مجمل ما يقال عن حالة العراق في عصر الخلفاء الراشدين؛ فهذه النهضة هي اليوم أشبه بالإفاقة منها بالنهضة، إلا أننا أطلقنا عليها اسم النهضة بالنظر إلى أنها بدء ما تصير إليه في عهد الخلفاء العباسيين الذين أيقظوها يقظة صادقة من رقدتها المتطاولة، وأعادوا إليها شيئا من مجدها الزاهر وعزها الداثر. (3) سطوة الأمويين
كان سبب ابتداء دولة بني أمية أن الحسن بن علي بن أبي طالب خلع نفسه من الخلافة، وسلم أمرها إلى معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية سنة 41ه (661)، وسمي ذلك العام الذي وقع فيه الاتفاق «عام الجماعة»؛ لأن الأمة اجتمعت فيه بعد الفرقة على إمام واحد، فبعث معاوية نوابه في البلاد، واستقر له الملك وصفت له الخلافة. وفي أيام الأمويين نفذت كلمة العرب في ثلاث قارات، وهي: آسية، وأفريقية، وأوروبة؛ فقد ملكوا في آسية من قفار جبل الطور إلى فلوات ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر الطورس على بحر الروم، ووضعوا أيديهم على أنحاء آسية الصغرى (الأناضول)، كقليقية، وكبدوكية، والبنطس، وسائر ديار مملكة الأكاسرة، بل ملكوا بسرعة ما عجزت عنه الأكاسرة الساسانية في مدة طويلة؛ إذ أوفدوا قوادا ففتحوا ما وراء نهري جيحون والسند، وبلاد بخارى والصغد، وجعلوهما كورة واحدة. ثم كورة ما وراء النهر، ودان لهم من كان على بحر جرجان من الأهالي، وهم سكان خوارزم، وملكوا في أوروبة بلاد الأندلس، ما عدا بعض مضايق في أستورية. واحتلوا سبتمانية (في جنوبي بلاد غالية؛ أي فرنسة)، وجزيرة قبرص، وجزائر ميورقة، ومنورقة، وأقريطش، ورودس، وملكوا في شمالي أفريقية جميع البلاد الممتدة من مضيق جبل طارق بن زياد إلى برزخ السويس، وكانت حاضرة الخلفاء الأمويين دمشق الشام، التي بنى فيها الوليد الأول مسجدا عد من عجائب المصنوعات ، وهدمه بعد ذلك عدو العرب الأزرق، تيمور لنك في سنة 700ه/1300م. (4) أعمال العباسيين
الخلفاء العباسيون جميعا من ولد العباس بن عبد المطلب، عم النبي العربي، وكان بنو العباس متحزبين لعلي بن أبي طالب في خلافته، فلما استأثر الأمويون بالحكم بعد قتل ابن أبي طالب أخذوا ينتهزون الفرص لنبذ طاعتهم والقيام مقامهم، ولم يجهروا برغائبهم؛ خشية بطش الأمويين بهم، إلى أن قام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فأخذ يبث دعاته سرا، فنجح بعض النجاح، إلا أنه أدركته الوفاة سنة 126ه/744م، فعهد بنشر الدعوة إلى أبنائه: إبراهيم الإمام، وأبي العباس الذي لقب بعد ذلك بالسفاح لسفكه الدماء، وأبي جعفر، الملقب بالمنصور، فجاهر دعاة العباسيين بما تكنه صدورهم، وكان على رأسهم أبو مسلم الخراساني، ودعوا لإبراهيم الإمام، فلما سمع بذلك الخليفة الأموي استشاط غضبا وبعث من قبض عليه، فأخذ سنة 129ه/747م، وحبس حتى مات، لكن موت الإمام لم يفد بني أمية فائدة؛ إذ قام بعده أخوه أبو العباس السفاح، ودعا الناس إلى مبايعته، وأتى الكوفة. وكانت كلمة أبي مسلم الخراساني قد علت بالدعوة لبني العباس، فاجتمع للسفاح جيش لهام، فسار به لمحاربة مروان بن محمد الملقب بالحمار، قاتل أخيه، فكسره في جمادى الآخرة سنة 132ه (كانون الثاني سنة 750) على الزاب الأعظم، لكن مروان تمكن من الفرار من الزاب، حتى وصل قرية بوصير في ديار مصر، فنزل في كنيسة للقبط هناك، فلما علم بقدوم أعدائه عليه حاربهم، وقتل منهم ثلاثمائة رجل، ثم جرح جروحا بليغة، فحمل عليه رجل فقتله، ثم جاء آخر فاحتز رأسه - وكان من أهل البصرة - ثم بعث برأسه إلى دمشق، فنصب على باب مسجدها، وفي الآخر بعث به إلى السفاح؛ فخر ساجدا لله عند رؤيته إياه، وتصدق بعشرة آلاف دينار.
لكن وقع في قلب أبي العباس خوف ممن بقي من بني أمية لئلا يثاروا بدم المقتول؛ فصمم على استئصال شأفتهم. فلما كان بعض بني أمية مجتمعين في الحيرة في مجلسه، وبنو هاشم دون سريره على الكراسي، وبنو أمية على الوسائد، أمر الخراسانية بقتلهم، فأخذتهم بالكافر كوبات (بالهراوات أو الدبابيس) فأهمدوا، وكان أبو العباس في أثناء ذلك دعا بالغداء حين قتلوا، وأمر ببساط فبسط عليهم، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها، فلما فرغ قال: جروا بأرجلهم ، فألقوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء، فكانت الكلاب تجر بأرجلهم، وعليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا، ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها. هذا ما كان من أمر بعض منهم ممن كانوا في الحيرة، وأما البعض الآخر الذين كانوا في دمشق فإن الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم خليفة مروان قتل في اجتياح المدينة، وبعث يزيد بن معاوية وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد، إلى أبي العباس، فقتلهما وصلبهما، ثم دعى من بقي منهم على نهر أبي فطرس من فلسطين، وأظهر لهم عبد الله بن علي - قائد جند العباس - أنه يريد أن يفرض لهم العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيف وثمانون أميرا، خرج عليهم من في الكمين فقتلوهم، ولم يفلت من هذه المجزرة سوى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، الذي جدد معالم الخلافة بالأندلس. ولم يشأ السفاح أن يقيم في ديار الشام مولده، بل اتخذ الأنبار (اليوم أم البر عند الأعراب، أو أم برا) مباءة لخلافته، حتى مات فيها بالجدري سنة 136 (754م)، وعمره ثلاث وثلاثون سنة. (4-1) المنصور
فخلفه أخوه المنصور، وكان عالما بليغا، وحازما جليلا، فلما أنعم نظره في من حوله، رأى في العراقيين جميعهم حزبا قويا يميلون إلى العلويين، ويودون أن تكون الخلافة لهم لا للعباسيين؛ فأخذ يخاف من أمرين: الأول من أن يغتال، والثاني من أن تنتقل الخلافة إلى آل البيت فتنحصر فيهم، فأخذ يضرب أخماسا لأسداس ليأمن على الأمرين معا، فبلوغا للأمر الأول أخذ يقصي عنه العرب ويقدم عليهم الموالي، والأتراك، والخراسانية؛ لأنهم كانوا دعاة هذه الدولة وأنصارها، الذين استعين بهم على بني أمية في ديار العجم وجرجان وما إليهما من البلاد، وقد وجد على العراقيين أشد مما وجد أخوه على بني أمية، حتى لو استطاع أن يقرضهم من هذه الديار لفعل، والعياذ بالله. وقرب أيضا منه النصارى لهذه الغاية عينها؛ لعلمه أنهم لا يستطيعون أن يؤذوه إذا ما أغدق عليهم الخيرات والمبرات، لا بل اتخذ كثيرا منهم ندماء له على غصص من قلوب الذين يميلون في تحقيرهم إلى رفض سلامهم وكلامهم. ومما فعله أيضا لقمع العراقيين أنه قلل أعطية الجند ليأمن عصيانهم واستغناءهم عنه، وأجرى فواضله على من لم يكن له غرض في السياسة ولا يعنى بأمرها، بل غايته العلم والأدب، وكان يقلم أيضا أظفار أمراء البلدان وعمالها بأن يتدارك عزلهم قبل أن ترسخ قدمهم في ولايتهم، ويستولي على ما يصل إليه من أموالهم، ويجعله في البيت الذي سماه «بيت مال المظالم»؛ قصدا لتحقيرهم وإعجازهم عن القيام عليه بفتنة أو مخالفة، لا حبا في جمع المال واذخاره كما توهمه بعضهم، ثم طمع في هذه السياسة إلى أن يأخذ التجار بالشدة، فوضع على حوانيتهم ضريبة كما يفعل اليوم الإفرنج في بلادهم، إلا أن بين عمله وعملهم فرقا في الغايات، وهذه الضريبة مما لم يسبق له عهد في الإسلام. وزد على ذلك أنه زاحمهم في إعطاء الدين بالربا؛ حتى يقطع عنهم باب الارتزاق والتعيش، مع علمه بأن التجارة من السلطان مفسدة للعمران ومدعاة الرعية إلى الخسران، وأن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، غير أنه تجوز كل ذلك بلوغا لمآربه واستمالة للشعب الأدنى إليه، وهو السواد المهم، فرفع عنهم الخراج، ورقا على الحنطة والشعير، وصيره عليهم مقاسمة، فاستفاد بعمله هذا فائدتين: تقريب سواد الناس منه، واذخار أرزاق الجند وعلف الخيل عنده؛ حتى لا يطمع فيه طامع. ومما فعله من آخر أعماله لتأمين حياته وإقصاء المغالين عنه، نقل دار الخلافة إلى موضع جديد يحصنه كل التحصين؛ لأنه كان يخاف من أن أهل الكوفة يفسدون جنده، ويحملونهم على ممالأة أهل البيت؛ فجمع المنجمين ليعلم هل من خطر عليه بعد بناية بغداد. فلما أعلمه نوبخت إذا اختطها يسلم من شر العدو، أخذ بعمارتها وأركبها دجلة، ولما كان الخوف قد أخذ من قلبه كل مأخذ، حصنها بمائة وثلاثة وستين برجا أنزلها في سور متين بين الشوارع والطرق، بحيث يمكن إقفال الدروب في الليل وإقامة الحراس عليها. ثم إنه حول الأسواق إلى الكرخ في أعلى الزوراء؛ حتى لا يبقى بجواره من لا يأمن منه، وراح قومه يقولون إن رسول الروم أشار بذلك عليه، ففعل كل ذلك لكي لا يغتال.
وأما ما فعله ليتخلص من العلويين، فإنه بث العيون والأرصاد، ونصب لهم الشباك والحبائل ليقتلهم الواحد بعد الآخر؛ ففي السنة التي أسس فيها بغداد (145ه/762م) قتل محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإبراهيم أخاه، وليس له في ذلك فخر؛ لأن ضعف العلويين كان ناشئا من تفرق كلمتهم، ومحاولة كل منهم الاستئثار بالخلافة، وتشتت دعاتهم على آراء لم تجمعهم غاية واحدة، وانقطاع بعضهم عن بعض منفردين إلى نفوسهم فيما يطلبون به من ثأر شهدائهم، وإلا لو اجتمعوا لما استطاع فتيلا، وهو لم يتجرأ على قتل هذين العلويين البريئين إلا من بعد أن قتل قبلهما يزيد بن عمر بن هبيرة، وعمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا سيما أبا مسلم الخراساني محبهم ومؤيد طلبهم، وفي كل ذلك لم يطالبه أحد بدمهم.
فأنت ترى من هذا كله أن المنصور كان خليفة عضوضا، لا يراعي إلا ولا عهدا، وذا سياسة تشبه سياسة دهاة الإفرنج في هذا القرن، وبذلك حفظ نفسه وسرير خلافته من الدمار، وكانت وفاته في سنة 158ه/775م عن 63 عاما. (4-2) المهدي
ما مات المنصور إلا وتنفس العراقيون عامة والبغداديون خاصة الصعداء ترويحا لأنفسهم؛ لأنهم كانوا يكرهونه أشد الكره لما كان قد اتصف به من الخصال الذميمة، والأخلاق الجبروتية. وجلس ابنه المهدي على سرير الخلافة بحيلة من الربيع، وذلك أنه أوهم الناس عند موت المنصور بأنه حي لم يمت، فبايعوه على قلى من نفوسهم؛ إذ كانوا يرهبون ظلم أبي جعفر، ومع ذلك فإنهم كانوا يفضلونه على أبيه. وكان المهدي صاحب نسك وورع، ولبس الصوف، وعم الناس بأقصد العدل والمعروف، واستمالهم إليه، وحبب نفسه لهم، وكان يسمى «راهب بني العباس»؛ لدينه وتقاه، وهو الذي أمر بتتبع الزنادقة وإفنائهم ولو كانوا من أكابر الأدباء من الشعراء؛ فقد أمر بقتل صالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد؛ وغيرهما . وهو أول الخلفاء في تقريب أهل العلم والدين المبنيين على صادق الفضل والفضيلة؛ فهو غارس هذين النبتتين في جنة الخلافة العباسية، وكان من سبقه ممن تربع على سرير الخلافة لا يلتفت إليهما، مع أنهما ركناه المكينان. وكان يتخذ لأهل العلم والأدب في كل سنة أياما كالمواسم، يعرضون فيها عليه بضاعتهم من فن أو علم أو صناعة، ثم يجيزهم عليها بما طبع عليه من واسع الفضل والكرم. ومما سبق به المهدي سائر الخلفاء والأمراء من بني العباس أنه أدخل الصيد في جملة ملاهيه، فجمع بذلك إلى رعاية الأمة أبهة الملك، فكان يخرج إلى صيده في العدد المزينة والمواكب العظيمة، وهذا لا يعاب على الملوك إلا متى أفرطوا فيه، وكانوا أقرب به إلى البطر منهم إلى النزهة والرياضة. ومن أعمال المهدي بنايته جامع الرصافة، والكعبة، وتأسيس عيسا باذ، وإقامته ديوان المظالم، وديوان الأزمة، وإزالة ضرائب الخراج ورده الضياع على أصحابها، وكان قد ظلمهم إياها أبو جعفر إلى غيرها، وبقي مثابرا على البر حتى موته، وكان ذلك في 12 المحرم من سنة 199ه/814م عن 43 سنة. (4-3) الهادي
وجلس بعده على سرير الخلافة ابنه الهادي، وكان المهدي قد خلع في حياته عيسى بن موسى عن ولاية العهد، مما دل على أن الاستئثار بالمنافع هو من طبع العباسيين، وأن نار الفتن في الإسلام متأججة من اختلاف الرأي في مبايعة الخليفة، وطمع كل طائفة من الطامحين إليها بالاستئثار بالمنافع دون غيرها. ولم يشتهر الهادي بشيء يذكر سوى أنه تتبع الزنادقة وقتل منهم عددا غير يسير، وكان يحب اللهو، ويكثر من مجالسة النساء؛ حتى قصف عمره من فرط تمتعه بهن وولعه بالطرب واللهو، ومات بعد خلافته بسنة وشهر وعمره 23 سنة، وذلك في سنة 170ه/786م. (4-4) هارون الرشيد وبغداد
وقام بعده أخوه هارون الرشيد، وهو الذي أبقي له الذكر المخلد في ديار العراق؛ لأنه إذا كان المنصور باني بغداد، فالرشيد رافع لواء مجدها، ومؤسس حضارتها الصادقة؛ فلقد شعر بذكائه الثاقب ودهائه النادر المثال أن المملكة لا تقوم إلا على أربع دعائم: العدل، والعلم ، والإحسان، والمال. فمد بساط العدل بأنه ساوى بين رعاياه وإن اختلفت مذاهبهم ومشاربهم وأديانهم، فإنه لم يذل النصارى؛ إذ اتخذ أطباءه منهم، ولم يحتقر الصابئة؛ إذ كان منهم تراجمته وكتابه، ولم يتعرض للمجوس بسوء، ولم يؤذ الهنود البوذيين؛ إذ كان هندي في قصره وكان من أكبر أطبائه، وعدل فيهم جميعا، وأخذ بالحلم في رعايته للناس كأنه يخالف أبا جعفر في سياسة التحزب لقوم على قوم، أو لقوم دون قوم، وكان يذهب متنكرا في الأسواق ليتسمع ما يقوله الناس عنه، وليصلح ما كان يراه في نفسه من الأود والاعوجاج. وأما العلم فإنه كان على جانب عظيم منه، بل كان من مميزاته، وكان مطلعا على دقائقه ومقربا لذويه، ولما ثبت لديه ما للبرامكة من شغفهم به، ووقوفهم على أنواع المعارف، وما يتذرعون به من الوسائل لبثها في البلاد وتعميمها بين العباد؛ قربهم منه أشد القربى، وبغداد لم تبلغ ذاك الشأو من الرقي البعيد والكمال الفريد إلا بالبرامكة، والدليل على ذلك أننا نرى هذه الحاضرة بعد أن نكب الرشيد أولئك الوزراء العظام أخذت تتدهور من أوج عزها، بدون أن تتريث في تدهورها،
1
نعم، إن التدهور لم يكن سريعا في بادئ الأمر؛ أي في عهد المأمون بن الرشيد؛ لأن المأمون كان خريج البرامكة، فكان يعرف من أين تؤكل الكتف وكيف يسير بالبلاد وأهلها، أما بعد المأمون فكان التدهور سريعا.
وأما الإحسان فمما لا يحتاج إلى إثباته؛ فإن المؤرخين والإخباريين جميعهم يذكرون عنه أنه كان إذا حج يحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة التامة والكسوة الفاخرة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم بقدر زكاته، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، وكان يجود بالأموال الطائلة على أهل الأدب والشعر ما هو أشهر من القمر، وبمبالغ لا تكاد تصدق لكثرتها ووفرتها. وأما المال فإن الرشيد كان قد اتخذ لإنمائه جميع الوسائل التي أولها التجارة، ولا تجارة حيث لا أمان في السبل والطرق؛ ولهذا قام بتأمينها وإبعاد الذعار واللصوص عنها حتى تمكن التجار من السفر إلى البلاد القاصية، ليجلبوا منها ما ليس في حاضرتهم، فحملوا من جزائر جمكوت (اليابان) أنواع الثياب الحريرية، والآنية الرقيقة الحسنة الطلاء، والمصنوعات الدقيقة على الخشب الفاخر؛ ومن السيلي (شبه جزيرة كورية) أبا فخذين (نوع من العقار يستعمل في الطب القديم)، والإبريسم النادر المثال؛ ومن الصين الغريب والكمكان والند والستور والسروج والغضار والدار صيني والخولنجان؛ ومن تبت المسك والعود؛ ومن كشمير الشال والثياب المحكمة النسج؛ ومن ترمذ الكاغد الذي لا يحاكى ولا يقلد؛ ومن الهند والسند القسط والقنا والقرنفل والفاغية والخيزران والكافور والعود والجوزبوا والفلفل والزنجفيل والكبابة والنارجيل وثياب القطن والقطيفة والفيلة؛ ومن سرنديب (سيلان) أنواع الياقوت، والحجارة الكريمة، والبلور والألماس والدر، والسنباذج الذي يعالج به الجواهر؛ ومن بلاد فارس الآنية والخمر، والحديد والرصاص والأسلحة والمصوغات؛ ومن اليمن العطر والميعة والبخور والمر؛ ومن البحرين ونجد الحناء واللؤلؤ؛ ومن بلاد واق واق الذهب والآبنوس؛ ومن كله الرصاص القلعي؛ ومن ديار الجنوب البقم الداري؛ ومن بحر الروم المرجان أو البسد؛ ومن ديار الروم المصطكى والجلود، والغلمان والجواري؛ ومن أنحاء الروس جلود الثعالب والقاقم والفنك والخز، يأتي بها الروس إلى بغداد عن طريق الشام أو جرجان، ثم تنقل إلى داخل البلاد أو إلى أصبهان، فيتجر بها وبما ذكرناه من البياعات.
ومما يعد من مصادر الغنى والثروة، ترقية الصناعة، وقد أفرغ الرشيد كنانة سعيه لإعلاء شأنها، ودفعت زوجه زبيدة الناس إلى أن يزاولوها ويعالجوها بإتقان وسارت في مقدمتهم؛ فإنها صنعت بساطا من الديباج على صورة كل حيوان من جميع الضروب، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، وأنفقت عليه نحوا من مليون دينار، واتخذت الآلة من الذهب المرصع بالجوهر، وأمرت بأن يصنع لها الرفيع من الوشي، حتى بلغ الثوب الذي اتخذ لها من الوشي خمسين ألف دينار، واتخذت القباب من الفضة والآبنوس والصندل، وكلاليبها من الذهب الملبس بالوشي والديباج والسمور وأنواع الحرير، واتخذت لها خفا مرصعا بالجوهر ترصيعا عجيبا، وكل ذلك كان من صنع مهرة البغداديين . ومن صنعهم أيضا أنهم بنوا للخليفة المنصور قبة عظيمة عرفت بالقبة الخضراء، ووضعوا عليها تمثالا تديره الريح، كان على صورة فارس في يده رمح، فكان الخليفة إذا رأى ذلك الصنم قد استوى قبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها، علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت إلا وتوافيه الأخبار بأن خارجيا نجم من تلك الجهة أو كما قال. وفي أيامه صنعت تلك المزولة العجيبة التي أهداها الخليفة إلى شرلمان - إنبراطور الفرنجة - وكذلك الشطرنج البديع النقش الذي صنعه أحد النصارى، واسمه يوسف الباهلي كما يرى اسمه منقوشا على الأداة، وكان من ألطاف الخليفة إلى الإنبراطور المذكور. ومما يدل على أن الصناعة وسائر الفنون بلغت أقصى الشأو في عهد الرشيد، القصور التي بنيت في عهده، وكلها منجدة بأفخر الفراش والرياش، مما يكفينا مئونة الإطالة في هذا البحث.
ومن منابع الثروة التي تفيض بالأموال الطائلة «الزراعة»، والظاهر أنها بلغت في عهد الرشيد مبلغا لم يقاربه في ما سبق من أزمان الخلفاء، وأصدق دليل على ذلك دخل الغلال في عهده؛ فقد كان حاصل السواد (أعلى الجزيرة وأسفلها) ستين مليون درهم، وكان في زمن الحجاج عشرين مليون درهم لكثرة جوره وظلمه. وزيادة هذا الدخل لم يكن إلا بعد شق الأنهر وتنشيط الزراعة، وتأمين الحدود، واتخاذ الآلات اللازمة لمثل هذه الأمور.
ومما لا ينكر من موارد الثروة، ترتيب جباية الأموال من خراج وضرائب وعشور، فكان مجموع المحمول إليه في كل سنة نحوا من خمسمائة مليون درهم من الفضة، وعشرة آلاف مليون دينار من الذهب، فحمل الناس كثرة هذا المحمول على أن يعدلوه بالوزن لا بالعدد، فيقولون إنه يبلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب، إلا أن هذا إعياء ينتهي بالتفريط إلى المغالاة؛ لأن زنة القنطار ثلاثون ألف دينار، ولا يحتمل أن يكون في العالم ألفا مليون دينار في ذلك العهد، ولو فرضنا صحة وجودها آنئذ لما صح أن تحمل كلها إلى بيت المال ولا يبقى منها شيء في أيدي الناس لمعاملاتهم، فإن كان زعمهم بعيدا عن الصدق فلا أقل من كونه يدل على الكثرة، وأن المال كان يحمل إلى بغداد بالصبر لوفور الخير.
وما كان يدخل بيت المال في عهد الرشيد لم يكن يدخل نصفه في خزائن الأمويين والعباسيين الذين سبقوه، فلا يبعد أن كان عمالهم يبقون عندهم من الأموال ما لا يحملونه إليهم، لاختلاف تقديرها بين ثمانية وأربعين درهما من الأغنياء، وأربعة وعشرين من الصناع وأهل الحرف، واثني عشر من أهل الفاقة والإعواز دون أن يكون في الدواوين عمل ذلك. فلما قام جعفر البرمكي بالوزارة أقر على العمال ما هو مفروض عليهم من جزية وخراج وصدقات وغير ذلك، حتى أخذ يقيد الدخل في الدواوين من قبل أن يقبضه؛ ولذلك لم يبق للغش سبيل، إلا فيما يؤخذ من المكوس على البياعات، والزيادة في النفقات التي يتصرف فيها العمال، وليس هو إلا القليل في جانب الكثير من دخل الدولة.
ولقد امتدت دولة الرشيد في عهده امتدادا لم يسبق له نظير؛ فلقد أصبحت رقعتها تنبسط من الهند وفرغانة في الصين، إلى طرف المغرب الأقصى من ناحية الزقاق. كذلك كان امتدادها في زمن أبيه لا تنقص عنه إلا بما ضم إليها من الديار التي غلب عليها الروم في غزوات متواترة؛ إذ كان شأنه وقتالهم في حال دائمة كما كان شأن الخلفاء في مناوأتهم منذ صدر الإسلام إلى عهد المهدي، فلما ولي هذا أخرج إليهم الرشيد وهو فتى، فركب في عدة وأهبة لم يكن مثلها في الإسلام، وجاشت في نفسه نخوة الجهاد، حتى اتسم بسمة المقاتلة في الجيش وحمل الرمح في يده ، وكان يومئذ على عرش القسطنطينية ملكة اسمها «إيريني» لم تطق مقاومته، فهزم جندها، وتفرق المسلمون في البسائط يجاهدون ولا يبقون على أحد من الروم، حتى إذا نزل بجوار القسطنطينية وشرع في ضربها بالنار، خافت عليها من الحريق، فصالحته على كليكية، وحملت إليه الجزية التي كان يحملها أسلافها إلى الخلفاء.
ولما ولي الرشيد وقع في نفس الروم أن يتخلصوا من ربقة الطاعة في عهد نقفور ملكهم، فكتب هذا إليه ما نصه:
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرخ، وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ، فأد إلي ما كانت المرأة تؤده إليك.
فكتب إليه الرشيد على ظهر كتابه:
من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، أما بعد: فقد فهمت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام على من اتبع الهدى.
ويقال إنه كتب: «الجواب ما تراه لا ما تسمعه، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.» وعلى أثر ذلك زحف الرشيد بخيله ورجله، فكانت له اليد العليا عليه، واضطر الروم إلى المسالمة والموادعة، وأوجبوا على نفوسهم حمل الجزية، ولقد غزاهم غزوات جمة ولم يخفق في واحدة منها.
والخلاصة: كان هارون الرشيد في عهده كما كان أوغسطس قيصر ملك الرومان في عصره، وما يكون لويس الرابع عشر ملك الفرنسويين في القرن الثامن عشر للميلاد. على أن الذي يلام عليه الرشيد إلى أبد الدهر هو نكبته للبرامكة، وإفناؤه لهم عن آخرهم، وبذلك هدم الدولة العربية وحضارتها، وأهوى بها من حالق إلى أسفل سافلين. وقد ذهب الناس في سبب هذه النكبة مذاهب شتى، منها: أن الرشيد نكب البرامكة؛ لأن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي خالط العباسة أخت الرشيد، وهذا لا حقيقة له، فلو فرضنا أن ما ينسب إلى جعفر قد وقع فإن الرشيد ما كان يقتل إلا المذنب نفسه؛ إذ يعلم أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهل يمكن له - وهو العاقل المحنك - أن يقتل الأسرة كلها بذنب واحد منها؟! فهذا الرأي إذا فطير. وذهب آخرون إلى أن سبب النكبة هو امتلاء صدر الرشيد حسدا مما رآه في جعفر من الهمة البعيدة في تنشيط العلماء، وتعريب كتب الأجانب، فأراد أن يمحو ذكر البرامكة بإبقاء ذكره، وهذا أيضا رأي فج؛ لأن قتل الرجال لا يمحو آثار الأبطال، بل يزيدها ذكرا ومجدا وتخليدا. وذهب ابن خلدون بعد تفنيد بعض هذه الآراء إلى أن سبب النكبة كان من استبدادهم بالدولة واحتجابهم أموال الجباية، وهذا أيضا ضعيف؛ لأنه لو كان الأمر كما يزعم الناقد المذكور لكان اكتفى الرشيد بخلعهم من الوزارة ومصادرة ما بيدهم من الأموال الطائلة وعزلهم عن كل وظيفة، لا قتلهم.
وذهب فريق من الناقدين إلى أن سبب هذه النكبة كان التجاء الناس في جميع أمورهم إلى البرامكة دون أمير المؤمنين، وهذا أيضا لا يوجب القتل، ولو صدق أن سواد العوام كانوا يلتجئون إليهم في دعاويهم وظلاماتهم لكان كفى الرشيد أن ينزع منهم وظائفهم، فيصبحوا من الرعايا، فلا يلتفت إليهم أحد. والذي نراه نحن أن سبب هذه النكبة العظمى هو سياسي، وهو تحزبهم لأهل البيت؛ فقد قال الرشيد يوما لأبي معاوية: «هممت أنه من يثبت خلافة علي بن أبي طالب فعلت به وفعلت به.» وقد قال جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد المقرب منه إن الرشيد تحول عليهم بتمحل الفضل بن الربيع الذي يتعصب على أهل البيت، ويذكر له ما على باب البرامكة من الجيوش والغلمان والمواكب، ويخوفه استفحال ملكهم في خراسان وفارس، ويوهمه تمحلهم في إزالة الأمر من يده، وأن مال الدولة وجندها في أيديهم، فلما تحقق الأمر صمم على إبادتهم؛ لأنهم جميعا كانوا على هذه الفكرة، يشهد على ذلك أن العلويين الذين ساروا إلى المغرب نزحوا بإيعاز البرامكة؛ إذ كانوا لهم متحزبين ومتعصبين، وهم الذين قلدوهم الولايات بدون أن يتعمدوا ضرر الرشيد، بل تمكينا لدعائم الدولة الإسلامية في العالم، ومشاطرتهم بعض الولايات ليلهوا بها عن الطموح إلى الخلافة ودس الدسائس وإحداث الفتن.
ومجمل الكلام أنه كان للرشيد محاسن ومساوئ، وهي تكاد تتعادل، ومن آثاره الجليلة أنه اتخذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، وبنى الثغور ومدن المدن، وحصن فيها الحصون، مثل طرسوس، وأذنة، وعمر المصيصة ومرعش، وأحكم بناء حرب (على طريق حاج صنعاء)، إلى غيرها من دور السبيل والمواضع للمرابطين. ومما أدخله الرشيد في عالم الحضارة ثم تبعه ملوك الإفرنجة على اختلاف طبقاتهم وبلادهم، واليوم أخذ يتبعه جميع المتمدنين في ديار الإفرنج: الألعاب الرياضية البدنية، والألعاب الفكرية. فالرشيد هو أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان، ورمى بالنشاب بالبرجاس، ولعب بالكرة والطبطاب، وهو اللعب الذي قد أغرم به الإنكليز أشد الغرام، وقرب الحذاق والمهرة في هذه الألعاب، حتى عم الناس ذلك الفعل حصولا على الجوائز التي كان يحسن بها الرشيد على المبرزين فيها، وطمعا بنظر الخليفة إليهم، وكان أيضا أول من لعب بالشطرنج من آل عباس، وكذلك بالنرد (الطاولة)، وقدم اللعاب وأجرى عليهم الأرزاق، فسمى الناس أيامه لنضارتها وخصبها «أيام العروس».
وكانت وفاته في طوس سنة 193ه/809م، وكانت خلافته نيفا وثلاثا وعشرين سنة، وكان عمره خمسا وأربعين سنة وشهرين و16 يوما، ودفن هناك بطوس. (4-5) الأمين
وقام بعده ابنه الأمين في 19 جمادى الآخرة سنة 193ه/21 نيسان سنة 808، وكان ذا قوة مفرطة، وبطش، وشجاعة معروفة، وله فصاحة وبلاغة وأدب وفضيلة، لكن كان سيئ التدبير، كثير التبذير، ضعيف الرأي، أرعن، لا يصلح للإمارة، فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة، وكان حسن له خلع أخيه المأمون من ولاية العهد وتولية ولده موسى، فكاتبه يستدعيه إلى بغداد، فعرف السبب واستدعاءه فامتنع، ونفذ عسكره صحبة طاهر بن الحسين، ونفذ الأمين أيضا عسكرا، فالتقوا فانكسر عسكر الأمين وغنمت أموالهم، ونزل عسكر طاهر بن الحسين على بغداد محاصرا لها، وكان الأمين متشاغلا بلهوه ولعبه، وذاك مجدا في القتال والحصار واستمالة العساكر والوجوه، إلى أن ظفر بالأمين فقتله ليلة الأحد خامس المحرم سنة 198ه/6 أيلول سنة 813م بالجانب الشرقي، وقد عبر في سفينة، فأمسك وحمل رأسه إلى المأمون وهو بخراسان، ودفن جسده في مقابر قريش، وكانت خلافته 4 سنين و4 أشهر، وليس له عقب في الخلافة والخلفاء من ولد أخيه المعتصم. (4-6) المأمون
في السنة التي قتل فيها محمد الأمين (198ه) ورد كتاب من المأمون بعد قتل أخيه بخلع القاسم بن هارون الرشيد، وفيها بويع المأمون البيعة العامة في 15 المحرم (16 أيلول سنة 813)، والمأمون هو أعظم خليفة عباسي قام في بغداد، وإن تكن الشهرة لأبيه هارون، فقد قال السيوطي: كان أفضل من رجال بني العباس حزما وعزما، وحلما وعلما ورأيا، ودهاء وهيبة وشجاعة، وسؤددا وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة، أدبه اليزيدي، وجمع الفقهاء من الآفاق، وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس، ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها، فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. ولم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحا مفوها، وكان يقال لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة: السفاح، والواسطة: المأمون، والخاتمة: المعتضد. وكان معروفا بالتشيع، حتى إنه خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده «علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق»، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضى، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتد ذلك على بني العباس وخرجوا عليه، وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولقب المبارك، فجهز المأمون لقتاله، وجرت أمور وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق فلم ينشب علي الرضى أن مات في سنة ثلاث ومائتين، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أياما، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين، ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة، فتوقف ثم أجاب إلى ذلك. ا.ه.
وقال صاحب كتاب «خلاصة الذهب المسبوك»: «كان المأمون شهما أبي النفس، أخذ من جميع العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، واستخرج كثيرا من كتب الطب وترجمت له، واستخرج إقليدس وترجم له، وعقد المجالس للمناظرة بين أهل العلم في الأديان والمقالات، وغزا الروم، وفتح فتوحات كثيرة، وكان جوادا موصوفا بالحلم، وعفوه عن إبراهيم بن المهدي - عمه - وقد نازعه رداء الملك بعد أن بويع له بالخلافة مشهور، وعفوه عن الفضل بن الربيع الذي جلب الحرب بينه وبين أخيه الأمين معلوم، وعن الحسين بن الضحاك، وقد بالغ في هجائه وأطنب في تقبيح ذكره تعصبا لأخيه الأمين مفهوم.»
وقال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: «إن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم، لحاجة الناس طرا إليها، فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية، فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم، ثابت الهمم من غفلتها، وهبت الفطن من ميتتها. وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، وكان مع براعته في الفقه كلفا في علم الفلسفة، وخاصة في علم النجوم. ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة الترجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، وترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حرض الناس على قراءتها، ورغبهم في تعليمها، فكان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظراتهم، ويلتذ بمذاكراتهم؛ علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنائع العملية، والتباهي بأخلاق النفس الغضبية، والتفاخر بالقوى الشهوانية؛ إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها وتفضلهم في كثير منها.
فمن المنجمين في أيام المأمون: حبش الحاسب، المروزي الأصل البغدادي الدار، وله ثلاثة أزياج، وأحمد بن كثير الفرغاني، صاحب المدخل إلى علم هيئة الأفلاك ، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، كبير القدر في علم النجوم، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ويحيى بن أبي المنصور، ولما عزم المأمون على رصد الكواكب تقدم إليه وإلى جماعة من العلماء بالرصد وإصلاح آلاته، ففعلوا ذلك بالشماسية ببغداد، وجبل قاسيون بدمشق. ومن الحكماء: يوحنا بن البطريق الترجمان، مولى المأمون، كان أمينا على ترجمة الكتب الحكمية، حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب . ومن الأطباء: سهل بن سابور، ويعرف بالكوسج، ويوحنا بن ماسويه، وجيورجيس بن بختيشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، وجبريل الكحال؛ وغيرهم وهم كثيرون.»
توفي المأمون يوم الخميس عاشر شهر رجب 218ه (2 آب 833) بالقرب من طرسوس، فحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إليها، فدفناه في دار خاقان، خادم الرشيد، وكان ذاهبا يريد غزو بلاد الروم، وكان عمره سبعا وأربعين سنة وستة أشهر وعشرة أيام، وخلافته عشرين سنة، ولا عقب له في الخلافة، والخلفاء من ولد أخيه المعتصم. (4-7) المعتصم
والمعتصم هو ابن الرشيد، ولد يوم الاثنين 10 شعبان من سنة 170 (19 ت1 سنة 796م)، وأراد الناس أن يبايعوا العباس بن المأمون، فأبى هذا، وسلم الأمر إلى عمه المعتصم، فتوجه إلى بغداد مسرعا، فوافاها غرة شهر رمضان 218ه/20 أيلول سنة 833م، وأقام بها سنتين، ثم توجه إلى موضع سر من رأى (سامراء)، فبناها واتخذها دار ملك له. وله بسامراء الآثار الحسنة والأبنية العظيمة. قيل إن مساحتها سبعة فراسخ، وحفر نهر الإسحاقي، وعمل تل المخالي، وبنى سورا للصيد، وبنى الجامع الكبير وأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وجعل وجوه حيطانه مرايا، بحيث يرى القائم في الصلاة من يدخل من خلفه، وبنى المنارة التي يقال إنها من إحدى عجائب الدنيا. وهو أول خليفة أدخل الأتراك الديوان، وكان يتشبه بملوك الأعاجم ويمشي مشيهم، وبلغت غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا، وألبسهم أطواق الذهب والديباج، وكانوا يطردون الخيل في بغداد، فضاقت بهم المدينة، وتأذى منهم الناس، فبنى المعتصم «سر من رأى». وكان غيورا على الدين، فقد قتل من الخرمية ستين ألفا، وكان أشد من أخيه المأمون في القول بخلق القرآن. وفي سنة 219 (834م) أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن، فلما لم يجب بكونه مخلوقا أمر به فجلد جلدا شديدا حتى غاب عقله، وتقطع جلده. وقال أبو الفرج الملطي: «كان أبو هارون البكاء من العلماء المنكرين لخلق القرآن، يقر بكونه مجعولا لآية وردت، وهي:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ، ويسلم أن كل مجعول مخلوق، ويحجم عن النتيجة ويقول: «لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول.» وهذا عجب عجاب. وغزا المعتصم بلاد الروم، ففتح عمورية، وقتل من نصاراها ثلاثين ألفا، وأسر ثلاثين ألفا.» وفي سنة 227 توفي المعتصم يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول (7 ك2 سنة 841) عن ثمانية بنين وثماني بنات، وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام حسابا هجريا؛ ولهذا سمي المثمن، وكان عمره 48 سنة، ودفن بسامراء. (4-8) الواثق
وقام على سرير الخلافة بعده ابنه الواثق بالله، وكانت أمه رومية اسمها قراطيس، ولد لعشر بقين من شعبان سنة 196ه /27 نيسان سنة 812م وولي الخلافة بعهد من أبيه. بويع له في 19 ربيع الأول سنة 227 (8 ك2 سنة 842). وفي سنة 228 استخلف على السلطنة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجا مجوهرا، وهو أول خليفة استخلف سلطانا. وكان من الخلفاء القائلين بخلق القرآن، وقد ضرب بيده في بغداد عنق أحمد بن نضر الخزاعي لقوله بالخلاف، ثم صلب جثته في سر من رأى، واستمرت جثته معلقة ست سنين، إلى أن ولي المتوكل فأنزلها ودفنها. وكان يحسن إلى الطالبيين، حتى إنه لم يمت فيهم واحد وهو فقير. وكان وافر الأدب، مليح الشعر، وكان أعلم الخلفاء بالغناء، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقا بضرب العود، وأحرقت الكرخ في أيامه، وتشاغل الأغنياء بعمارة منازلهم، وعجز الفقراء عن عمارة أملاكهم وانتقلوا عنها، فأطلق للفقراء منهم مليون درهم معونة لهم على إصلاح دورهم. وفي عهده غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية، وفتحوا مدينة مسينة في عهد الملكة ثئودورة، وكانت ملكة بعد ثئوفيل ملك الروم، وابنها ميكائيل بن ثئوفيل، وهو صبي . ومات الواثق بداء الاستسقاء يوم الأربعاء 27 ذي الحجة من سنة 232 (15 آب سنة 847م)، ودفن بسامراء، وكانت خلافته 5 سنين و3 أشهر و15 يوما. (4-9) المتوكل
هو ابن المعتصم بن الرشيد، ولد سنة 207 (822م)، وبويع له بالخلافة في ذي الحجة سنة 232 (تموز سنة 847م) بعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكان يظهر من سب علي بن أبي طالب والاستهزاء بذكره كثيرا، بخلاف ابنه المنتصر، فإن الأغلب عليه التشيع وحب علي. والمتوكل هو الذي أخمد المعتزلة، وكانوا في قوة ونماء إلى أيام المتوكل ، ولما مرض الواثق ائتمر إيداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات في قتل المتوكل في التنور وفي الماء البارد على رأي من يغلب أمره على الآخر، فلما قام المتوكل بأمر الخلافة عذب محمد بالتنور الذي صنعه ليعذب فيه الناس، وكان من حديد وداخله مسامير غير مثنية، وكان يسجر بحطب الزيتون حتى يصير كالجمر، ثم يدخل الإنسان فيه، وعذب إيداخ بالماء البارد على ما كان يريده للمتوكل. وفي سنة 235 ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل. وفي سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته وخرب وبقي صحراء. وكان المتوكل معروفا بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، وكان منهمكا في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سرية عرفهن كلهن، واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور، فاتفقوا مع ابنه المنتصر على قتله، فدخل عليه خمسة منهم وهو في جوف الليل في مجلس لهوه، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان في 5 شوال سنة 240 / 28 شباط سنة 855)، فكانت مدة خلافته 14 سنة و9 أشهر، ودفن بسر من رأى. (4-10) المنتصر
قام بأمر الخلافة بعده ابنه المنتصر، بويع له في الصبيحة التي قتل فيها أبوه، وخلع أخويه من البيعة التي أخذها أبوهما لهما على الناس، وكانت ولادته في سر من رأى في شهر ربيع الأول، من أمة أم ولد رومية في سنة 224 (ك2 سنة 839م)، ولما ولي صار يسب الأتراك ويقول: «هؤلاء قتلة الخلفاء.» وقيل أنه جلس في بعض الأيام للهو، وقد استخرج من خزائن أبيه فرشا، فأمر بفرشها في المجلس، فرأى في بساط ديباج دائرة فيها فارس وعليه تاج، وحوله كتابة فارسية، فطلب من يقرأ ذلك، فأحضر رجل، فنظره فقطب. فقال: ما هذه؟ قال: لا معنى لها. فألح عليه. فقال:
أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أتمتع بالملك إلا ستة أشهر.
فتغير وجه المنتصر، وأمر بإحراق البساط، وكان منسوجا بالذهب، وكان الأتراك قد هموا بقتله فعجزوا عنه، فتحيلوا إلى أن دسوا إلى طبيبه ابن طيفور 30 ألف دينار في مرضه، فأشار بفصده، ثم فصده بريشة مسمومة، فمات في 5 ربيع الآخر سنة 248 (9 حزيران 862م) عن 26 سنة أو دونها، فلم يتمتع بالخلافة إلا أشهرا معدودة دون ستة أشهر، ودفن بالجوسق في سامراء. (4-11) المستعين
فبايع الأمراء وأكابر المماليك الأتراك للمستعين بالخلافة ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، وعمره إذ ذاك 28 سنة؛ لأن ولادته كانت في سر من رأى في 7 رجب 221 (27 حزيران 836م)، ولم يولوا أحدا من ولد المتوكل لئلا يطالب بدمه. وكان مغرما بحب النساء، واستمر في الخلافة إلى أول سنة 251، فتنكر له الأتراك لما قتل وصيفا وبغا ونفى باغر التركي الذي قتل المتوكل، ولم يكن للمستعين مع «وصيف» و«بغا» إلا أن يقول ما يقولان؛ ولهذا قيل فيه:
خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا
ألجئ المستعين إلى خلع نفسه في 13 المحرم سنة 252 (4 شباط 866م)، وكانت خلافته 3 سنين و8 أشهر، وقتل بعد الخلع بالقادسية قرب سامراء، قتله بغا التركي، وأخذ رأسه فحمله إلى ابن عمه المعتز، ودفن بسر من رأى عن 30 سنة وثلاثة أشهر، ولا عقب له في الخلافة. (4-12) المعتز
ولد المعتز في 16 شهر ربيع الأول من سنة 233 (31 ت1 847 م)، أمه رومية أم ولد، اسمها قنجة، ويروى قبيحة. بويع له بالخلافة بعد خلع ابن عمه المستعين، وبعد مبايعته بالخلافة أخرج أخاه المؤيد من الجوسق، وخلع عليه خلعة الملك، ثم بلغه عنه أنه يريد الوثوب عليه فحبسه، ثم وجد بعد ذلك ميتا في حبسه. وهو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب، وكان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة، وكان المعتز مستضعفا مع الأتراك، فبعثوا إليه يقولون له: اخرج إلينا. فبعث يقول: قد شربت دواء وأنا ضعيف. فهجم عليه جماعة، وجروا برجله، وضربوه بالدبابيس في يوم صائف وهم يلطمون وجهه ويقولون: اخلع نفسك. فخلعها. ثم إن الملأ أخذوه إلى الحمام بعد خلعه بخمس ليال وأدخلوه إياه، فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء، ثم أخرج وهو أول ميت عطشا، فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتا ، وذلك في شهر شعبان في سامراء، فدفن فيها في موضع يقال له السميذع عن 23 سنة. وكانت مدة خلافته 4 سنين و6 أشهر و14 يوما. (4-13) المهتدي
قام على سرير الخلافة يوم خلع ابن عمه المعتز بالله، وكانت ولادته في سنة 218 (833م). أمه أم ولد يقال لها قرب، ويروى: وردة. قال المهتدي عن نفسه: «ما زلت أقول القرآن مخلوق، صدرا من خلافة الواثق، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دواد شيخا من أهل أذنة، فرجعت عن هذه المقالة.» وكان المهتدي ورعا متعبدا عادلا قويا في أمر الله، بطلا شجاعا، لكنه لم يجد ناصرا ولا معينا، ووجد له سفط فيه جبة صوف وكساء، كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي وحرم الغناء، وحسم أطماع أصحاب السلطان عن الظلم، وأمر أن يحد شارب الخمر كائنا من كان. وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب. وكان الأتراك قد اتفقوا على خلعه لما كان نهاهم عن جميع المنكرات التي اعتادوها، فحاربوه، فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأشروسنية، وقتل من الأتراك في يوم واحد أربعة آلاف. ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة، وأمسك هو فعصر على أنثييه فمات. وذلك في رجب سنة 256، ودفن بدار محمد بن خاقان بسر من رأى إلى جانب المعتز. فكانت خلافته 11 شهرا و17 يوما، وعمره 37 سنة و4 أشهر و10 أيام. وكان لما قامت الأتراك عليه ثار العوام وكتبوا رقاعا وألقوها في المساجد، ومن جملة ما فيها:
يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العادل المضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه. (4-14) المعتمد
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه: أحمد المعتمد على الله بن المتوكل. ولد سنة 229 (843م)، أمه أم ولد يقال لها فنان، ويروى: قينان، رومية. وبويع له بالخلافة يوم قتل ابن عمه المهتدي بسر من رأى، وكان له اسم الخلافة، ولأخيه الموفق ابن المتوكل تدبير الملك. ولما مات الموفق قام بتدبير شئون الملك بعده ابنه أحمد المعتضد بن الموفق، وغلب على عمه المعتمد كما كان أبوه غالبا عليه ، وكان المعتمد يطلب الشيء اليسير فلا يناله، ولم يكن له سوى الاسم. وكان منهمكا في اللهو واللذات، يسكر ويعض يده. توفي يوم الاثنين 15 رجب 279 (12 ت1 سنة 892م) فجأة ببغداد، وحمل إلى سامراء ودفن بها. ومدة خلافته 23 سنة و6 أيام، وعمره 50 سنة. (4-15) المعتضد
المعتضد بالله: هو ابن الموفق بن المتوكل. ولد في سر من رأى في ذي القعدة سنة 242/كانون الثاني 857م. أمه أم ولد اسمها خفير، وقيل: صواب، وقيل: حرز، وقيل: ضرار، وقيل: ضفير، لم تدرك خلافته. بويع له بالخلافة يوم الاثنين 12 رجب سنة 279 (9 ت1 سنة 892). وكان ذا رأي وحزم وشجاعة، وعدل في الرعية، حتى إنه تقدم إلى كافة أصحابه وخواصه أن يلزموا الطريقة المثلى، وأمرهم بأخذ أصحابهم بمثل ذلك، وقرر أنه من تعدى الواجب وأفسد وتناول أحدا من الرعية بأذى، كان هو المؤاخذ بذلك المقابل عليه دون الجاني، وشاع ذلك في الأجناد، وانكفوا وسلكوا أحسن مسلك، وحج وغزا. وفضائله كثيرة، وآثاره عظيمة، وهو أول من سكن دار الخلافة ببغداد وانتقل من سامراء. وكنا قد سبقنا فقلنا إن المعتصم هو الذي كان قد انتقل إليها من بغداد، وكل من جاء بعده - أي الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد - سكنوا جميعا سامراء. وكان سبب رجوع المعتضد إلى بغداد أن قصر الحسن بن سهل انتقل إلى بوران ابنته وزوجة المأمون، فاستنزلها المعتضد عنه، فرممته وفرشته بأجل الفرش، وملأت خزائنه بما يخدم به الخلفاء، وربت فيه الجواري والخدم وما تدعو إليه الحاجة، ثم انتقلت عنه وراسلته بالانتقال فانتقل، ووجد فيه ما استحسنه واستكثره، ثم إنه أضاف إلى القصر ما جاوره ليوسع الدار بذلك، وعمل عليه سورا. وكان المعتضد يسمى السفاح الثاني؛ لأنه جدد ملك بني العباس، لكنه كان كثير إتيان النساء، ومات من الإفراط فيهن، وذلك نهار الاثنين 22 ربيع الآخر سنة 289ه (7 نيسان سنة 902) في قصره المعروف بالحسني في بغداد، ودفن ليلا في دار محمد بن طاهر في الجانب الغربي من الدار المعروفة بدار الرخام، وكانت مدة خلافته 6 سنين و6 أشهر و20 يوما. وكان من آثاره الحسنة القصر المعروف بالتاج ، أو الحسني، المشرف على دجلة بدار الخلافة (في بغداد)، وما وراءه من القباب والمجلس. (4-16) المكتفي
المكتفي: هو ابن المعتضد، ولد في غرة شهر ربيع الآخر سنة 264 (11 ك1 سنة 877م) أمه أم ولد تركية اسمها جيجك. بويع له بالخلافة بعد موت أبيه المعتضد في شهر ربيع الآخر سنة 289 (902م)، وأخذ له أبوه البيعة في مرض موته، ولما سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان قد اتخذها أبوه لأهل الجرائم، وكان يميل إلى حب علي بن أبي طالب، بارا بأولاده. مات المكتفي شابا في ليلة الأحد 12 ذي القعدة سنة 295 (14 آب 908م). (4-17) المقتدر
المقتدر بالله: هو ابن المعتضد، ولد في رمضان سنة 282 (ت1 سنة 895م)، وأمه رومية، وقيل تركية، أم ولد، اسمها شغب، وقيل غريب، أدركت خلافته. بويع بالخلافة يوم مات أخوه المكتفي وهو ابن 13 سنة، ولم يل الخلافة من قبله أصغر سنا منه. وعمل الصولي كتابا في جواز ولايته، واستدل بأن الله تعالى بعث يحيى بن زكرياء ولم يكن بالغا، وخلع مرتين وأعيد، وفي إحدى المرتين بويع عبد الله بن المعتز، وكان ابن المعتز أكثر العباسيين فضلا وأدبا ومعرفة موسيقى، وأشعر الشعراء مطلقا في التشبيهات المبتكرة الغريبة المرقصة التي لا يشق غباره فيها أحد، ولما بايعوه بالخلافة سموه الغالب بالله. ثم أرسل المقتدر وقبض على ابن المعتز، وقتله في حبسه، واستقام له الأمر. وفي المرة الثانية اجتمع القواد والجند والأكابر والأعيان والأصاغر مع يونس ونازوك، وتشاوروا على خلع المقتدر، فألزموه بأن كتب رقعة بخطه بخلع نفسه، ففعل، وأشهد عليه بذلك، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر، فأحضر أخاه محمد بن المعتضد، ولقب بالقاهر بالله بعد أن بايعوه، وذلك في منتصف المحرم من سنة 319 (العشر الأول من شباط سنة 931)، ثم بعد يومين تغير الجند واختلفوا وقتلوا نازوك، وأقاموا القاهر من مجلس الخلافة، وأعيد المقتدر وجددت له البيعة، وذلك بعد يومين. وفي أيامه أمر اليهود والنصارى ألا يركبوا إلا بالأكف، وألا يستخدموا في وظيفة. وفي عهده قتل الحسين الحلاج، وفي زمنه فتح مارستان أم المقتدر، وكان مبلغ النفقة فيه في العام الواحد سبعة آلاف دينار. وفي سنة 306 صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القضاه والأعيان، وتبرز التواقيع وعليها خطها. وكان المقتدر جيد العقل، صحيح الرأي، لكنه كان مؤثرا للشهوات والشراب مبذرا، وكانت النساء غلبن عليه، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها، وأعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة، ووزنها ثلاثة مثاقيل، وأعطى زيدان القهرمانة سبحة جوهر لم ير مثلها، وأتلف أموالا كثيرة، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصي، غير الصقالبة والروم والسود. قتل يوم الأربعاء 27 شوال سنة 320 (1 ت2 سنة 932م) بالشماسية، وقد خرج لقتل مؤنس، فلما التقى الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة، فسقط إلى الأرض، ثم ذبحه بالسيف ورفع رأسه على رمح وسلب ما عليه، وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش، ثم حفر له بالموضع ودفن وأخفي قبره. وكانت خلافته منذ بويع إلى أن قتل أربعا وعشرين سنة و15 يوما، وكان عمره 38 سنة. (4-18) القاهر
هو ابن المعتضد، مولده في 5 جمادى الأولى من سنة 287 (9 أيار 900م)، أمه أم ولد، اسمها قبول، ويقال فتنة. لما قتل المقتدر أحضر هو ومحمد بن المكتفي ، فسألوا ابن المكتفي أن يتولى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمي هذا أحق به. فكلم القاهر فأجاب فبويع، ولقب القاهر بالله، كما لقب في سنة 317ه، وأول ما فعل أن صادر آل المقتدر وعذبهم، وضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب، ونسي هذا الخليفة ما يفعل الله بالقتلة وما يخبئه له الزمان في مطاوي ثوبه الضافي، وكأنه لم يتذكر ما مر به من العبر في تاريخ أجداده. وممن قتلهم أيضا جماعة من أكابر الدولة، وذلك أنه في سنة 321 شغب عليه الجند، واتفق مؤنس وابن مقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي، فتحيل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم وذبحهم، وطين على ابن المكتفي بين حائطين، وأما ابن مقلة فاختفى فأحرقت داره، ونهبت دور المخالفين، فزيد في ألقابه: المنتقم من أعداء دين الله ، ونقش ذلك على السكة. وأمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو، وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سوادج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يفتر من سماع الغناء. وفي سنة 322 قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافته، ألقاه على رأسه في بئر وطمت، وذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية واشتراها، فحقد عليه. وفي السنة المذكورة تحرك الجند عليه؛ لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم؛ وغير ذلك، فأجمعوا على الفتك به، فدخلوا عليه بالسوق فهرب، فأدركوه وقبضوا عليه في 6 جمادى الآخرة (25 أيار 934م)، وبايعوا أبا العباس أحمد بن المقتدر، ولقبوه الراضي بالله.
قال محمود الأصبهاني: «كان سبب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدماء، فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه، أن كحلوه بمسمار محمي فسالتا على خديه.» وقال الصولي: «كان أهوج، سفاكا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلون والاستحالة، مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل، وكان قد صنع حربة يحملها فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانا.» وقال المسعودي: «أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه مالا عظيما، فلما خلع وسمل طولب بها فأنكر، فعذب بأنواع العذاب، فلم يقر بشيء، فأخذه الراضي بالله فقربه وأدناه، وقال له: قد ترى مطالبة الجند بالمال، وليس عندي شيء، والذي عندك فليس بنافع لك، فاعترف به. فقال: أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان. وكان قد أنشأ بستانا فيه أصناف الشجر حملت إليه من البلاد، وزخرفه وعمل فيه قصرا، وكان الراضي مغرما بالبستان والقصر، فقال: وفي أي مكان المال منه؟ فقال: أنا مكفوف لا أهتدي إلى مكان، فاحفر البستان تجده. فحفر الراضي البستان وأساسات القصر، وقلع الشجر فلم يجد شيئا. فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مال؟ وإنما كانت حسرتي في جلوسك في البستان وتنعمك، فأردت أن أفجعك فيه. فندم الراضي وحبسه، فقام إلى سنة ثلاث وثلاثين، ثم أطلقوه وأهملوه، فوقف يوما في جامع المنصور في بغداد بين صفوف الخلق وعليه مبطنة (جبة) عنابية وقد ذهب وجهها وبقي بعض قطن بطانتها وهو يقول: «تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين، وأنا اليوم من فقراء المسلمين.» وكان ذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه، فمنع من الخروج إلى أن مات في منزله بدار ابن طاهر بالحريم، سنة 339 في 3 جمادى الأولى عن 53 عاما.» وكانت خلافته 6 سنين و6 أشهر و7 أيام، ودفن إلى جانب أبيه المعتضد. (4-19) الراضي
هو ابن المقتدر، بويع له بالخلافة يوم خلع عمه القاهر. وكان مولده في رجب سنة 297 (آذار 910م) بالدار بالبدرية. أمه أم ولد رومية اسمها ظلوم، أدركت خلافته. انتدب الأمير محمد بن رائق، وجعله أمير الأمراء، وفوض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء، ومنذ ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد ولم يبق إلا اسمها، والحكم للأمراء والملوك المتغلبين، وكل من حصل بيده بلد ملكه ومانع عنه، فتمزقت أعضاء الخلافة كل ممزق. فالبصرة وواسط الأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه. وفارس بيد عماد الدولة بن بويه. والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان. ومصر والشام في يد الإخشيد بن طغج. والمغرب وإفريقية في يد المهدي. والأندلس في يد بني أمية. وخراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني. واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي. وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها، فبطلت دواوين المملكة ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها وعم الخراب لذلك، وأصبح المسمون بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة: العباسي في بغداد، والأموي في الأندلس، والمهدي صاحب المغرب في القيروان.
وفي سنة 326 خرج «بجكم» على «ابن رائق» فظهر عليه، واختفى ابن رائق، فدخل «بجكم» بغداد، فأكرمه الراضي ورفع منزلته ولقبه بأمير الأمراء، وقلده إمارة بغداد وخراسان. وفي سنة 327 أطلق القرمطي طريق الحاج على أن يؤدى له عن كل حمل خمسة دنانير، فحج الناس، وهي أول سنة أخذ فيها المكس من الحجاج. وفي سنة 329 اعتل الراضي لكثرة غشيانه للنساء، وكانت علته الاستسقاء والتنحنح، فتوفي ليلة السبت 15 ربيع الأول بعد أن قاء دما كثيرا (19 ك1 سنة 940) وهو ابن 32 سنة وأشهر. وكانت خلافته 6 سنين وعشرة أشهر. قال الخطيب: «كان للراضي فضائل، منها أنه آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين، وآخر خليفة سافر بزي القدماء.» (4-20) المتقي
ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو العباس إبراهيم المتقي بالله بن المقتدر، بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي وهو ابن أربع وثلاثين سنة. وكانت ولادته في شعبان سنة 297 (نيسان سنة 910م). أمه أم ولد، اسمها خلوب، وقيل زهرة، أدركت خلافته. وكان فيه صلاح وكثرة صيام، كثير العدل بين الملوك، وله صدقات جمة، وكان فيه دين وعبادة وحفظ عهد، وغير مكترث لجمع المال ولا حفظه كما فعل من تقدمه. ومن وفائه وحفظ عهده أنه كانت له جارية قبل خلافته، فلم يتغير عليها، ولا ابتاع غيرها، وكان قد امتنع عن قبول الخلافة إلا برضى القاهر، وقال له: «يا عم، أنت تعلم أنني مخير، فإن خلعت نفسك وسلمتها جلست، وكان الاسم لي فيها والمشورة إليك.» فسره قوله وضمه إلى صدره وقال له: «يا ابن أخي، ظلمني أخوك الراضي، وقد طبت نفسا بقولك.» ثم خلع نفسه وأنفذ إليه مائة ألف دينار من دفائن كانت عنده. وفي أيامه عمر جامع براثا (هو اليوم مسجد المنطقة على طريق الكاظمية)، وصليت فيه الجمعة في جمادى الأولى من سنة 329 (شباط 941م)، وفي سنة ولايته سقطت القبة الخضراء في بغداد، وكانت تاج المدينة ومأثرة بني العباس، وهي من بناء المنصور، ارتفاعها ثمانون ذراعا، وتحتها إيوان طوله عشرون ذراعا في عشرين ذراعا، وقد مر وصف ما عليها من تمثال الفارس، فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر ورعد. وفي سنة 331 وصلت الروم أرزن وميا فارقين ونصيبين، فقتلوا وسبوا، ثم طلبوا منديلا في كنيسة الرها (وهو المنديل الذي مسح به المسيح وجهه فارتسمت صورته فيه) على أنهم يطلقون جميع من سبوا، فأرسل إليهم وأطلقوا الأسرى .
وفي هذه السنة سار توزون التركي (طوسون) فقصد بغداد، فدخلها في رمضان، فخلع عليه المتقي وولاه أمير الأمراء، ثم وقعت الوحشة بين المتقي وتوزون، فذهب الخليفة حتى صار في الرقة، فحضر هناك الإخشيد بعد أن بلغه مصالحة توزون، فقال للخليفة: أنا عبدك وابن عبدك، وقد عرفت الأتراك وفجورهم وغدرهم، فالله الله في نفسك، سر معي إلى مصر فهي لك وتأمن على نفسك. فلم يقبل. فرجع الإخشيد إلى بلاده، وخرج المتقي من الرقة إلى بغداد في 4 المحرم سنة 333، وخرج للقائه توزون، فالتقيا بين الأنبار وهيت، فترجل توزون وقبل الأرض، فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل، ومشى بين يديه إلى المخيم كالذليل الحقير، فلما نزل فيه في السندية قبض عليه علي بن مقلة ومن معه، ثم كحل الخليفة بمسمار محمي، وأدخل بغداد مسمول العينين، وقد أخذ منه الخاتم والبردة والقضيب، وأحضر توزون عبد الله ابن المكتفي وبايعه بالخلافة، ولقب المستكفي بالله، ثم بايعه المتقي المسمول، وأشهد على نفسه بالخلع من ذلك لعشر بقين من المحرم، وقيل من صفر. ولم يحل الحول على توزون
2
حتى مات. وأما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية، فسجن بها إلى أن مات، وكانت مدة سجنه 25 سنة، وكانت وفاته في شعبان سنة 357 (يساوي تموز 968م). وفي أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرازاد لما تغلب على بغداد في سنة 332، اللصوصية بها بخمسة وعشرين ألف دينار في الشهر، فكان يكبس بيوت الناس علنا في النهار، وبالمشعل والشمع بالليل، ويأخذ الأموال، وإذا قاومه المسروق قتله قتلا لساعته، وكان هذا اللص رئيس جماعة حسنة التنظيم، كثيرة المفاسد، فكان الناس يتحارسون ليلا بالبوقات، وكان ابن شيرازاد يستوفي ضمانه الشهري من ابن حمدي بالروزات (أي قسطا يوميا، جمع روزة)، فعظم شره حينئذ، وهذا ما لم يسمع بمثله. ثم إن أبا العباس السكورج الديلمي صاحب الشرطة ببغداد ظفر بابن حمدي ووسطه (أي شقه نصفين من الوسط) في جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
وكانت مدة خلافة المتقي 3 سنين، وعمره ستين سنة وأياما، ودفن في دار إسحاق بدار البطيخ من محال الجانب الغربي من بغداد. (4-21) المستكفي
هو ابن المكتفي، ولد في صفر سنة 292ه (17 ك1 سنة 904م) بالقصر الحسني، أمه أم ولد اسمها «غصن»، وقيل «أملح الناس»، لم تدرك خلافته. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المتقي وعمره إذ ذاك أربعون سنة. ومن العجيب أن هؤلاء الخلفاء يرون كيف يموتون بيد الأتراك ولا يفعلون شيئا ليحتاطوا منهم لأنفسهم، ولا يتخذون الوسائل الفعالة لسحقهم ومحقهم، ويعلمون أيضا أن موتهم يكون من شر الميتات، ويقبلون مع ذلك الخلافة والإمارة التي لم يبق لهم منهما إلا الاسم فقط. وفي أيام هذا الخليفة مات توزون التركي أمير الأمراء في بغداد. أما كاتبه أبو جعفر محمد، وقيل زيرك بن شيرازاد، فإنه طمع في المملكة، ووافقه على مطامعه العسكر والجيوش، فاستقل بتدبير الأمور، فخلع عليه الخليفة خوفا من شره. ثم دخل أحمد بن بويه بغداد، فاختفى ابن شيرازاد ودخل ابن بويه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة، فخلع عليه ولقبه: «معز الدولة»، ولقب أخاه عليا: «عماد الدولة»، وأخاهما الحسن: «ركن الدولة»، والألقاب المعظمة إذا ما ظهرت في دولة دلت على انحطاطها وقرب زوالها؛ إذ تذهب الحقائق الصادقة ويبقى فيها الرسوم والآثار الكاذبة. ولم يكتف الخليفة بذلك، بل ضرب ألقابهم على السكة، ولقب الخليفة نفسه: «إمام الحق»، وضرب ذلك على السكة أيضا.
ثم إن معز الدولة قوي أمره، وحجر على الخليفة، وقدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط، وهو أول من ملك العراق من الديلم، وأول من أظهر السعاة ببغداد، وغوى المصارعين والسباحين، فانهمك شبان بغداد بتعلم المصارعة والسباحة، حتى صار السباح يسبح وعلى يده كانون وفوقه قدر، فيسبح حتى ينضج اللحم! ثم إن معز الدولة تخيل من المستكفي فتحيل في قتله، وذلك أن «علم» - قهرمانة الخليفة، وهي التي سعت في خلافته - صنعت دعوة دعت إليها الديلم، فافترص معز الدولة هذه الفرصة للفتك بها وبخليفتها لما يعلم فيها من الذكاء والدهاء، فادعى أنها تريد مجاذبتهم في نكث عهدهم، فدخل جماعة من الديلم في 22 من جمادى الآخرة سنة 334 على المستكفي وهو على سدته، فقبضوا على القهرمانة وقطعوا لسانها بعد أن تقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة، فمد يده إليهما ظنا أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجراه بعمامته، وهجم الديلم على دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها، فلم يبق فيها شيء، ومضى معز الدولة إلى منزله، وساقوا الخليفة ماشيا إليه، فخلع وسملت عيناه، فضمه معز الدولة إلى المتقي بالله والقاهر بالله، فصاروا ثلاث أثافي العمى، ثم أحضروا الفضل بن المقتدر، وأجبروا المستكفي على مبايعة المطيع لله، فسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع، ثم سجن إلى أن مات يوم الخميس 16 من شهر ربيع الآخر سنة 338، ودفن بالرصافة. وكانت مدة خلافته إلى أن خلع سنة وأربعة أشهر، وعمره 46 سنة وشهرين، وكان يتظاهر بالتشيع، والتشيع لم يكن يومئذ إلا مسألة سياسية، لا دينية. (4-22) المطيع
المطيع لله هو ابن المقتدر بن المعتضد، وأمه أم ولد اسمها شملة، وقيل: شعلة، وقيل: شغلة. ولد سنة 301 في 24 المحرم (31 آب 913) بالقصر الحسني، بويع له بالخلافة في 12 جمادى الآخرة سنة 334 (20 كانون الثاني 946)، وكان عمره يومئذ 34 سنة، وكان تدبير المملكة بيد معز الدولة بن بويه، وفي أيام المطيع توفي المعز، وقام بعده ولده بختيار، وقلده المطيع موضع والده وخلع عليه، واستقل بالأمور، وفي أيامه انقطعت الخطبة في مصر عن بني العباس. وفي سنة 350 (961م) بنى معز الدولة ببغداد دارا هائلة عظيمة أساسها في الأرض ست وثلاثون ذراعا. وفي سنة اثنين وخمسين يوم عاشوراء (4 شباط سنة 963م) ألزم معز الدولة الناس بإغلاق الأسواق ومنع الطباخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين، وهذا أول يوم نيح عليه في بغداد، واستمرت هذه العادة سنتين.
وفي ربيع الآخر سنة 359 (شباط 970م) شرع في بناء الجامع الأزهر في مصر، وهو أشهر جامع في الإسلام في يومنا هذا. وفي سنة 362 صادر السلطان بختيار الخليفة المطيع، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإن أجبتم اعتزلت، فشدد عليه حتى باع قماشه وحمل إليه 400 ألف درهم، وشاع أن الخليفة صودر. وفي سنة 363 (973م) قلد المطيع القضاء أبا الحسن محمد بن أم شيبان الهاشمي بعد أن تمنع، فصار في البلد الواحد أربعة مشتركون كل منهم بلقب قاضي القضاة، ولعل أحد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد من قضاة القضاة الآن، ولقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حكما من سلاطين هذا الزمان. وفي السنة المذكورة حصل للمطيع فالج، وكان سبكتكين التركي أكبر حجاب معز الدولة، عظم المنزلة عند سيده حتى بلغت أقصاها، وخاف الخليفة منه على نفسه، فخلع نفسه طوعا لا كرها، وسلم الأمر إلى ولده الطائع لله في يوم الأربعاء 23 ذي القعدة من سنة 363 (16 آب 974م)، فكانت مدة خلافته 29 سنة وأشهرا، وصار بعد خلعه يسمى: الشيخ الفاضل. قال الذهبي: وكان المطيع وابنه مستضعفين مع بني بويه، ولم يزل أمر الخلفاء في ضعف إلى أن استخلف المقتفي لله، فانصلح أمر الخلافة قليلا، وكان دست الخلافة لبني عبيد بمصر أميز، وكلمتهم أنفذ، ومملكتهم تناطح مملكة العباسيين في وقتهم، وخرج المطيع إلى واسط مع ولده، وتوفي في دير العاقلول الذي بين مدائن كسرى والنعمانية على بعد 15 فرسخا من بغداد بالقرب من دير قنى المشهور، وكانت وفاته في المحرم سنة 364 (أيلول 974م)، ودفن بالرصافة في تربة عملها لنفسه عن 63 سنة، وكان بين خلعه وموته شهران لا غير. (4-23) الطائع
هو ابن المطيع - على ما مرت الإشارة إليه - وكان مولده في سنة 317، أمه أم ولد، اسمها عتب، ويروى: عنب، ويقال بل كان اسمها هزار، أدركت خلافته، وكان عمره لما تولى الخلافة 48 سنة، ولم يل الخلافة قبله أسن منه، وفوض أمور المملكة إلى عضد الدولة، فلما خرج هذا من التولية أنفذ إلى الطائع هدية على 500 حمال، من جملتها 50 ألف دينار في عشرة أكياس ديباج أسود، وألف ألف درهم في مائتي كيس، و500 ثوب أنواعا، و30 صينية مذهبة، فيها العنبر والمسك والكافور والعود الهندي والند، إلى غيرها من الثياب والدواب، لكن ما هذه كلها وأضعاف أضعافها بالآلاف بجنب الخسارة العظمى التي خسرها الخليفة ببيع قوته وسطوته لواحد من الأعجام!
لكن الطائع كان صاحب تنعم، وما كان يهمه أمر الخلافة؛ إذ كان يطلب الراحة لنفسه والتلذذ بنسائه، فكان قد جمع بين بنت عضد الدولة، وبنت عز الدولة بختيار، وأصدق كل واحدة منهما مائة ألف ساد (نوع من ثياب الكتان)، وعضد الدولة أول من خوطب بالإسلام بالملك شاهنشاه (من ألقاب القدماء الفرس)، وأول من خطب له على المنابر مع الخلفاء، وأول من ضرب الطبل أو الدبداب على بابه أوقات الصلوات الثلاث، وفي أيامه عمرت بغداد؛ لأنها كانت خربت بانفجار البثوق، فأمره الطائع، فتولى بنفسه سد بثوق النهروان، فسدها في سنة 367 (977م)، وأثر عضد الدولة في أيام الطائع آثارا جميلة، وعمارات كثيرة، وغرس الأشجار، وأخر الخراج، ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج، وكثر در الأقوات والرسوم والصلات للفقهاء والعلماء والفقراء والأدباء، ورغب الناس في الاشتغال بالعلوم لكثرة الهبات والعطاء؛ ولهذا لم يجمع في زمن من الأزمان كما اجتمع في الدولة البويهية من سائر أرباب العلوم والفنون والصنائع ، وكانت في أيامه الارتفاعات جمة، والأموال وافرة، ومن آثاره التي يتحدث بها: البيمارستان العضدي بالجانب الغربي من بغداد في خراب دار ابن حمدان، وكان «بجكم» قبله حاول ذلك فلم يقدر عليه، وعمل قنطرتي الصراة، وسور مدينة يثرب، وعمل غير هذا من المصانع والآثار الخالدة. وفي سنة 367 التقى عز الدولة وعضد الدولة، فظفر عضد الدولة وأخذ عز الدولة أسيرا، وقتله بعد ذلك، فخلع الطائع على القاتل خلع السلطنة، كأنه يشجعه على ارتكاب المنكرات، ولا يعلم أن هذه الخلع بعد القتل تجرئ عضد الدولة أو تجرئ ابنه نصرا الملقب ببهاء الدولة على خلعه يوما كما سنراه، ولم يكتف بأن خلع عليه خلع السلطنة، بل توجه بتاج مجوهر وطوقه وسوره على ما جرت العادة عليه في ذلك العصر، وقلده سيفا، وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهدا وقرئ بحضرته، ولم يبق أحد إلا تعجب، ولم تجر العادة بذلك، إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذه قال أمير المؤمنين: «هذا عهدي إليك فاعمل به.» وفي سنة 375ه/985م هم صمصام الدولة بن عضد الدولة الذي ولي الملك وولاية العهد بعد وفاة أبيه في سنة 372 أن يجعل المكس على ثياب الحرير والقطن مما ينسج ببغداد ونواحيها، ووقع له في ضمان ذلك مليون درهم في السنة، مما يدل على أن صناعة الأنسجة أو الحياكة كانت قد بلغت مبلغا عظيما في دار السلام، لكن اجتمع الناس في جامع المنصور على صورة ما نسميه اليوم «بالمظاهرة، أو المعالنة الوطنية»، وعزموا على المنع من صلاة الجمعة، وكاد البلد يفتتن، فأعفاهم من ضمان ذلك.
وفي سنة 376 قصد شرف الدولة أخاه صمصام الدولة فانتصر عليه وكحله، ومال العسكر إلى شرف الدولة، فقدم ببغداد وركب الطائع إليه يهنئه بالبلاد، وعهد إليه بالسلطنة، وتوجه وقرئ عهده والطائع يسمع. إلى هذه الدرجة وصل ضعف الخليفة، أن يكافئ أعظم مكافأة في الأرض لمن يجترح إثما هو كالقتل بل أشنع! وفي سنة 378ه/988م أمر شرف الدولة برصد الكواكب السبعة في سيرها كما فعل المأمون. وفي سنة 379ه مات شرف الدولة، وعهد إلى أخيه «أبي نصر»، فجاءه الطائع إلى دار المملكة يعزيه، فقبل الأرض أبو نصر غير مرة ثم ركب إلى الخليفة، وحضر الأعيان، فخلع الطائع على أبي نصر سبع خلع، أعلاها سوداء وعمامة سوداء، وفي عنقه طوق كبير، وفي يده سواران، ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف المشهورة، ثم قبل الأرض بين يدي الطائع، وجلس على كرسي وقرئ عهده، ولقبه الطائع «بهاء الدولة وضياء الملة». وبعد سنتين قام بهاء الدولة على الطائع كما هو المنتظر من كل زنيم لئيم رفع قدره، وخلعه. وتحرير الخبر: أن الخليفة حبس رجلا من خواص بهاء الدولة، فجاء هذا وقد جلس الطائع في الرواق متقلدا سيفا، فلما قرب بهاء الدولة قبل الأرض دهاء ورياء وخبثا ونكرا، ثم جلس على كرسي، فتقدم أصحاب بهاء الدولة، فجذبوا الطائع من سريره، وتكاثر عليه الديلم، فلفوه في كساء، وأصعد إلى دار السلطنة، وارتج البلد، ورجع بهاء الدولة وكتب على الطائع أيمانا بخلع نفسه، وأنه سلم الأمر إلى القادر بالله، وأشهد عليه الأكابر والأشراف، وذلك في 19 شهر شعبان 381ه/1 ت2 سنة 991م، وأنفذ إلى القادر بالله ليحضر، وكان بالبطيحة، واستمر الطائع في دار القادر بالله إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة 393ه (30 أيلول 1003م)، ودفن في تربة بالرصافة، وكان شديد الانحراف على آل أبي طالب، وسقطت الهيبة في أيامه جدا حتى هجاه الشعراء. وكانت خلافته 17 سنة و9 أشهر، وعمره 78 سنة. (4-24) القادر
وقام بعده أبو العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن جعفر المقتدر، مولده في سنة 336ه (يساوي 947م)، أمه أم ولد، اسمها يمن، وقيل تمنى، وقيل: دمنة، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وكانت من أهل الدين والصلاح. بويع له بالخلافة بعد خلع الطائع، وكان في البطيحة فقدم بغداد في 11 رمضان 381ه (يساوي 22 ت2 سنة 991م)، وكان رجلا دينا كثير التهجد والصدقات، حسن الطريقة ، وقد صنف كتابا في الأصول، ذكر فيه فضائل الصحابة، وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن، وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي وبحضرة الناس، وله شعر أيضا. وفي سنة 382 (يساوي 992م) ابتاع الوزير أبو نصر سابور أردشير دارا بالكرخ في محلة «بين السورين»، ومن أحسن محالها وأعمرها، وسماها «دار العلم»، ووقفها على العلماء، ووقف بها كتبا كثيرة لم تكن في الدنيا أحسن كتبا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرين وأصولهم المحررة، وهي التي أحرقت بعد ذلك فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447ه (يساوي 1055م). توفي القادر في 11 ذي الحجة من سنة 422 (يساوي 19 ت2 1031م) عن 87 سنة، ومدة خلافته 41 سنة و3 أشهر، ودفن بدار الخلافة إلى أن نقل تابوته إلى تربة الرصافة التي عليها شغب أم المقتدر، وهو أول خليفة دفن فيها. (4-25) القائم
هو ابن الخليفة المتوفى، ولد يوم الجمعة 17 ذي القعدة سنة 391 (يساوي 10 ت1 سنة 1001م)، أمه أم ولد أرمنية، اسمها «بدر الدجى»، وقيل «قطر الندى»، أدركت خلافته. وولي الخلافة عند موت أبيه، وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقبه بالقائم بأمر الله، وخطب له سنة 421 (يساوي 1030م) بدار الشجرة من دار الخلافة، وكان القائم ورعا دينا زاهدا عالما، قوي اليقين بالله، كثير الصدقة والصبر، كثير العبادة، متهجدا، لا ينام إلا مغلوبا عليه، ونقل عنه أنه ما نام على فراش ولا تدثر بدثار منذ ولي الخلافة، فعوتب في ذلك، فقال: «سمعت الدعاة يقولون بالصوام القوام، فاستحييت من الله أن أوصف بصفة ليست في.» وكان لمحبة أرباب الدين يغير زيه، ويحضر مجلس أبي الحسن القزويني في محلة الحربية ويكثر غشيانه، وكانت له عناية بالأدب، ولم يكن يرتضي أكثر ما ينشأ بالديوان حتى يصلح فيه أشياء، وفي أيامه قدم أبو طالب محمد بن ميكال السلجوقي المعروف بطغرلبك بغداد، استدعاه القائم من خراسان، وذلك عند ضعف بهاء الدولة؛ أي نصر بن عضد الدولة، عن مصالح الدول القائمية ، وهو آخر من كان من ملوك الديلم، كما أن طغرلبك هو أول من دخل بغداد من ملوك السلجوقية، وكان السبب في ذلك أن أرسلان التركي البساسيري أمير الجيوش كان قد عظم أمره لعدم نظرائه، وتهيبته أمراء العرب والعجم، ودعي له على المنابر، وجبى الأموال، وخرب القرى، ولم يكن القائم يقطع أمرا دونه.
ثم صح عنده سوء عقيدته، وبلغه أنه عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن ميكال سلطان ترك الغز، المعروف بطغرلبك وهو بالري يستنهضه في القدوم، فقدم في سنة 447، فذهب البساسيري إلى الرحبة وتلاحق به خلق من الأتراك، وكاتب صاحب مصر فأمده بالأموال، استعان بها على الجمع والتجنيد، فاجتمع له أوباش الناس، وزحف البساسيري من الموصل وقد انضم إليه كل قاطع طريق وراغب في النهب والغارة، فقدم بغداد في سنة 450 (1058م) ومعه أتباعه، وكان قد قصدها من ناحية الأنبار، وملك الجانب الغربي، ونزل على دجلة مقابل باب الطاق، وعقد جسرا وعبر إلى الجانب الشرقي ونزل بالزاهر، ثم زحف بمن معه ودخل البلد، فخاصم عامة البلد وضعفوا عنه، فأضرم النيران في الأسواق ونهب، وانتهى إلى دار الخلافة، فنهب منها ما قدر عليه، وخرج الإمام القائم بأمر الله في نفر من خدمه فحماه قريش بن بدران أمير الموصل، وكان مع البساسيري، وعبر في خدمته إلى الجانب الغربي، وسيره محروسا إلى عانة، وأنزله على عم له هو مهارش بن مجلى، فقام بخدمته مدة مقامه عنده، وذلك سنة كاملة. ثم إن طغرلبك فرغ من قتال أخيه تبال حتى ظفر به وقتله، وبلغه ما جرى في بغداد، فتوجه إليها بعساكره، وأنفذ إلى القائم من أعاده إلى بغداد، وكان لما عرف البساسيري قرب طغرلبك من بغداد خرج عنها هاربا نحو واسط، فأتبعه طغرلبك عسكرا ظفروا به وأحضروا رأسه، ودخل الخليفة يوم الاثنين 25 ذي القعدة سنة 451 (3 ك2 سنة 1060م)، ولما وصل القائم إلى باب النوبي، نزل طغرلبك عن دابته، وأخذ بلجام بغلة القائم، ومشى بين يديه حتى نزل بباب الحجرة وخدم وعاد، وأعاد الله القائم بأمره إلى مستقر عزه، وذلك بعد سنة كاملة، وأقيمت الخطبة في غيبته للمصريين في كل الجوامع إلا جامع الخليفة، وزيد في الأذان «حي على خير العمل»، وبقيت عامة بغداد تضرب البساسيري مثلا في تفخيم الأمر، فيقولون: «كأنه قد جاء برأس البساسيري.» وإذا كرهوا أمرا من ظلم أو عسف قالوا: «الخليفة إذا في عانة حتى يفعل كذا.» وفي سنة 454 (1063م) زوج الخليفة بنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى، ثم لان لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم، وقدم طغرلبك في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، فدخل بابنة الخليفة، وأعاد المواريث والمكوس، وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار، ثم رجع إلى الري فمات بها في رمضان، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب صاحب خراسان، وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد، وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادا كثيرة من ديار النصارى، واستوزر نظام الملك، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله (عميد الملك ) من سب الأشعرية، وانتصر للشافعية، وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبنى النظامية، وهي أول مدرسة بنيت في بغداد للفقهاء.
وفي سنة 465 (1072م) قتل السلطان ألب أرسلان، وقام في الملك بعده ولده ملكشاه، ولقب «جلال الدولة»، ورد تدبير الملك إلى نظام الملك، ولقبه «الأتابك»، وهو أول من لقبه، ومعناه: «الأمير الوالد». وفي سنة 466 (1073م) كان الغرق العظيم ببغداد، وزادت دجلة ثلاثين ذراعا، ولم يقع مثل ذلك قط، وهلكت الأموال والأنفس والدواب، وركبت الناس في السفن، وأقيمت الجمعة في الطيار (ضرب من السفن كانت سابقا في دجلة) على وجه الماء مرتين، وأقام الخليفة يتضرع إلى الله، وانهدم مائة ألف دار أو أكثر. وفي سنة 467 / 1075 مات الخليفة ليلة الخميس 13 شعبان (4 نيسان)، وذلك أنه افتصد ونام، فانحل موضع الفصد وخرج منه دم عبيط كثير، فاستيقظ وقد انحلت قوته، فطلب حفيده ولي العهد عبد الله بن محمد ووصاه، ثم توفي ودفن في حجرة كانت برسم جلوسه بدار الخلافة، ثم نقل إلى تربة الرصافة، وقبره كان يزار يومئذ ويتبرك به، وكانت مدة خلافته 44 سنة و8 أشهر، ولم يبلغ هذه المدة خليفة قبله، وكان عمره 75 سنة و9 أشهر، ومدة خلافته وخلافة أبيه القادر بقدر مدة جميع خلفاء بني أمية؛ لأنها خمس وثمانون سنة، وكانوا أربعة عشر من معاوية إلى محمد بن مروان، فإن أيام الدول لا تطول إلا بالعدل، ولا تحفظ إلا بإزالة الظلم.
وفي عهده انقرضت دولة بني بويه، وقامت دولة السلجوقيين، فلا بد من أن نذكر شيئا عن كل منهما.
دولة بني بويه (أو دولة الديلم)
نشأت هذه الدولة الشيعية في بلاد فارس لانتشار دعوة المطالبين بالخلافة للعلويين، بعد أن ثبت لهم أن العباسيين لا يريدون أن يشاركوا فيها أحدا من غير بيتهم، وكان قد قام عدة دعاة يطالبون بالخلافة، فقاتلهم بنو العباس حتى أفنوهم، ثم نهضت شرذمة في بلاد فارس وجرجان وطبرستان وخرجت على العباسيين، حتى كانت لها جيوش وقواد، وأغلب هذه الجيوش والقواد من الديلم، وهم جيل من الفرس. فلما انقرضت دولة أولئك العلويين الخارجين على بني العباس بقي منها القواد الذين كانوا على رءوس الجيوش ولهم حول وطول وشوكة يستولون بها على كثير من البلاد والممالك، ومن أولئك القواد: أسفار ابن شيرويه، وماكان بن كالي، ومرداويج بن زياد، وليلى بن النعمان، وكان بنو بويه قوادا من أتباع أولئك القواد فكانوا في أمرهم مع ماكان بن كالي، ثم انفصلوا عنه وانضموا إلى مرداويج. فلما رأوا نجاحهم وأن الأقدار معهم والسعد يخدمهم فارقوه على أن يحاربوا لأنفسهم لتمكين سلطتهم في البلاد، فنجحوا حتى تغلبوا على ممالك أولئك القواد بعد محاربات جمة، كان الفوز فيها أليفهم، فطمعوا حينئذ فيما هو وراء هذا النصر، حتى تغلبوا على الخلفاء، فكان لهم الأمر والنهي والتصرف في الخيانة والمكوس وتجييش الجيوش، وأبقوا للخلفاء الاسم والدعاء على المنابر والتعليم على المناشير وكتابة أسمائهم على سكة الدراهم والدنانير، بل انتهت بهم القحة إلى تقدير الراتب للخليفة، ومنعه عن التدخل بأمور المملكة أو السلطنة، فكان الخلفاء في مدة ملكهم كرات تتقاذفها صوالجهم على ما شاءت أهواؤهم أو هجس في خواطرهم، فكانوا يعزلون ويسملون ويقتلون ويعذبون من أرادوا من الخلفاء، وينصبون على سرير الخلافة من أحبوا. ولما كانوا في أوج عزهم انتحلوا لهم نسبا حتى رقوه إلى بهرام جور من الملوك الأكاسرة، وقد وافقهم على رأيهم بعض المصانعين المملقين تزلفا منهم، فوضع أبو إسحاق الصابئ كتابا سماه «التاجي»، ولا عجب من هذا الأمر، فإن انتحال الحديثي النعمة الشرف الرفيع لأنفسهم وموافقة الناس لهم على رأيهم أمر قديم في الشرق منذ عهد البابليين والآشوريين، وهو راسخ الأصول إلى يومنا هذا، يعم الرفيع والوضيع. على أن المرجح هو أن أبا شجاع بويه بن فناخسرو يتصل نسبه بمهرنرسي وزير بهرام جور الأول، ولم يتأثل ملك هذه الدولة إلا بسعي أولاد أبي شجاع المذكور الثلاثة؛ أي في سنة 321ه/933م، ولم ينقرض إلا سنة 447ه/958م، فتكون دولتهم قد دامت 126 سنة قمرية. أما أولاد أبي شجاع فهم: أبو الحسن علي بن بويه الذي لقب عماد الدولة، وأبو علي الحسن بن بويه الملقب بركن الدولة ، وأبو الحسين أحمد بن بويه والملقب بعز الدولة. وقد بسطنا فيما سبق من الكلام ما كان لهؤلاء الإخوة من النفوذ في وقتهم، ومن الأعمال التي أتوها حتى ملكوا العراقين والأهواز وطبرستان وجرجان، وما كان من السيطرة على العباسيين حتى اشتهر أمرهم. ولما دخل معز الدولة بغداد سنة 334ه/945م وخلع المستكفي بالله، أراد أن ينزع الخلافة من العباسيين ويقلدها العلويين، ولما أوشك أن يبايع واحدا من أهل البيت قال له بعض خواص أصحابه: «ليس هذا برأي؛ فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه.» فأعرض عن ذلك وأقام المطيع خليفة بدل المستكفي المخلوع.
ومما ساعد البويهيين في سعدهم ورفع منار عزمهم عثور كبيرهم عماد الدولة على أموال طائلة، كانت منها في سقف البيت الذي كان فيه عماد الدولة نفسه، ومنها وديعة 12 صندوقا وجدها عند خياط أطروش، ومنها كنز ساخت فيه قوائم فرسه، ثم إن هؤلاء الملوك أرادوا أن يعارضوا دولة بني العباس في ضخامتها وجلالتها ومكانتها، وحاولوا أن يتبسطوا في الحضارة والعمران والبذخ والزهو. والملوك إذا أرادوا هذه الأمور أو أن يمعنوا في العزة والعظمة عالجوها باستنطاق المستقبل، ليعرفوا ما يخبئه لهم الزمان في مطاوي لياليه من مكنونات الأسرار، أو ليقفوا على مدة أعمارهم في هذه الدنيا، ثم يتطاولون إلى البحث عما وراء هذا الكون ليشرفوا على ما في هوته من مذخر غوامضه، وهذا كله لا يحققه لهم إلا العلم والتنقير عن مستورات الطبيعة ومحتجباتها؛ ولهذا أخذوا ينشرون ألوية المعارف والصنائع في البلاد، ويبثون في الأمة روح السعي للكمال والمحمدة، فنشطوا العلماء والأدباء والحكماء والشعراء، فكان عصرهم من أبهى العصور؛ إذ نبغ فيه أعظم المشاهير، حتى إن القارئ ليسأل نفسه إذا ما وقف على أسماء أولئك النوابغ: أي عصر كان أنفع للحضارة والعلم والعمران؟ أعصر الرشيد والمأمون؟ أم عصر بني بويه؟ على أن المطالع لا يستطيع أن يحكم في هذه المسألة إلا إذا وقف على أسماء بعض أولئك العبقريين الدواهي الذين منهم:
الخرقي شيخ الحنابلة، وأبو بكر الشبلي الصوفي، وابن القاضي إمام الشافعية، وأبو بكر الصولي، والهيثم بن كليب الشاشي، وأبو جعفر النحاس، وأبو نصر الفارابي، وأبو إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأبو القاسم الزجاجي النحوي، والدينوري صاحب المجالسة، والمسعودي صاحب مروج الذهب، وابن درستويه، وأبو علي الطبري أول من جرد الخلاف، والفاكهي صاحب تاريخ مكة، والمتنبي، وابن حبان صاحب الصحيح، وأبو علي القالي، وأبو الفرج صاحب الأغاني، والسيرافي النحوي، وابن خالويه، والأزهري إمام اللغة، وابن العميد، والفارابي صاحب ديوان الأدب، والرفاء الشاعر، وأبو علي الفارسي النحوي. وكان أيضا في العصر البويهي: رأس الوزراء الصاحب بن عباد، ورأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفرائيني، ورأس المعتزلة القاضي عبد الجبار، ورأس الشيعة الشيخ المقتدر، ورأس الكرامية محمد بن الهيصم، ورأس القراء أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي، ورأس الشعراء أبو عمر بن دراج، ورأس المجودين ابن البواب، ورأس الملوك محمود بن سبكتكين، ورأس الزنادقة الحاكم بأمر الله، ورأس اللغويين الجوهري، ورأس النحاة ابن جني، ورأس البلغاء بديع الزمان الهمذاني، ورأس الخطباء ابن نباتة، ورأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء القادر بالله، فإنه من أعلامهم، تفقه وصنف.
ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة لا تقل عنها شأنا ولا علما، منها: أبو الفضل الفلكي، والقدوري شيخ الحنفية، وابن سينا شيخ الفلاسفة، ومهيار الشاعر الذي لا يجارى، والبراذعي المالكي صاحب التهذيب، والثعلبي المفسر، والماوردي، وابن حزم الظاهري، وابن سيده صاحب المحكم، والخطيب البغدادي، وابن رشيق صاحب العمدة، وعبد القاهر الجرجاني، والأعلم النحوي. ولو أردنا سرد أسماء فطاحل ذلك العصر لطال بنا الكلام وخرجنا عن حدود الاعتدال، وفيما ذكرنا كفاية. ومما يدل على أن بني بويه أرادوا أن يضارعوا كبار العباسيين في أعمالهم أن شرف الدولة أمر برصد الكواكب السبعة كما فعل المأمون على ما ألمعنا إليه، وكان ذلك في عهد الطائع لله في سنة 378ه/988م، وهي همة عالية تتقاصر دونها همم كبار الرجال وفحول الأجيال.
إلا أن مع هذه المحاسن كلها التي كانت في بني بويه فإن الظلم كان يتراءى خلال أعمالهم؛ ولهذا لم تطل مدة دولتهم؛ لأن تعمير الدول قرين العدل، والظلم من العوامل الفعالة في إزالتها ومحوها من عالم الوجود.
دولة السلاجقة
دان كبيرهم سلجوق بن دقاق بالإسلام منذ أن فارق بيغوخان ملك الترك واحتل دار المسلمين في القرن العاشر للميلاد، وكان من هؤلاء الترك كثير في قصور الخلفاء العباسيين، وبقوا خاضعين لخمس دول نشأت في فارس، وكرمان، والشام، وحلب، وبلاد الروم، وأعظم من اشتهر منهم في الحروب والغزوات والفتوح: طغرلبك، وألب أرسلان، إلا أنه لم يقم فيهم من نشط العلم والعلماء؛ إذ إن عنصر الترك مخرب ومدمر، لا مشيد ومعمر، وهو عار من الخصال الحميدة، مشهور بالخصال الذميمة. غير أنه نهض في عصر السلطان ألب أرسلان وابنه ملكشاه وزير كبير خطير فارسي المحتد، طوسي المولد، دهقاني الدم، هو خواجه بزرك قوام الدين نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق رضي فزين أيامهم بما أبقاه من الآثار الجليلة التي تطيب ذكره، فكان يلاطف الجميع ويعاملهم أحسن معاملة، حتى مشى في ركابه سلطان العرب مسلم بن قريش، وكان ملوك الأطراف يقبلون كتفه جلالا له ويتشرفون بلبس خلعه، وبقي في صدر الوزارة ثلاثين سنة. وفي أيامه كان الآباء يعنون بتربية أبنائهم ليحضروهم في مجلسه؛ لأنه كان يرشح كل أحد لمنصب يصلح له بمقدار ما يرى فيه من الفضل والكمال، ومن وجده في بلدة قد امتاز بعلمه وأدبه بنى له مدرسة ووقف عليها وقفا، وأنشأ فيها دار كتب، والمدرسة التي طبقت شهرته في الخافقين هي النظامية في بغداد، على ما أشرنا إليه، وعلى مثالها أنشأ الخلفاء بعده مدارسهم. وظهر من تدبيره في سياسة الممالك ما بعث سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي إلى أن يقول عن الأعاجم كلامه المشهور الذي يعاد عند ذكر كل نابغة من نوابغهم: «عجبت لهؤلاء الأعاجم، ملكوا ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة، وملكنا مائة سنة فلم نستغن عنهم ساعة.» وفي زمن نظام الملك نشأت طبقات الكتاب المجيدين، مثل: ابن الصباغ صاحب الشامل، وأبو الوليد الباجي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والمتولي، وإمام الحرمين، والدامغاني الحنفي، وابن فضالة المجاشعي، والبزدوي شيخ الحنفية، والكيا الهراسي، والشاشي، والأبيوردي اللغوي، وأبو نعيم صاحب الحلية، وأبو زيد الدبوسي، وأبو الحسين البصري المعتزلي، ومكي صاحب الإعراب، والشيخ أبو محمد الجويني، والمهدوي صاحب التفسير، والإقليلي، والثمانيني، وأبو عمرو الدواني، والخليل صاحب الإرشاد، وسليم الرازي، وأبو عثمان الصابوني، وابن بطال شارح البخاري، والقاضي أبو الطيب الطبري، وابن شيطي المقرئ، وابن بابشاذ، والقضاعي صاحب الشهاب، وابن برهان النحوي، والبيهقي، والهذلي صاحب الكمال في القراءات وغيرهم؛ ولم يزل باب الوزير مجمع الفضلاء وملجأ العلماء حتى قتل، اعترضه يوما في طريقه صبي بهيئة صوفي معه قصة، فدعاه وسأله وتناولها، فمد يده ليأخذها، فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى قصره فمات، وقتل القاتل في الحال. وقيل إن السلطان هو الذي دس عليه من قتله، فإنه سئم طول حياته واستكثر ما بيده من الإقطاعات.
وامتدت رقعة السلطنة السلجوقية في نحو أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، من بحر قزوين إلى بحر الروم، ومن بلاد كاشغر إلى ديار اليمن، وكان فيها من الأمصار: أصبهان، ونيسابور، وبلخ، وهراة، وبغداد، والموصل. وأخذ الاختلال يدب في هذه المملكة العريضة الواسعة الأرجاء في عهد ملكشاه. وبعد وفاة سنجر (في القرن الثاني عشر للميلاد)، وهو آخر أبناء ملكشاه، قسمت المملكة بين الأمراء الغورية والخوارزمية والأتابكية. ومما عجل في انتقاضها المعارك الداخلية، ومحاربات الصليبيين، وغزوات المغول (في عصري جنكيز خان وهولاكو)، حتى قضت على مملكة السلاجقة في بلاد الروم، فانقرضت دولتهم في سنة 1307 مع علاء الدين الثالث، فتجزأت حتى صارت نحو عشرة أجزاء استقل كل منها بنفسه، ثم اضمحل الكل في المائة الرابعة عشرة للميلاد. (4-26) المقتدي
المقتدي: هو أبو القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة بن القائم بأمر الله، مولده يوم الأربعاء 18 جمادى الأولى من سنة 470ه/8 ك1 سنة 1077م، أمه أم ولد أرمنية، اسمها «أرجوان»، وتدعى «قرة العين»، أدركت خلافته، وخلافة ولده المستظهر، وخلافة ولد ولده المسترشد بالله، وكانت صالحة. بويع له في صبيحة الليلة التي توفي فيها جده القائم وعمره 19 سنة، وجلس بدار الشجرة من دار الخلافة بقميص أبيض وعمامة بيضاء وطرحة بيضاء، فبايعه وجوه الأشراف والفقهاء. وفي أيامه بنى جامع المدينة، وما شاء الله من القناطر والمصانع في طريق مكة، وحفر الأنهار التي كانت قد خربت، كنهر شيلي، والخالص، ونهر «بين»، والإسحاقي، وهو الذي بنى منارة القرون في السبيعة بقرب الواقصة، من قرون الظباء وحوافر الحمر الوحشية، على مثال ما فعل سابور بن أردشير باني منارة الحوافر في قرية أسفجين في رستاق همذان، ويقال إن صاحب هذه الآثار كلها السلطان جلال الدولة ملكشاه بن ألب أرسلان.
ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطئ من بغداد، وأمر ألا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وخرب أبراج الحمام في بيوت الناس صيانة لحرم الغير. وفي سنة خلافته جمع نظام الملك المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم. وفي سنة 476 ولى الخليفة أبا شجاع محمد بن الحسين الوزارة، ولقبه «ظهير الدين»، وكان أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين. وفي سنة 483 (1090م) أنشئت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز، ودرس بها أبو بكر الشاشي، وهي المدرسة التي اشتهرت بعد ذلك باسم المدرسة التاجية. وفي سنة 484 قدم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، واتخذ الأمراء حوله دورا ينزلونها. توفي المقتدي ليلة السبت 15 المحرم من سنة 487 (5 شباط 1094م) فجأة، فقيل إن جاريته «شمس النهار» سمته، فكتم موته ثلاثة أيام، وبويع لولده المستظهر ولي عهده، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى تربة الرصافة فدفن بها، وكانت خلافته 19 سنة و8 أشهر و9 أيام. (4-27) المستظهر
هو أبو العباس أحمد، ولد ليلة السبت 18 شوال سنة 470 / 6 نيسان سنة 1087، أمه أم ولد، اسمها «كلبهار»، وبويع بعد وفاة أبيه وعمره 16 سنة، ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب، وكان لين الجانب، كريم الأخلاق، يسارع في أعمال البر، حسن الخط، جيد التوقيعات لا يقارنه فيها أحد، وكان ذا فضل غزير وعلم واسع، سمحا، جوادا، محبا للعلماء والصلحاء. وفي سنة 494 (1101م) كثر أمر الباطنية بالعراق وقتلهم الناس، واشتد الخطب بهم حتى كان الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وقتلوا خلائق جمة. وكانت وفاة المستظهر في يوم الأربعاء 23 من شهر ربيع الأول من سنة 512ه/15 تموز 1118م عن 41 سنة و3 أشهر و11 يوما، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الرصافة فدفن بها. (4-28) المسترشد
ولد يوم الأربعاء 14 ربيع الأول سنة 485ه/25 نيسان 1092م، أمه أم ولد، اسمها «لبابة»، بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه. كان ذا همة عالية، وشهامة زائدة، وإقدام ورأي، وهيبة شديدة. ضبط أمور الخلافة ورتبها أحسن ترتيب، وأحيا رسم الخلافة وشيد أركانها، وباشر الحروب بنفسه، وخرج عدة مرار إلى الحلة والموصل وطريق خراسان، إلى أن خرج المرة الأخيرة، وكسر جيشه بقرب همذان، وأخذ أسيرا إلى أذربيجان. وكان مليح الخط، ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله، يستدرك على كتابه، ويصلح أغاليط في كتبهم. وفي أيامه خطب لمسعود بالسلطنة في بغداد، ومن بعده لداود، وخلع الخليفة عليهما، ثم وقعت الوحشة بين الخليفة ومسعود فخرج لقتاله، فالتقى الجمعان، وغدر بالخليفة أكثر جنده، فظفر به مسعود وأسره مع خواصه، فلما بلغ الخبر أهل بغداد حثوا التراب على رءوسهم في الأسواق، وبكوا وضجوا، وخرجت النساء حاسرات يندبن الخليفة، فامتنعت الصلاة والخطبة. ثم هجم سبعة عشر رجلا من الباطنية حيث كان الخليفة، فقتلوه في خيمته مع جماعة من أصحابه، فما شعر بهم الجند إلا وقد فرغوا من شغلهم، فأخذوهم وقتلوهم، وجاء الخبر إلى بغداد، فاشتد وقعه على الناس، وخرجوا حفاة مخرقي الثياب، والنساء ناشرات الشعور يلطمن وينشدن المراثي؛ لأن المستشهد كان محببا فيهم ببره وحسن أخلاقه وآدابه، ونقلت جثته من سرادقه إلى باب مراغة ودفن فيها، وكانت مدة خلافته 17 سنة و8 أشهر وأياما، وعمره 45 سنة. (4-29) الراشد
ولد سنة 502 (1108م)، أمه أم ولد، اسمها «جلنار»، بويع بالخلافة يوم وصل نعي والده؛ أي يوم الاثنين 7 ذي القعدة من سنة 529 (20 آب 1135م)، وكان فصيحا، أديبا، شاعرا، شجاعا، جوادا، حسن السيرة، يؤثر العدل ويكره الشر، خلع بعد دخول السلطان مسعود بغداد وخروج الخليفة إلى الموصل، وكان خلعه يوم الاثنين 16 ذي القعدة سنة 530 (17 آب 1136م)، وبايعوا عمه محمد بن المستظهر، ولقب «المقتفي لأمر الله»، ومرض الراشد بظاهر أصبهان مرضا شديدا، فدخل عليه جماعة من العجم كانوا فراشين له فقتلوه بالسكاكين، ثم قتلوا كلهم، وذلك في 16 رمضان سنة 532 (29 أيار 1138م)، ولم تؤخذ البردة والقضيب من الراشد حتى قتل، فأحضرا بعد قتله إلى المقتفي، فلما وصل نعيه إلى بغداد قعد له في العزاء يوم واحد. (4-30) المقتفي
ولد في 22 ربيع الأول سنة 489 (28 آذار 1096م)، أمه أم ولد اسمها «نزهة»، حبشية، أدركت خلافته. بويع له بعد خلع الراشد. وكانت أيامه نضرة بالعدل وانتشار العلوم، وكان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه وبعده، ولم ير بعد المعتصم خليفة في شجاعته وصرامته، مع لين جانب ورأفة في لطافة. وفي سنة 541 (1146م) جلس ابن العبادي الواعظ، فحضر السلطان مسعود - وكان قد جاء بغداد تلك السنة - وتعرض ابن العبادي بذكر مكس البيع وما جرى على الناس، ثم قال: «يا سلطان العالم، أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي يؤخذ من المسلمين، فاحسبني ذلك المطرب وهبه لي واجعله شكرا لله بما أنعم عليك.» فأجاب. ونودي في البلد بإسقاطه، وطيف بالألواح التي نقش عليها ترك المكوس وبين يديه الدبادب (الطبول) والبوقات وسمرت، لم تزل إلى أن أمر الناصر لدين الله بقلع الألواح، وقال: «ما لنا حاجة بآثار العجم.» وهنا نلاحظ أن نشر أمور السلاطين على الألواح كما يرى اليوم نشرها على الجرائد وإلصاقها على الحيطان مما قد عرفه العرب في عهد العباسيين. وقد جدد المقتفي بابا للكعبة، واتخذ من العقيق تابوتا لدفنه. وفي أيامه عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق لهما منازع، وقبل ذلك - منذ دولة المقتدر إلى وقته - كان الحكم للمتغلبين من الملوك، وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة. توفي ليلة الأحد 12 ربيع الأول من سنة 555 عن 66 سنة، (23 آذار 1160م) إلا أياما، وكانت خلافته 24 سنة و3 أشهر و14 يوما، ودفن في دار الخلافة، ثم نقل إلى تربة الرصافة. (4-31) المستنجد
المستنجد بالله: هو أبو المظفر يوسف بن المقتفي، ولد في شهر ربيع الأول من سنة 518 (نيسان 1124م). أمه أم ولد رومية، وقيل كرجية اسمها طاووس، أدركت خلافته. خطب له أبوه بولاية العهد سنة 547، وبويع له يوم موت أبيه وكان عمره 33 سنة. وكان موصوفا بالعدل والرفق، أطلق من المكوس شيئا كثيرا، بحيث لم يترك في العراق مكسا وكان شديدا على المفسدين، سجن رجلا كان يسعى بالناس مدة، فحضره رجل وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال: «أعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخر مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس.» قال ابن الجوزي: «وكان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب والرأي الصائب والذكاء الغالب والفضل الباهر، له نظم بديع ونثر بليغ ومعرفة بعمل آلات الفلك والأسطرلاب وغير ذلك.» وكان آخر من عمل في أيامه بقواعد الخلفاء الماضين وجلوس وزيره بالديوان لرفع المظالم، ولم ينتبه إليه أمر إلا أزاله، ولم يذعر رجلا من رعاياه ذاعر. وقد صفت له أيام خلافته، وأظهرت الأرض ما فيها من الذخائر، واجتمعت له أموال كثيرة. توفي في 9 ربيع الأول 566، ودفن بدار الخلافة عن 48 سنة، ثم نقل إلى تربة الرصافة، وخلافته 11 سنة وشهر وأيام. (4-32) المستضيء بالله
هو أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله، وكان مولده في 6 شعبان من سنة 536 (7 آذار 1142م)، أمه أم ولد، اسمها غضة، أرمنية لم تدرك خلافته. بويع له بالخلافة يوم توفي والده وعمره إذ ذاك 30 سنة، وفي يوم المبايعة أمر بقتل الوزير ابن البلدي، ورد المظالم، وأفرج عن المحبوسين، وأسقط الضرائب والمكوس، ورسوم البيع، وسياقات الأعمال ما شاع واشتهر، وكان سخيا جوادا حسن السيرة، لم تصل قصة يسأل فيها حاجة إلا وردها بقضاء حاجة صاحبها. وفي أيامه مد جسر على دجلة مضاف إلى الجسر العتيق، ونصب من الدواليب بباب الغربة إلى الرقة، وذلك سنة 570 (1174م)، وبنى فخر الدولة الحسن بن المطلب جامعا بقصر ابن المأمون على دجلة، واستؤذن بإقامة الجمعة فيه فأذن له، واحتجب الخليفة عن أكثر الناس، فلم يركب إلا مع الخدم ولا يدخل عليه غيرهم. وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد، وخطب له بمصر، وضربت السكة باسمه، وجاء البشير بذلك، فأغلقت الأسواق وعلقت القباب. قلنا: وهي التي تعرف اليوم عند الإفرنج بما نقله المعربون العصريون: عقد النصر، أو قوس الظفر، مما يدل على أن العرب سبقوا الإفرنج أيضا إلى هذا العمل، وأرسل الخليفة في جواب البشارة الخلع والتشريفات لنور الدين وصلاح الدين، وأعلاما وبنودا للخطباء. وفي سنة 569ه/1173م أراد جماعة من محبي العبيديين في مصر إقامة الدعوة وردها إلى آل العاضد آخر خلفائهم فيها، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين، فاطلع هذا على نيتهم فصلبهم جميعا بين القصرين. توفي المستضيء عشية السبت 6 شوال سنة 575ه/5 آذار سنة 1180م، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى تربة بالجانب الغربي على شاطئ دجلة بقصر المأمون. (4-33) الناصر لدين الله
هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بالله. مولده يوم الثلاثاء 10 رجب من سنة 550ه/8 آب 1158م، أمه أم ولد تركية اسمها «زمرد خاتون»، أدركت خلافته، وكانت من أرغب النساء في فعل الخير وأكثرهن له فعلا، ولها بر وأفضال فضلت به أمثالها في الصدقات الجارية وعمارة المساجد والمشاهد والأربطة والمدارس وغيرها. بويع له بالخلافة في صبيحة يوم الأحد غرة ذي القعدة من سنة 575ه/29 آذار 1180م، وكان الناس قبل مبايعته في ضيق من الجدب، وغلاء الأسعار، وقلة الأمطار، وكثرة الأمراض، وتفشي الوباء، فجاءت الأمطار، وهبطت الأسعار، وعظم الرخص، وأخذ الناس يهنئ بعضهم بعضا بما عمهم من البركات. ثم حمى حريم الدولة باهتمامه وكثرة جنوده، وله آثار جميلة من عمارة المساجد والربط والمشاهد على ما كانت تفعل أمه. وقد صنف كتابا في الحديث سماه «روح العارفين»، ثم أجاز لجماعة من أهل العلم وأصحاب الحديث، وقرئ كتابه بجوامع مدينة بغداد وغيرها من البلاد، ثم جدد عزيمة في إزالة السلاطين السلجوقية الذين اهتضموا حقوق الخلفاء والرعية، واتخذ الوسائل الناجعة لقطع دابرهم من العراق. ثم ملك بلاد خراسان بجيش أرسله إلى هناك، وكذلك دقوقا، وقلعة تكريت، وقلعة الحديثة، ثم ملك همذان، وأسقط ما كان بها من الملوك، وقتل السلطان طغرلبك السلجوقي بتدبير وزيره محمد بن القصاب، وبعث برأسه إلى بغداد، ثم أنشأ دور الضيافات في سائر محال بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان، وعمر دارا لوفد الحاج والغرباء وغيرهم، وأنفق عليهما أموالا طائلة، ووقف خزائن كتب محتوية على جميع العلوم النافعة وجعلها وقفا على المسلمين، ولم يبلغ أحد ممن قبله ما استجد من الأبنية التي يبقى ذكرها ويضوع نشرها.
وفي أيامه انتزع بيت المقدس من أيدي الإفرنج على يد صلاح الدين الأيوبي، ومما أنشأه: رباط الحلاطية بمشرع الكرخ، مجاور مشهد عون ومعين، وتربة إلى جنب هذا الرباط، ودفن فيها جثة التي وقف الرباط عليها، وهي «سلجوقي خاتون» بنت السلطان قلج أرسلان مسعود ملك الروم، وكذلك رباط الحريم ورباط المرزبانية، وهذا الرباط بناه وعزم أن يقطع ويترك الخلافة زهدا في الدنيا، وأنشأ في ذلك كتابا بليغا ليقرأ على الناس، ثم بدا له غير ذلك. وقد وقف على هذه الأماكن وقوفا متوفرة الحاصل، يبقى ذكرها ويحصل له أجرها، وله مناقب كثيرة وفضائل جمة ذكرها ابن الساعي الشنجا في كتاب في خمسة مجلدات سماه كتاب «الروض الناضر في أخبار الإمام الناصر»، وكان الناصر ذا تفنن في تجسس الأخبار والوقوف على أسرار الناس، من ذلك ما نقل عما جرى لصاحب مازندران حينما قدم بغداد، فإنه كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، فصار يبالغ في التكتم، والورقة تأتيه بذلك، فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر، فصبحته الورقة بذلك وفيها: «كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة.» فتحير وخرج من بغداد، وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار. وقال ابن واصل: «كان الخليفة مع ذلك رديء السيرة في الرعية، مائلا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل أفعالا متضادة، وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية.» وقال ابن الأثير: «وكان يفعل الشيء وضده، فكان يرمي بالبندق ويحوي الطيور المناسيب، وعني بسراويلات الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه. ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة، وكذلك منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتمي إليه، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك، فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور، وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحا، من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم.» وقال المؤرخون: قل بصر الناصر في آخر عمره، وقيل ذهب كله، ولم يشعر بذلك أحد من الرعية، حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية علمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع، وكان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويغلى سبع غلوات كل يوم غلوة، ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه، ومع هذا ما مات حتى سقي المرقد مرارا، وشقت آلته وأخرج منها الحصى ومات منه. توفي ليلة الأحد سلخ شهر رمضان من سنة 622 (5 ت1 سنة 1225م)، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى تربة الرصافة، فدفن في جانب جده المستنجد بالله. (4-34) الظاهر
ولد الظاهر بأمر الله بن الناصر في المحرم سنة 571ه/تموز 1175م، أمه أم ولد تركية اسمها «بقجة»، لم تدرك خلافته. وقد عتق خمسين جارية صرن إليه عن والده ممن كن يصلحن للتسري تورعا، وأعطى لكل واحدة منهن خمسمائة ساد سوى ما كان لها. وأنشأ جسرا نصبه على دجلة، فصار لها جسران. قال ابن الأثير: «وقد أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فلو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا؛ فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئا كثيرا، وأطلق المكوس في البلاد جميعها، وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدده أبوه، وكان كثيرا لا يحصى؛ فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديما نحو عشرة آلاف دينار، فلما تولى الناصر كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ، فأمر أن يؤخذ الخراج الأول، وهو 10 آلاف دينار. فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن، فمن أين يكون العوض؟ فأقام لهم العوض من جهات أخرى. فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار فما الظن بباقي البلاد؟ ومن أخلاقه الطيبة أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك، ويكتب ما سوى ذلك من صغير وكبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم، فلما ولي هذا الخليفة أتته المطالعات على العادة، فأمر بقطعها، وقال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا. فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها. فقال: نحن ندعو الله في أن يصلحهم.» كانت وفاته يوم الجمعة 13 رجب من سنة 623ه/11 تموز 1226م، فكانت خلافته 9 أشهر و14 يوما، ودفن بدار الخلافة ثم نقل إلى تربة الرصافة، فدفن إلى جانب والده. (4-35) المستنصر بالله
المستنصر بالله: هو أبو جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله الخليفة السابق، كان مولده يوم الأربعاء 13 صفر من سنة 588 (11 آذار سنة 1192م)، أمه أم ولد تركية اسمها «أخشق»، وقيل «زهرة»، لم تدرك خلافته. بويع له بالخلافة يوم توفي والده، وكان يعظم أهل الدين وينفق على أربابه، ويحب أهل الأدب، وتنبهت الهمم في أيامه، وازداد المشتغلون بالعلوم رغبة واشتغالا، ووسعهم بعطاياه العميمة، وكان منعكفا على نقل الكتب، حسن الخط، صحيح الضبط، ومن محبته للعلوم أنشأ خزانة الكتب بحضرته، وجمع فيها من أنواع العلوم على اختلافها وتباينها وائتلافها بالأصول المضبوطة والخطوط المنسوبة ما جاوز حد الكثرة. ثم أنشأ المدرسة التي سميت باسمه، ودونك وصفها على ما ذكرها إخباريو زمانه:
وصف المدرسة المستنصرية الموجود بعض أبنيتها إلى يومنا هذا، وكانت في عهد الترك كمركا (ممكسا)
أنشأ المستنصر هذه المدرسة على شاطئ دجلة الأيسر أو الشرقي، وجعلها وقفا على المذاهب الأربعة، فجاءت محكمة البناء، راسخة في الماء، فسيحة الفناء، رتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم، وكان يدرس فيها من العلوم: علم الأصول والفروع، وأحاديث الرسول، والقواعد العربية، وعلم القوافي، ومعرفة الحلال والحرام، وقسمة الفرائض والتركات، وعلم الحساب والمساحة، وعلم الطب، ومنافع الحيوان وحفظ قوام الصحة، وتقويم البلدان . وفرشت غرفها بأفخر فراش، وكسيت بأحسن الملابس. ورتب لها البوابين والفراشين والخدم والطباخين، وأسكن لكل مذهب 62 من الفقهاء، وجعل لهم مدرسين وأربعة معيدين، وأجريت لهم المشاهرات الوافرة، وما يحتاجون إليه من الخبز واللحم والحلوى والفواكه والزيت والصابون والورق والحبر وغير ذلك، واتخذ فيها مارستانا، وجعل فيه طبيبا ماهرا، وأثبت عنده عشرة من الطلبة يشتغلون عليه في علم الطب، وجعل لهم الأكحال السائلة، وبنيت لهم صفة فاخرة مقابلة للمدرسة يجلس فيها فيقصده المرضى فيداويهم. ورتب في المدرسة مطبخا للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتب لبيوت الفقراء الحصر والبسط وما يحتاجون إليه، ورتب للطلبة ومن إليهم حماما، وهو أمر لم يسبق إلى مثله، وبنى في حائط الصفة دائرة عجيبة، وصورتها صورة الفلك، وجعل فيها طاقات صغارا لها أبواب، كلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب الطاقات وهو مذهب، فصار مفضضا، ومضت ساعة من الزمان والبندقتات من شبه (برنز) يقعان من فمي بازين من ذهب في طاستين من ذهب ويذهبان إلى مواضعهما، وتطلع شموس من ذهب في سماء زرقاء في ذلك الفلك، ومع طلوع الشمس تدور مع دورانها وتغيب مع غيابها، فإذا غابت الشمس وجاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوء خلفها كلما مضت ساعة تكامل الضوء في دائرة القمر، ثم تبدو بالدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس.
ثم جعل في هذه المدرسة خزانة كتب نقل إليها شيئا كثيرا من الربعات والكتب النفيسة والأصول المضبوطة المحتوية على جميع العلوم مائتين وتسعين حملا سوى ما نقل إليها بعد ذلك ، وشرط أن يشتغل في هذه الخزانة عشرة ممن يعنون بعلم الحديث، ويكون لهم شغلان يشغلون الطلبة أيضا بعلم الحديث النبوي، ورتب عندهم شيخا على الأستاذ يقرأ عليه الحديث. ثم إلى جانب هذه المدرسة دار برسم تلقين القرآن، يتبنى بها ثلاثون صبيا أيتاما، يتلقنون القرآن من شيخ ملقن، ويكون لهم معيدا بحفظهم التلاقين، وشرط للجميع من الخبز والمشاهرة والوظائف ما تضمنه شرط الواقف. وقد ارتفع مبلغ وقوف المستنصرية في العام نيفا وسبعين ألف مثقال. ثم شرط أيضا أن يكون فيها من يشتغل بعلم العربية، وكذا من يشتغل بعلم الحساب والفرائض، وكان عدد فقهائها مائتين وثمانية وأربعين فقيها من المذاهب الأربعة، ما عدا سائر المعلمين والشيوخ، وقد وقف عليها ما لا يعبر عنه من عدد القرى والضياع. وكان ابتداء عمارتها في سنة 625 هجرية (1228م)، وتمت في سنة 631، وفتحت يوم الخميس في رجب (آذار 1235م)، وحضر القضاة والمدرسون والأعيان وسائر وجهاء الدولة، وكان يوما مشهودا.
وأنشأ غيرها من المدارس والمشاهد والمساجد والربط والمغاور والقناطر ووسع الطرقات، إلى غير ذلك من الصدقات في كل الأيام، وأعطى الثياب والخلع والجرايات في شهر رمضان، والرواتب في سوى ذلك، وعموم هذه الأسباب، العلماء والعباسيين والعلويين والضعفاء والمساكين وتزويج الأيامى والحنو على اليتامى.
واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه وجده، حتى إن جريدة جيشه بلغت نحو مائة ألف فارس استعدادا لحرب التتار. وكان ذا همة عالية وشجاعة عجيبة وإقدام عظيم، وكان التتار قصدت البلد، فلقيهم عسكره، فهزموهم شر هزيمة، وكان له أخ يقال له: الخفاجي، فيه شهامة زائدة، كان يقول: «لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم.» فلما مات المستنصر لم ير الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفا منه، وأقاما ابنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهما الأمر، ليقضي الله أمرا كان مفعولا من تغلب التتار على بغداد وتخريبها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن مآثر المستنصر أنه أمر في سنة 632ه/1235م أن تضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلا من الدراهم المتخذة من قراضة الذهب، فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: «قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذه الدراهم عوضا عن قراضة الذهب رفقا بكم وإنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي.» فأعلنوا بالدعاء، ثم أديرت بالعراق، وسعرت كل عشرة بدينار. وكان قد خطب له بالأندلس وبعض بلاد المغرب، وكانت وفاته بكرة نهار يوم الجمعة 10 جمادى الآخرة سنة 640 (6 ت2 سنة 1242م)، وكتم موته إلى أن بويع لولده الأكبر أبي أحمد عبد الله، ثم خطب له على منابر بغداد وهو ميت، ثم أشيع نعيه بعد ذلك، ودفن في الدار المثمنة على دجلة، ثم نقل تابوته إلى تربة الرصافة، فدفن تحت قبة كان قد اتخذها لنفسه مدفنا، وكان عمره 52 سنة و6 أشهر و17 يوما، ومدة خلافته 16سنة و10 أشهر و28 يوما. (4-36) المستعصم بالله
المستعصم بالله: هو ابن المستنصر، ولد في 21 شوال سنة 609ه/17 آذار 1213م، أمه أم ولد، اسمها «هاجر»، أدركت خلافته. بويع له بالخلافة ضحوة نهار الجمعة 10 جمادى الآخرة من سنة 640 كما ذكرنا، واستدعي من مسكنه (بالتاج) سرا من باب يفضي إلى داره. وجلس في قبة المبايعة يوم السبت 11 جمادى المذكورة، فحضر جميع الأكابر، وجلس الوزير في المحفة التي حضر فيها محمولا بمحجرة على أرفع درج المنبر، ووقف أستاذ الدار دونه بمرقاة، يلقن الناس لفظ المبايعة، ولم يحضر الحفلة أعمامه وعم أبيه، فأغلق عليهم باب الفردوس الذي يحتوي على دورهم، بحيث لا يدخل عليهم طعام ولا غيره، فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، فسألوا المبايعة وأحضروا فبايعوا. وكان سهل الأخلاق، سليم الصدر، طاهر النفس، عفيف الإزار، ظاهر الحياء، لين الكلام، لم يشرب مسكرا قط، لكنه لم ينزه سمعه عن سماع المحرم، فإنه كان مغرما بلعب الحمام وبسماع الملاهي، محبا للهو واللعب، يبلغه أن مغنية أو صاحب طرب في بلد من البلاد فيراسل سلطان ذلك البلد في طلبه، فكان شغفه بهذه الأمور الزائلة أشغلته عن القيام بأمور الخلافة، واعتمد فيها على أناس غير أكفاء، بل أعداء له ولسدة الخلافة العباسية.
وكان ابن العلقمي وزيره يصانعه ويظاهره في الخارج وينافقه في الباطن، وكان قد عقد النية على إخراج الخلافة من العباسيين وجعلها في العلويين، فأخذ الوزير يضرب أخماسا لأسداس بلوغا لأمنيته، وأول شيء أشار به على الخليفة أن يسرح أكثر الجند لعدم الحاجة إلى هذا القدر العظيم الذي جمعه أبوه، وأقنع الخليفة أيضا بمصانعة التتر ومهادنتهم لانتشارهم في الأرض وتقدمهم السريع في فتوحاتهم، وأن نيتهم القدوم إلى بغداد واجتياحها، فإن لم يستعد لمصانعتهم عظم عليه الفتق وتعسر الربط والضبط. وكان ابن العلقمي في تلك الأثناء يساعد الأعداء في ما يؤملون، ويكاتبهم بما يجري في البلاد، وكيف يعملون على إضعاف قوى الخلافة ورجالها المتعلقين بها، وكانت الرسل بينه وبين التتر والمستعصم غائص في لذاته، لا يطلع على الأمور، ولا له غرض في المصلحة، وكان إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة، ويطالع التتر بأخبار مولاه، فأطمعهم في البلاد وسهل عليهم الأمر، وطلب أن يكون نائبهم فوعدوه خيرا، فدلهم على عورات الأمصار، وصورة أخذ دار السلام، وضعف الخليفة، وانحلال العسكر، فزحف هولاكو بجيش جرار إلى بغداد، والمستعصم ومن معه في غفلة عنه لإخفاء ابن العلقمي سائر الأخبار، إلى أن وصل العراق واستأصل من بها قتلا وأسرا. ولما دخلت سنة 656ه/1258م وصل التتر بغداد، وهم مائتا ألف في مقدمتهم هولاكو، فخرج إليهم عسكر الخليفة وعددهم أربعون ألف مقاتل، فانهزموا أمام العدو، وبعد أن قاتلوه من إقبال الفجر إلى إدبار النهار عجزوا عن الاصطبار وولوا الأدبار بالإدبار، فتعقبهم التتر فوضعوا السيف فيهم، وكان دخولهم بغداد يوم عاشوراء.
وبينما الأمور تجري على هذا الوجه الشنيع أشار ابن العلقمي على الخليفة أن يصانعهم، وقال: أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح، فخرج وتوثق لنفسه منهم، وعاد إلى الخليفة يقول: إن الملك قد رغب أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة، كما كان يفعل بنو بويه وبنو سلجوق في من كان في عهدهم، ويستأثر بالسلطنة وينصرف عنك بجيوشه، فليجب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد ، والرأي أن تخرج إليه، فعمل الخليفة بما قال له وزيره، وخرج إلى هولاكو في جمع من الأعيان، فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم، وكانت تخرج الطائفة بعد الطائفة منهم فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار، ثم مد الجسر وبذل السيف في المدينة، فقتل من المسلمين في ثلاثة أيام ما ينوف على 370000 نسمة، لكن القتل دام نحو أربعين يوما، فبلغ القتلى أكثر من مليون نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقتل الخليفة رفسا بالأرجل، ولم يسمع بأنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأسر بعضهم وسبي آخرون، وألقيت كتب الخزائن في دجلة، فكانت لكثرتها جسرا يمرون عليه ركبانا ومشاة، فكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، ولم يتم للوزير ما أراد؛ إذ لم يستحسنوا أن يقيموا خليفة علويا حسبما طلب، بل أخذوه معهم، فصار في صورة بعض الغلمان، ومات كمدا. وكان قتل الخليفة المستعصم ليلة الأربعاء 14 صفر سنة 656 (الموافق 21 شباط 1258م)، فكانت مدة خلافته 16 سنة و7 أشهر و4 أيام، وعمره 46 سنة، وكانت مدة ملك بني العباس منذ انتقلت إليهم الخلافة من بني أمية إلى أن انقرض ملكهم 526 سنة، عن 37 خليفة، أولهم السفاح، وآخرهم المستعصم. (5) حفظ العرب لعلوم اليونان وعودتها إلى الغرب
قد تكلمنا على الدولة العباسية منذ نشأتها إلى اضمحلالها في العراق، فحان لنا أن ننظر إلى ما أدى خلفاؤها من الخدم إلى الحضارة والعلم والرقي. وقبل أن نحوض عباب هذا البحث، لا بد أن نعرف حالة العلم عند العرب في بداوتهم وجاهليتهم، لنعرف ونقدر ما صاروا إليه من التقدم بعد تلك الخلافة، فنقول: إن بداوة العرب أمر غير منكر، والعلوم التي كانوا يعرفونها في حالتهم تلك لا تتطلب عناء عظيما ولا القبض على القلم، بل تتطلب ذاكرة رائقة، وملاحظة دقيقة، ومشاعر متنبهة، وشواعر متيقظة؛ ولذلك لم يكن لهم من العلوم يومئذ إلا علم الأنساب، وقرض الشعر والبلاغة، ورواية الأخبار، والنظر إلى القبة الزرقاء، وعلم الأنواء وعلم نزول الأمطار، والقيافة، والعيافة، والريافة، والفراسة، والكهانة، والعرافة، والطب، والضرب في الفلوات، والرماية، والملاحة، وركوب الخيل، وأصول الحساب، ومبادئ تقويم بلدان جزيرتهم، إلى ما ضاهاها من العلوم التي تؤخذ بظواهر الحواس، والتي لا يبذل في معرفتها من قوة الفكر شيء يذكر. ثم جاء الإسلام فكان معظم عناية الخلفاء الراشدين بنشر الدين وتمكين أسسه في البلاد، وكبح جماح المرتدين، ثم ما لبث أن ظهر الأمويون، فلما أقاموا في ديار الشام - وكانت سابقا مقر حضارات عديدة جليلة القدر - أخذوا ينتقلون من البداوة إلى الحضارة، فأصبحوا في حالة لا هي بدوية محضة، ولا حضرية بحتة، فكانت بين بين، ولم تأت بنفع للحضارة العصرية، ثم دالت الدولة، فظهر العباسيون في ميدان العمل، فكان جل همهم توسيع ملكهم وتوثيق دعائمه، وتأييد سلالتهم على عرش الخلافة بحيث لا ينزعها أحد من أيديهم، ولا يطمح إليها طامح. وتحققوا أنهم لا يتوصلون إلى بغيتهم هذه إلا بالعلم؛ إذ بالعلم ينال المرء كل ما يسعى إليه في هذه الدنيا، من قوة، ورئاسة، ومال، وجاه، وشهرة، وصحة، وراحة، وطول عمر.
وأول من عني منهم بالعلوم هو الخليفة المنصور باني بغداد؛ فإنه كان أول خليفة قرب المنجمين، وكان أصحاب التنجيم من أقرب المقربين من الملوك في ذلك العهد. وكان المنصور أيضا أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية، ككتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس، وكتب اليونان، فنظر الناس فيها وتعلقوا بها. فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسير ودونها، فكانت هذه المؤلفات أمهات المصنفات التي أنشئت بعدها، وأصبحت مثلا يحتذى عليها، ووسائل نشطت همم من أراد التقرب من الخليفة وأولاده، فنشأت في قلوب رعيته محبة العلم وأربابه.
ثم جاء الرشيد فتمكن ذلك الحب في الصدور، فازداد في عهده عشاقه والمعاونون له. وما جاء المأمون إلا وكان العلم قد أثمر أثمارا بلغت أطايبها، وكان هو بنفسه مثالا للجد والجهد والعلم الصادق. بيد أنه كثر في زمانه الزنادقة والملاحدة، فنسب الناس تكاثرهم وتبجحهم بالكفر إلى مطالعة الكتب الحديثة والتوغل فيها، فكان هذا الأمر سببا لحط العلم وعشاقه إلى دركات منعت كثيرين من المسلمين عن الاشتغال به؛ إذ رأوا أن الذين زاولوه حادوا عن سواء السبيل إلى ما لا تحمد عقباه، ولا سيما بعد أن نظروا في الكتب التي كان قد صنفها ماني، وابن ديصان، ومرقيون، مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذلك الوقت ابن أبي العرجاء، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس تأييدا للمانوية والديصانية والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس وأفسدت كثيرين في آرائهم وعقائدهم حتى اشتهر هذا المثل: «من تمنطق تزندق.» وأصبح معنى الفلسفة عند أهل ذلك العصر وما بعده مرادفا للكفر والزندقة والإلحاد.
على أن الأذكياء رأوا أن العلم الصحيح بريء من تهمة الكفر؛ إذ قد وجد الإلحاد - أو قل التظاهر به - في الجهلة كما وجد في الأدباء، مع أنه قد ثبت أن العلم غير مناف للدين، ولو تنافيا لما وجدا مجتمعين في امرئ قط، ونحن نعلم أنهما قد اجتمعا في أناس كثيرين وقد اشتهروا بهما معا. ومع ذلك فقد صنف الجدليون من أهل البحث من المتكلمين أسفارا جليلة في رد الجاحدين والزنادقة ومن لف لفهم، فأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، فأخذ النفور يزول من صدور أولئك الذين كانوا قد استنكفوا من درس المنطق والفلسفة وأنواع العلوم الطبيعية وغيرها، فعادوا إليها قريري العين. وقد ظهرت نتيجة هذا الاشتغال في عهد بني بويه، فنبغ من العلماء والنحاة واللغويين والمؤرخين والشعراء والأدباء ووصاف البلدان ما يكسف نورهم نور شمس من كانوا في عهد الرشيد والمأمون، وبلغ هذا معظمه في عهد المستنصر؛ إذ وصلت العلوم نهايتها، ويشهد على صدق دعوانا تلك المدرسة التي شيدها ذلك الخليفة الكبير، وزينها بالعلماء الأعلام على اختلاف طبقاتهم ومعارفهم، بيد أنه لم تظهر ثمارها للعيون؛ لأن هولاكو وأبناءه هبطوا «أم العراق»، وعاثوا عيث الذئاب في الغنم، وتمادوا في القتل والفتك، فكانت شمس تلك الحضارة شمس الأصيل، كما وقع مثل هذا الحادث في آخر الدولة الساسانية وآخر دولة الآشوريين العظيمة.
هذا، وحصل من اشتغال العرب بعلوم الأوائل حضارة خاصة بهم، إلا أن أسسها ودعائمها بقيت يونانية. نعم، إن أهالي أرض الرافدين أتقنوا لغة مواليهم العربية، واعتاضوا بها عن لسانهم الآرمي الذي كانوا يتكلمون به بصورة من الصور منذ عهد نبوكد نصر، والأسفار الجليلة التي كانوا قد نقلوها إلى الآرمية في عهد الدولة الرومانية النصرانية، وفي مواضيع مختلفة، كالرياضيات، والفلكيات، والبلدان، والحيوان، والنبات، والجماد، والكيمياء، والمنطق، وما وراء الطبيعة، نقلوها أيضا إلى العربية في عهد العباسيين، فأخذ العرب يجلون أرسطوطاليس الفيلسوف الذي لا يصدق هذا الاسم إلا عليه، وأكبوا على دراسته في ديارهم كلها من آسية الوسطى إلى الأوقيانوس الأتلنتيكي، ولعلهم فهموه في بلخ وسمرقند أحسن مما فهمه دارسوه في أوروبة في ذلك العهد. والخواطر التي بدت لهم من مطالعة المصنفات اليونانية أنتجت آدابا علمية وفلسفية عربية فاقت كل آداب سواها كانت تعرف يومئذ في الغرب. وأغلب هذه الآداب لم تكن نتاج أناس عربيي النجار والعنصر، بل نتاج أفكار السريان، وأفكار المنتسبين إلى العنصر الفارسي القديم المعروف في هذه الديار، وقد أصبح لسانهم عربيا بعد الفتوحات الإسلامية، ويدعم رأينا هذا مشاهير ذلك العصر؛ ففي القرن الحادي عشر مثلا كان ابن سينا يوغل في أبحاثه العلمية في خزائن كتب بخارى، وكان البيروني ينعم النظر في ثقل المعادن النوعي وهو في خيوق (خيوا). فالفكر الفلسفي الذي جاء به اليونان إلى عالم العلم أثر كل التأثير على فلسفة العرب وعلمائهم على اختلاف عناصرهم وديارهم ونزعاتهم.
فنرى مما تقدم بسطه أن الناطقين بالضاد انتحلوا بسهولة معارف الأقدمين ووسعوها، لكنهم - والحق يقال - لم يزيدوا عليها علما جديدا جديرا بالذكر، ومع ذلك فلهم أعظم فضل على العلم والعالم؛ لأنهم حفظوا وديعة نور العقل في عهد كانت دول الغرب مرتبكة بأمورها الداخلية، وغزوات الأقوام الهمجية لهم، فكان انتقال معظم تلك المعارف إلى تلك الديار الغربية بواسطتهم، فمنها ما وصلتهم عن طريق الحروب الصليبية التي وقعت بين القبيلين، ومنها عن طريق المدارس التي أنشئت في الأندلس، ولا سيما في إشبيلية وقرطبة وطليطلة، يدلنا على ذلك الألفاظ التي دخلت لغاتهم في مواضيع مختلفة، كالكيمياء، والفلك، وعلم المواليد وغيرها، عند ترجمة كتبهم العربية إلى ألسنتهم الأعجمية.
ومما أخذه أهل الغرب عن العرب: بعض الأعمال المتعلقة بالصنائع، كعمل الكاغد، والبارود، والخزف، والسكر، وتركيب الأدوية ، وتقطير الأرواح والمشروبات. وتعلموا منهم أيضا: نسج ضروب مختلفة من الثياب، وأدخلوا بلادهم أيضا دود القز بعد أن تعلموا منهم تربيته، وأخذوا منهم بذر كثير من الحبوب كالأرز، وغرس كثير من متنوع الأشجار، كقصب السكر، والزعفران، والقطن، والإسبانخ، والرمان، والتين. وتعلموا منهم دباغة الأديم وتجفيفه ودلكه وتلوينه؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا يحصى تعداده. (6) في أن المغول آفة الحضارة، وفي ذكر ما أوقعوه فيها، وانحطاط العلوم بانحطاط السلطة والثروة
كما أن للأجسام أمراضا قد تقضي عليها في بعض الأحيان، وكما أن بين النباتات نباتات أخرى مضرة لآكلها، بل سامة له، كذلك للحضارة أقواما مضرة بها، بل متلفة لها في بعض الأحوال؛ فالمغول أو المغل هم من هذا القبيل؛ أي إنهم متلفون للعمران مهلكون للمجتمع البشري كما شاهدناهم عند هبوطهم بغداد، ففعلوا من الأفاعيل ما يرتعد لها فرائص الإنسانية من قتل ونهب وإفساد وإحراق ومنكرات ليس للقلم إمكان أن يدونها أو يصفها. وأعمالهم هذه لم تكن أعمال أمس، أو في هذه الأمصار الشرقية فقط، بل كانت كذلك منذ الأعصر الواغلة في القدم، إلا أن التاريخ لم يعرف من أمرهم شيئا مثبتا إلا منذ عهد تموجين الذي سمى نفسه «جنكيز خان»، فلما هلك اقتسم مملكته أبناؤه الأربعة، وهم: جوجي، وجغطاي، وتولاي، وأوكتاي، وكانت الكلمة النافذة والسطوة العاملة لأوكتاي، وهو الذي فتح الصين في سنة 1234م، وأرهب وأرعب خلقا جما، ومن الصين ذهب إلى كوه قاف (قوقاس، أو قفقاسية)، وغزا «باطو» ابن أخيه جوجي بلاد روسية، وأخذ موسكو في سنة 1237م، وأوغل في ديار المجر، ثم عاد أدراجه إلى بلاده المغولية عند وفاة أوكتاي في سنة 1241م. وقام بعده كويوك، ثم منكو بن تولاي سنة 1250م، فأمعن منكو في هند الصين، بينما كان أخوه هولاكو يأخذ أم العراق بغداد. وخلف منكو قبلاي (1259-1294)، وقلب دولة «سنغ» الصينية وأنشأ دولة «يوين» المغولية في سنة 1279م، فامتدت رقعته من بلاد الروس إلى ديار اليابان، ومن المحيط الشمالي إلى هند الصين. ولما طرد اليوينيون من بكين حاضرة الصين لكثرة من قام عليهم من الثوار احتل عرشهم آل «منغ» سنة 1368-1388، وحينئذ أصبح لكل طائفة منهم تاريخ مستقل خاص بها. وفي هذا التاريخ لا ترى من الحسنات شيئا، بل تراه مكتوبا بأحرف من دم على صحف سوداء، سودتها فظائعهم ومظالمهم وشنائعهم التي تقشعر لذكرها الأبدان؛ فالذي أنزلوه من البلايا والرزايا في ديار النهرين أنزلوا مثله في سائر الأمصار العامرة، فصيروها غامرة.
وأنت تعلم أن البلاد التي لا يتسنى لها الراحة لا يتسنى لها المعاملة والمتاجرة، ولا المبايعة والمقايضة، ولا الزراعة والصناعة، فتغدو فقيرة بحكم الحال. وإذا افتقرت البلاد قام أهلها يغزو بعضهم بعضا ليعيشوا، فيأخذ القوي ما يجده لحاجته عند الضعيف. وعلى هذه الصورة تنحط البلاد، ويذل سكانها ويقلون إن لم ينقرضوا، وما ذلك إلا آفة الجهل، وما آفة الجهل إلا الأقوام المنحطة التي لا تريد الرقي، كما لا تريد أن تدين لسيد عاقل حكيم كما تظهر هذه الحقيقة لأدنى تأمل. (7) في صنائع الإسلام الراقية، وفي الريازة (علم البناء)
كان العرب قبل الإسلام يعرفون التصوير والتمثيل، يشهد على ذلك ما جاء في الحديث النبوي: «رأيت الجنة والنار ممثلتين في قبلة الجدار»؛ أي مصورتين أو مثالهما. ويشهد عليه الأصنام والأوثان التي كانت في الكعبة، وعددها يفوق الثلاثمائة، فلما جاء الإسلام حرم التصوير والتمثيل، فكسرت الأصنام، ومزقت الصور أينما كانت وفقا لهذا الحديث: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.» وفي حديث آخر: «لا تمثلوا بنامية الله»؛ أي لا تشبهوا بخلقه وتصوروا مثل تصويره، وقيل: هو من المثلة، والأشهر الأول وعليه المعول. فلما أخذ المسلمون بالتوغل في العمران وأرادوا أن يزينوا بيوتهم ودورهم وقصورهم بضروب التصاوير عدلوا عنها، واختاروا لهم زخارف اشتهرت عند الإفرنج باسم «النقوش العربية»، لا لأنهم اخترعوها؛ بل لأنهم أكثروا من استعمالهم لها، ولأن أهل الغرب تلقوها عنهم، وهي نقوش هندسية يزينون بها الآيات أو الأحاديث والحكم التي يكتبونها أو يحفرونها على تلك المعاهد، وتمثل تلك الزخارف رسوما هندسية أو أنواعا من الأزهار والأثمار والأوراق ، هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة؛ إذ لم يقصدوا بها إلا مجرد الزينة ليحسنوا بها الكتابة، فتزداد بها حسنا ورواء. ومن أحسن ما عنوا به من هذا القبيل ما زينوا به القصور التي شيدت في الأندلس في عهد الخلفاء الأمويين.
على أن الشيعة لم يحرموا التصوير والتمثيل؛ لأنهم لم يروا في القرآن آية تدل على تحريمهما، إلا أنهم حرموا صنع التماثيل؛ لقربها من هيئة الأصنام والأوثان. ولهذا نرى كثيرا من الكتب المصورة وفيها مثل الإنسان والحيوان والنبات، وهذا لم يتخذوه قبل يوم أو يومين، بل جاء ذلك عندهم منذ سابق العهد؛ فقد كان المتوكل قد بنى قصرا بسامراء سماه «المختار»، وكانت فيه صورة عجيبة من جملتها صورة بيعة فيها رهبان، وأحسنها صورة شهار البيعة، وقد قال الواثق واصفا القصر والصورة:
ما رأينا كبهجة المختار
لا ولا مثل صور الشهار (هذا الكلام مأخوذ عن معجم البلدان لياقوت الحموي في مادة: المختار)، والظاهر أن المتوكل بنى هذا القصر قبل أن يلي الخلافة؛ لأن الواثق أخاه وليها قبله، فيكون قد ذهب إليه بعد بناء المتوكل له وفي عهد خلافة أخيه الواثق. ومن الغريب أن المتوكل كان سنيا صرفا، وعدوا أزرق للشيعة، فلا نعلم كيف رضي بأن تصور تصاوير في قصره! وعلى كل حال فإن الدكتور هرتسفلد اكتشف في سامراء عداة تصاوير في قصور العباسيين قبل نحو ثماني سنوات، مما حمل العلماء المستشرقين على القول إن العباسيين كانوا قد تساهلوا في هذا الباب، وكان الخلفاء قبل ذلك العهد مخالفين لهذا التسامح والتجوز. (7-1) الزخارف العربية
أما أصل هذه الزخارف المشهورة بالزخارف العربية فهو الهند؛ فقد قال هيرودوتس وإسترابون وإريانس وجماعة من قدماء المؤرخين، إن الهنود كانوا يصنعون منذ عهد عهيد ثيابا، يطبعون عليها تصاوير زاهية الألوان لا تنفض (لا تجرب). وتلك التصاوير تمثل أزهارا وأنبتة وحيوانات ونقوشا مختلفة. وكانت تلك الثياب (الأقمشة) تباع في الديار المصرية واليونانية قبل أن يفتح الإسكندر الكبير فتوحاته الشهيرة، فتنقل إلى اليونان أسرار صنعها. وكان البطالسة أقاموا في الإسكندرية معامل وكان فيها مهرة العملة من اليونان، يرشدون المصريين إلى تقليد تلك الثياب الهندية، وكانوا ينقشون عليها - على ما قال كلوديانس - «وحوشا مختلفة الأشكال، وسلاحف طائرة، ونسورا ذات قرون، وصور بشر متصلة بصدف الحلزون.» وقد أخذ المصريون أيضا في ذلك العهد عن الفرس والبابليين صنع الطنافس والبسط التي كان قد أغرم بها اليونان في زمن أرسطوطاليس، الذي قال عنها: إنها كانت مرغوبة لحسن ألوانها الزاهية وغرابة نقشها وإتقان صنعها. ولعل رؤية الثياب الشرقية هي التي هدت اليونان إلى معرفة الزخارف العربية من شماريخ وتعاريج وأوراق زينوا بها بعض أبنيتهم، ومن جملتها رأس البناء المعروف عندهم بما معناه: «مصباح ديمستينس»، لكنه لا ينكر أن الرومان لم يأخذوا ذوق هذه الرسوم إلا من ديار مصر حتى بلغت عندهم (أي عند الرومان) الشأو الأبعد.
ولقد أشار فتروفس
3
إلى هذه الرسوم كأنها حديثة في عهده. ومع ما كتب هذا الناقد من الكلام اللاذع بشأن أولئك الذين أحدثوا أمورا في الريازة الرومانية، بقي معاصروه محافظين على ما أدخلوه في بلادهم من تلك النقوش والتزينات، وظلوا يزخرفون بها مصانعهم ومعاهدهم، بل ومدافنهم نفسها، لا ترى ثم إلا تصاوير ومنحوتات تمثل لك مناظر أبنية خيالية ونقوشا تشتبك فيها الأبنية الوهمية والحيوانات الوحشية، وأطفالا تلعب بضروب من عنقاء مغرب، وغيرها كالسباع التي لا حقيقة لها. وترى بينها أيضا أثمارا وحيوانات صيد وأزهارا، أو أدوات لهو وتخاريم؛ إلى غيرها. وأغلب هذه المرسومات تشف عن تقليد مأخوذ عن الشرق، مثل النباتات والحيوانات المقدسة المصرية والهندية، وبجانبها مصانع بناؤها فارسي الطرز أو بابلية. أما الرموز التي تشير إليها تلك المصورات، فإن الرومان ما كانوا يفقهون لها، فكانوا يتخذون «الطرز المصري» طرزا صناعيا لا غير. كما يقلد اليوم الإفرنج «الطرز الصيني والياباني» وهم لا يفهمون ما تنطوي عليه من المغازي والمعاني والإشارات الدقيقة. ولقد اكتشف الباحثون منذ نحو قرنين كثيرا من هذه التصاوير العربية في بنبئي وهركلانم، وقد رسمت قبل الإسلام بنحو خمسمائة وخمسين سنة، فوجودها قبل الحضارة العربية دليل واضح على أن أبناء يعرب لم يخترعوا تلك النقوش، بل أخذوها عن المصريين والهنود كما تقدمت إليه الإشارة، وبهذا القدر كفاية في هذا الصدد. (7-2) النقش
أما النقش - أي التصوير بالألوان - فإن العرب كانوا يعرفونه أيضا قبل الإسلام على ما أورده ابن الكلبي في تاريخ مكة، واصفا ما كان في الكعبة من النقوش المختلفة. وأما بعد الإسلام فقد حرم كما حرم كل تصوير وتمثيل،
4
وقد ذكر العلامة مرادجا دصون أنه كان منقوشا على أبواب جامع عبد الملك في القدس صورة النبي القرشي، وكان داخل ذلك الجامع مزينا بنقوش تمثل الجنة والنار، ولا جرم أن ناقشي تلك الصور كانوا الروم، إلا أنه اشتهر بين العرب أيضا نقاشون عديدون صوروا الأنبياء والخلفاء وكبار القواد ومشاهير الرجال والشعراء النوابغ، حتى إن معامل القلمون بجوار دمشق، ومعامل دابق بجوار حلب، ومعامل البهنسى في الصعيد الأدنى، كانت تصور تلك النقوش على الثياب التي كانت تنسج فيها، ومن جملة ما كانوا يصورونه على تلك الثياب: الحفلات، والأعياد والتصيد.
وقد نبغ في القرن العاشر للمسيح (أي القرن الرابع للهجرة) نقاشون تعقد عليهم الخناصر، من جملتهم: عبد العزير البصري، وقيصر العراقي، وأبو بكر محمد بن حسن، ومحمد بن المبارك الصوري، ومحمد، وغيرهم كثيرون. وفي ذلك العهد أيضا كان فريق من العرب يزوقون ويحلون نفائس الكتب بنقوش زاهية الألوان، لا تقل حسنا عما كان ينقشه الغربيون من الدمى ويزينون بها أسفارهم الثمينة. وقد ذكر التاريخ دار تصوير ونقش في سمرقند، أنشأها تيمورلنك نفسه، وأحسن ما كان من تلك الصور كانت من قلم عبد علي الشيعي البغدادي. ويحفظ اليوم العلماء وأهل الفن المغرمون بالنفائس الشرقية تصاوير ونقوشا عديدة، وقد وضعوا كتبا جليلة في وصفها وذكر محاسنها ومساوئها، وقد نقلوها بالتصوير الشمسي، وهذه الكتب هي أشهر من أن تذكر، وهي تباع في أسواق وديار الإفرنج، فليس أدنى شبهة في أن كثيرين من المسلمين أولعوا بالنقش والتصوير، وأبقوا لهم فيهما ذكرا لا يمحى. (7-3) الريازة
الريازة العربية - ويسميها بعضهم الريازة الإسلامية، ويسميها الأندلسيون الريازة المغربية - هي فن البناية العربية الحادثة بعد الهجرة، وقد ظهرت ميزتها في العهد العباسي ثم زادت رونقا في زمن عبد الرحمن الأموي الأندلسي في الأبنية التي رفعها في قرطبة؛ فإنه جلب من القسطنطينية رازة مهرة، وأرسل قسطنطين - قيصر الروم يومئذ - إلى الخليفة المذكور بمائة وخمسين عمودا من الرخام النادر لقصر الزهراء، والزهراء كانت حظية الخليفة، وقد لاحظ أحد علماء الفرنسويين، وهو المسيو جيرو دي برانجي، أنه كان ببلاد الأندلس ثلاثة أعصر متعاقبة: عصر يبتدئ من القرن الثامن وينتهي في القرن العاشر، ومزيته تقليد الأبنية الرومانية تقليدا حذو القذة بالقذة، وكان رازته البناءون الذين كانوا في ديار الشام ومصر والعراق الذين بقوا على حب الخلافة الأموية، فغادروا من أجلها بلاد الشرق إلى بلاد الأندلس، وكان الروح العربي قد تجلى في أصحابه كل التجلي، «وكان أعظم فرحهم - على ما قاله المسيو رينو - أن يكثروا من الأشياء التي كانت قد أثرت على أنظارهم في وطنهم الذي نشئوا فيه.» وأراد الخليفة عبد الرحمن الذي خط بيده رسم جامع قرطبة أن يكون جامعه شبيها بالجامع الذي شيده أهل بيته في دمشق الفيحاء، وأن يفوق زخرفه وبهاؤه زخرف وبهاء الجامع الذي كان يقيمه العباسيون آنئذ في بغداد دار السلام.
وقد وصف أوسابيوس القيصري في كتابه «ترجمة قسطنطين» الأبنية التي شادها هذا القيصر، وكان فيها أفنية واسعة وأروقة عالية، وشاذروانات تقذف مياهها إلى بعد شاسع، ومقاصير حسنة الهندام معدة لإيواء القسوس وخدم الدين. فلا جرم أن هذه المصانع كانت أمثلة لما بني من الجوامع في ديار الشام وفلسطين ومصر، على ما لاحظه رازة العصر النوابغ من أهل الغرب بعد أن قابلوا أبنية بأبنية، ولا سيما لأنهم يعلمون أعمار تلك الأبنية وما سبق أحدها الآخر؛ ففي الجوامع التي عمرت في تلك الأزمان تكثر الفسافس
5
البوزنطية. وفي سنة 965م كانت الزخارف اليونانية الفنية بنقوشها وأنواع زينها لا ترضي أصحاب الفن؛ لميل أنفسهم إلى ما هو أرقى منها وأوقع في النفس، فأخذوا يبحثون عن زخارف زاهية، وشرعوا يكثرون من دقائقها، فأصبح شكل العقود غزير التخاريم والمنعرجات المختلفة، كما يشاهد هذا الأمر في قرطبة في مسجد «كابلة» فلافشيوسا الذي أنشئ في خلافة الحاكم (سنة 965م)، وهذا هو العصر الثاني من عصور الريازة العربية. أما عصرها الثالث فهو الذي حدث بعد سقوط خلافة قرطبة؛ وذلك أن عرب الأندلس دانوا للمسلمين الإفريقيين، فانحط شيئا فشيئا الروح العربي، فنشأ في الصنائع والفنون الراقية مزية جديدة، سماها أحد المحدثين من أصحاب الفن - وهو العلامة جيرو دي برانجي - «الريازة الإسلامية المغربية، أو الأفريقية»؛ إذ ترى في تلك البناية قيام العقد اليوناني الثقيل الساذج بجنب عقد بيضي الشكل كثير الرشاقة أو قليلها، على ما يبدو لك ذلك في مختلف الأبنية، ويتلو التزين البوزنطي المنتظم التخريمات والتزويقات الغريبة الأشكال التي سماها العلماء «الزخارف العربية»، كما أسلفنا الكلام عنها، وأبدلت فسافس الزجاج والرخام بفسافس الكاشاني (أو الكاشي) الزاهية الألوان على أشكال صور بديعة أدخلها الفن الجديد طبقا لأوضاع هندسية متقنة كل الإتقان. ويشاهد أيضا على جدران الأبنية تزيينات من الستوق مفرغة إفراغا حسنا، وهي إذا جاورت بقية أجزاء التزويقات والتحسينات تفعل فعلا عجبا في الرائي. وزمن هذا العصر الذي هو أزهى عصور الريازة الإسلامية هو المائة الثانية عشرة، في عهد دولة الموحدين الذين كان يمتد صولجان ملكهم من بلاد الأندلس إلى القسم الشمالي الشرقي من أفريقية، وأجمل أمثلة هذه البناية ترى في إشبيلية، وكانت يومئذ حاضرة دولة الموحدين؛ فمن هذه الأبنية: «الجيرلدة»، وبقايا الجامع الذي حول كنيسة، وهي قائمة إلى يومنا هذا، وبعض جهات من القصر؛ فهذه الأبنية على اختلافها شيدت في خلافة المنصور. ومما ميز هذا العصر عن أخويه المذكورين: الكتابات، والمقام الرفيع الذي صار لها في ذلك الأوان؛ إذ اتخذت بمنزلة زينة زينت بها العمارات على اختلاف غاياتها فرارا من اتخاذ الصور عليها. إلا أن الكتابات في نظر رازة الإفرنج ليست إلا بمنزلة الأمور الثانوية لا غير.
ثم انتقلت هذه الحالة إلى حالة أخرى أرقى منها، إلا أنها كانت آخر رمق تلك الدولة، وكانت غرناطة مباءة هذا الرقي. وأغلب الأمثلة التي يشار إليها بالبنان أنشئت في «الحمراء». قال المسيو رينو الذي استشهدنا بكلامه غير مرة: «إذا كانت الأبنية هي لسان حال الأمم وينطق بأخلاقهم وعاداتهم وعمرانهم، فليس من بناء ينطق بتلك الأمور كلها مثل «الحمراء»؛ فإنك ترى فيها عنوان أمة تحب الفراغ، وتعشق اللهو، وتغرم بالأنس، وتتفرغ للملاهي على ما كانت عليها في ذلك الزمن.»
هذا؛ وخارج الأبنية الإسلامية ساذج، يكاد يكون عاريا من الزينة، وليس فيه من النوافذ إلا الشيء اليسير، وهذه النوافذ مسدودة بالمشربيات التي يسميها العراقيون المشبكات، وهي تنم عن أن من يجلس وراءها يحب التطلع على الناس بدون أن يشرف عليه أحد، وهو أمر معروف في المتحضرين من العرب، وقد اشتهر بذلك نساؤهم، خاصة لوجود دار خاصة بهن تسمى الحرم؛ ولهذا لم يكن يومئذ في غرناطة من المباني العمومية سوى المساجد والمدارس والحمامات، وفي هذه المصانع نفسها لا ترى في ظاهرها الزينة والبهرجة والزخارف، بل تراها في داخلها فقط، بخلاف ما يشاهد في الأبنية اليونانية والرومانية، فإن الزينة كانت ترى على الخارج وفي الداخل منها، ولكن العرب اعتبروا ظاهر البناء بمنزلة القشرة للثمرة، فلا اعتداد بقشرة إذا كانت الثمرة حسنة.
أما دور خواص المسلمين في الأندلس فإنها تشبه الدور التي ترى في يومنا هذا على سواحل أفريقية؛ فإنك ترى مدخلها مشروعا على الطريق، ولا تصل ساحة الدار إلا من بعد أن تمر بدهليز (يسميه العراقيون: المجاز، والرومان: أتريوم). وفي فناء الدار يكون غالبا شاذروان (يسميه أهل الشام: نوفرة، أو فسقية)، وحوله صفوف من أشجار النارنج والبرتقال، وحول الفناء رواق مفتوح (واسم الرواق عند العراقيين: الطارمة) بعواميد لطيفة دقيقة، ومن هذا الرواق تصير إلى الحجر أو الغرف المنتظمة حول الشاذروان. وإذا فحصنا البناية العربية في بلاد الشام ومصر حيث لم يتبدل فيها إلا ما رقاه الفن، نرى فيها فروقا تميزها عن بناية عرب الأندلس، وريازة مغاربة أفريقية؛ فجوامع ديار مصر مثلا تدل على معرفة واغلة في فن تعادل الأجسام، واختيار المواد اللازمة للبناء، أما تزيينهم للأبنية واتخاذ الكتابات المزخرفة فالظاهر أن ليس في مصر القاهرة معهد يفوق أو يجاري الحمراء في الأندلس.
ما تقدم بسطه هو نظر عام في أبنية المسلمين في ديار الغرب. أما في الشرق فإن الريازة الفارسية أثرت كل التأثير على الريازة الإسلامية، بل أكثر مما أثرت عليها الريازة الرومية؛ ففي البناية الفارسية من الأشكال المتلاعبة ما أنشأ في نفوس العرب المشارقة طرزا خاصا بهم، يمتزج فيه الطرز الرومي بالطرز الفارسي، فاكتظت في الجوامع القبب البيضية والمخروطة، على حد ما كان يرى في مصانع الفرس والهنود القديمة، وقد اقتبسها من الشرق بناة الروس ورازتهم، فازدانت المآذن بأحواض مسننة، وشرافاتها ناتئة داخلة على طبق ما يرى اليوم في بعض الأبنية القديمة في ديار فارس. وامتدت قسي الفتحات على شكل عقد مبالغ فيه، وارتفعت بيضية الشكل حادتها، وازدانت بتقاطيع وتزاويق عديدة تتميز بينها تلك القبيبات المعلقة، كأنها أنصاف أجراس مستديرة، وتكاد تتذبذب في الهواء لما فيها من حسن أسلوب الوضع ورشاقة الأشكال، وهي التي سماها الإسبانيون: «مدياس نارنخاس»؛ أي أنصاف النارنجات.
وقد اتخذ العرب في أبنيتهم الحجارة المنحوتة والإشكنج،
6
وربما ناوبوا بين طبقة من هذا وطبقة من تلك، أو بين طبقة من الحجارة وطبقة من اللياط، واتخذوا بمهارة ما سموه التعبئة، وهي ضرب من الملاط ممزوج بحصى، كانوا يفرغونه بين الألواح الراكبة ثخن الحائط الذي يريدون بناءه، فإذا صلبت تلك التعبئة يغشونها بطلاء رقيق يدفع عنه الرطوبة. أما الأبنية المستديرة فقد ندر وجودها عند مسلمي العرب. وكانت أبراجهم مربعة كما تشاهد في ميادين آرل في فرنسة، وكانت بعض الأحيان مثمنة الزوايا. أما إذا أردت أن تشاهد أمثلة بناء الفن العربي فعليك ببلاد الأندلس، وإفريقية، وسورية ، وصقلية، وفي بعض مدن جنوبي فرنسة.
وأما البناية في العراق فهي على طرزين: طرز سبق الإسلام، وطرز عقبه؛ فالطرز السابق الإسلام كان يقرب من الطرز الفارسي الساساني، مع شيء من الطرز الرومي، وكان أغلب بناته العرب النصارى، فكانوا يعنون بتشييد الحصون والقصور والبيع والأديرة، ولم يبق في ديارنا من تلك الأبنية إلا ما يسمى اليوم بالأخيضر، بقرب شفاثا، أو بجوار النجف، وما الأخيضر على رأي بعضهم إلا تصحيف: الأكيدر؛ أي قصر الأكيدر، وهو صاحب القصر وبانيه، ويوافق هذا الرأي أن محله يوافق كل الموافقة ما وصفه ياقوت عن قصر ومنازل في دومة الحيرة، وهي غير دومة الجندل، وكلتاهما للأكيدر. وهذا بعض ما قاله الحموي: «فأما دومة (الجندل)، فعليها سور يتحصن به، وفي داخل السور حصن منيع يقال له «مارد»، وهو حصن أكيدر الملك ابن عبد الملك ... السكوني الكندي ... وكان نصرانيا. ونقض أكيدر الصلح ... فأجلاه عمر (رضي الله عنه) من دومة في من أجلى من مخالفي دين الإسلام إلى الحيرة، فنزل في موضع منها قرب عين التمر، وبنى به منازل، وسماه دومة، وقيل: دوماء، باسم حصنه بوادي القرى، فهو قائم يعرف، إلا أنه خراب.»
قلنا: وهذا القصر قائم إلى يومنا هذا، وقد وصفه المسيو لويس ماسنيون الفرنسوي في رحلته، ووصفته أيضا أحسن وصف الخاتون الكريمة «المس جرترود لوثيان بل» الشهيرة في بلادنا، وقد فصلت هذا الوصف في كتابها الموسوم «من مراد إلى مراد»، وذكرت عنه فوائد جزيلة، وصورته على اختلاف جوانبه وحجره، فجاء التصوير أحسن مثال له ولمن يريد أن يشاهده بدون أن يذهب إليه، فعلى من يريد الوقوف على كل ذلك أن يراجع الكتاب المذكور. ومن القصور السابقة للإسلام: الخورنق، والسدير، ولهما أطلال باقية في جوار النجف أيضا. وهناك غيرها من القصور كبارق، وسنداد، والحاري، وكان هذا من أبدع ما بني؛ فقد نقل المسعودي في مروج الذهب:
أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصر، أحدث بنيانا في دار قراره، وهي الحيرة، على صورة (جيش) الحرب وهيئته للهجته بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق مجلس الملك، وهو الصدر، والكمان ميمنة وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه، وفي اليمين منهما خزانة الكسوة، وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب. والرواق قد عم فضاؤه الصدر والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوقت «بالحيري بكمين»، إضافة إلى الحيرة. (ا.ه. المقصود من إيراده.)
قلنا: وسمى بعضهم هذا النوع من البناء: السدلي، والسدير، كما أشار إليه لغويو العرب.
وأما الأديرة التي بنتها العرب قبل الإسلام فكثيرة، ذكر شيئا منها ياقوت في معجمه، وخص منها بالتفصيل دير هند الصغرى، ودير هند الكبرى، ونحن نذكر هنا بعض ما قاله عن دير هند الكبرى، قال: «وهو أيضا بالحيرة (كدير هند الصغرى)، بنته هند أم عمرو بن هند، وهي هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي، وكان في صدره مكتوب:
بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وبنت عبيده في ملك ملك الأملاك خسرو أنو شروان في زمن مارافريم الأسقف؛ فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق، ويكون الله معها ومع ولدها الدهر الداهر.» انتهى.
ومن الأديرة القديمة الشهيرة دير العاقول، قال عنه ياقوت: «هو دير عظيم شبيه بالحصن المنيع، وعليه سور عظيم عال محكم البناء، وفيه مائة قلاية لرهبانه، وهم يتبايعون هذه القلالي بينهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وحول كل قلاية بستان فيه من جميع الثمار، وتباع غلة البستان منها من مائتي دينار إلى خمسين دينارا، وفي وسطه نهر جار.» ا.ه. هذا وصف شيء من أبنية العرب قبل الإسلام. وأما بعد الإسلام فإن طرز البناء أصبح مركبا من الطرز الفارسي والطرز الرومي على ما أسلفنا القول. وقد بنى العباسيون في العراق أبنية كثيرة، كان أغلبها جوامع وقصورا، وفي نحو آخر خلافتهم عنوا بإقامة المدارس. وقصورهم كانت كثيرة وكان أكثرها في بغداد وفي سامراء؛ فمنها القصر الحسني، والخلد، والتاج، والثريا، وقصر السلام، والقصر الأبيض، والرقة، والحيز، والعروس، والمختار، والوحيد، والجعفري المحدث، والغريب، والشبدان، والبرج، والصبح، والمليح، وقصر بستان الإيتاخية، والتل، والجوسق، وبركوارا، (ويروى: بركوان، وهو خطأ)، والقلائد، والفرد، (ويروى : الغرد، وهو خطأ)، والماحوزة، (ويروى: الماجوزة، وهو خطأ)، وهو القصر بالمتوكلية أيضا، والبهو، واللؤلؤة، والجعفري، والمعشوق، وهذا وحده موجود منه شيء في سامرا. وأما من قصور العباسيين في بغداد فإنه لا يوجد سوى بقايا من قصر على دجلة، يقال إنه بقايا التاج، وهو ما يرى في القلعة الحالية التي كانت في عهد الأتراك (الطوبخانة)؛ ففيها من المحاسن وآيات الزخرف ما يدل على أن رازة ذلك العهد بلغوا أبعد الشأو في فنهم. ومادة البناء هي الآجر، أو الطاباق، قد أحسنوا شيه ونقشه وزخرفه، حتى إذا وضعت الآجرة بجانب الآجرة الأخرى أختها إلى أختها نشأ من مجموعها جميعا نقوش وزخارف عربية تأخذ بمجامع القلوب وتسكر الألباب، وقد صورها أحد مهندسي الفرنسويين، وهو المسيو فيوله، فكتب عنها رسالة وصف فيها ما لتلك البدائع من الروائع، وأطنب في الكلام عن صانعيها.
ومما صبر على أنياب الزمان بعض ردهات وأبهاء المدرسة المستنصرية، وهي التي اتخذت مخزنا للممكس (للكمرك) في عهد الترك. وقد أخذت هذه البقايا تتداعى؛ لأن التورانيين لم يعنوا بترميم ما كان يخرب منها. وقد صور المسيو فيوله المذكور عدة أقسام من هذا البناء الفخم الضخم، ونشرها أيضا فان مكس فان برشم، والألمانيان ساره وهرتسفلد، والمسيو لويس ماسنيون.
وقد قرئ على باب الخان الذي يجاور الممكس الكتابة الآتية:
قد أنشأ هذا المحل رغبة في أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وطلبا للفوز بجنات الفردوس التي أعدها للذين آمنوا وعملوا الصالحات نزلا، وأمر أن تجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة سيدنا ومولانا إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، شيد الله معالم الدين بخلود سلطانه، وأحيا قلوب أهل العمل بتضاعيف نعمه وإحسانه، وذلك في سنة ثلاثين وستمائة، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله.
وقد وصف المسيو فيوله المذكور رسم هذه المدرسة في القديم، وكيفية تقسيم ردهاتها، فلا حاجة إلى إعادة كلامه هنا لضيق مجال كتابنا هذا.
ومما بقي إلى يومنا هذا منارة سوق الغزل، وكانت تسمى قبل نحو نصف قرن «منارة جامع الخلفاء»، إلا أن متولي الأوقاف بنوا بجانبها سوقا يباع فيه الغزل، فعرفت السوق بسوق الغزل عند العوام، وبها اشتهرت المنارة. ولا جرم أن هذه المئذنة كانت في جامع كبير سعته المحلة التي بنيت في موضعه، ولا يعرف على التحقيق بانيها؛ إذ الآراء متضاربة فيها، إلا أنها تتفق على كونها من بناء العباسيين الأولين. وقد حاول العجم في سنة 1048ه/1638م هدمها قبل أن تسقط المدينة بيد السلطان مراد الرابع بإطلاق المدافع عليها، فلم ينجحوا في سعيهم الذميم، إنما توصلوا فقط إلى كشط الجانب الغربي منها كما يرى ذلك إلى يومنا هذا. ولما وصل الإنكليز بغداد ورأوا ضعف أسسها - إذ كان العوام تعبث بها دائما - أصلحوها كما يجب؛ حفظا لهذا الأثر الجليل. هذا أهم ما يقال مما بقي من مصانع الخلفاء العباسيين في عهدنا هذا. (8) في العرب وفي مزاياهم الخاصة بهم، وفي أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضرة، وفي أقسام القبائل من قديمة وحديثة مع ذكر منازلهم (8-1) العرب ومزاياهم الخاصة بهم
تعريفهم
العرب من أعرق الأمم في القدم، ترجع في أصلها إلى سام بن نوح، وقد عاصرت جميع الأمم المشهورة في التاريخ، كالشمريين، والأكديين، والبابليين، والآشوريين، والكلدان، والمصريين، واليونان، والرومان. وكل هذه الأمم بادت وانقرضت، أما هي فإنها ما زالت حية، وقد هاجمتها بعض تلك الأمم فلم تفتح من ديارها إلا شيئا زهيدا بقيت في أياديها مدة وجيزة. أما هي فإنها هاجمت جميع من عاداها فافتتحت بلادهم وبقيت في أيديها مدة طويلة.
اسمهم
أما اسم العرب فقد ذهب الناس في معناه مذاهب شتى؛ فمنهم من قال: «إن بعض أولاد سام بن نوح استوطنوا العراق، وطردهم بنو حام، فذهبوا بعضهم شمالا إلى آشور، وبعضهم ذهبوا غربا، فسموا عربا لهذا السبب؛ لأن اللغة السامية الأصلية لا غين فيها، فلفظة عرب: بمعنى غرب، واختلط بهم نسل إسماعيل، ونسل مدين، ونسل عيسو، ونسل لوط. وفي الجهات الجنوبية اختلطوا بقبائل من نسل حام، فصاروا خلطا بلطا. ونشأ منهم قبائل وبطون كثيرة ، باد أكثرها أو اندمج في غيره، حتى لم يبق لها رسم منذ أدوار.»
وقال فريق: إن العرب مشتق من الإعراب، بمعنى الإبانة، من قولهم: أعرب الرجل عما في ضميره: إذا أبان عنه، وهذا تعليل محدث لا يعتمد عليه.
وزعم فريق آخر إلى أنه مشتق من غرب الشيء (بالغين المعجمة)، بمعنى: اسود؛ لسمرة ألوانهم، والعرب يسمون السمرة سوادا من باب التوسع، وقال كثيرون: سمي العرب عربا: من عربة، وهي في الأصل اسم لبلاد العرب.
وقال بعضهم: أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، وهو أبو اليمن، وهم العرب العاربة.
على أن الرأي المقبول اليوم عند أغلب المستشرقين والعلماء الباحثين العصريين، أن العرب مشتقة من: «عربا»، وهي مفقودة في العربية، إلا أنها موجودة في العبرية والآرامية، بمعنى البادية والصحراء، فمعنى العرب إذا في الأصل: أهل البادية، أو البدو؛ لأنهم كانوا في الأصل من الأمم التي تعيش في البوادي. وذهب بعضهم إلى أن كلمة «عرباء» موجودة في اللغة الضادية في قولهم: «العرب العرباء»؛ أي العرب الخلص، وهم أهل البادية.
مميزاتهم
أما مميزات الأعراب فهي واحدة في المتحضرين والمتبدين باختلاف طفيف ناشئ من البيئة، والهواء، والمعيشة، واختلاط الدم. ويعرف أهل البادية بقامتهم المتوسطة الحسنة التقطيع وبهزال الجسم، لكنهم ذوو نشاط غريب وسعي حثيث، سريعو الحركة، سمر الألوان، يكادون يكونون سودا، وملامحهم منتظمة، أسيلو الخدود؛ أي بيضيو الوجوه، ورءوسهم على أشكال مختلفة في أغلب الأحيان ومصومعتها، وجباههم مشرفة، وعيونهم سوداء وبصاصة، إلا أن تقطيب الوجه وإغماض العينين فرارا من الشمس عند النظر إلى البعد ينشئ فيهم منظر رجال قلقين، والناظر إليهم يتوهم أنهم في منتهى التوحش، وليس الأمر كما يظهر في الخارج؛ إذ إنهم في منتهى الأنس والألفة. والبدوي يشيخ ويهرم سريعا، فيتغضن جلده ويتشنج قبل أوانه في الهواء الطلق، ولا يناهز الأربعين سنة إلا وقد وخطه الشيب، وإذا بلغ الخمسين هرم هرما بينا، ولا يبلغ أحدهم الستين إلا قليلا. بيد أن تلك الحياة التي تتدفق همة ونشاطا لا تعرف الأمراض إلا نادرا. ومما امتازوا به: القناعة، والرضى باليسير من الطعام، مما ينقلب عليهم بالصحة وسلامة الجسم من العاهات الوبيلة التي ترى في النهمين أو الأكولين؛ ولهذا يكون فكرهم رائقا دائما، وحافظتهم واسعة، وخواطرهم متنبهة. وقد تعلموا منذ نعومة أظفارهم اتخاذ الأرض فراشا، واحتمال حرارة الشمس المتوقدة، والنوم غرارا، والاكتفاء باليسير من الطعام، والصبر على العطش ولو في حمارة القيظ، وهم لا يتعاطون المسكرات، وأغلب شربهم الشنين، أو اللبن الحقين الذي يهز معاطف الإنسان بدون أن يسكره، وهم في الغالب لا يأكلون إلا مرة واحدة في النهار هي الوجبة، وقدرها شيء زهيد بالنظر إلى ما يأكله أهل ديار الغرب من كثرة الألوان وغيرها.
أخلاقهم
هذه نظرة في مجمل مميزاتهم الخلقية، وأما مميزاتهم الخلقية فهي غريبة كل الغرابة؛ إذ تجتمع فيها المحاسن والمساوئ معا، أو المناقب والمعايب معا، وهذا ينشأ من انفرادهم في البراري، وضرورات الأزمان، ومخاطر الحياة في البوادي التي احتلوها، مما يجعل دمهم فوارا ومزاجهم متقلبا، بتقلب أهوية الفلوات، وتخيلهم ميالا إلى كل قوة طارئة ميل الكلأ الذي يأنس إليه ويعيش في وسطه ويأخذ عنه تموجه عند أدنى حركة في النسيم؛ فمن فضائله ومحامده أنه في غاية الصبر حتى لا يكاد يجاريه فيه أحد، فهو يحتمل الحر والقر، الجوع والعطش، التعب والراحة، الشغل والبطالة، كثرة الشيء وقلته، بنفس واحدة بدون تبرم أو تضجر، ومع هذا الصبر العجيب قد يثور فيه الغضب العظيم، ويطلب الثأر الشديد إذا أهانه الواحد أو احتقره وشتمه أو سبه. البدوي طماع وسلاب، فإذا رأى عندك شيئا لماعا أو رنانا أو حسن اللون مال إليه وأراد الاحتفاظ به، لكن عند إكرام الضيف ينسى كل شيء ويجود لك بنفسه.
البدوي شديد المعاملة إذا أراد سلبك ونهبك، ولكنه لا يقتلك، وإذا احتميت به أو نزلت خيمته أعزك وأبدى لك من الظرف وحسن المعاملة ما لا تجد مثيلا له في أوغل الناس في المدنية، وهو يعاملك بالحسنى ولو كنت عدوه، وذلك إذا ما أنزلك في حماه وكنفه. البدوي ينظر إلى السلب والنهب والغزو بغير العين التي ننظر بها إليها، والذي يجيز له ذلك فقر الأرض التي وجد فيها، فهو ينظر إلى عابر السبيل بمنزلة رزق قيضه الله له؛ إذ إن هذا العابر لا بد أن يصل محلا فيجد فيه ما يستغني عما خسره في رحلته؛ ولذلك لا يتعرض بحياته البتة. وهو لا يميز بين المحاربة وبين الخدعة، فما يأخذه بقوة السلاح في الشبكة التي نصبها للمسافر أو في عثوره عليه هو بمنزلة كسب أو ربح، وعنده لا فرق بين سلب هذا الرجل ابن السبيل وبين فتح مدينة أو بلاد هجم عليها وهي لعدوه. والذي يميز البدوي كل التمييز ويفرقه عن سائر الخلق حبه للحرية والاستقلال؛ فقد بلغت به هذه الشاعرة مبلغا لا يمكن للحضري أن يتصورها، فهو يخيرها على كل موجود على الأرض مهما كان عزيزا أو ثمينا، ومن يحاول أن يقيد البدوي بقيد من القيود كمن يحاول تقييد السنونوة في قفص، فإنها لا تزال تضرب جدار القفص برؤيسها حتى تموت، مفضلة الموت على الحياة بقيد؛ ولذا ترى البدوي يحتقر كل الاحتقار أبناء المدن؛ إذ البقاء فيها هو القضاء على حريته، تلك الحرية التي احتفظ بها منذ خلق الخلائق إلى يومنا هذا؛ إذ أهل البادية وحدهم بقوا محافظين على معيشتهم، بينما ترى سائر الأجيال خضعت للقيد والربط والحصر والضيق. البدوي سريع الخاطر، متوقد الذهن ولو لم يدرس العلوم والفنون؛ فإن ذكاءه فطري وسليقته سليمة من معايب التمدن، وليس من بدوي إلا وتراه شاعرا يصف لك الأمور على حقائقها ودقائقها، إلا وتراه بليغا؛ إذ لا يكلمك إلا ويقنعك بسحر كلامه، إلا وتراه خطيبا لما يسرد لك من المبادئ الصادقة المغزى والمعنى والمبنى بصوت تسكرك نغمته ونبرته. البدوي يصدق كل ما تقول له من الخرافات والأقاويل الصبيانية؛ لسلامة نيته. البدوي تجيش نفسه لأدنى وصف أو إغراء؛ لكون خياله يضارع هواء باديته الذي يتقلب بين برد ودفء، وحر وومد في النهار الواحد. البدوي يحب الأحاديث الخيالية والأقاصيص الجنية، والحكايات الملفقة أو الشبيهة بالملفقة مما يكثر فيها الأوهام والمحاليات. البدوي قابل لكل شيء عظيم إذا ما عرف العاقل أن يسوسه، أو أقنعه بفكر ظهر له فيه منفعته. البدوي يتلون تلون الحرباء ويتقلب تقلب الطفل، تقول له شيئا فيصدقه، ثم يأتيه آخر فيخرجه من فكره بالسرعة التي دخلها. البدوي لا دليل له إلا سليقته الوقتية، ويحكم على الأمور بموجب ظواهرها ولا يهمه بواطنها، وهو ينخدع بالبوارق، وينقاد لما فيه جلبة وروائع.
البدوي وحده لم تتغير صفاته وإن تغير الزمان، طالع ما جاء في الكتب القديمة من وصف أخلاقه وقابلها بما هو عليه الآن، لا تجد فرقا، حتى ولا فرقا زهيدا. والعادات والسنن التي يجري عليها اليوم هي نفس العادات والسنن التي جرى عليها أجداده في سابق الزمن، وعلى طبق ما نراها مدونة في أسفار الأقدمين الذين جاوروهم أو عاشروهم أو خالطوهم؛ ولهذا تجد كثيرا من الأمور التي أعضل فهمها على العلماء والمؤرخين زال عنها الإبهام وانهتكت أستارها عندما وقفوا بأنفسهم على أهل البادية المعاصرين لنا. البدوي يحتقر الموت ولا يعده شيئا، فهو شجاع مستبسل منذ صبائه، فالموت عنده شرب كأس لا غير؛ ولهذا كثيرا ما يموت قتلا، وهو الموت المرغوب لكل واحد من الأعزة، وقد نعتوا الموت بنعوت؛ منها الموت الأسود: وهو الموت خنقا؛ لأن لون المخنوق يكون أزرق، وهو عندهم أسود، والموت الأحمر: قتلا؛ لأن دمه يسفك، والموت الأبيض: وهو الموت فجأة؛ لأن كثيرا ما يبقى لون المفاجأ بلونه الطبيعي، وإذا مات البدوي حتف أنفه يقولون عنه: فطس أو هلك. والبدوي الضعيف الدنيء خوان غدار، وهو كثيرا ما ينضم إلى القوي من الناس، ويقتل ويغتال من خفره، فإننا نقرأ في التاريخ أن بطليموس السادس انتصر على صهره إسكندر بالاس، فذهب هذا والتجأ إلى أهل البادية ظنا منه أنه يجد فيهم ملجأ منيعا.
إلا أن زبدئيل غدر بآداب الضيافة، وضرب عنق زائره تقربا من بطليموس ودمتريوس، ثم بعث برأسه إلى ملك مصر. ونرى سليمان باشا - وزير بغداد القتيل - احتمى في طريقه بقبيلة الدفافعة، فنزل عند شيخهم ضيفا، فلما درى صاحب البيت أن المحتمي به مهزوم غدر به وقتله. وأقرب مثال رأيناه هو ما شاهدناه في هذه الحرب العامة، فإن أعراب بادية العراق كانت تقتل دائما فلول العسكر، فإن كان المكسورون أتراكا قتلوا الأتراك وحاموا الإنكليز، وإن كان المقهورون إنكليزا قتلوا الإنكليز ودافعوا عن الأتراك. هذه كانت أعمالهم في مدة الحرب التي كانت تدور في هذه الأنحاء بين القومين المتقاتلين، فتلك هي أخلاق أهل البادية، فهي حقيقة مجمع أضداد، وملتقى محاسن ومساوئ على ما افتتحنا به كلامنا، وهو من أغرب الأمور قلما تخطر على بال إنسان. (8-2) في أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضرة ... إلخ
يقسم العرب ثلاثة أقسام كبرى، وهي: أهل حضر، وأهل مدر، وأهل وبر. فأما أهل الحضر أو المتحضرون: فهم الذين يقيمون في المدن، ويعرفون أيضا بالعرب. وأهل المدر: هم الذين يقيمون في ضواحي المدن، يبنون لهم أبنية من الطين، ودأبهم الفلاحة والزراعة ورعاية المواشي وصنع المآكل التي تتخذ من ألبان المواشي. وأهل الوبر: هم البدو أو البادية، أو الأعراب، أو العربان، وهم يقيمون في البراري والفلوات، ودأبهم رعاية الغنم والمواشي، وقطع الطرق، ونهب أبناء السبيل، والغزو الدائم على مدار السنة، وهذه الأقسام وجدت منذ سابق العهد على ما تشهد به الكتب القديمة، ورقم الآشوريين والبابليين والكلدان.
وأهم الأقسام المعروفة اليوم عند العلماء هي: عرب الشمال وعرب الجنوب، راجعين في ذلك إلى ما كان معروفا عنهم في قدم الزمان، فإن المصريين كانوا يسمون عرب الجنوب: «فنطيو»؛ أي سكان الفنط، والفنط عندهم: البلاد الواقعة في جنوبي جزيرة العرب، ويسمون عرب الشمال: «شاسو»، تصحيف العربية «الشص»؛ أي اللص الحاذق؛ لكثرة سلبهم وغزوهم الناس، وقد قال أحد العلماء المحدثين: «إن لأهالي قسمي ديار العرب مميزات لا تنكر، ففي الشمال يرى مصفحو الرءوس، وفي الجنوب الفطح.» قلنا: وهي من المسائل التي تبنى عليها حقائق لا يمكن أن تنكر، وسوف نأتي على ذكر هذين القسمين بعيد هذا.
ويقسم العرب أيضا باعتبار الزمان إلى: عرب بائدة، وهي التي لم يبق لها باق، ويسمون أيضا العرب العاربة، أو العرب العرباء، وكانوا قبل إسماعيل، وهم: عاد، وثمود، وجديس، وأميم، وجرهم، وعبيل، والعماليق، ووبار، وصحار، وجاسم، وجش إرم، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل وفي زمانه أيضا. وعرب مستعربة: وهم عرب الحجاز من ذرية إسماعيل؛ ولهذا يسميهم الإفرنج: الإسماعيليين، أو الهاجريين نسبة إلى هاجر، وهم ليسوا بعرب خلص على ما حققه العلماء، وهم ولد معد بن عدنان بن أدد. وعرب متعربة: وهم ليسوا بخلص أيضا، وهم بنو قحطان.
فلنعد الآن إلى القسمين الكبيرين - قسم عرب الشمال، وقسم عرب الجنوب - فأهل الجنوب: هم العرب اليمانيون، وأهل الشمال: هم بنو معد أو النزاريون. إلا أننا نعلم من التواريخ أن جماعات عظيمة من عرب قحطان اختلطت بعرب الشمال، وطوائف عديدة من النزاريين هبطوا ديار اليمن فاختلطوا بأهلها. على أن الأغلبية بقيت لسكان البلاد الأصليين؛ أي بقي النزاريون سائدين في الشمال، والقحطانيون سائدين في الجنوب، وكان النزاع بين قبائل الفريقين على قدم وساق منذ العهد القديم، ولعل سبب الخصام هو أن أهل الشمال كانوا يدعون أن أهل الجنوب دخلاء في البلاد العربية؛ وذلك أن القبائل القحطانية كانت قد تحاكت بسكان الجنوب كأهل اليمن وحضرموت وعمان، فأدخلت في لسانها، ولعل أيضا في أخلاقها وعاداتها، أمورا كثيرة لم تكن معروفة أو مألوفة بين القبائل الشمالية، فكانت من ثم مزعجة لها مجحفة بها. وهذا النزاع زاد شدة مع الزمان حتى أصبح من الأمور المميزة لقوم من قوم، ولما جاء الإسلام كان الأنصار من سكان المدينة ومن العنصر اليماني معادين للقرشيين أهل مكة؛ لأنهم كانوا نزاريين، وهذا النزاع كان من أضر الأمور للسيادة العربية في العالم، وهو لا يزال قائما بين قبائل الفريقين، ولا سيما في ديار العرب.
وإذا ألقيت بصرك على أشجار النسب العربي ترى جميع اليمانيين من صلب قحطان. ومن الأمور التي تجدر بالتدبر والاعتبار أن القحطانيين معروفون إلى يومنا هذا بمنزلة قبيلة مهمة، محتلة بقعة تمتد في شرقي الحجاز، وكذلك تمتد أيضا من شمالي اليمن إلى البادية العظمى، وفي جنوبي هذه الرقعة تمتد ديار قبيلة كهلان التي خرج منها أهم الأحياء اليمانية.
ويتصل أو اتصل بالأحياء اليمانية الآتي ذكرهم: (1)
بنو طيئ: وقد أقاموا منذ نحو ألفي سنة في جوار جبليهم الشهيرين، وهما: أجا، وسلمى. وقد سمي السريان والفرس العرب كلهم طائيين من باب تسمية الكل باسم الجزء، ولأنهم كانوا متصلين بقبائل هذا الحي أكثر مما كانوا متصلين بسائر القبائل. وبنو طيئ يعرفون اليوم باسم «شمر»، وهو اسم أحد أفخاذهم الذي تسلط على من بقي منهم. وكان مقام الشمريين في قرية اسمها توارن، على ما قاله ياقوت في معجمه؛ إذ يذكر أنها قرية في أجا، أحد جبلي طيئ لبني شمر من بني زهير، ولا يتسمى اليوم باسم طيئ إلا عشيرتان في الجزيرة، وقد بقيتا تابعتين لشمر، لكنهما لا تدفعان لهم خاوة،
7
ويعتبرونهما متساويتين لهم. وقد هبط الشمريون أرض الجزيرة في القرن السابع عشر للميلاد، ولهم فيها السيادة إلى اليوم، وكان قد دفعهم إليها عنزة، وقد ساقوهم من بادية الشام. (2)
قبائل همدان ومذحج: وقد بقي معظمهم في اليمن، ويتصل بمذحج بلحارث، وهم يسكنون إلى هذا العهد جنوب شرقي الطائف وبجيلة، وكان لهم يد قوية في فتح العراق في خلافة عمر. (3)
بنو عاملة وجذام: وقد أقاموا في فلسطين منذ زمن قديم، واللخميون الذين شادوا على الفرات مملكة الحيرة، وبنو كندة الذين لم يسودوا في بلادهم في حضرموت فقط، بل سادوا بني أسد في اليمامة، وكان أميرهم يسمي نفسه ملكا، وكان امرؤ القيس الشاعر المشهور من أهل هذا البيت الشريف. (4)
بنو أزد: وكانوا من أحلاف القبائل، وهم لم يفتحوا عمان ويقيموا في جبال السراة فقط، بل كان أحلافهم - وهم الغساسنة - قد أنشئوا مملكة في ديار الشام، وكان الخزاعيون قد استأثروا بمكة مدة من الزمن، وكان الأوس والخزرج (الأنصار) قد اختصوا لأنفسهم يثرب (أي المدينة).
والحي الآخر النازل من صلب قحطان هو الذي يضع النساب في مقدمته بني حمير، أو الحميريين، ومن هذا الحي: بنو قضاعة، وهم من قبائل شتى، بينها بهراء وتنوخ، وقد نزلوا ديار الشام الشمالية منذ عهد قديم. ومنهم جهينة، وكان لهم الكور المجاورة لوادي إضم. ومنهم أيضا بنو عذرة، وهم من أقارب جهينة وجيرانهم، وقد اشتهروا بحبهم العذري. ومنهم بنو كلب، وكانوا نازلين في بادية الشام. ومنهم بنو بلي، وكانوا احتلوا شمالي الحجاز، وفي خلافة عمر ذهبت طوائف من بلي وجهينة وأقاموا في الديار المصرية.
أما قبائل شمالي بلاد العرب فهي المعروفة أيضا بالنزارية، أو المعدية، المسمين باسم جدهم على زعمهم. والحال أن المعدية وردت في كتاب المؤرخ بروكوبس بمنزلة قبائل متحالفة لا اسم رجل، وكذلك كلمة نزار، فإنها وردت في كتابة مؤرخة في سنة 328 ميلادية، اكتشفها المسيو دسو في النمارة في جوار الصفا (في شرقي حوران)، يقول فيها امرؤ القيس بن عمرو ملك جميع العرب، إنه كان يحكم على بني أسد ونزار. ثم إن قبائل الشمال انقسمت قسمين عظيمين، وهما: ربيعة ومضر، وقد تمزقا كل ممزق قبل الإسلام، هذا إذا تركنا على حدة حي إياذ (بالذال المعجمة، وهو غير إياد بالدال المهملة)، وهو حي كان عظيم الحول والطول سابقا، لكنه انقرض قبل ظهور الإسلام، فقبيلتا ربيعة ومضر اللتان كانتا قد سادتا في عزهما هاجرتا شطر الجزيرة، وبقي اسمهما مخلدا في كورتي ديار ربيعة على دجلة وديار مضر على الفرات، ثم نزل تلك الديار بنو تغلب ونمر.
ويتصل بحي ربيعة قبيلتا عنزة وأسد، وكانتا متحدتين ومتجاورتين كل التجاور في شمالي وادي الرمة. وكان طريق الحاج من البصرة إلى المدينة يمر بأرضهما، وكانت عنزة قد احتفظت بالسيادة بعد أن طردت قضاعة من ديار العرب في العهد السابق. وفي منتصف القرن السابع عشر احتلت عنزة بادية الشام كلها أو كادت، وأخضعتها لأمرها، وبنو سباعة في الشمال الشرقي، والرولة في الغرب يرجعون إليهم، ويرى إلى اليوم في العراق من بني أسد. وبنو وائل متصلون بهم كل الاتصال من جهة النسب، وقد انقسموا قسمين مهمين، وهما: بكر، وتغلب، وقد جرت الحرب بينهما بعد قتل كليب إلى ما لا تحمد عقباه، وكان كليب يسود وائلا، فانقلبت الحرب ويلا على القبيلتين الأختين، فذهبت كلتاهما مع بني نمر من أقاربهما إلى أنحاء الجزيرة، فاحتل بنو بكر شماليها، ومن ذلك اسم ديار بكر للبلاد التي نزلوها، وكانت آمد حاضرتها فسميت باسمهم. أما بنو تغلب ونمر فإنهم هبطوا جنوبيها، وكانوا على النصرانية، فلما جاء الإسلام أكرهوا على أداء الجزية، ويرجع إلى بني بكر بن وائل بنو حنيفة أصحاب اليمامة، وكذلك جيرانهم بنو شيبان. وممن يرجع أيضا إلى ربيعة عبد القيس، الذين كانوا يسكنون البحرين.
وأما مضر فكان في مقدمتها بنو قيس، وقد بلغوا من القوة والمنعة منزلة أية منزلة، حتى إنه سمي قيسيا كل عربي لم يكن يمانيا، واليوم ليس من يتسمى بهذا الاسم إلا قبيلة صغيرة من أهل المدر نازلة على الفرات، وهي تدفع الخوة لبني شمر. وفي شرقي هذه القبيلة يقطن بنو عدوان، وهم يدينون لشمر أيضا، وكانوا ينزلون سابقا جنوبي الحجاز بجانب بني فهم وهذيل، ويرجع إلى حي قيس أيضا هوازن، وبنو سليم، وكانوا يقيمون في غربي ديار نجد في شرقي المدينة ومكة. وفي أوائل القرن الثالث للهجرة/التاسع للميلاد، اشتد أمر بني سليم ومجاوريهم بني هلال الراجعين إلى هوازن، وضاقت البلاد بعددهم العديد، حتى خيف على المدينتين المقدستين من جهة الأمن فيهما، فأكرهوا على المهاجرة، فهاجروا إلى ديار مصر، فهبطوا أولا مدالث النيل، ثم اضطروا على مغادرتها قسرا، فذهبوا إلى الصعيد. وفي سنة 444 رضوا بالذهاب إلى شمالي أفريقية، على شرط أن يعطى كل واحد منهم بعيرا ودينارا، فأغلب بدو أفريقية الشمالية يعودون في أصلهم إلى بني سليم وبني هلال، وشهرة بني هلال معروفة إلى هذا العهد في شعر العامة في قلب بلاد العرب نفسها ، وكانوا يعودون في السابق إلى أحلاف قبائل عامر بن صعصعة. ومنهم كان أيضا بنو كلاب، وبنو قشير، وبنو عقيل، وما زالت هذه القبيلة إلى زمننا هذا ذات شأن وخطر في ديار نجد، وهم باعة الأباعر، وخفرة القوافل التي تظعن من ديار الشام إلى دار السلام. ومن عقيل خرج المنتفق، وكانوا أصحاب عز ومنعة منذ المائة الرابعة للهجرة/المائة العاشرة للميلاد، وهم لا يزالون كذلك إلى عهدنا هذا، وديارهم جنوبي العراق.
ويشمل حي قيس: بني غطفان، وفيهم قبيلتان شهيرتان، وهما عبس وذبيان، وقد عرفتا بقتل الأخ لأخيه بسبب جوادين عرفت الحرب باسمهما؛ أي «حرب داحس والغبراء». وأقوى بطن ذبيان كانت فزارة. ويرجع إلى مضر أيضا بنو ضبة وبنو تميم، الذين احتلوا الديار التي كان فيها سابقا بنو بكر وتغلب في نجد. وتميم قبيلة ضخمة انتشرت في كل جهة. وليس في جزيرة العرب بدو خلص بهذا الاسم اللهم إلا في أسفل دجلة في جهة العمارة وما داناها، بيد أن معظم سكان مدن نجد يدعون أنهم من تميم. وجميع قبائل نجد البدوية هي مضرية، وهي في عهدنا هذا في شرقي الحجاز، وهم بنو حرب (مزينة)، وبيدهم الطريق التي تجمع بين المدينتين المقدستين. وفي شرقي أرض هؤلاء قبيلة عتيبة العظيمة البطش. وبين القبيلتين وادي الرمة، وفي شرقي أرض هاتين القبيلتين بنو مطير. وممن يرجع إلى مضر: بنو خالد، ومسكنهم في شرقي اليمامة، وقد كسر من غلوائهم شوكة الوهابيين.
وممن يعد في مضر: بنو هذيل الذين أقاموا وما زالوا يقيمون في الجبال المجاورة لمكة. ومنهم أيضا بنو كنانة، وكانوا في سابق العهد حيا ذا بطش وحول في جنوبي الحجاز. ومن كنانة قريش، تلك القبيلة العريقة في القدم والكرم والنجار، ومن أعظم القبائل سؤددا. واليوم تدعى قريشا قبيلة صغيرة شاوية نازلة في أرض مكة، وهي القبيلة الوحيدة البدوية من قبائل ديار العرب تحسن صنع الجبن.
هذه هي أشهر قبائل العرب في التاريخ، ومنها تتفرع فروع عديدة لا تحصى، وكلها ترجع إلى أمهاتها هذه. فلما جاء الإسلام وامتدت فتوحاته أحدث تغيرا عظيما في عالم البداوة، فلقد أمد البدو الجيوش العربية بمقاتلين كثيرين، فأنشئت مسالح في العراق وديار الشام شديدة البأس والبطش، ثم أنشئت مراكز جديدة في غربي وشرقي تلك الديار، وأقاموا فيها جندا من أهل البادية، فتضعضعت بذلك بعض القبائل، واضطرت إلى التناصر والتعاهد والتعاقد ، وأضاعت ما كان لها من الاستقلال في ديارها الأصلية. وقد وقع من التحاسد بين قبائل ربيعة وقبائل مضر ما أكره بني ربيعة على محالفة قبائل اليمن منذ عهد بعيد في القدم مقاومة قبائل مضر.
بقي علينا ذكر من لا يعتبر من صميم العرب، وإن كانوا يطوون بساط أيامهم بين ظهرانيهم، من ذلك «بنو هتيم»، وهم مبثوثون في الحجاز ونجد، وقد قال عنهم السيد مرتضى إنهم ألأم قبيلة من العرب، وهم ينزلون أطراف مصر (ما عدا منازلهم المذكورة)، وهم صيادون مشهورون، وهم أهل غنم وماشية، وفيهم حدادون كثيرون، ومن خساس الأعراب (الشرارات)، وهم في جنوب غربي بادية الشام، وهم متصلون نسبا ببني هتيم، وهم أصحاب أباعر. وممن لا يعد من الأعراب بتاتا: الصلبة، أو الصليب، فهم بمنزلة بني ساسان (أي الكاولية، أو النور) في البوادي، وهم يحسنون الرماية والصيد، فهم مبيضو قدورة، ومركوبهم الحمار لا غير، وهم لم يذكروا بهذا الاسم في كتب المصنفين، وسببه عندنا هو لأنهم كانوا يذكرونهم بأسماء تحقرهم، كالزعانفة والأجلاف ونحوهما، واسمهم مشتق من الصلابة، بمعنى خشونة المعيشة، وليس كما قال قوم من الإفرنج إنه مشتق من الصليب، لاعتقاد أهل البادية أنهم من صليبية الإفرنج دفعهم المسلمون إلى بوادي العرب تذليلا لهم واحتقارا لمذهبهم، فأضاعوا في تلك الفلوات أصلهم ودينهم. (8-3) أشغال أهل البادية
البدوي الشريف تأبى نفسه أشغال اليد، أما الأشغال التي يعتبرها جديرة به فهي تربية المواشي، والتجارة، والصيد، والغزو. ونحن نذكر هنا كلا من هذه الأشغال الأربعة على ما هي معروفة عند أهل البادية، وعلى ما يتعاطونها. وأما الزراعة والبحارة فهما عندهم من الأشغال التي تصغر بجانب الأربعة الشريفة، ولقد كان بنو تميم يعيرون الأزد بالنوتية؛ لأن إخوانهم العمانيين كانوا يسافرون على البحار ويشتغلون في السفن. وكانت قريش تحتقر أهل المدينة؛ لأنهم كانوا يعنون بالزراعة.
أما أكثر عناية أهل البادية فهو تربية المواشي ورعاية الأغنام؛ لأن معيشتهم متوقفة عليهما؛ فمن الأغنام والمواشي يستخرجون اللبن الحليب، وهم يخرجون ما فيه من المائية، فيخثرونه ويحفظونه إلى وقت الحاجة، فإذا أرادوا أكله خلطوا به ماء، وهم يتخذونه كثيرا في أسفارهم، واسمه لاقط (وقد صحفوا هذه الكلمة في عهدنا هذا فيدعونه: القطي)، والمريسة، والمضير. وهم يستخرجون الزبد ويحفظونه بعد أن ينفوا عنه مائيته. وصنع الجبن غير معروف عند أغلب البدو، وهم لا يأكلون اللحم بمنزلة طعام لهم يعتمد عليه؛ لأنهم لا يذبحون إلا في أيام الأعياد والمواسم، اللهم إلا في فرص متعددة يضطرون فيها إلى الذبح قياما بمقتضى الأحوال، كقرى الضيف، أو غيره من الأمور. فينتج من هذا أن أكل اللحم يكاد يكون في كل يوم وفي كل بيت. ومن العناية بالمواشي يحصل للبدوي صوف وأنسجة من شعر العنز أو من وبر الجمال، فيذهب بها إلى المدينة ليبيعها مع الزبد والسمن، وقد يبيع شيئا من غنمه ومواشيه التي رباها. وإذا كان ممن يحسن تربية الخيل فهو يبيع من الحصن بقدر ما يحتاج إليه من الدراهم، وقد لا يبيع هذه الأشياء كلها بل يبدلها بالتمر والحبوب والثياب وأدوات البيت. وكان كبار الأعراب قبل الإسلام يشترون الخمر ويشربونها ولو كلفتهم أثمانا باهظة، أما اليوم فإنهم قد أبدلوها بشرب القهوة أو ابنة البن، أو يتعاطى التبغ المعروف بالدخان، حتى أصبح هذان الحاصلان من أهم ما يحتاج إليه البدوي. ومن عجيب تصرف الزمان بأبناء العصر أن أهل البادية أنفسهم اضطروا إلى إبدال شيء من الأمور العائدة إلى العادات، وهو اتخاذ البارودة، أو البندقية، وطرح القوس والنشاب اللذين ما كانا يفارقانه، وهما اليوم لا وجود لهما البتة في خيمته. والتدخين محرم عند الوهابيين؛ ولهذا ما كان يستطيع البدوي أن يدخن في أيام عز هؤلاء المسلمين المصلحين؛ أي في القبائل التي كانت محتمية بهم.
ولم يعن الأعراب بالتجارة عناية خاصة، إنما كانت عنايتهم من باب المساعدة لأصحابها، بمعنى أنهم كانوا ينقلون البضائع والأموال على أباعرهم، ويحامون عن القوافل التي كانت تنقل تلك البياعات، وهذا كان دأبهم منذ أقدم الأزمان، وكان أصحاب القوافل يدفعون إلى هؤلاء المبذرقة أجرة يسمونها «الخفارة»، وهذه العادة جارية إلى يومنا هذا عند الأعراب النازلة على طرق النقل، فإنهم يتقاضون مبالغ من الحكومة تعرف باسم «الصرة»، وإذا أراد أصحاب المدن أن يمروا بأرض قبيلة، يضطرون إلى دفع بدل لمرورهم يسمونه «الخوة» على ما تقدمت الإشارة إليه، وهذه الخوة يدفعها أيضا كل من القبائل الضعيفة المحتمية بالقبائل الكبيرة.
والبدو مغرومون بالصيد أو القنص، وهم يصطادون باستعمال الكلاب المعروفة بالسلوقية، أو باتخاذ الصقورة، وأغلب صيدهم يكون للغزال، والأروى، والمها، أو بقر الوحش (وهو ضرب من الحيوان يشبه البقر له قرون طويلة مستقيمة، وهو على ما يظن العلماء العصريون أنه هو الذي كان يسميه الأقدمون: الوحيد القرن)، وحمر الوحش أو الفراء، وهذه الحمر من أسرع الحيوانات عدوا؛ ولهذا يتنافس الأعراب في صيدها، ومنه المثل «كل الصيد في جوف الفرا.» وأما الصيد الصغير فهو: الحجل والأرانب واليرابيع والضباب. وهم يصطادون النعام أيضا، وأغلب صائديه بنو هتيم والصلبة، إلا أن هذا الطير العظيم أخذ بالتناقص بل بالانقراض من بادية شمالي جزيرة العرب.
والغزو من أهم أمور معيشة الأعرابي، وإذا لم يتيسر له غزو قبيلة من القبائل النازلة في أنحائه غزا من كان من أقربائه، هذا ما جرى في سابق الزمن وما يجري إلى يومنا هذا. فالغزو عنده يتوقف على سلب ما لعدوه من الإبل والماشية، وبعض الأحيان ما له من النساء والأولاد، بدون أن يريق دم أحد إن أمكنه؛ لكي لا ينشأ من ذلك الغزو دية، فهذه هي أقصى أماني البدوي، وإذا تم الغزو فقد تفتدى النساء والأولاد، وأما الأسلاب فتقسم بمقتضى أصول معروفة عندهم، فالشيخ يأخذ الحصة الكبرى لما له من المنزلة الرفيعة في قومه، ولما يقوم بالنفقات التي ينفقها قياما بالواجبات. وإذا وقعت خسارة في قبيلة وضع على كل فرد من أفرادها شيء بحيث لا يشعر أحد بتلك الخسارة، وعلى الشيخ أن يتحمل قسما صالحا منها. والبدو يربون جيادهم العراب توصلا للغزوات. وأكثر ما يكون الغزاة على الأباعر، أما إذا حاربوا أو قاتلوا أو أرادوا الهرب والفرار ركبوا جيادهم وانسلوا؛ ولهذا يعتبر الجواد فخر سيده ومولاه، لكنه يكلفه نفقة باهظة؛ إذ يضطر إلى ادخار ماء لشربه. والغزوات هي من أجل أسباب فقر أهل البادية، فكثيرا ما يذهبون إلى المنازل البعيدة، فتكلفهم عناء عظيما لهم ولدوابهم، وإذا غزوا قبيلة يحثون مطاياهم خوفا من أن يتأثرهم المغزوون، فيضر في هذه الغزوات الغازي والمغزو والدواب. وإذا نجح المغزوون في استرداد أسلابهم فلا أقل من أن يكون قد نالهم مشقة هم ودوابهم، ومثل هذا الضرر يلحق الغازين، وعليه تضطر القبائل الضعيفة إلى مجاورة القبائل الضخمة دفعا لمثل هذه المصائب التي لا بد منها في تلك القفار والفلوات، وإذا سببت تلك الغزوات قتلا في القبيلة فالبلية أعظم؛ لأنها تولد في الصدور ضغائن وأحقادا لا يغسل أدرانها إلا إراقة الدماء من جديد، إن لم تفصل بين القبيلتين قضية الدم المسفوك، إما بالمراضاة، وإما بدفع الدية؛ ولهذا قد تضمحل القبيلة كلها بعد حدوث مثل هذه الغزوات التي لا يتفق فيها على سفك الدم الذي وقع عندهم. (8-4) إدارة شئون القبيلة في الدنيا والدين
السيد أو الشيخ (ويسمى شيخا ولو كان شابا، إنما شيخوخته قائمة بفضله) في القبيلة ليس في الحقيقة إلا المقدم من بين أشباهه، وليست وظيفته مما تصل إليه وراثة، بل تكون في بيته طالما يوجد في أبنائه رجال جديرون بما يعهد إليهم، فهو أمير أو قائد في وقت الحرب بموجب عوائدهم، والآن يسمى القائد عندهم عقيدا؛ لأن اللواء يعقد باسمه. وأما الأمير فهو لقب من يدبر شئون الديار التي في يده، ومن ذلك أمير حائل أو شمر. وبجانب الشيخ يقوم القاضي، وكثيرا ما يكون القضاء محصورا في بيت من البيوتات، وهو يقضي بموجب «العادة» أو «العرف»، وهذا يوافق الفقه الإسلامي إذا كان هذا الفقه قد أفرغ سابقا في قالب عادتهم أو عرفهم، وليس على الشيخ إلا المشورة، ولا يحق له أن يأمر في القضايا الراجعة إلى القضاء، كما أن الحكم لا يوجب على أحد الطرفين إلا إيجابا أدبيا لا إيجابا مدنيا لا مناص له منه. والقضاء في بلاد نجد وقراه يكون للعالم بالفقه الإسلامي، وهو الذي يكون إماما في الصلوات وخطيبا في الجمع والأعياد، ويسمى «المطوع»، وأما الذي يحكم بالعادة ويسمى «العارفة» فهو مخصوص بالأعراب الرحل، وما يحكم به كالقوانين المسلمة لديهم. وعرب نجد لا يأكلون ذبائح مثل هؤلاء الأعراب، ويحكمون عليهم بأنهم من الجاهلية.
وتكافل أفراد القبيلة الواحدة وتضامنها يوجبان على رؤسائها أن يحافظوا على آداب أبنائهم المنتسبين إليهم؛ ولذلك إذا أتى أحد أعضاء القبيلة أمرا لا تريد القبيلة أن تأخذ على نفسها نتيجته، أو إذا أخطأ إلى القبيلة كلها، ينفى حينئذ ذلك العضو من صميم أهلها، وإذا لم تقبله عشيرة أخرى حاق به البلاء لا محالة. فالشاعرة التي تسوقهم إلى التكافل والتضامن وإلى الدفاع عن حقوقهم واتخاذ جميع الوسائل المؤدية إلى خير القبيلة ونفعها وصلاحها تعرف عندهم بالعصبية، وقد تزول هذه العصبية في بعض القبائل حتى لا يبقى لها أثر يذكر، فتكون تحزبا صرفا ليس إلا. وأهل البادية هم من أطمع الناس في الأشياء، وأشدهم حرصا على منافعهم الشخصية؛ فهم لا ينظرون إلى الأشياء إلا إذا كانت تفيدهم فائدة أو تضرهم ضررا، وأما الفائدة العامة فقلما يلتفتون إليها، اللهم إلا أن تكون عاقبة الأمر مما يعود عليهم بالعار والشنار، فحينئذ يقدرون الأمور حق قدرها. والبدوي قليل الالتفات إلى مسألة الدين؛ فهو عنده من أواخر الأمور، وعقيدته ضعيفة، وليس له من الأوابد (أي الاعتقادات الباطلة) شيء يلتفت إليه، إلا أنه حيث تسربت الوهابية فالقائلون به من أهل البادية متمسكون بأوامره ونواهيه إن حكمنا على ظواهر ما يبدو منهم، وهذا بين أعراب نجد؛ إذ يرون متمسكين بأهداب الدين الحنيف، وقد أضر تعصب بعض جهلة الوهابيين ضررا عظيما بكثير من أهل البادية. أما العرب أهل الحضر فإنهم بخلاف أهل البادية، متمسكون بعروة دينهم، وقد يحملون على التعصب على أهون وجه يكون. (8-5) عيشة أهل البيت البدوي
أغلب ما يكون للبدوي امرأة واحدة، ولا يتزوج عليها أخرى إلا إذا كانت عاقرا ولا يريد أن يطلقها. وللشيوخ في أغلب الأحيان ثلاث نساء أو أربع، ويفعلون ذلك لأسباب، منها سياسية، ليتصلوا ببيت شهير مثلا، ومنها - وهذا نادر - ليضمنوا راحة امرأة، ومنها لغايات أخرى لا تخفى على القارئ. ويغلب زواج البنات وهن لم يبلغن من عمرهن الثانية عشرة؛ ولهذا السبب ولأنهن يرضعن أولادهن سنتين أو ثلاث سنوات يهرمن سريعا وقبل أوانهن، وزد على هذا أنهن يشتغلن أشغالا كثيرة شاقة، مثل: جلب الماء على أظهرهن، وقطع الحطب ونقله، وحلب المواشي، ومخض السمن أو الزبدة، وطبخ الطعام، ونسج شقق الخيمة واللحف والألبسة، والنساء الشريفات الكبيرات يدعن هذه الأشغال لمن دونهن من نساء البيت. ومهما يكن من أمر البدوية فهي أرقى حالا من الحضرية؛ فهي تتمتع بحرية لا تتمتع بها هذه، ولها من المقام في خيمتها يقصر دونه مقام المرأة الحضرية. والكريمة البدوية - أي الابنة الشريفة - لها منزلة رفيعة في قلوب الجميع. وكثيرا ما تجزم السيدات منهن في أمور كثيرة مهمة، مما يدل على أن لكلمتهن في البيت أو في العشيرة شأنا خطيرا، إلا أنه لا يباح للمرأة البدوية البهو، وهو من الخيمة: المكان الخاص بالرجال. والبدويات لا يستعملن البرقع، وإذا كان بينهن من يستعملنه فهو نادر غاية الندرة. وتربية الأولاد في بيوت البدو في نهاية القصور، غير أنهم يعودون احترام الوالدين، وإكرام الشيوخ والكهول، حتى في القبائل غير المهذبة.
ولأهل البادية كرامة نفس وإباء وشهامة قلما يرى أمثالها في أبناء المدن، وقد شهد بذلك جميع من خالطهم من عرب وإفرنج أينما وجدوهم من منازل ديارهم. وهم معروفون أيضا بظرفهم وأدبهم وحسن سلوكهم. ومما يفوق هذا كله اشتهارهم بالكرم منذ أقدم الزمن. هذه المزايا التي هي أم الكمال المعروف عندهم باسم «المروءة»، نعم، إنهم يغزون بطيبة خاطر، أما السرقة فإنهم يقبحونها. وهم يكرمون الضيف غاية الإكرام وفي نيتهم أن يعلن محاسنهم ومكارمهم ويطريهم أينما حل ورحل، فالغاية القصوى من أماني الأعرابي العالي الطبقة هي أن يحترمه الناس ويجلوه، ويعلنوا فضله وكرم أخلاقه وسخاءه وشجاعته وبسالته، وأن يخافوه ويعجبوا به. (8-6) طعام البدوي
طعام البدو اليومي في غاية البساطة؛ فقد كان سابقا عبارة عن «السويق»، وكان يتخذ عندهم من غليظ الدقيق (أو الجريش، ويكون جريشهم هذا من الحبوب المحمسة) مع التمر والماء أو اللبن الحليب، أما طعامهم اليوم فهو «البرغل»، اسمه القديم «البربور»، أو «الغذيرة»، وقد ذهب المستشرقون إلى أن كلمة البرغل
8
فارسية، والأعراب يتخذونه من بر قد غلي أو ذرة قد غليت وأخرج قشرهما، وهم يهيلون عليه سمنا أو دهنا أو لبنا مخيضا إذا نزل بهم ضيف، وقد يجعلون فيه اللحم. وكان الخبز نادر الوجود في أيام الجاهلية، لكن منذ المجاعة التي أتلفت نفوسا كثيرة في السنة 18ه/639م أخذ الأعراب يجلبون حنطتهم من ديار مصر. وخبزهم قرص يلصقونها بالتنور لإتقان شيه، وهم مولعون باللبن المخيض ويكثرون من شربه بمنزلة مرطب لهم ومبرد. والتمر لبعض القبائل يتخذ طعاما رئيسا لمآكلهم، وإذا أجدبت السنة عندهم أكلوا كل ما وقع تحت أيديهم،
9
الضب، واليربوع، والحية، والوبر، والذئب، والثعلب، وأنواعا مختلفة من الأنبتة والعروق. (8-7) لباس البدوي
والبساطة لا توجد في طعامهم فقط، بل تراها أيضا في ثيابهم؛ فسواد أهل البادية يلبسون ثوبا يشدون عليه نطاقا يسمونه حزاما، ويرتدون عباءة على ثوبهم، والأغنياء منهم يلبسون فوق ثوبهم قباء يسميه أعراب العراق زبونا، وأعراب الشام قنبازا، ويزيدون على هذا القباء كساء مبطنا أو جلدا من جلود الغنم المدبوغة يسمونه فروة أو صديرية، وذلك في الشتاء. وقد ترك البدو العمائم القديمة، واتخذوا بدلها الكوفية ويسمونها الكفية أيضا، وهي الصماد عند بعضهم من أهل الحجاز جريا على اسمها القديم، وهي عبارة عن كسفة يثبتونها على رءوسهم بشد عقال عليها، وهو ضرب من الحبل محكم الفتل. والسراويل غير معروفة عندهم، وكثيرون منهم يستغنون عن اتخاذ الأحذية، وكبارهم يلبسون في أرجلهم الجزمة والحذاء، أو البابوج. ورأينا كثيرا من أعراب نجد يحتذون النعال، وفي أهل البلاد منهم من يحتذي الأحذية العراقية والشامية، ومنهم من يحتذي النعال، وهم الأغلب.
النظافة عندهم
وهم لا يغسلون ثيابهم؛ لأن الماء نادر الوجود عندهم في أغلب الأحيان؛ ولذلك أيضا لا يغتسلون إلا قليلا، وإذا أرادوا أن يغسلوا أطفالهم أو شعورهم اتخذوا أبوال الإبل بقدر ما يتمكنون منها. وإذا لاقى البدوي غديرا أو مويهة اغتسل فيها، لكن لما كان هذا الأمر من النوادر أوجب عليهم الدين الإسلامي استعمال الرمل والتراب، وليس هذا الحكم مخصوصا بالبدوي، بل بكل مسلم، لآية:
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا
للقيام بأمور الوضوء بدلا من الماء، وهو المعروف بالتيمم. (8-8) الوسم عند القبيلة
ولكل قبيلة علامة خاصة بها تعرف بها إبلها من إبل غيرها، وهي «الوسم»، وقد تنقش هذه العلامة على الصخور أيضا إشارة إلى نهاية حدود أرض القبيلة، وقد ترى بجانب هذا الوسم أسماء بعض الأعراب إذا كان ثم من يحسن الكتابة، ويضيفون على اسمهم بعض أمور أو ذكر بعض وقائع. وفي سابق العهد كانوا يصورون بعض تصاوير في غاية السذاجة، مما يدل على جهلهم لأصول الرسم. والأعراب لم يزيدوا شيئا على الريازة أو فن البناء، غير أنهم نجحوا أكثر في أمر الزخارف، ولهم استعداد للموسيقى والغناء وعلم الإيقاع، لكن دين الإسلام لم يساعد على ترقية هذه الفنون الباعثة إلى الملاهي، فنجحوا كل النجاح في علوم الآداب، حتى برعوا فيها إلى ما لا غاية له بعد ما وصلوا إليه من الشأو البعيد. (9) مستقبل أعراب العراق
مضت عدة قرون وأعراب بوادي العراق على حالتهم الأولى التي كانوا عليها منذ وجودهم في هذه الديار، ولم تسع الحكومة السابقة إلى إصلاح شئونهم ولا إلى ترقيهم ولا إلى ردع غزواتهم. أما بعد هذا العهد فلا نظن أنهم يبقون على تلك الحالة الفطرية، بل إما أن يظعنوا عن هذه البلاد، وإما أن يذعنوا إلى مقتضيات الأحوال ، فيصلحوا شئونهم، ويقلعوا عن مفاسدهم الماضية ويبدءوا بأن يسيروا على نهج جديد قويم، ينفعون به أنفسهم وينفعون غيرهم.
أما سبب هذا التغيير فلا بد منه، وهو أن الحكومة البريطانية تريد أن ترقي أحوال هذه الأصقاع الاجتماعية بأن تؤمن الطرق، وتنشر الزراعة، وتبعد عن أهاليها كل ما يعرض أتعابهم للتلف، وهذا لا يتحقق إن لم تسع فتقطع دابر أهل البادية الذين من دأبهم قطع الطرق ونهب حواصل الزراع وشن الغارات على أهل المدن والقرى القريبين منهم، فإذا أخلدوا إلى الراحة أو الإقامة في المواطن التي كانوا فيها سابقا فلا بد من أن يتخذوا لأنفسهم وسيلة للمعيشة، ولا وسيلة لهم سوى الزراعة ورعاية الأغنام ومعالجة المهن التي تمكنهم من التعيش وهم في بواديهم، وإلا فروا إلى البوادي التي لا تنالهم فيها جند الأمن الذين تقيمهم الدولة المحتلة في المواطن التي يخاف عليها من فسادهم. ولا جرم أن أرباب الحل والعقد يسهلون لهم وسائل الزراعة، بل وسائل منافع الحضارة، فيتمكن بعضهم من الإقامة في القرى وتهذيب أولادهم لكي لا ينشئوا على حب النهب والسلب والغزو.
وهل يقبل العاقل أن يرى بضعة ملايين من الخلائق يعيشون هملا في البوادي وهم على أحسن حالة من الصحة والعافية، يتجولون في الديار، ولا يصدر من أيديهم إلا العيث كالذئاب المفترسة؟ بل هل يقبل العاقل أن يرى هذه الألوف المؤلفة وهي لا تأتي نفعا للمواطن التي يسكنونها، بل يتقلبون على وجهها بدون أن يقلبوا تلك الأراضي جنانا خضرة نضرة؟ ولعلك تقول: إن هؤلاء الأعراب لا يذعنون لحكم حاكم، ولا يرضخون لأوامره، ولا يودون أن يقيدوا أنفسهم بقيود أهل الحضر. نعم، كل هذا صحيح إذا كان الحاكم جائرا والأوامر مرة، والقيود قيود أسرى كما ظهر مثل ذلك في عهد الحكومة السابقة، أما إذا كان الحاكم أبا شفيقا رحيما يظهر لهم ترقيهم وتسهيل أمور معيشتهم، فإنهم ينقادون انقياد الغنم لراعيهم. ولا شك أن الحكومة المحتلة إذا أرادت جذبهم إلى الحضارة تبذل لهم عن يد سخية ما يسهل لها أمر الزراعة ، وتساعدهم على حصول البذار، ولا تأخذ منهم الرسوم في السنين الأولى إلى أن ترسخ قدمهم في الأرض، ويطيب لهم أمر العيش الجديد، وحينئذ تنتقل إلى درجة ثم إلى درجة، إلى أن يروا أنفسهم من أهل القرى والمدن بدون أن يشعروا بهذا الانتقال. (10) مستقبل ديار العراق - تأثير سلطة البحر - المواصلات وطرقها - البصرة باب واسع لتجارة الشرق - سكك الحديد (10-1) مستقبل ديار العراق
رأينا فيما وقفنا عليه من تاريخ هذه البلاد أن العراق كان قلب الحضارة في سابق العهد، وكان أهله قد برزوا في كل ميدان حتى بزوا سائر الأمم، وكانوا مع المصريين كفرسي رهان. وعن سكان هاتين البلادين أخذ الناس التمدن، وتعلموا الصنائع والفنون، وأوغلوا في العلوم والمعارف، ومن قابل حالته السابقة بحالته الحاضرة يعجب مما وقع فيه من الانحطاط والتقهقر، بينما أن مناوئتها المصرية عادت فرفعت رأسها كأنها تحاول الرجوع إلى مكانها الأسبق في عالم العمران، فلماذا عادت ديار أرض النيل إلى البعث والنشور، وديار العراق باقية في أكفان الموت والدثور؟ إن ذلك ناشئ من المربي؛ ففي بلاد الفراعنة دخل الإنكليز وأفرغوا كنانة وسعهم لإحياء تلك الأقطار. وأما هذه الديار فإنها غلقت في يد جيل من الناس لم يعتبر في نظر الأمم إلا مقودا لا قائدا، ومسودا لا سائدا، وإلا فإن تولى الأعمى قيادة الأعمى وقع كلاهما في الحفرة، وهذا ما حل في هذه المصرية؛ إذ إنه - والحمد لله - قد صارت اليوم إلى تلك الأمة التي أنعشت الديار الربوع، فهي الآن تأخذ بإقالة عثرة أهل العراق المساكين المظلومين مدة قرون متطاولة.
مركز العراق مركز القلب من جسم الحضارة والعمران، فهو في موقع يضمن له الرقي والسمو في قليل من الزمن؛ لأنه جامع بين أوروبة وآسية، بين بلاد متوفرة في صنائعها وبين بلاد متوفرة في محاصيلها، هو جامع بين أوروبة وآسية؛ لأنه أصبح بعد مد سكة الحديد عليه جسرا يمر عليه من يذهب من ديار الشرق الأقصى إلى ديار الغرب الأقصى، أصبح جسرا تنقل عليه بضائع الشرق لتبدل ببضائع الغرب، وقد كان هذا الطريق منذ العهد الواغل في القدم معروفا عند جميع أمم الأرض؛ ولهذا طمحت إليه أبصارهم، فتعاقبت عليه دول مختلفة؛ ولهذا السبب عينه أراد الإسكندر الكبير أن يجعل عرش مملكته الواسعة «بابل»، فعاجله الموت، فلم يخرج فكره من عالم الخيال إلى عالم الوجود.
إن البحار كانت هي الفاصلة بين الشرق والغرب، فلما اخترعت البواخر وشقت ترعة السويس اقتربت البلاد من البلاد، ورغب في ركوب متون البحار من لم يكن يحلم به قبل تقريب الشرق من الغرب.
على أنه بقي هناك أناس كثيرون يودون السفر بدون أن يذوقوا أهوال البحار، ولو كانت ديار العراق سهلة المقال بوجود سكك الحديد على ظهرها لرأيت ألوفا من الخلائق، بل ألوف الألوف تنتقل من بلاد إلى بلاد في السنة الواحدة. (10-2) تأثير سلطة البحر
ترينا مرويات التواريخ أن الأمة التي قبضت على أزمة البحار قبضت أيضا على أزمة حضارة راقية، وقهرت أمما جمة؛ فإننا لا نذكر شيئا من الملاحة على عهد نوح، فالظاهر أن بناء السفن كان في طور الإنشاء بما أن نوحا أقام مائة سنة لبناء فلكه، ولا نذكر شيئا من أهل الصين، فإنهم لم يكادوا يعرفون من سواحل بلادهم العظيمة إلا القدر النزر، ومع قلة خبرتهم لركوب البحار كانوا قد بلغوا رقيا بعيدا، ومدوا أيديهم إلى بلاد شاسعة؛ لكونهم كانوا يعرفون الملاحة.
وأما بعثة الأرغنوط فلا يجب أن تعد من قبيل حديث خرافة، بل من قبيل الإغراق في الوصف، ولها سدى حقيقة لا تنكر، وهذا السدى هو محاولة ركوب البحر على طريقة مبتكرة في ذلك العهد، وقد أحدثت جلبة يومئذ، وليس من السهل الهين تقدير مساعي أولئك الصناديد اليونان، فسفينتهم المعروفة باسم «أرغو» الشهيرة التي كان يحملها نوتيوها على ظهورهم في المواضع الصعبة، وكانوا يجرونها ليلا إلى الأرض؛ خوفا من أن تصاب بضرر، كل ذلك يدل على أن ركوب السفن على البحار كان في طفوليته. ولعل التقصير ناشئ من كتاب اليونان في ذلك العصر؛ لجهلهم وصف البحار وركوبها، لقلة وقوفهم على ذكر مثل تلك الأمور في زمنهم الواغل في القدم والجهل.
وإذا أردنا أن نذكر تقدم هذا الفن صرحنا باسم الفينيقيين، هؤلاء الأقوام الذين اشتهر ميناؤهم في صيدون (صيدا) كل الشهرة، وقد جاء ذكره في سنة 1837ق.م؛ فقد كانت تجارتهم منتشرة في البلاد، مما يدل على إمعانهم في ركوب البحار، وأول ما بدءوا به كان ترددهم إلى السواحل، حتى إنهم طافوا شواطئ البحر المتوسط من طرفه الواحد إلى طرفه الآخر، وكان سيسستريس أنشأ أساطيل وفيرة (سنة 1407ق.م) وارتاد سواحل فنيقية وشواطئ البحر الأحمر كلها. وكان المصريون قد هجموا على ديار الفلاسجة (أو البيلاسجيين) بأساطيل حقيقية، ومع ذلك فبعد هذه الأمور جاءنا هوميرس، وكان من جوابات البحار بدون شك، وذكر لنا أمورا تدل على أن ركوب البحار في أوانه لم يكن إلا دون ما مثله لنا الفينيقيون والمصريون والأرغنوط؛ فلقد تقاذفت الأمواج عولس مدة عشر سنوات قبل أن يصل إيثاكة، وكأن ذلك كان من الأمور المألوفة عند ذلك الشاعر.
وفي سنة 1137ق.م أسس الفينيقيون قرطاجنة، وبعد ذلك بقليل أنشأ القرطاجنيون مرسيلية، وهذا مما يدل على أن الفينيقيين كانوا قد جابوا البحر المتوسط وأخذوا يتجولون فيه ليلا ونهارا، مهتدين بنجم القطب في ظلمات الليل، وبالشمس في سبحات النهار، فدفعهم نجاحهم هذا وحبهم لمعرفة المجهولات إلى التوغل في قلوب البحار، فقام فيهم هنون وجال في البحر حتى وصل الرأس الأخضر، وقد بلغتنا تفاصيل رحلته البحرية بحيث لا توجد شبهة في هذا الأمر (سنة 800ق.م)، وقد قطع البحر في جهة معاكسة للجهة الأولى أودكس، فإنه جاز على ما يظن رأس العواصف قبل «فاسكو دي غاما»، ولا جرم أنه وجد المعبر من مصر إلى ديار الهند بطريق البحر الأحمر، واتخذ موسم مطر الحميم (المعروف اليوم بالبرصات عند العرب، وببرشكال عندهم سابقا). ثم جاء بعد ذلك هملكون القرطاجني، وتوغل في الشمال حتى بلغ إنكلترة. وفي سنة 330 زار بثياس المرسيلي جزيرة إسلندة، فلم يبق منذ ذاك الحين في صدر المحيط الأتلنتكي سر من الأسرار؛ إذ وقف عليها كلها أولئك الرجال أصحاب العزم والحزم، حتى يظن بعض المحققين أن أولئك الأقوام عرفوا أميركة وإن لم يعثروا على أدلة مكتوبة تثبت زعمهم هذا. وفي عهد الإسكندر ذهب أسطوله إلى سواحل آسية ونهر السند إلى خليج فارس، وكان يقوده نياركس، الأشتيام الكبير الذي فاق جميع الأشتيامين الذين سبقوه.
بلغ الإغريق مبلغا بعيدا في قطع البحار، ثم انتقلت سيادة العالم إلى الرومان، فانتقلت إليهم معها السيادة البحرية، لكنهم لم يأتوا شيئا فريا في علم البحارة، ثم كانت نوبة السيادة التجارية للبنادقة والجنوية والبيزية، ولا سيما البنادقة، فإنهم كانوا الفينيقيين الحديثين، وكانوا قد استأثروا بتجارة البحر المتوسط والشرق الأدنى. وما زال أهل الفن يبحثون عن وسيلة تهديهم إلى الوجهة التي يريدونها، حتى عثروا على دليل من أحسن الأدلة وأقومها، وهو الحك، أو إبرة الملاحين، فإنه أحدث انقلابا عجيبا في الملاحة، وحدا بكثيرين من الأبطال الشجعان إلى خوض غمرات البحار واقتحام أهوالها، وركوب متون أعظم لججها بدون خوف أو ضلال في تلك المتاية اللجة، فاكتشفت الجزائر الخالدات (المعروفة عند الإفرنج بجزائر كناري)، وجزائر ماديرة، وأصورة، وجزائر الرأس الأخضر، ثم جاء كرستوف كولنب فاكتشف أميركة، وجاز «فاسكو دي غاما» رأس الرجاء الصالح في أسفل أفريقية، ثم بعد ذلك بسنين اكتشف ماجلان قناة في أقصى أميركة الجنوبية جرت به إلى المحيط الهادئ (الأوقيانس الباسفيكي)، فقطع تلك الأرجاء والمنفسحات المائية متجها إلى ديار الهند، فتجلت غوامض البحار فيما بين سنة 1492 و1521، فانفتح للخلق بلاد جديدة، وتولدت في القلوب مطامع لم تكن فيها سابقا، وكان السبق في ذلك للإسبان؛ لأن أغلب مهرة البحر كانوا منهم ومن البرتوغاليين، وهكذا تتداول الأيدي بلاد الله فتنتقل من قوم إلى قوم، من الضعيف إلى القوي، وإذا هرم القوي جاء من هو أغض إهابا منه فانتشل من يدي من وهن ما عنده، إلى ما شاء الله. ومما زاد الملاحة دقة في تسيير السفن ما وضعه البلجيكي مركاتور من الخرائط البحرية البديعة، فصار شق البحار في القرن السادس عشر على مثال قطع البلاد والديار، وفي ذلك الأوان أيضا اهتدى البحريون إلى استنباط اللحق،
10
فلم يعد يشق أحد عباب سفنهم، لا سيما بعد أن ألقوا المجاذيف واتخذوا لها الأشرعة. وما زالت الملاحة تتحسن باختراع الآلات الدقيقة، كالربع، والساعة البحرية، والموقتة (أي القرونومتر) التي تعين للبحريين بدقة طول المحل الذي هم فيه، كما أن الحك يعين لهم عرضه، حتى لم يبق لهم إلا طلب وسيلة واحدة، وهي تسيير السفن بقوة تكون في قلبها عندما تقف الرياح في مجراها، فاخترعوا لهذه الغاية البخار، فتم لهم بذلك ما كان يختلج في صدورهم منذ أزمان متطاولة. وهذا كان في القرن التاسع عشر بعد أن مضت أربعة قرون وهم على الحالة المعروفة الأولى، ثم انضافت إلى هذه القوة العظمى وسائل أخرى، كاتخاذ المراجل، أو القدور الأنبوبية، وجعل قشرة المركب وقلوسه من الحديد، وإبدال الفرانقات (أي البروانات) بالرفاس، والجمع بين الأشرعة والبخار لزيادة سرعة الحركة، فأصبحت القوة البحرية من أعظم القوى، والدولة التي تتصرف في مثلها غدت من أعظم الدول، فكان السبق فيها للدولة البريطانية، ونحن نسوق إليك خلاصة نشوء هذه القوة الهائلة بإيراد تاريخ الشركة المعروفة عندهم بشركة «لويد البحرية».
في بدء القرن الثامن عشر كان في لندن في الشارع المعروف باسم «لمبرد ستريت» بالقرب من البورصة نوع من القهوة، صاحبها رجل اسمه «لويد»، وكانت هذه القهوة مجمع تجار المدينة (أي الستي) من أصحاب المراكب ومستأجري السفن والسماسرة وضامني المراكب. وفي سنة 1727 اجتمع هؤلاء الرجال (رجال الأشغال) بصورة شركة، انتقل مقرها بعد ذلك بكثير إلى بناية البورصة، وهو هناك إلى اليوم، وسموا شركتهم «لويد»، وهو الاسم الذي اتخذته سائر الشركات البحرية غير الإنكليزية التي أنشئت على طرز هذه الشركة، فترى اليوم يجتمع هناك أصحاب السفن والضامنين وأهالي رءوس الأموال، حيث يجدون جميع الإفادات اللازمة لسير الحركة التجارية والبحرية، مع ذكر البلايا والنكبات التي تحل بركاب البحار. يجدون هناك قوائم وإعلانات يذكر فيها يوم إقلاع السفن ويوم وصولها إلى الموانئ من إنكليزية وغيرها، كما يصرح فيها أيضا غرقها واصطدامها وجنوحها وعطلها وضررها وإنقاذ من غرق من ركابها وهلاك من لم ينقذ، إلى غيرها من الفوائد التي يجب أن يقف عليها كل من يعنيه البحر وما يقع فيه. وهناك كتاب يسمونه «الكتاب الأسود»، أو «كتاب الخسائر»، فيستشيره أو يتصفحه كل من يحب أن يقف على الحقائق، وأخباره هي آخر الأخبار الواردة إلى لندن؛ لأنها تجيء ليلا على لسان البرق اللاسلكي، (وسابقا على لسان البرق السلكي البحري)، فتلتقط وتدون حالا، وما يكاد ينشق إهاب الفجر عن جبينه إلا وقد طبعت تلك الأنباء البرقية على صحيفة يومية يسمونها «قائمة لويد» (لويدس لست)، وهي بمثابة جريدة بحرية من أقدم جرائد هذا النوع؛ لأن عهدها يرتقي إلى سنة 1745 في أقل ما يظن.
وفي ذلك المحل الكبير تجد آلات تتحرك من نفسها، كمقياس الجو، ومقياس الأرياح وغيرهما، فترسم على الحيطان بقلم من رصاص تقلبات الجو وسير العواصف؛ فبهذه الإفادات المختلفة التي تؤخذ يوميا، وبالإفادات التي تأتي من كل موقع وموضع من أنحاء العالم «تبعث وقائع البحر ظلها على تلك الحيطان فترتسم» بموجب تعبير الإنكليز، وحينئذ لا يقف رجال الأشغال على المعاملات البحرية والتجارية فقط، بل يقفون - وهذا أهم من ذلك - على ما يحل من تلك الغمرات من الويلات ليتخذوا وسائل يمنعون بها وقوعها، ويدفعون عن ركاب البحر المصائب التي تتهددهم وتتهدد مراكبهم وبضائعهم وأموالهم.
ولهذه الشركة البسيطة في أصل وضعها ونشوئها فروع وشعب في جميع الديار التجارية، وقد انضمت إليها شركات أخرى قوية. والخدم التي خدمت بها التجارة والمنافع البريطانية التي أدتها هي فوق كل تصوير، يكفيك أن تعلم أنها تخسر أسبوعيا نحو ستين سفينة؛ أي نحو 3000 سفينة في السنة من باب الحساب المعدل.
رأيت قوة بريطانية العظمى التجارية، أما قوتها البحرية فهي فوق هذه. وكيف لا تكون فوقها وحياتها متوقفة عليها؟ إلا أن دولة ألمانية لما رأت أن لا مندوحة لها عن النجاح إذا لم ترق حالة أسطولها، أخذت تفرغ وسعها لتجاريها أو لتغلبها، حتى خيف على إنكلترة من الوقوف في تقدمها، ولا سيما لأن رجالها البحريين دون رجال الألمان عددا. غير أن شبوب الحرب بين القومين جاء فاصلا لهذا النزاع؛ ولهذا ينتظر أن ترجع ألمانية القهقرى وتسير بريطانية في وجهها بدون أن يثبط عزمها مثبط.
هذه هي نتيجة القوة البحرية. إنها ترفع الدولة إلى حيث لا تنال، وتحميها من هجوم الأعادي، وتذلل أمامها العقبات، وترفع مقامها بين الدول. وإذا ضعفت فيها هذه القوة سطا عليها كل قوي وعركها عرك الرحى بثفالها، وربما لاشاها وأزالها من عالم الوجود، وأصبحت أثرا بعد عين. (10-3) المواصلات وطرقها
على أن فوائد هذه المراكب لا ترى فيما تأتيه من الأعمال بعبر البحار ونقل الركاب من بلد إلى بلد، بل إن فوائدها تتعدى كل وصف وقول؛ فإنها هي التي تجمع البلاد إلى البلاد، وتزيل هذه الحواجز الهائلة القائمة بينها، وهي البحار الفسيحة الأرجاء؛ لأنك تعلم أن الأمة التي تستقل بنفسها ولا تراجع غيرها من الأمم المجاورة لها أو البعيدة عنها تشبه الأسد المحبوس في قفص، فهو وإن كان قويا شديدا لا يصرعه مصارع، إلا أن حبسه في دائرة محصورة تقيده وتلاشي قواه وتذله حتى تجعل أدنى حيوان أعظم فائدة منه لهذه الألفة البشرية.
ولهذا ذهب العلماء إلى أن سطوة الأمم السياسية وعمرانها وعيشتها الهنيئة، ودرجة حريتها المدنية والسياسية التي تتمكن منها، معقودة العرى بحالة طرق مواصلاتها. وفي عهدنا هذا نرى الأمم الواغلة في الحضارة والتمدن هي الأمم التي قد هيأت لنفسها أسهل الطرق، وذللت جميع العقبات، وأزالت كل ما يقف في وجهها، كما نرى ذلك في فرنسة، وإنكلترة، والبلاد المتحدة، وبلجكة، وألمانية، والنمسة، وهولندة؛ إلى غيرها. وإذا كان قد أخفق الإسبانيون في مستعمراتهم، فإن إخفاقهم على ما يقوله بعض المحققين ناشئ من قلة وجود طرق المواصلات فيها. وهذا الإخفاق يتضح كل الاتضاح في الحروب؛ فإن الأمة التي لا تسرع في نقل محاربيها إلى ميادين القتال تكون هي المغلوبة؛ لأن العدو يخف إلى نجدة جنده وإتباع الجيش بالجيش، بخلاف الدولة المتأخرة في طرق مواصلاتها، فإن جندها يسحق، وليس له من معين ومنجد قبل أن تجيئه النجدات من بلده البعيد. وقد ظهر نفع هذه الطرق - طرق المواصلات - في الأزمان القديمة كما في الأزمان الحديثة. ولقد كانت هذه الطرق أشغل شغل أصحاب أهل الحل والعقد في الأمة؛ فهي أحسن الأدوات للبلوغ إلى السيادة العظمى في البلاد. ولقد فهمت هذه الحقيقة رومة، فأنشأت حيثما دخلت طرقا واسعة معبدة، حتى إنك لا تقول طرقا رومانية إلا ويتبادر إلى الذهن أنها الطرق الحسنة البناء. وفي هذه الأزمان إذا تجولت في بلاد الغرب ترى من آثارها شيئا لا يحصى في مواطن عديدة، وهي هذه الطرق التي ميزت الدولة الرومانية - سيدة الدول - من غيرها التي سبقتها، أو من دول هذا العصر نفسه التي من بعد أن فتحت الفتوحات الكثيرة لم تتمكن من إبقائها في أيديها؛ لأنها لم تنشئ فيها هذه الطرق اللاحبة المكينة. ومن أحسن الشواهد العصرية الدولة البريطانية؛ فإنها لا تكاد تفتح بلادا أو تستعمر ديارا إلا وتسرع إلى اتخاذ هذه المسالك والسبل؛ إذ هي أيضا من الوسائل الفعالة لإيصال عوامل الإدارة إلى حيث تجب، وتمكن أولياء الأمور من إبلاغ أمارات أفعالهم وأقوالهم في أقرب آن. وكذلك قل عن إبلاغ صواعق غضبهم وسخطهم. فكر في إسكوسية من بلاد بريطانية، فإنها كانت في نحو منتصف المائة الثامنة عشرة في قيام وقعود من أمر الفوضوية والهمجية، وما اتخذت فيها هذه المسالك إلا وتبدل فيها الأمر وانقلب ظهرا لبطن؛ لأن مجلس النواب أمر بخرق الجبال فخرقت، فسهل بذلك إيصال الأوامر والزواجر بسرعة البرق، فخمدت نار الثورة أو الفوضوية، وأصبحت إسكوسية مثل سائر ديار بريطانية. (10-4) سكك الحديد
إن الأمم المتمدنة في يومنا هذا تستعمل ثلاث طرق للمواصلات؛ بلوغا لرقيها، وتسهيلا لأشغالها، وترويجا لتجارتها، وهي الطرق الواسعة، ومجاري المياه، وسكك الحديد؛ فالوسيلة الأولى وإن كانت ساذجة في حد ذاتها إلا أن إدخالها في وسائل العمران كان من أجل الأمور، بل اكتشافا لا يقل شأنا وخطورة عن سائر الاكتشافات؛ وذلك أن هذه المسالك عند اتساعها مكنت الناس من تسيير المركبات والعجلات عليها، فقل بذلك تسخير الإنسان لنقل الأثقال الباهظة . واليوم تؤدي هذه السبل في البلاد المتمدنة من الخدم ما لا يعوض عنها معوض لو لم تكن أو لم تفتح، ومع ذلك فقد توجد بلاد وهي محرومة من هذه النعمة العظمى؛ ففي بلاد الصين مثلا لا يوجد طرق بالمعنى الذي نريده هنا، ومع وجود الجداول والترع عندهم ترى أغلب نقلياتهم تتم على ظهور الناس.
أما مجاري المياه فقد قال عنها بسكال: إنها طرق سيارة تحملك إلى حيث تشاء، لكن - ويا للأسف - لا تعود بنا إلى حيث خرجنا، هذا فضلا عن أن في ركوبها من المساوئ ما ينقص من محاسنها ويقلل اتخاذها؛ فبعض الأنهر تطغى في بعض الأيام، وتطفح على ما جاورها من الأرضين، فهناك تكون البلايا والرزايا، وبعضها تنقص كل النقصان في الوقت الذي يحتاج الإنسان إلى ركوبها لقضاء حاجات أسفاره، فيؤدي نقصانها إلى تعطيل المراكب وجنوحها أو نشوبها في الرمل. ومن الأنهر ما تجمد في الشتاء، ومنها ما يكثر فيها الصخور، أو تتكوم فيها الرمال، ومنها ما تتسلط عليها الشلالات أو مساقط المياه في مسيرها فتكون سببا لهلاك كثيرين، ولو لم يخترع البخار لكان العود على متون تلك الأنهار من أعظم المتاعب والمصاعب؛ ولهذا فإن هذا الاكتشاف ضاعف منافعها عشرة أضعاف، ونحن في قولنا هذا لا نبالغ البتة، على أن جميع الأنهار لا تسير عليها البواخر؛ فهناك بعض منها لا تصعد إلا بجر سفنها، وفي البلاد المتمدنة يتولى جرها حصن تسير على المسنيات المكينة البناء الموجودة على طول الشاطئ، وفي البلاد المتأخرة يجرها الرجال وهم يسيرون على الجرف كما هو الأمر في العراق. ومع كل ذلك فإن في جرها هذا العنيف فوائد ما كنت تراها لولا إياها.
أما الترع (وهي الجداول، أو الأنهر التي شقتها أيدي الناس) فإنها تجاري بمنافعها منافع الأنهر الطبيعية، وربما فاقتها في بعض الأحيان؛ لأنك لا ترى فيها ما يجعل السير فيها صعبا أو مهلكا، ولا ينقص ماؤها إذا عرف المهندس خزن المياه إلى وقت الحاجة إليها. ومن مميزاتها أنك لا تجد فيها مجرى قويا ، فيمكن لراكبها صعودها ونزولها بدون كلفة عظيمة. على أن فيها محاذير، من جملتها: أنه لم يحافظ على حالتها التي وضعت عليها، قد تعاب في داخلها عيوبا، تتحدر فيها المياه فتنشف فجأة، وتبقى المراكب على الرمل، وقد تجمد هذه الترع، أو قل قد يتأخر انحلال جمدها لعدم وجود مجرى قوي يدفئ الماء فيحل جمدها، لكن هذا لا يأتي إلا في البلاد الباردة، وأما في البلاد المعتدلة الهواء فلا. ومن محاذيرها أن السير عليها يقف في حين تطهيرها أو كريها، وهذا لا يكون إلا مرة في ثلاث سنوات، فمنافعها إذا أعظم من مساوئها.
ومما يجدر ذكره هنا ما فازته البلاد المتحدة في أميركة من النجاح الباهر بعد اتخاذها الترع في ديارها. وقد بدأ الأميركيون في بلاد نيويورك ليظهروا للأهالي - بل للعالم كله - منافع تلك القنوات؛ فمساحة سطح تلك البلاد تساوي ربع مساحة فرنسة، وكان فيها من السكان أقل من مليون، ففكر بعض الرجال من ذوي العزائم والهمم العلية بأن ينشئوا في تلك الأرجاء قنوات تخدد وجهها حتى تكون كالشباك فيها، وكان فكرهم هذا في سنة 1810م، فبدءوا أعمالهم هذه بشق قناة تصل بحيرة «أرية» بنهر «هدسن» في ألباني، وطول خطها 142 فرسخا؛ أي إنهم حفروا أعظم نهر وجد على سطح الأرض مما حفره البشر، وكان بدء هذه الأعمال في 4 تموز سنة 1817، يوم ذكرى تحرير أميركة، وتمت في تشرين الأول من سنة 1826؛ أي بعد ثماني سنوات، ودونك الآن نتيجتها بعد 12 سنة وعاقبة تأثيرها على غلات البلاد. ففي سنة 1817 كانت تبلغ رءوس أموال تلك الغلات 16 مليون فرنك، فبلغت 118 مليونا في سنة 1837. وفي هذه المدة نفسها قامت مدن جديدة جليلة الشأن على طول تلك القناة أو الترعة - دع عنك القرى والدساكر التي أنشئت أيضا في الوقت المذكور - وكلها تدل على أن سكانها يتمتعون بعيشة هنيئة رغيدة.
وقد قامت جمعيات لإنشاء ترع مهمة، منها شركة الترع الأربع، والترع الثلاث. ومن أشهر الترع وأعظمها شأنا وفائدة وخدمة للبشرية «ترعة أو قناة السويس» التي وصلت بحر الروم أو البحر المتوسط بالبحر الأحمر، بسعي المهندس الفرنسوي الشهير المسيو دي لسبس، فكانت بابا واسعا لترويج التجارة ونشرها في أقطار الأرض، وتأتي بعدها في الشأن ترعة بنمة التي جمعت بين المحيطين الهادئ والأتلانتيكي، وكان الناس يظنون أن اختراع السكك الحديد يضر بحفر الترع ، فجاء الأمر بعكس ما كان يظن؛ فإن النقل على السكك خص بالبضائع وبالأثقال الخفيفة، وأما الترع فاتخذت لنقل الأثقال الباهظة.
على أن جميع وسائل النقل تتضاءل قدرا وشأنا بجانب سكك الحديد، فإن لها المقام الأول بين أخواتها الأخر، ولا سيما لأنها لا تعرف تقلبات الجو ولا اختلاف الأهوية والفصول، ولا يهمها سقوط الثلج أو هبوب العواصف أو تدفق الأمطار؛ فهي تجري في وجهها مهما كانت عوامل الطبيعة، فإن قدد الحديد هذه الضيقة المصقولة التي تسير عليها عجلات القواطر يتيسر عليها النقل أكثر مما يتيسر على الطرق أو المسالك المألوفة. فلقد أثبت المحققون أن مقاومة طريق حسن لقوة النقل هي بمثابة ثلاثة أو أربعة أجزاء من مائة جزء من الحمل بأجمعه من باب المعدل، وأما على سكك الحديد فهي عشرة أضعاف أقل، فتأمل. على أن السكك المذكورة لا تستطيع أن تنقل مواد ثقيلة بقيمة زهيدة كما تفعله الترع، إلا أنها تفضلها من جهة الجر؛ فإن البخار أهون مراسا من الدواب في هذا الأمر، بل قد تتعب الحيوانات وتنهك، وأما البخار فلا. وذكر محاسن هذه السكك مما يطيل الكلام على غير جدوى في الوقت الذي قد عرف العام والخاص منافعها، فالأجدر بنا أن نتكلم عن هذه السكك في العراق.
العراق هو من البلاد القديمة الحضارة - على ما تقدمت الإشارة إليه - إلا أن وقوعه في أيدي أناس أصبحوا في أخريات الأمم المتحضرة أضر به أعظم الضرر، حتى إن أمم أفريقية المعروفة بالتوحش سارت في العصر الماضي سيرا حثيثا في العمران، وتمتعت بمحاسن وفوائد الرقي؛ لكون الذين قضوا عليها كانوا من الأمم المتقدمة في العلوم والصنائع، فأفادوا تلك الأقوام فوائد لا تنسى. ومن الغريب أن أمم الإفرنج كانت ترى بعين الكآبة والأسف أهل هذه الديار يهوون إلى هوة الجهل والانحطاط، فكانوا يحاولون نشلهم منها ويطلبون إلى الدولة التي ترعاهم أن تأذن لهم بإدخال أسباب الرقي في تلك الربوع القديمة الحضارة والتمدن، فكان أصحاب الأمر يمنعون إدخالها؛ خوفا من أن ترتقي أهاليها، فتتخلص من ربقة الإذعان لسلاطين آل عثمان، فبقيت تتسكع في ظلمات الجهل والغباوة حتى دخل النور إليها من شق ضعيف رغما عن مقيديها بتلك السلاسل الثقيلة وإلقائها في ذلك المطبق (السجن المظلم) الهائل. دخل إليها النور من أنحاء الأستانة وأزمير وبيروت، فلم يمكن لأولياء السجن أن يبقوا أولئك الأسرى في تلك الغياهب المدلهمة. دخل إليها النور على يد الأجانب الذين كانوا يلحون على أرباب الحل والعقد أن يسرعوا إلى نفع الأهالي بممتعات التمدن العصري؛ إذ أغلب أولئك الأهالي يهجرون البلاد إلى غيرها من ديار الغربة، فيطعنون بالحكومة التي قد قبضت عليهم بأيد من حديد، بل هي أصلب وأقسى من الحديد، وحينئذ ينشأ في قلوب الرعية عداوة أو فكر لقلب الحكومة. وكان السلطان يعلل الناس بمنح ما يتوقون إليه، حتى وقع ما وقع من خلع عبد الحميد، وانتقال زمام الأمور إلى جمعية الاتحاد والترقي التي أخذت على نفسها رفع الناس من حالتهم إلى حالة أعلى، لكن على نظرها الذي ظهر فساده لعيني كل بصير.
ولما تربع عبد الحميد على أريكة السلطنة كانت السكة الحديدية معروفة في الروملي فقط، وفي الطريق المؤدية من حيدر باشا إلى أزميد، وبضع مئات من الكيلومترات في ولاية أزمير. ولما اضطرته الأحوال إلى تطويل تلك الخطوط، مد خط أزمير إلى الأناضول، وعدة خطوط أخرى ذاهبة من سواحل بحر الروم إلى داخله، مثل خط مودانية إلى برصة، وخط بيروت إلى الشام، وخط يافا إلى القدس، ثم مد خط الحجاز، فنشأ من هذه الخطوط كلها في العهد الحميدي ما هذا جدوله:
2000 كيلومتر
في الحجاز
2500 كيلومتر
من خط بغداد
3000 كيلومتر
في الروملي والأناضول وسورية
7500 كيلومتر
هو المجموع، وهو شيء زهيد بالنظر إلى تلك البلاد الواسعة الأرجاء
على أن الحكومة رأت فائدة تلك الخطوط ، فأسرعت إلى تخويل امتيازات خط بغداد إلى الشركة الألمانية التي كانت قد طلبتها مع الضمانة الكيلومترية، فكانت من أضر الأضرار على البلاد، بينما أن شركات أخرى كانت قد طلبت تلك الامتيازات بدون الضمانة الكيلومترية. لكن ما العمل وكانت الأقدار قد ساقت تركية إلى البوار، وقد سلمت نفسها إلى الألمان، ودفعت إليهم مقاليد أوامرها ونواهيها، فأخذوا يتصرفون في البلاد على ما يهوون ويشاءون، فكانت النتيجة ما رأيناه ونراه إلى يومنا هذا؟
وكأن الزمان قد ادخر تأخير مد سكك العراق إلى دولة لها فيها أعظم المنافع، ولسكان العراق بأجمعهم فوائد أعظم؛ فالهند من مستعمرات بريطانية العظمى، وديار مصر لاحقة بتلك الدولة الكبرى، وهي منفصلة عنهما ببحار بعيدة الأرجاء، إلا أن مراكبها الضخمة تصلها بهما وصالا يكاد يكون شديدا، لولا بين الهند ومصر حاجز هو من أمنع الموانع لربط مصر بالهند، بل قل لربط آسية بأوروبة؛ فلقد اتصلت بلاد الدنيا كلها بعضها ببعض، إلا الشرق الأقصى، فإنه بقي منفصلا عن الشرق الأدنى وعن أوروبة، وما ذلك إلا من مقاومة تركية لروح العصر ونوره، فساقت الأقدار خروج هذه الديار من أيديها لتكون في أيدي دولة تخرجها من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم. وعلى ذلك سنرى عن قريب عصرا جديدا يدخل الخطة العراقية في مصف البلاد الراقية، وتكون عضوا متصلا بسائر أعضاء جسم العالم الكبير، فتحيا بحياته وتنمو بنمائه، وتسير سيرا حثيثا في الرقي والاعتلاء.
إن ديار العراق سترى من الفلاح والنجاح ما لم تحلم به في غابر الزمن، سترى جميع زوار العجم يذهبون للحج بعد أداء فرائضهم الدينية في النجف وكربلاء، وبدلا من أن يذهبوا على البحر فيصرفوا المبالغ الطائلة، سوف يركبون سكة الحديد من بغداد إلى مكة. وكذا القول عن الهنود، فإن أغلبهم سيحجون عن طريق دار السلام إذا ما رأوا سهولة السفر برا وتحققوا منافعه، لا سيما إذا كانت عيالهم معهم. وهناك مندوحة عن الانتقال من جدة إلى مكة سيرا في البر، ووقوعهم في أيدي أقوام البادية الذين كثيرا ما يسلبون ما عليهم ويتركونهم عراة لا يملكون إلا أنفسهم. وعلى كل حال: إن الهنود الأغنياء الذين يذهبون للحج عل طريق البحر يرجعون إلى ديارهم عن طريق البر، لا سيما إذا كانوا من الشيعة؛ ليتبركوا بالبلدين المقدسين عندهم ويزوروهما بعد الحج المفروض، وبعد أن يكونوا قد مروا ببلاد الشام؛ إذ فيها مدافن كثير من الأنبياء والأولياء. فمما تقدم بسطه نرى أن العراق قد أخذ ينفض الغبار القديم عن ثيابه، ذلك الغبار الذي قد علق بها منذ مئات من السنين، وأملنا أنه يسرع حثيثا في طريق النجاح بفضل مساعي الدولة التي وعدت أهاليه بكل خير، وبإنهاضه من كبوته في أقرب زمن. (11) البصرة باب واسع لتجارة الشرق
البصرة هي آخر مدينة كبيرة من العراق. والعراق كله كمخزن عظيم بابه البصرة، والمخزن الذي لا باب له لا فائدة فيه؛ إذ يبقى مغلقا دون منفعة الناس. والظاهر من مسرى الحوادث والأشغال أن ثغر البصرة يفوق عن قريب مدينة بغداد، وسيكون له من الشأن والخطر ما يجعل دار السلام دونه منزلة ومقاما، وسوف ترتبط به ارتباط التابع بالمتبوع، ولا يبقى لها من الحياة إلا ما يجود به عليها ذاك الثغر الباسم. بغداد وإن كانت شهيرة بتاريخها القديم المجيد؛ لأنها كانت مقر خلافة بني العباس، وقبة الإسلام، ومندفق أنوار الحضارة العربية، إلا أن البصرة لم تقل عنها شأنا بما أنجبت من العلماء الذين جروا في ميدان الشعر واللغة ولا سيما النحو، جريا ظهر فيه أن من كان في عهدهم من الكوفيين ومن جاء بعدهم بقرون لم يشقوا غبارهم، بل تخلفوا عنهم بمسافات عظيمة لا تقدر، وقد أبقوا من الذكر ما لو مرت عليه القرون فإنها لا تزيده إلا شهرة ورفعة ونباهة. البصرة لم يكن لها في التاريخ شهرة في تجارتها؛ لأن الأموال في سابق العهد كانت تأتيها من جميع الجهات على طريق البادية، إلا ما كان يأتيها من طريق الهند، فإنه كان يصلها عن طريق البصرة. أما اليوم فالبضائع والأموال وأنواع البياعات لا تأتيها إلا على البواخر من ديار الغرب إلى البصرة ومنها إليها، بدون أن تلقى على البر البتة، ولا يأتيها بالقوافل إلا ما يحمل من أنحاء الموصل وحلب وسورية وديار الأناضول، وهو شيء زهيد لا يكاد يذكر بجانب ما يأتي عن طريق البحر والنهر. البصرة تكون عن قريب مدينة أكبر من بغداد، وسوف يزيد سكانها على سكان دار السلام، وسوف تكون تجارتها من أكبر ما يمكن أن تكون لهذه البلاد، وسوف يكثر فيها الغرباء والمحلات الأجنبية، حتى تكون من المدن التي تضاهي الحواضر الكبرى في ديار الإفرنج. كانت البضائع تنقل إليها سابقا من ديار الغرب قبل أن تخرق ترعة السويس على سفن بحرية تعرف الواحدة منها باسم «البغلة»، والجمع «بغال»، وعلى سفن شراعية لا يتجاوز عددها في السنة الثلاث والأربع، فكانت تصلها من بعد أن تجول حول رأس أفريقية المعروف يومئذ برأس الزوابع أو العواصف، وهو المسمى اليوم «رأس الرجاء الصالح»، وكانت تجارتها شيئا زهيدا لا يستحق الذكر.
ولما خرقت الترعة وبدأ عبورها سنة 1869 تغيرت الأحوال تغيرا عظيما، وأخذت تجارتها ترتفع ارتفاعا عجيبا؛ إذ ما كانت تمضي السنة الواحدة إلا وقد تضاعفت المقادير عما كانت في السنة المنصرمة. وكان الإنكليز أسبق سائر الأمم إلى نقل البضائع منها وإليها، وهم الذين نشطوا البصريين لترويج التجارة ولغرس النخيل لاجتناء التمر. نعم إن النخل كان موجودا في البصرة ونواحيها، لكن لم يكن بالألوف المؤلفة على ما نشاهد عدده اليوم؛ فلقد أكد لي العارفون أن النخل زاد مائة ضعف عددا من بعد عشر سنوات من فتح قناة السويس. وفي سنة 1890 كان عدد السفن الشراعية والبواخر كما يأتي:
جنسية العلم
عدد سفن الأشرعة
محمولها بالطن
عدد البواخر
محمولها
مجموعها معا
محمولها معا
إنكليزي
114
11418
101
103296
25
114714
عثماني
175
10644
175
10644
فارسي
97
11688
97
11688
فرنسوي
1
950
1
950
المجموع
386
33750
102
104246
488
137996
وكان عددها في سنة 1891:
جنسية العلم
عدد سفن الأشرعة
محمولها بالطن
عدد البواخر
محمولها
مجموعها معا
محمولها معا
إنكليزي
121
11885
136
122540
257
134425
عثماني
363
14541
1
1326
364
15867
فارسي
385
19450
385
19450
المجموع
869
45876
137
123866
1006
169742
هذا من جهة حركة الميناء قبل نحو 28 سنة، وأما حركته في هذا العهد فلم نعثر عليه، وأما حركة البصرة التجارية فكانت السنوات في الثلاث 1888 و1889 و1890 قد بلغت نحو 5425082 ليرة إنكليزية مقسمة على الوجه الآتي:
سنة
إخراج
جلب
مجموع ليرات إنكليزية
1888
973761
511652
1485413
1889
1009962
841941
1851903
1890
1127319
960447
2087766
3111042
2314040
5425082
وقد بلغ الجلب والإخراج في سنة 1910 (وهي آخر السنين التي وضع الأتراك لها قائمة) نحو 3258754 ليرة عثمانية، وكان مبلغ الجلب وحده 2206695، ومبلغ الإخراج 1052058، وهذه الأعداد تدلك على ترقي التجارة في البلاد، وسنة 1910 لم تعد بين السنوات الحسنة بل بين السنوات السيئة؛ لأنه في السنوات السابقة لها كان الجلب والإخراج أعظم مما ذكرناه بكثير. ولهذا النقص أسباب، منها: أن ما يرد إلى ثغر البصرة لا يصرف كله في العراق وحده، بل في ديار العجم وكردستان أيضا، ومنذ إعلان الدستور في ممالك الدولة العثمانية كانت تجري أمور عظيمة وتغيرات مهمة في داخل إيران، فقل الأمن في الطرق، ولم تنفق البضائع كل النفاق فكسدت الأسواق رويدا رويدا، وتضررت محلات كثيرة بسبب هذا التوقف. والسبب الثاني، هو نقص في زوار كربلاء والنجف؛ فإن السنين التي يكثر فيها زوار الشيعة يحدث في العراق حركة عظيمة، تمتد من خانقين إلى البصرة، فينتفع منها الناس كلهم أجمعون من الصغير إلى الكبير. والحال أن الزوار في سنة 1910 كانوا قليلين لما حدث في ديار إيران من الاضطرابات والفتن الداخلية وقلة أمن الطرق. ومن الأسباب التي تنتج الكساد في الأسواق: الأمراض الوافدة، ولا سيما إذا وقعت هذه الأوبئة في النجف وكربلاء، وهي لا تكاد تنقطع منهما؛ لنقل الجثث إليهما من جميع البلاد الإسلامية، فإذا وقعت تلك الأمراض صعب السفر إلى العراق، لما يوضع من المحاجر الصحية وما يضرب من النطق الواقية من سريان الأمراض إلى الديار غير الملوثة. وهناك سبب رابع، وهو أن تقييد ما يجلب ويخرج من هذه البلاد يختلف في بعض السنين لاختلاف العمال، فيتفق أحيانا أن كبار العمال الذين يأتون جديدا لا يرتشون أبدا، أو يرتشون قليلا، وحينئذ يقيد كل شيء في السجلات أو يكاد. أما إذا كان العمال - ولا سيما الكبار منهم - يرتشون فإنهم يسمحون للتجار بإرسال الشيء الكثير من الأموال لقاء دريهمات، وحينئذ جميع ما يرسل به لا يسجل . والذي أعلمه شخصيا أن بضائع كثيرة أرسلت في السنة المذكورة بدون أن تدون في الدفاتر.
والذي ساق الناس إلى هذا العمل أنه شاع بين موظفي الحكومة أنهم من الآن وصاعدا لا يرتشون، والذي شاع وذاع كان على خلاف الحقيقة؛ فلقد اكتفى العمال بالسمعة الحسنة وأخذوا يرتشون أكثر من سابق. والذين كانوا في ذلك العهد يعرفون هذا الأمر ولا ينكرونه. وما سبب هذه الرشوة إلا فساد أخلاق موظفي تلك الحكومة، وهي التي ساقتهم إليها بما كانت تأتيه من سوء التصرف في الأمور، وعدم الاهتمام بتحسين المدارس التي تؤهلهم لمثل تلك الوظائف التي تتطلب ذمة طاهرة وآدابا لا شائبة فيها، وهذا بعيد المنال في حكومة كانت قد نخرت قناتها إلى درجة لم يبق منها إلا الظاهر.
وعلى كل حال نرى أن ازدياد التجارة في ميناء البصرة هو أمر محسوس يكاد يدهش الأفكار. ومما يدل على تحسن أحواله أن سكانه كانوا قبل فتح قناة السويس نحو ثمانية آلاف نسمة لا غير، وكانت البرداء (الحمى الملارية) تفتك بأهاليها، بحيث كان أغلبهم هجروها إما إلى بلاد إيران وإما إلى داخل البلاد العثمانية، وزد على ذلك حدوث الأوبئة والطواعين، بحيث إنها أصبحت في بعض السنين مفتوحة لعربان تلك الأرجاء، فكانوا يأتون عصابات عصابات ويسلبون من بقي من أهلها ويسرقون كل ما شاءوا ثم يوغلون في بواديهم، «وخراب البصرة» أمر مشهور في أمثال العوام. أما اليوم فإن الحكومة الإنكليزية ما كادت تدخل البلاد إلا ودفنت كثيرا من المستنقعات والغدران وجميع المياه المفتوحة، والمواطن التي لم تدفنها تلقي فيها بعض السوائل لتمنع فيها تكون البق فيها. والبق أو البعوض هو المسبب لتلك الحمى الناهكة للقوى (على ما أيده الأطباء وأثبته الاختبار المتكرر)، وأمنت المدينة من عصابات اللصوص بالضرب على أيديهم. وفي شهر آب سنة 1917 أحصت الحكومة البريطانية أهالي البصرة المقيمين فيها طول السنة، فكانوا كما يأتي بيانه:
20498
من العرب المسلمين
3347
من اليهود
1350
من المسيحيين على اختلاف طوائفهم
116
من الأوروبيين الملكيين
2812
من أقوام شتى
28123
وهو مجموع السكان
وأما أن بعضهم كتب في بعض الإحصاءات أنهم يبلغون ستين ألفا فهو من قبيل الخرافات، ولعلهم خدعوا بكثرة العملة الذين يكونون في وقت «التمرة»، وهو جمع التمر من النخيل ووضعه في الصناديق والعلب، فيجتمع وقتئذ خلق عظيم من أهل البادية ، ومع ذلك فلا يتجاوز عددهم في السنين المقبلة الخمسة الآلاف من العملة. هذه هي البصرة، وسوف نرى ما تصير إليه في ظل العلم البريطاني، فيظهر الفرق بين عهد وعهد، وهو الموفق لكل خير.
الخاتمة
خروج العراق من أيدي الترك ومصيره إلى الدولة البريطانية الكبرى
تناوب على العراق أمم مختلفة وأقوام شتى في عصور عديدة، وليس بلادا مثل هذه الديار تتابعت عليها الأجيال واختلفت عليها الأيادي إلا ما قل وندر، وقد مر بنا ذكر أعظم هذه الشعوب، وفي الآخر وقعت في أيدي المغول على ما سبقت الإشارة إليه، ومنهم انتقلت إلى جماعة منهم يعرفون باسم «جلائر»، وكان أحدهم، وهو «حسن بزرك»، قد أنشأ دولة في بغداد في سنة 736ه/1335م عند وفاة أبي سعيد، وهذه الدويلة لم تعمر فإن آل «قرة قويونلي» (أي الخروف الأسود) جاءوا في سنة 1411 فأبادوها من بغداد.
ومن أخبار ذلك العهد أن الأمير الشيخ حسن المذكور لما دالت عليه الدولة فغلبه حسن الجوباني في معركة وقعت له معه في ديار إيران عاد أدراجه إلى بغداد، وكان فيها ابنه السلطان أويس بمنزلة حاكم فيها، فاستقل بها مدة 17 سنة، وشيد مباني فخمة في النجف، وتوفي في بغداد في سنة 757ه/1356م، ودفن في النجف بجوار مدفن الأمير. وذهب بعض المؤرخين إلى أن حسن الكبير أو حسن بزرك الإيلخاني أو الجلائري ملك عشرين سنة، فلا شك أنهم حسبوا في هذه المدة السنوات التي غاب فيها عن الزوراء قبل أن يجهر بالاستقلال.
وملك بغداد بعد حسن بزرك ابنه السلطان أويس المذكور، وذلك في شهر رجب سنة 757ه/تموز سنة 1356م، وبعد سنتين اضطر أن يزحف على أخيجوق بجوار تبريز، وكان هذا الأخير قد تملك على أذربيجان، غير أن السلطان أويس لم يفلح في زحفته؛ إذ خانه أحد قواده، فاضطر إلى أن يعود إلى بغداد، لكن ما أعظم ما كان عجبه لما علم أن مملوكه مرجان الذي كان قد أبقاه في المدينة وكيلا عنه قد تمرد عليه واستقل، ولم يرد أن يذعن له؛ لأنه علم بخيبته في إيران، فأراد أن يخيبه في دار السلام أيضا، لكن السلطان أويس استشاط غضبا وأراد أن يمثل بهذا النصراني الخائن الذي من بعد أن اشتراه أبوه وهو صغير وعلمه دين الإسلام فأسلم، حاول أن يغدر هذا الغدر، ومما حمل الخواجا مرجان على هذا الغرور أن الفصل كان ربيعا وكان دجلة قد طغى طغيانا فاحشا، فأحاط بالمدينة وجعلها كالجزيرة الحصينة التي لا ترام، بيد أن السلطان أويس بذل من الهمة والسعي ما مكنه من دخول المدينة، وكان معه أربعمائة سفينة مشحونة بالمقاتلة والذخائر، ولما أراد قتله شفع فيه أهل المدينة، فعفا عنه، لكنه نزع من أيديه كل سطوة، ولم تعد إليه إلا عند وفاة السلطان شاه الخازن التي وقعت في سنة 769ه/1368م، ومذ ذاك الحين صمم الخواجا مرجان على أن يكفر عن خيانته، فأنشأ مدرسة كبيرة وحبس عليها الأوقاف، وبنى لها مسجدا، وهو الذي نراه إلى يومنا هذا، وهو معروف باسم «جامع مرجان»، وهو آية في حسن البناء، يزين مدخله عمودان ملتفان، وحولهما زخارف عربية بديعة، مما يدل على أنه كان في بغداد في ذلك العهد رازة يشهد لهم بطول الباع وسعة المعرفة. على أن أغلب تلك الأوقاف قد تلفت، لا سيما ما كان منها في خارج المدينة، لإهمال الدولة التركية شئونها وإدارتها.
وأول من ملك العراق فكانت حاضرته بغداد، وهو من دولة «قره قويونلي»، الشاه منصور بن محمد، وذلك في سنة 778ه/1376م، ثم قام عليه السلطان أحمد من القبيلة المذكورة، فطرده من بغداد سنة 785ه/1383م، وبقي فيها إلى 802ه/1399م لما استولى على بغداد تيمور لنك وملكها بالأمان، فهرب أحمد إلى بلاد الروم، والتجأ بالسلطان بيازيد خان، فأرسل إليه تيمور يطلبه من السلطان، فأبى هذا أن يخون دخيله، فنشأت العداوة منذ ذلك الحين بين تيمور وبيازيد. ولما هلك تيمور عاد أحمد إلى بغداد وقبض على ناصية العراق إلى سنة 813 / 1410، وفي تلك السنة تقوى قره يوسف التركماني على السلطان أحمد وقتله، وملك بغداد والعراق ، وانقرضت بذلك الدولة الإيلخانية من هذه الديار.
وفي سنة 833 / 1430 مات قره يوسف في أوجان من نواحي الموصل، فقام بدله ابنه محمد، وكان ذا فكر ثاقب ورأي صائب، فأدار شئون العراق إدارة حسنة، وبعد موته انتقل الملك إلى ابنه البكر إسكندر الذي اتفق مع أخيه الآخر جهانكير شاه، فجيشا الجيوش وزحفا على شاه رخ بن تيمور لنك، لكن السعد خدم ابن تيمور الذي هزم عدويه، ثم إن جهان شاه وأغلب أمراء الترك ملوا معاملة إسكندر، فتركوه ولجئوا إلى معسكر شاه رخ، فرحب بهم، وقلد جهان شاه ولايتي ديار بكر وأذربيجان بشرط أن يفتحهما ويقبض على أخيه إسكندر، فلما درى بذلك هذا الأخير فر إلى قلعة ألنجق ليقاوم أخاه العدو، فلم يستطع جهان شاه أن يحقق منيته إلا بعد أن غدر به؛ وذلك أنه كان يعلم أن قباد ابن المحاصر قد عشق مملوكة أبيه، فحمله على قتل أبيه لينيله ما يطلب، ففعل، وكان ذلك في سنة 841 / 1438، وكان قد ملك 16 سنة. وقد روى صاحب «نخبة التواريخ» أن جهان شاه قتل بعد ذلك بيده الولد العقوق الفاتك معاقبة له لإثمه الفظيع.
ولما تبوأ جهانكير شاه عرش المملكة قبض أيضا على أعنة بلاد ديار بكر وأذربيجان مدة 12 سنة بمقام نائب عن شاه رخ بن تيمور، ولما قضى شاه رخ نحبه سنة 850 / 1446 استقل حينئذ جهانكير بالملك كل الاستقلال، وبقي مدة 32 سنة سيدا مستبدا مادا صولجان ملكه على بلاد ديار بكر وأذربيجان وبغداد والبصرة وفارس وكرمان، وليس له مناوئ يعارضه، ثم نهض بعد هذه المدة أوزون حسن (أو حسن الطويل) مؤسس دولة آق قويونلي التركمانية (أو دولة الخروف الأبيض)، وقتل جهان شاه سنة 872 / 1468، والمملكة التي كان قد أنشأها القتيل انتقلت بسعتها وعظمتها إلى حسن الطويل.
وبعد وفاته التي كانت في سنة 883 / 1478 انتقلت الإمارة إلى ابنه البكر خليل ميرزا، وكان سيئ الخلق ظلوما غشوما ، فقتل، والقتل نهاية كل ظالم، وذلك في سنة 884 / 1480، فقام على العرش أخوه يعقوب ميرزا، وبقي متسنما إياه ثلاث عشرة سنة، حتى سقته أمه سما وهي لا تدري، فمات وماتت هي أيضا؛ لأنها شربت من ذلك السم عينه بدون أن تعلم حقيقته.
فاجتمعت طائفة من خدمهما ونصبت باي سنقر ميرزا ملكا، بينما كانت جماعة أخرى من خدمهما الآخرين انتخبوا لهم ملكا مسيح ميرزا، فنشب القتال بين الأخوين، فقتل مسيح في المعركة، وتمكن باي سنقر من رقي العرش الذي خلا له هنيهة؛ لأن محمود بك ابن أوغورلي محمد (أي ابن عم باي سنقر) انهزم إلى بغداد، وكان فيها يومئذ حاكما شاه علي بيرناك، وقبض على أعنة المدينة بسعي الحاكم المذكور ومساعدته، فلما سمع بذلك باي سنقر ومؤدبه صوفي خليل زحفا على المتحالفين، فنشب بين الجمعين معركة شديدة انجلت عن قتل المتحالفين المذكورين والأسلحة بأيديهما. على أن باي سنقر لم يتمتع بالملك مدة طويلة؛ لأن رستم ميرزا بن مقصود - وهو من أولاد عمه - نهض عليه وقاتله، فقتل في المعركة، ونال رستم ما منى به نفسه، وهو القبض على أذربيجان فملك عليها مدة خمس سنوات ونصف، ثم قتل سنة 904 / 1498، فملك بعده ابن عمه أحمد خان بن أرغون بن محمد بن أوزون حسن، فكان آخر من ملك بغداد من دولة آق قويونلي؛ لأن الشاه إسماعيل بن حيدر بن جنيد قدم بغداد وحاصرها، ولم يفتر عن التضييق عليها حتى افتتحها، وأعمل فيها السيف مبتدئا بأحمد خان فذبحه، وذلك في سنة 905 / 1499، وأجبر كثيرين من السنة على التشيع بعد سنة من قدومه، وعمل له بعض أدباء الجعفريين هذا التاريخ بقوله: «مذهبنا حق» (وهو يساوي بحساب الجمل 906)، فرده أحد أدباء السنة فقال: «مذهب نا حق.» ومعناه مذهب غير حق بالفارسية، ولم يجسر هذا الأديب أن يقول هذا القول في عهد الشاه الصفوي، بل بعده بكثير، وكان الشاه قد قتل كثيرين من مسلمي السنة، وذبح جميع نصارى المدينة ولم يبق واحدا منهم، أما اليهود فإنه لم يتعرض بهم؛ لأنهم كانوا أدلاءه على السنة والمسيحيين، وكانوا يهدون إليه الهدايا الجليلة والأموال الطائلة لاحتياجه إليها يومئذ.
ومسألة قتل الشاه للسنة أنشأت في قلوب هؤلاء - ولا سيما في قلوب الأتراك - ضغينة لا تطفأ نارها. ولما برح الشاه الصفوي مدينة بغداد ترك فيها واليا إبراهيم خان، وكان بالنسبة إلى غيره من الولاة الإيرانيين أرفق بالناس، لكن لما مات الشاه إسماعيل وملك بعده أخوه محمد خدابنده (وكان أعمى وقد سملت عيناه حين ظهورهم في عالم السياسة) أرسل إلى بغداد جيشا، فقتلوا إبراهيم خان المذكور سنة 934 / 1527، وعينوا بدله رجلا طاغية لا يعرف قلبه الرحمة ولا الشفقة.
والأعجام لم يملكوا مدة طويلة في العراق؛ لأن قساوتهم الشديدة حملت الأهالي على الانتقام من أولئك الطغاة في أول فرصة يتمكنون منها، وكانت الرسل تذهب تترى إلى الأستانة؛ لتوقف أولي الأمر على حقائق الأحوال، وتطلعهم على ما يفعل الإيرانيون بالمتمسكين بالسنة النبوية، فصمم حينئذ السلطان سليمان خان على إنقاذ البلاد العراقية من أيدي الإيرانيين، فزحف عليها ومعه وزيره لطفي باشا، فقدم على مدينة سلطانية
1
وحاصرها واحتلها. ولما كان الشتاء سار السلطان إلى بغداد وملكها، وهرب حاكمها من قبل خدابنده، فدخلها السلطان بالأمان، فأرخ أحد الأدباء سنة دخوله فيها بقوله: «انفتح العراق» (934 يساوي 1527)، ثم أمر بتحصين سور بغداد، وجعلها من ملحقات المملكة العثمانية، وزار مشاهد كربلاء والكاظمين، ثم زار تربة أبي حنيفة، والشيخ عبد القادر الجيلي (الكيلاني)، وبنى لهما قبابا، وأوقف لهما أوقافا. ولما ولى الشتاء زحف السلطان سليمان على تبريز، فهرب الشاه خدابنده، وأرسل إليه بالهدايا وطلب الصلح، فصالحه السلطان على أن تكون بغداد للدولة العثمانية، وعاد سليمان إلى مقر سرير ملكه سنة 961 (1554)، وبقيت بغداد للدولة العثمانية، يأتيها وزير كل سنة يكون حاكما عليها من قبل السلطان، وبقيت الأمور تجري في أعنتها، والإيرانيون يحرقون الأرم ويريدون استرجاع العراق وانتشاله من أيدي الأتراك، لا سيما لأنهم كانوا يتذكرون أن هذه الديار كانت لهم في سابق الزمن، وكانت طيسفون (اليوم سلمان باك) مقر كبيرهم وملكهم، فكانوا يتحينون الفرص بلوغا لأمانيهم، حتى سنحت لهم سانحة بالوجه الآتي:
كانت الحكومة العثمانية قد عينت واليا على بغداد الوزير يوسف باشا، وكان في المدينة رجل اسمه بكر، كان في بدء أمره واحدا من الإنكشارية (الينيجرية) في حامية بغداد، ثم ساعده الحظ فصار «صوباشي»،
2
ثم آغا الصوباشية، لكن اشتهر باللقب الأول، فبقي معروفا ببكر الصوباشي، ثم خدمه السعد حتى غدا صاحب الأمر والنهي في العراق كله، وما كان يعين أحد لوظيفة إلا وكان له اطلاع على ذلك وبرضاه أو بفكره. فلما رأى أن يوسف باشا يزاحمه في أمره احتال عليه حتى قتله وتخلص منه، فخلا له الجو، ثم أخبر السلطان عثمان بوفاة وزيره وطلب إليه أن يقلده الوزارة عن بعد، فأبى السلطان أن يلبي طلبه؛ لوقوفه على خفايا الأمور، وأمر حافظ أحمد باشا أن يحاربه، فتوجه إليه وحاصر المدينة محاصرة شديدة؛ ليكره الصوباشي على التسليم. أما هذا فإنه لما كان يعلم عداوة الشاه للسلطان، وأن الشاه يتحين الفرص لاسترجاع بغداد، كتب إلى الشاه عباس خفية يحثه على المجيء ليسلم إليه مقاليد البلاد وأمورها، وتكون الخطبة والسكة له ويستأثر هو بالحكم فقط، فلبى الشاه طلبه وغادر مقره تحقيقا لما دعي إليه، فلما علم بهذا الأمر حافظ أحمد باشا وتحقق أن لا قبل له بمقاومة الشاه صالح بكرا الصوباشي، وخلع عليه خلعة الوزارة وولاه بغداد، ورحل منها إلى ديار بكر خوفا على حياته من غدر الوزير الجديد، أو من فتك الشاه عباس به. وفي تلك الأثناء قرب الشاه من دار السلام، وكتب إلى الصوباشي أن يسلمه إياها، فأجابه بكر: إني تصالحت مع السلطان فولاني الزوراء؛ ولهذا لا حاجة للمدينة إليك. فلما سمع الشاه هذا الكلام اشتعل غضبا وضيق الحصار على الحاضرة، حتى اضطر كثير من الفقراء إلى أكل أولادهم. فلما رأى هذه الحالة محافظ القلعة محمد بن بكر الصوباشي، وأن لا قبل لأبيه أن يقاوم مدة طويلة هذا الحصار الشديد، تبع هواه، فخان أباه وأرسل إلى الشاه يطلب إليه الأمان لحياته إذا فتح له باب القلعة، فأمنه الشاه، وفتح الابن الخائن باب القلعة ليلا، وأدخل عسكر الشاه اثنين اثنين، إلى أن دخل جميعهم، وما لاح جبين الصبح إلا ودقت طبول الشاه في القلعة ، فدخل المدينة وأمر جنوده بوضع السيف في أهاليها السنة، فقتل منهم أكثر من أربعين ألفا، وجمع كتبهم المذهبية وألقاها في دجلة، فجدد عباس ما كان قد ارتكبه هولاكو وتيمور لنك. وبعد هذه الفظائع نادى بالأمان، وهدم مرقدي أبي حنيفة والشيخ عبد القادر الجيلي، وأنفذ قاسم خان، فملك كركوك فالموصل، ومنها عاد إلى بغداد بعد أن عين لهما واليين من قبل الشاه، وكان ذلك في سنة 1032 / 1623؛ أي في السنة التي رقي فيها السلطان مراد الرابع عرش آبائه.
فهل يسكت السلطان الجديد عن هذه الأمور؟ وهل يمكنه أن يغفر لشاه الإيرانيين تلك الفظائع بدون أن يقابلها بما يقاربها؟ فبعد أن فكر السلطان مليا بما يفعله أودع الولاية خسرو باشا، وفوض إلى وزيره حافظ أحمد باشا - الذي كان قد استقر في ديار بكر - أن يستخلص بغداد من أيدي الأعداء بعد أن عينه رئيس عسكر (سر عسكر)، فنزلا بجنودهما على بغداد، وحاصراها أربعين يوما، إلا أن الشاه صفي قدم في تلك الأثناء، فخافا منه وانهزما إلى بلاد الروم. وبينما كان خسرو في تلك الأرجاء إذ قتل غيلة. وممن كان مع خسرو المذكور في أيام حصار المدينة رجل اسمه خليل باشا، فهذا الرجل أبى أن يرجع خائبا، فسار إلى الحلة وملكها، ولما قدم الشاه صفي ودخل بغداد أرسل عسكرا قبضوا عليه، فسجنه في بغداد ثم أطلق سراحه، ومرض الشاه صفي ابن الشاه عباس في بغداد، ومات فيها في سنة أخذه بغداد؛ أي سنة 1040 / 1630.
وفي سنة 1048 / 1638 قدم السلطان مراد الرابع، ونزل في جوار بغداد، وحاصرها حتى فتحها،
3
ووضع السيف في الشيعة من أهاليها حتى قتل منهم أكثر من عشرين ألف نفس، وأسر جماعة من الملقبين بالخان، مثل بكتاش خان، وخليل خان، ونقدي خان، وعلي يار خان؛ إلى غيرهم، وأمر بجمع كتب الشيعة فأحرقت مقابلة المثل بالمثل. ولما استتب الأمن في البلد عمر السلطان سور بغداد، والقلعة، ومرقد الإمام أبي حنيفة، وتربة الشيخ عبد القادر الجيلي، وعين لمحافظة بغداد وزراء وعساكر وزمرا من الإنكشارية (الينيجرية)، وحذرهم من غدر الشاه بكتاش بن الشاه عباس، وعاد إلى اصطنبول.
رحل السلطان وترك واليا عليها وزيره كوجك حسن باشا، ثم توالى الولاة. على أن الزوراء وإن كانت في قبضة سلاطين آل عثمان إلا أن العراق كله لم يكن في أيديهم بخلاف ما يظن، بل كان قد تغلب على كل مدينة من مدنه الكبار شيوخ من الأعراب يحكمون فيها ويتحكمون. ففي سنة 1050 / 1641 انتزعت هيت من أيدي أعراب الخزاعل، وكذلك السماوة، والعرجاء بعدها. ومما زاد الطين بلة أن الوزراء والولاة كثيرا ما كانوا يعصون ويتمردون على السلاطين محاولين استئثارهم بالعراق، لبعد اصطنبول عن هذه الديار. فأول من أظهر العصيان والاستقلال ببغداد بعد ذهاب السلطان مراد الرابع كان الوزير إبراهيم باشا الذي كان قد عين لبغداد في سنة 1056 / 1648، فدس عليه السلطان إبراهيم بن أحمد خان من قتله، وكذا فعل أيضا ولاة البصرة، وأول من رفع منهم لواء العصيان كان حسين باشا، فإنه تقوى بأخويه محتميا بهما، وهما أحمد بك، وفتحي بك، وذلك في سنة 1063 / 1653، فبعث إليه والي، بغداد - وكان يومئذ قره مصطفى باشا - يقول له أن احذر غضب السلطان؛ فأبى إلا الشقاق. وفي سنة 1064 / 1654 ولي بغداد الوزير مرتضى باشا، وأمره السلطان بفتح البصرة، فلما جاء بغداد جمع العساكر وسار إلى البصرة، فانضم إليه أخوا والي البصرة أحمد بك وفتحي بك وحاصروا البصرة، فهرب حسين باشا إلى ديار إيران، وملك البصرة مرتضى باشا، ثم غدر بأحمد بك وفتحي بك - كما هي عادة الأتراك إذا ما قضوا مآربهم - وقتلهما، وقتل جماعة من أمراء المدينة المذكورة، فخافه العرب، وقام عليه أهل الجزائر،
4
وتبعهم أعراب قشعم، والمنتفق، وخزاعل، وكعب، وبني لام، وحاربوا التركي الخائن المكار حتى ألجئوه إلى الفرار، فخرج من البصرة هو وعسكره لا يلوي على شيء متجها إلى بغداد، فقدم إليها من ديار إيران واليها السابق حسين باشا، ودخل البصرة بأبهة وإجلال ، ودان للسلطان، فدانت له الأعراب جميعهم. ولما رأى مرتضى باشا أن السلطان لم يعاقب والي البصرة، بل أيده في ولايته، ثار هو أيضا مجاراة لمن سبقه، فهرب إلى كردستان وأراد الاستئثار بها، فعين السلطان لمحاربته والي ديار بكر محمد باشا ابن بكر باشا، فأرسل جيشا مع الكتخداه «علي كهية» وناجز مرتضى باشا، فلما رأى أن القتال يطول وعد الأكراد هدايا إذا حملوه إليه، فقبضوا عليه خيانة كما كان هو قد غدر بأحمد بك وفتحي بك، ودفعوه إلى الكهية، فقتله في الموصل وأرسل برأسه إلى السلطان. وهكذا يكون عقاب كل غدار مكار.
وممن جارى ولاة العراق في انتزاع المدن من أيدي سلاطين آل عثمان أمراء الأعراب؛ فقد وقع في سنة 1074 / 1663 أن حسين باشا والي البصرة أرسل عساكر مع أمير بني خالد براق، وطلب إليه أن يسير إلى الأحساء لينتزعها من يد مختلسها محمد باشا، فلما حقق الغاية استأثر بها هذه المرة براق نفسه، فأرسل السلطان في سنة 1075 / 1664 يقول إلى الأمير يحيى آغا وكنعان أمير قشعم أن سيرا إلى الأحساء وانتزعاها من يد الأمير براق، فذهبا ووقع بينهما وبين بني خالد معركة شديدة، انجلت عن انكسار الأمير براق وانتصار الأميرين، فعادت الأحساء من جديد إلى المملكة العثمانية.
وكان يتفق أحيانا أن ولاة العراق إذا بقوا خاضعين للدولة العثمانية كان أعراب العراق يثورون على الولاة ويطردونهم من ديارهم. وأغلب ما كان يقع هذا الأمر في ولاية البصرة؛ لأن الأعراب هناك كثيرون يأتونها من جزيرة العرب ومن جنوب غربي ديار إيران، وهم هناك أيضا كثيرون؛ ففي سنة 1075 / 1664 المذكورة ثار أعراب البصرة وطردوا واليها حسين باشا، فولي بغداد الوزير إبراهيم باشا، وعينه الخاقان لقمع أولئك الثائرين، وعين معه والي ديار بكر وولاة حلب والرها والموصل وشهرزور. فسار إبراهيم باشا من بغداد سنة 1076 / 1665 ومعه الوزراء، فنزل القرنة وحاصرها ثلاثة أشهر. ثم ضاق الأمر بأهلها فصالحوه على مال وسلموه البلدة. ومن هناك نزل على البصرة فملكها، ثم استدعى واليها الفار (أي حسين باشا) وأعاده إلى مقامه السابق واليا على البصرة. أما هو فرجع إلى بغداد فرحا مسرورا. ثم مضت ست وعشرون سنة والولاة يتوالون في بغداد والبصرة بدون أن تحدث أدنى فتنة، وهو أمر نادر.
وفي سنة 1102 / 1689 رفع مانع أمير أعراب البصرة لواء العصيان، فحاربه والي البصرة دفتر دار حسين باشا مير ميران، ولم ينجح في محاربته لتقاعد والي بغداد عن نصرته، فانكسر حسين باشا شر كسرة، مما جرأ مانعا المذكور أمير قشعم على مد يده إلى غير البصرة، فاحتل في سنة 1108 / 1696 جصان وبدرة إلى مندلي (البندنيجين)، وكان سبب تعاظم عصيانه أن والي البصرة لما حاربه استباح أمواله، فأراد أن يثأر منه أو من دولته. وفي سنة 1110 / 1698 طرد أعراب قشعم والي البصرة حسين باشا، ودفعوا مفاتيح المدينة إلى شاه العجم. أما هذا فلم يرد أن يثير عوامل غضب السلطان، فأخذ المفاتيح وضمها إلى هدية سنية وبعث بها إلى السلطان، فأخذها شاكرا، لكن لم يرد أن يسكت عن سوء أعمال آل قشعم، فولى الخاقان وزيره علي باشا ولاية بغداد، وأمره أن يسير على قشعم ويؤدبهم أحسن تأديب. فزحف عليهم وحاصرهم حتى أذلهم، فصالحوه على مال، وكان في البصرة متسلما داود خان، فخرج من البصرة وتسلم مفاتيح المدينة واليها السابق حسين باشا. وكان في القرنة متسلما ميرزا خان، وفي الحويزة فرج الله خان، فلم يتعرضا بشيء، وبقيت المدينتان في أيدي العجم. فلما كانت سنة 1112 ولي بغداد الوزير إسماعيل باشا فلم يقدر على محاربة الأعجام فعزل، وولي بدله الوزير «دالدبان مصطفى باشا»، فدخلها وحارب آل قشعم والعجم، وقدم لنصرته والي الموصل جلبي يوسف باشا الحلبي، وحاكم العمادية قباد باشا، ووالي ديار بكر حاجي محمد باشا، وحاكم حلب أحمد باشا، وحاكم أرفا إبراهيم، وحاكم البيرة (بيره جك) يوسف باشا، فاجتمع كلهم في بغداد في شهر شعبان، وكان عدد الجند مائتي ألف فارس وراجل، فسار بهم «دالدبان مصطفى باشا» حتى نزل على القرنة، فاسترجعها وقتل من فيها من الإيرانيين وأعراب قشعم، ثم سار منها إلى البصرة، فلما سمع بقدومه صاحب الحويزة فرج الله خافه، فبعث إليه يطلب الأمان، فأمنه وتسلم البلد منه. أما أمير قشعم مانع فإنه هرب من وجه الباشا، ثم بعث إليه يطلب الأمان والمصالحة، فصالحه على مال وعفا عنه، ثم عاد دالدبان مصطفى باشا مع ما كان معه من الحكام والولاة، ثم قتل والي ديار بكر الحاج محمد باشا؛ لأنه وجد منه خيانة قبل مسيرهم حين تحركت الإنكشارية، وطلبوا علوفاتهم فأعطاهم، وعاد الوزراء إلى بلادهم.
على أن أهل العراق إذا أخلدوا إلى الطاعة في موطن، رفعوا راية العصيان في موطن آخر؛ وذلك لسوء تدبير الأتراك لهذه الديار، وكثرة تعدياتهم التي ما كانت تتقطع البتة؛ ففي سنة 1116 / 1704 ثار أهل الخانوقة (وهي قلعة خربة على جبل يطل على دجلة بين بغداد والموصل)، فحاصرهم ونهبهم وقتل معظم رجالهم حتى اضطروا إلى طلب الأمان، فأمنهم وعاد إلى بغداد. وفي سنة 1118 / 1706 قام بنو لام على الحكومة العثمانية فسقاهم كأس الحمام وفرق جموعهم، فتشتتوا أيدي سبأ. وفي سنة 1127 / 1715 قتل اليزيدية بعض المعتدين عليهم من المسلمين، فاتخذ حسن باشا ذلك القتل حجة لينكل بأهل سنجار، فسار إليهم وأذاقهم الأمرين، وقتل خلقا عديدا منهم، ونهب أموالهم وسلب ما عندهم، ودمر قراهم، فلم يبق فيهم غنيا، وتاريخ ذلك «غزاء
5
حسن».
وفي سنة 1134 / 1721 عرض حسن باشا على السلطان أن يعين لولده أحمد باشا وظيفة حاكم؛ لأنه تراءى فيه كل خير مع بذل النفس للدولة العثمانية، فولاه السلطان مدينة أرفا، فسار إليها وتولى أمرها، وكان ذلك بدء انخراطه في سلك الحكام. وفي سنة 1135 / 1722 عزل أحمد باشا عن أرفا، فذهب إلى الموصل، فتلقاه بالإكرام والي الموصل الوزير صاري مصطفى باشا، وكان قد هرب من أحمد باشا مملوكان له والتجئا إلى صاري مصطفى باشا، فأرسل هذا إلى أحمد باشا يتشفع فيهما فأبى صاحبهما، فطلبهما بالثمن فأبى، فعند ذلك أرسل يقول له: «اخرج من ولايتي ولا تعد تقف فيها.» ثم عرض الأمر على والده حسن باشا، فغضب هذا على ابنه وحلف له ألا يدخله بغداد إلا بشفاعة صاري مصطفى باشا، فخرج أحمد باشا من الموصل حتى جاء دجيل، وأقام فيه خمسة عشر يوما فتشفع فيه صاري مصطفى باشا، فأدخله بغداد، ثم أرسله إلى البصرة واليا.
وفي سنة 1136 / 1723 خرج من بغداد بالعساكر الوزير حسن باشا زاحفا على ديار إيران؛ لأن العجم كانوا يدسون الدسائس لإلقاء بذور الفتنة في العراق، فلما وصل كرمانشاه حاصرها حتى فتحها، وكان الوزير قد تعب من وعثاء السفر ومشاق المحاربات، فمرض مرضه الأخير ومات في السنة المذكورة، فأخفى موته الكتخداه محمد كهية حتى قدم ابنه من البصرة أحمد باشا على خيل البريد، وتولى قيادة الجيش ثم صرح بموت والده، وأرسل جثته إلى بغداد فدفن في مرقده، وكانت مدة ولايته في بغداد إحدى وعشرين سنة، وأرسل أحمد باشا إلى السلطان ينعيه والده، فأرسل إليه الخاقان بالمنشور وبخلعه السمور وولاه بغداد، فدبت في نفسه الحماسة والشجاعة، وأظهر من حسن الإمارة والقيادة ما أنسى ذكر والده؛ فإنه سار من كرمانشاه ونزل على همذان وحاصرها إلى أن فتحها يوم النحر، وقتل الكثير من أهلها، فأرخ ذلك الملا جرجس الموصلي بقوله من جملة أبيات:
تملكها قهرا وأعجب ما جرى
بأن فتحت صبحا وأرخت الظهر
وفي سنة 1137 / 1724 نزل بعساكره على مدينة أريوان وفتحها وقتل غالب أهلها، ثم كر راجعا إلى البصرة، وحارب بني لام الذين كانوا قد عادوا إلى الثورة وقتل منهم عددا جما، وغنم الغنائم ثم عاد إلى بغداد.
على أن شباب أحمد باشا ساقه إلى غزو الأعراب، والأعراب لم يغمضوا له أعينهم؛ فإذا ذهب إلى جهة قام أعراب الجهة الأخرى كأنهم يريدون أن يسخروا منه ومن قوته، فبينما يحارب بني لام ثار على الحكومة أعراب شمر، فوجه عليهم الكتخداه سليمان باشا فحاصرهم، ثم تسلق الجبل هو بنفسه وتبعته العساكر حتى بلغوا أعلاه، فوضع السيف في العصاة، ولم يخلص من الموت إلا القليل منهم، فأسرهم ونهب أموالهم ثم عفا عنهم عند طاعتهم ومقدرته عليهم، وعاد إلى بغداد وقد قتل في تلك الواقعة من عسكره نحو ستمائة.
وفي السنة المذكورة عصى أمير قشعم محمد بن مانع ، فحاربه والي البصرة عبد الرحمن باشا، فقتل من أعرابه بعضا ونهب آخرين، إلى أن ذل الأمير وخضع الكبير، فطلبوا الأمان فعفا عنهم بعد أن أخذ منهم أموالا طائلة.
وفي سنة 1239 / 1823 عزم أشرف خان شاه العجم على أخذ بغداد، فتلقاه الوزير أحمد باشا بقلب قد من جلمود، إلا أن الشاه عدل عن فكره ورجع إلى مقره.
والخلاصة: كان العراق في هذه القرون الأخيرة في حالة يرثى لها، فإنه ما كانت تمضي سنة إلا ويسمع فيها أن الوزير الفلاني خرج على السلطان أو عصى عليه فاستأثر بالمدينة الفلانية، أو أقبل الشاه الفلاني لاسترجاع الأراضي المقدسة عند الشيعة، أو ثار الأعراب في الناحية الفلانية لكثرة ما أنزل فيهم الباشوية من التعديات والجور والظلم؛ فأهل العراق لم يذوقوا طعم الراحة، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تنيلهم إياها، لا سيما في عهد المماليك الذين قبضوا على أعنة العراق منذ عهد سليمان باشا
6
مؤسسهم في بغداد، إلى أن قتلوا على يد علي رضا باشا، فإنهم ارتكبوا من الموبقات والفظائع ما تقشعر لها الأجسام، اللهم إلا في أيام داود باشا، فإنه وإن كان قد خرج على السلطان واستقل بالملك فإنه لم يأت إلا الحسنات والمكرمات؛ فلقد أبقى له من الذكر الطيب إلى يومنا هذا ما يخلد اسمه بين الذين سعوا إلى إنهاض المدينة إلى أوج الرقي والعمران.
فقد كان داود باشا كرجيا نصرانيا، ولد في تفليس في نحو سنة 1190 / 1776 فأتي به إلى بغداد أسيرا، فاشتراه والي بغداد يومئذ سليمان باشا، وكان الصبي مفرط الذكاء، فأولع بالعلوم فقرأها على كبار علماء الزوراء فحصل منها العقلية والنقلية، المنطوق والمفهوم. ثم تنقل في المناصب حتى صار دفتر دار بغداد، ثم فر من الحاضرة في عهد سعيد باشا بن سليمان باشا المذكور، ثم رجع إلى بغداد، ولما قتل سعيد باشا وولي داود العراق، وكانت الولاة يومئذ مستبدين بحكمهم مستقلين بإدارتهم لبعد الشقة بين الزوراء وفروق، فلما قتل علي رضا باشا المماليك أرسل داود باشا إلى الأستانة، فنفاه السلطان محمود إلى بعض البلاد، ثم عفا عنه وأرسله إلى المدينة شيخا للحرمين، حتى توفي فيها سنة 1267 / 1851. وعمر داود باشا في بغداد عدة مساجد وجوامع وأسواق، إلا أنه كان لا يحجم عن القتل سياسة، ولا عن مصادرة بعض المثرين، وبالجملة: كان عالم الوزراء، ووزير العلماء.
وبعد قتل المماليك ونفي داود باشا لم يجسر أحد من الولاة أن يعصي السلطان، فتعاقب الولاة على بغداد ومدن العراق بدون أن يفيدوها بفائدة تذكر، بل كان أعظم همهم جمع الأموال ومصادرة الأغنياء وضرب الضرائب العظيمة، مما أضعف سكان هذه الديار ضعفا شديدا. وسبب جمع هذه الأموال أن الولاة كانوا يشترون وظيفتهم بالمال من السلاطين، فكانوا يتعهدون بدفع المبلغ الفلاني قبل الذهاب إلى أم العراق. ولهذا كان أول شيء يأتيه الوالي عند قدومه بغداد أن يجمع من المبالغ ما يتمكن منها في أسرع وقت؛ لأنه لا يعلم المدة التي يقيم فيها قبل أن يعزل، فكان من أعظم همومه أن يستوفي أولا المبلغ الذي سلمه إلى الوزارة الداخلية، ثم ادخار مبالغ طائلة ليشتري بها وظيفة أو لقبا أو رتبة مما يطمح إليه، فكانت الأموال تنقل من العراق إلى الأستانة بدون أن تعمر بلادهم أو تصلح، ولهذا كانت البلاد في تأخر دائم حتى جاءها مدحت باشا سنة 1285 / 1868، وأقام في بغداد ثلاث سنوات وثلاثة أسابيع، فأدخل في المدينة وفي ديار العراق من الإصلاحات شيئا وافرا؛ فقد بنى الثكنة (القشلة) العسكرية، ودار الشفاء للغرباء (وهي اليوم المستشفى الملكي الواقع في الكرخ)، ومدرستين رشديتين إحداهما في الرصافة والأخرى في الكرخ، وجلب منضحة عظيمة بخارية لتستقي الماء من دجلة، فتوزعه على المدينة بواسطة أنابيب من حديد، لكنه لم يتمكن من إتمام شغله لعزله عن بغداد. وهو الذي جلب أيضا مطبعة كبيرة بخارية لطبع الكتب، وأنشأ فيها جريدة رسمية سماها «الزوراء»، بقيت تصدر إلى أيام خروج الأتراك من هذه المدينة، وكانت تصدر باللغتين، التركية والعربية. فلما كان عهد جمعية الاتحاد والترقي أبرزوها تركية صرفة. وأسس مدرسة للصنائع، وأوقف عليها الأوقاف الجزيلة، وبقيت سائرة في وجهها إلى آخر يوم من أيام الأتراك، وكان قد جعل في جانب منها المنضحة البخارية التي كان يصنع فيها الثلج أيام الصيف. وهو الذي جلب إلى العسكر طائفة تامة من الآلات الموسيقية العسكرية، فكانت تعزف في النهار ثلاث مرار، وهو الذي أنشأ معملا لنسج الثياب الصوفية للجند، وهو المعمل المشهور هنا باسم «العباخانة».
والخلاصة: أتى مدحت باشا من الأعمال في مدة ولايته الوجيزة ما لم يضارعه فيها جميع الولاة معا الذين جاءوا من بعده، فإنهم أضروا أكثر مما نفعوا؛ لأنه هو وحده لم يرتش، ولم يقبل أن تعطى الرشوة لأحد، لإفسادها الموظف، وإكراهه على أن يسلك مسلكا منافيا للسنن المشروعة وللوجدان.
هذه كانت حال ديار العراق في القرن التاسع عشر؛ أي إن البلاد لم تر في مدة مائة سنة سوى رجلين يصح أن يطلق عليهما هذا الاسم، وكان الإفرنج الذين قدموا هذه الديار للتجارة يرون هذه البلاد وما هي عليه من التأخر والانحطاط، ويأسفون على الحالة التي صارت إليها بعد أن بلغت ذلك المبلغ من الرقي والسمو، وكانوا يطلعون سفراءهم على ما يجري فيها، وعلى ما تصير إليه إذا ما عني أرباب الحل والعقد بترقية الزراعة، وفتح الطرق، ومد السكك الحديدية، وكانت الحكومة العثمانية تعد المواعيد الطيبة ولا تأتي أمرا مذكورا.
وكانت الدولة البريطانية تحب دائما إعمار العراق وترقيته، وجمع كلمة أهاليه وضم شتاتهم؛ لما بين العراق والدولة البريطانية من التآلف والتقارب والتضافر التي وجدت بين الإنكليز وأبناء العرب منذ قرون متطاولة وأجيال متتالية تناقلت تلك الشواعر الطيبة. وهناك سبب آخر، وهو مجاورة العراق للهند، وارتباطهما بربط التجارة العريقة في القدم. وهذه العرى زادت استحكاما عند ازدياد التجارة وتوسعها، وتيسر شئون نقلياتها، وهذه الأمور لم تكن تتم لو لم تتخذ الوسائل المروجة لأمور النقل بين بريطانية العظمى وبلاد الهند، فسهلت بذلك النقليات من الهند إلى العراق. والدولة العثمانية عرفت أيضا أن حياة هذه الديار متوقفة على اتصالها بالهند؛ ولذا أذنت في إقامة عامل إنكليزي في البصرة منذ سنة 1764، ثم بعد ذلك بقليل نظمت الدولة البريطانية المذكورة بريدا بين البصرة وحلب، فكان ذلك نعمة من أكبر النعم لأهالي البلاد، فحينئذ أقامت الحكومة العثمانية بريدا يصل بغداد الزوراء بدمشق الفيحاء، فلم تر الدولة الإنكليزية بعد ذلك حاجة إلى إبقاء بريدها البري، فاعتاضت عنه بالبريد البحري، وبقي جاريا إلى سنة 1912. أما القنصل البريطاني في بغداد فإنه بدأ بالإقامة في دار الإمارة العباسية في سنة 1798، وخوله السلطان من الامتيازات ما لم يخولها لغيره من القناصل الأجانب الذين كانوا قد أقيموا في العهد الأخير.
أما المواصلة بين الهند والبصرة على طريق خليج فارس برعاية الدولة البريطانية فيرتقي إلى العقد الأول من المائة الثامنة عشرة ميلادية. أخذت الدولة المذكورة على عهدتها إنارة الخليج وتطهيره من لصوص البحر وغزاته، وكانوا يعيثون فيه عيث الذئاب في الغنم، وكان من أعظم أعمالهم إبطال النخاسة (أي بيع الرقيق)، فكان إبطالها من المجد الذي خلد في الخليج حسن أعمال إنكلترة. وفي سنة 1835 زار البلاد ضابط إنكليزي وفحص الفراتين، وفي سنة 1861 وفقت شركة إنكليزية فخولت حق تسيير باخرة على النهرين المذكورين. ومما يجب أن يلاحظ أنه لم يرسم لجزء من هذه البلاد العراقية خريطة من الخرائط كالواجب ما عدا ما خط في سنة 1835، وبقي هذا الأمر الجليل مهملا إلى مجيء الجيش البريطاني حينما احتل البصرة في تشرين الأول سنة 1914.
فلما رأى العراقيون أن الإنكليز وحدهم يعنون هذه العناية العظيمة ببلادهم، ولم تجارهم في ذلك دولة من الدول الإفرنجية، وهي لم تنقطع من أن تبذل المبالغ الطائلة في سبيل نفعهم، وتفرغ ما في وسعها لتحسين شئونهم العمرانية والأدبية والتجارية، تحققوا أن بريطانية العظمى هي الدولة الوحيدة المستعدة لأن تعاونهم في أمورهم، وكان قد عرض شيوخ البلاد وأكابرهم مرارا لا تحصى على القنصل البريطاني أن يحمل دولته على أن تأخذ هذه البلاد تحت أجنحة حمايتها، لكن لما كانت سلطانة البحار في صداقة موثقة العرى مع السلطنة العثمانية كان يضطر المقيم البريطاني إلى أن يصرف أولئك الرجال بالتي هي أحسن.
ومما بغض الحكومة المحلية في عيون الأهالي ، أن جمعية الاتحاد والترقي التي قلبت عبد الحميد عن عرشه، أخذت تظهر مكنونات نياتها وعزائمها، وهي: تتريك العناصر غير التركية، وإجبار الأهالي على اتخاذ اللغة التركية لغة رسمية في المحاكم، ولغة علمية وأدبية في المدارس، وإبعاد الوطنيين عن الوظائف الكبيرة، وتقليدها للأتراك وحدهم أو لمحبيهم ممن يتظاهر بالتترك أكثر من الأتراك أنفسهم. وكان في عزمهم القبض على أموال جميع ولا سيما الأوقاف على أوقاف المسلمين؛ ليخصصوها بمدارسهم التركية. وكانوا قد بدءوا بإخراج هذه العزائم من حيز الخيال إلى عالم الوجود قبل الحرب بنحو ثلاث سنوات. ومما كانوا قد صمموا عليه تصميما لا مرجع عنه: هدم قواعد الدين الإسلامي بما نشروه وكانوا ينشرونه من الكتب والرسائل، وبثها بين الطلبة وموظفي الحكومة، وتكريه الناس للعرب وأنبيائهم وأوليائهم وكتبهم المقدسة وعلمائهم وأدبائهم. ومما شرعوا به قبل الحرب العامة المذكورة: أنهم أخذوا يهملون ترميم المساجد والجوامع وتعميرها، وكانوا إذا رأوا أحد أتقياء المسلمين يحاول ترميم مسجد أو تعميره، أقاموا في وجهه الموانع، أو اضطهدوه ليعدل عن فكره، فكان يعدل عنه إذا فهم السبب. وبالجملة: كان العرب يتجرعون الغصص ولا يمكنهم أن ينطقوا بكلمة؛ خوفا من أذية الاتحاديين الذين كان قد عظم أمرهم وتفاقم شرهم، وكانوا في كل ذلك يعملون بمشيئة الألمان الذين أصبح نفوذهم في البلاد العثمانية مما لا ينكر، لا سيما من بعد أن حصلوا على امتيازات مد السكك الحديدية في ربوع الأناضول والعراق.
هذا كله يريك أن العرب كانوا نافرين من سوء معاملة الأتراك لهم، وكان التورانيون يرون أن أبناء اللغة الضادية لا يوافقونهم في أفكارهم، بل يعارضونهم في كثير من خططهم وأفكارهم؛ ولهذا عزم الأتراك أن يبعدوهم من عضوية مجلس المبعوثين ومجلس الشيوخ أو الأعيان، فشرعوا بأن يقربوا من المجلسين كل عربي نزع عنه أخلاقه التي ولد فيها ومال إلى أخلاقهم فتخلق بها، فنجحوا في مسعاهم هذا بعض النجاح، إلا أن الحزب العربي أخذ يتقوى في ديار الحجاز والشام، وكان يتحين فرصة لينتهزها ويتملص من ربقة أولئك الأغرار المستبدين، حتى سنحت له على وجه لم يكن في الحسبان.
إذ في تلك الأثناء (في سنة 1914) نشبت الحرب بين سربية والنمسة، ثم بين روسية فألمانية ففرنسة، واندلع لسان اللهيب إلى تركية، فأرادت هي أيضا أن تشترك في هذه الحرب لتوسع أملاكها وتستعيد مجدها السابق، وتبسط جناحي سطوتها على بلادها القديمة (أي ديار مصر وطرابلس وجميع أقطار أفريقية الشمالية)، ثم تسترجع بلاد كوه قاف (قفقاسية) وفارس والهند وغيرها. وبكل ذلك وأكثر منت ألمانية الكاذبة تركية الجاهلة، فاندفعت هذه الأخيرة إلى تحقيق هذه الأحلام، واتخذت جميع الوسائل التي كانت تمليها عليها جرمانية، فركبت تركية كل مركوب حرون حتى خيف عليها الجنون، فجنت في زعمائها الذين كانوا يديرون شئونها على أسوأ حال وأقبح صورة، فأتت من الأعمال أنكرها ومن المساوئ أفظعها.
وأول ما فعلته إنكلترة أنها استولت في مبادئ إعلان حرب تركية على باب العراق أو مفتاحه (أي على البصرة)، وذلك في غرة المحرم من سنة 1333 / 19 ت2 سنة 1914، وبذلك أمنت لنفسها فتح العراق كله، ثم احتلت القرنة فتقهقر جاويد باشا بفلول جيشه إلى العزير، وعقب جاويد باشا قواد أتراك كل واحد منهم أقسى قلبا ممن سبقه، وعاملوا أبناء العرب معاملة أفسدت عليهم قلوب محبيهم أنفسهم، وما زالت الحرب بين الترك والبريطانيين سجالا حتى انجلت عن جلاء الأتراك عن بغداد في ليلة 11 آذار سنة 1917، فكان في المدينة من الفرح بمنقذيهم الإنكليز ما لا يصفه واصف مما ذكرته الجرائد المحلية وغير المحلية، وشاد به الشعراء في قصائدهم ومنظوماتهم. وهكذا صار معظم العراق، ومن بعد ذلك بنحو سنة العراق كله، إلى يد دولة تعرف قدره وقدر سكانه، فبدأت حالا بتحسين شئونه، من مد سكك الحديد، وتنشيط الزراعة، وفتح الطرق التجارية، وتكثير عدد البواخر، وفتح المدارس الرشدية والعالية، وتنوير البلدة بالكهربائية، إلى غيرها من الأمور التي نراها كل يوم. والآمال معقودة أن هذه البلاد تخرج من ظلمات الجهل والغباوة إلى أنوار المدنية والحضارة بسعي الدولة البريطانية العظمى، وما ذلك ببعيد بمنه تعالى وكرمه.
Unknown page