بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الأمر جد وهو غير مزاح ... فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
كيف البقاء مع اختلاف طبائع ... وكرور ليل دائم وصباح
الدهر أنصح واعظ يعظ الفتى ... ويزيد فوق نصيحة النصاح
وانظر بعينيك اليقين ولا تسل ... يا أيها السكران وهو الصاحي
تجري بنا الدنيا على خطر كما ... تجري عليه سفينة الملاح
تجري بنا في لج بحر ما له ... من ساحل أبدا ولا ضحضاح
شغل البرية عن عبادة ربهم ... فتن على دنياهم وتلاحي
ومحبة الدنيا التي سلكت بهم ... أبدًا مع الأزواج والأشباح
كل البرية شارب كأس الردى ... من حتف أنف أو دم سفاح
1 / 1
لا تبتئس للحادثات ولا تكن ... بمسرة في الدهر بالمفراح
أًفأين هود ذو التقى ووصيته ... قحطان زرع نبوة وصلاح
هود النبي ﷺ ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن ملك ين متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس ﵇: أبن يارذ بن مهلائيل بن أنوش بن شيت بن آدم أبي البشر ﷺ. واتفق كثير من علماء السير أنَّ أول نبي مرسل بعثه الله بعد نوح بشيرا ونذيرا وأمينا على وحيه هو هود ﵇ وهو أبن العرب العاربة وهو الذي يقول في علقمة:
أبونا نبي الله هود بن عابر ... ونحن بنو هود النبي الطهر
لنا الملك في شرق البلاد وغربها ... ومفخرا يسمو على كل مفخر
فمن مثل كهلان القواضب والقنا ... ومن مثل أملاك البرية حمير
1 / 2
ذكر وصية هود ﵇
ثم إنَّ هودا ﵇ وصى بنيه ووعظهم فقال: أوصيكم بتقوى الله وطاعته والإقرار بوحدانيته وأحذركم الدنيا فإنّها غرارة خداعة غير باقية عليكم ولا أنتم باقون عليها. فاتقوا الله الذي إليه تحشرون ويقتننكم الشيطان أنه لكم عدو مبين.
ثم أقبل على قومه وعمه عاد يوصيهم بما وصى بنيه ويعظهم بما حكى الله ﵎ عنه: (وإلى عاد أخاهم هودًا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) إلى قوله (ولا تتولوا مجرمين) فكان ردهم: ما حكى الله تعالى عنهم: (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين. وقالوا من أشد منا قوة) إلى قوله (ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) فأهلكهم الله بالريح الصرصر كما قال ﷿ (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية) فلما هلك عاد على غير دين هود جزع هود عليهم واكتأب فأنشده ابنه قحطان شعرا يسلى عليه بعض ما كان به من القلق والارتماض والحزن على قومه وبنيه وبني عمه فقال:
إني رأيت أبي هودا يؤرقه ... حزن دخيل وبلبال وتسهاد
لا يحزنك إنْ خصة بدهية ... عاد بن عوص فعاد بئس ما عادوا
عاد عصوا ربهم واستكبروا وعتوا ... عما نهوا لا سادوا ولا قادوا
1 / 3
بعدا لعاد فما أوهى حلومهم ... في كل ما ابتدوا وكل ما اعتادوا
قاموا يردون عنهم سفاهتهم ... ريحا بها أهلكوا أيان ما بادوا
إلاّ يظنون إنَّ الله غالبهم ... وإنَّ كلا لأمر الله منقاد
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... أسالم لي لقمان وشداد
ويروى أنَّ هذه الأبيات لابنه يعرب ثم إنَّ هودا ﵇ ومن آمن معه من قومه أقاموا على ساحل البحر مما يلي أرض عاد يعبدون الله حتى ماتوا وانقرضوا قال الخزاعي: ثم توفي هود بالأحقاف من أرض اليمن وقبره هناك معروف بالقرب من نهر الحقيف. قال عبيد بن شرية: إنَّ الذين آمنوا مع هود كانوا أقل من
1 / 4
أربعين نفرا وذكر بعض أهل السير والعلم بأمر هود قال: أخبرنا البحتري عن محمّد بن إسحاق يرفع الحديث إلى أبي سيد الخزاعي عن أبي الطفيل بن أبي عامر لكناني عن عليّ بن أبي طالب ﵁ أنَّ رجلًا من حضر موت جاء يسأل أهل العلم فقال له على كرم الله وجهه: يا حضرمي أرأيت في بلادك كثيبا أحمر أعفر يخالطه مدرة حمراء فيه أراك وسدر موضع كذا وكذا من بلدك هل رأيت قط أو تعرفه؟ قال الحضرمي: نعم والله يا أمير المؤمنين قال عليّ ﵇ فإن فيه قبر هود ﵇. قال وصار أمر هود بعده إلى وصية ابنه قحطان فدفنه بالأحقاف بموضع يقال له بجوار نهر الحقيف. قال وهب: إنَّه لمّا كان في زمن عمرو ذلك الأذعار هبت ريح عظيم فزع أهل اليمن منها وزعموا أنها كانت الريح العقيم فكشفت عن منبر هود ﵇ وهو منبر من الذهب مرصع درا وياقوتا وعن يمينه عمود من الجزع الأحمر مكتوب عليه بالمستند: لمن ملك الذمار؟ لحمير الأخيار. لمن ملك الذمار؟ للحبشة الأشرار لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار. لمن
1 / 5
ملك ذمار لقريش التجار ويقال إنَّ هودا كتبه وإنَّه من علم الوحي وذمار: غمدان ومأرب وصنعاء وعالية الهنيق وما بينهما فلما صار أمر هود ﵇ بعده إلى وصيه قحطان لزم طريقته واقتدى بها ولمّا احتضره الموت أقبل على بنيه وأهل بيته يوصيهم فقال لهم: لم تجهلوا ما نزل بعاد دون غيرهم حين عتوا على ربهم واتخذوا إلها غيره يعبدونه من دونه وعصوا أمر نبيهم هود وهو أبوهم الذي علمهم الهدى وعرفكم سواء السبيل (وما بكم من نعمة فمن الله) وأوصيكم بذي الرحم خيرا وإياكم والحسد فانه داعية إلى القطيعة فيما بينكم وأخوكم يعرب أمين عليكم وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا أمره واحفظوا وصيتي واعملوا بها واثبتوا عليها ترشدوا وإياكم والتحاسد والتباغض فقال أي قحطان في ذلك شعرا:
أبا يشجب أنت المرجى وأنت لي ... أمين على سري وجهري حافظ
عليك بدين لست تنكر فضله ... فقد سبقت فيه إليك المواعظ
وواصل ذوي القربى وحطهم فانهم ... ملاذك إنْ حامت عليك البواهظ
ولفظك فأعربه بأحسن منطق ... فانك مرهون بما أنت لافظ
وكن كاظما للغيظ في كل بدرة ... إذا شخصت تلك العيون اللواحظ
تغيظ به الأعداء سرا وجهرة ... بحلمك هاتيك النفوس الغوائظ
1 / 6
وما ساد من قد ساد إلاّ بحلمه ... إذا لم يلاحظه من البخل لاحظ
وكن راكبا محض الشمائل ماجدا ... تقيا نقيا إنني لك واعظ
قال نشوان:
أم أين يعرب وهو أول معرب ... في الناس أبدى النطق بالإنصاح
قال عبيد بن شرية: يعرب بن قحطان بن هود النبي هو أكبر أولاد قحطان وهم: يعرب وخيار وأنمار والمعتم والمناحي ولأي وماعز وغاضب ومنيع وجرهم والملتمس والقاطمي وظالم والغشيم والمغتفر وباقر: ستّة عشر رجلًا وأمهم امرأة من عاد وكلهم قد ملك غير ظالم يملك وقد ك يسير في الجيوش فلما توفي قحطان بن هود قام
1 / 7
مقامه ولده يعرب وخلفه بأحسن الخلافة في أخوته وأهل بيته، وسار سيرته في أهل مملكته وحفظ وصته أبيه وثبت عليها وتجمل بها، وهو أول من ألهم العربية المحضة. وقال فأبلغ، واختصر يجز، وأشار إلى المعنى وحذف. واشتق اسم العربية من أسمه ويعرب، أول من عظمه أهل بيته، حيي بتحية الملك
أبيت اللعن وأنعم صباحا. وكان ملكا عظيما لم يغز ولم يكن بنو سام تصدر إلاّ عن رأيه.
ذكر وصية يعرب
ثم إنَّه وصى بنيه قبل موته وقال: يا بني منى حصلا عشرا وتكن لكم شرفا وذكرا وذخرا. يا بني تعلموا العلم وأعلموا به واتركوا الحسد ولا تلتفتوا إليه فانه داعيه إلى القطيعة فيما بينهم واجتنبوا الشر وأهله فإن الشر لا يجلب عليكم إلاّ الشر وأنصفوا الناس من أنفسكم وإياكم والكبر فإنه يبعد قلوب الرجال. وعليكم بالتواضع فإنه يقربكم إلى الناس ويحبكم إليهم واحفظوا الجار واصفحوا عن المسئ فإنَّ الصفح عن المسئ يحسم العداوة ويزيد مع السؤدد سؤددا ومع الفضل فضلا. وآثر الجار والدخيل على أنفسكم فإن جماله جمالكم ولأن تسوء حالة أحدكم خير له من أنْ تسوء حالة جاره ولأن يفقد الناس المقتدى أكثر من أنْ يفقدهم المقتدى وانصروا المولى في السلم والحرب وفانه منكم ولكم وآثروا المولى من أنفسكم وحقه عليكم مثل حق أحدكم على سائركم وإذا استشاركم مستشير فأشيروا عليه بمثل ما تشيرون على أنفسكم فإنّها أمانة ألقاها في أعناقكم وأمانة ما قد علمتم وتمسكوا
1 / 8
باصطناع الرجال تسودوا به غيركم فإن ذلكم يزيدكم شرفا وفخرا إلى آخر الدهر
وأنشأ يقول:
نعرفكم بما وصى أبوكم ... بما وصاه قحطان بن هود
فوصاكم بما وصى أباه ... أبو أبيه عن الجدود
أذيعوا العلم ثم تعلوا ... فما ذو العلم كالكل البليد
ولا تصغوا إلى جبل فتغووا ... غواية كل محتمل حسود
وذو دوا الشر عنكم ما استطعتم ... فليس الشر من خلق الرشيد
وكونوا منصفين لكل دان ... لنصفكم من القاضي البعيد
عليكم بالتواضع لا تزيدوا ... على فضل التواضع من مزيد
فإنَّ الصفح أفضل ما ابتغيتم ... به شرفا مع الملك العتيد
وحق الجار لا تنسوه فيكم ... فإن الجار ذو حق أكيد
عليكم باصطناع الخير حتى ... تنالوا كل مكرمة وجود
قال نشوان:
أم أين يشجب خانه من دهره ... شجب وحاه له بقدر واحي
وحاه: أي قدره. واحي: أي مقدر. والشجب الهلاك.
قيل: فثبت يشجب على هذه الوصية دون غيره من إخوته وعشيرته فساد الجميع
1 / 9
بلزومه منهاج أبيه، وحفظه لمّا أمره به وندب إليه، فساد بني سام وملك أمرهم ونهيهم عمره، وحاز اليمن والحجاز، ولم يغير وصية يشجب
ثم إنَّه لأوصى بنيه وأهل بيته، فقال يا بني إني لم أر إخوتي وعشيرتي إلاّ بحفظي وصية أبي يعرب وبعملي بها وثباتي عليها، وإنَّ أبي يعرب لم يسد إخوته وعشيرته إلاّ بحفظه وصية أبيه هود ﵇، وبعمله بها وثباته عليها، فأقيموا على ما وجدتموني عليه، وهو الذي أنهيه إليكم، فاحفظوا ذلك واثبتوا عليه، وأعملوا به. والله خليفتي عليكم، والرشيد المهتدي منكم. وأنشأ يقول:
أوصى النبي ابنه قحطان جدي بما ... أوصى بنيه أب من بعد قحطان
علم حواء أبي دون إخوته ... وحزته بعده من دون إخواني
وزادني يعرب من عنده شيما ... وصى بنيه بها يوما ووصاني
حفظتها حين ما غيري استهان بها ... وحفظها آخر الأيام من شأني
أعبد شمس أبيت اللعن من خلف ... هل بعدي اليوم لي في ملكنا ثاني
هل أنت تحفظ عني ما حفظت وما ... به بنيت لكم ملكي وسلطاني
إني رأيتك هشا ما جدا فطنا ... وقد إخالك طبا غير كلان
قال نشوان:
وسبا بن يشجب وهو أول من سبأ ... في الغزو قدما كل ذات وشاح سبأ بن يشجب بن يعرب، ك ملكا عظيما، واسمه عامر، وك يعبد الشمس فسمى عبد شمس، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
1 / 10
ورثنا العز من جد فجد ... وراثة حمير من بعد شمس
وغزا بابل فافتتحها، وك سبب ذلك أنه لمّا مات أبوه يشجب، ادعى كل واحد من أولاد يعرب الملك، ففتر الأمر، وتغلبت ملوك الأعاجم: بنو فارس على الفرس، وبنو يافث على أرمينية وما والاها، وبنو عوجان بن يافث على انطاكية ودروب الروم، وبنو كنعان على بيت المقدس إلى المغرب. فقام عبد شمس بن. . . . . فجمع بني قحطان وبني هود، وخطب خطبة تركناها للاختصار. ثم زحف إلى بابل فافتتحها وقتل من وجد فيها، وسار خلفهم يقتل، إلى أنْ بلغ أرض غرسان، ثم رجع على بني يافث من ناحية اديلم والخزر إلى أرمينية كل من لقيه، ويستخلف على كل أمة قوما من المتعربين معه، حتى بلغ إلى أرض الجزيرة فبنى صنجة وهي من أوابد الدنيا، ثم لم يزل حتى عبر اى اشام يأسر ويقتل من لقي من بني عوجان بن يافث، حتى أبعدهم إلى خلف عمورية، ثم رجع إلى الشام يسير ويقتل في بني حام، حتى بلغ بهم أقصى المغرب، ومنهم من هرب إلى براري مصر ذات الجنوب، وأذعنوا له بالطاعة فأسكنهم على شاطئ النيل، وكان كلما قتل أمة سبا ذراريهم، فسمى بذلك سبأ، ولم يعرف قبله السبي، وإنّما أحل الله له ذلك لأنهم نكثوا وغدروا وبدلوا الشريعة، ثم بني مدينة مصر وسماها بابليون، لأنه خلف ابنه بابليون واليا على مصر وعلى أولاد حام، وأنشأ يقول:
إلاّ قل البابليون والقول حكمة ... ملكت زمام الشرق والغرب أجمل
وخذ لبني سام من الأمر قسطه ... ولا تك جبارا عليهم وأمهل
1 / 11
وخذ حام من الأمر حظه ... إذا صدقوا يوما على الحق واقبل
فإن جنحوا بالقول طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فاعدل
ولا تظهرن الجور في الناس يجتروا ... عليك به، واجعله ضربة فيصل
ولا تأخذن المال من غير وجهه ... فإنك إنْ تأخذه بالرفق يسهل
ولا تتلفن المال في غير حقه ... فإنَّ جاء مالا بد منه فأسدل
وداو ذوي الأحقاد بالسيف إنَّه ... متى بلق منك العزم ذو الحقد يعقل
وكن لسؤال الناس غيثا ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل
وإياك والضيف الغريب فإنه ... سيثني بما تؤتيه في كل منزل
ثم رجع سبأ إلى اليمن، فبنى السد الذي ذكره الله تعالى في كتابه، واسمه العرم. وهو سد يقبل إليه سبعون واديا بالسيول. ولمّا أسس قواعد السد بناه ولم يتممه. وسبأ هو الذي قسم الملك بين ولديه حمير وكهلان، ونصب ولده حمير ملكا بعد أنْ جمع أهل مملكته، وأجلس ولده حمير عن يمينه وولده كهلان عن يساره، وقال للناس: هذا يصلح ليمني أنْ تقطع شمالي وهل يصلح لشمالي أنْ تقطع يميني؟ قالوا: لا يصلح ذلك لهما، فقال أرأيتم إنَّ غفلت عنها وأراد بعضهما أنْ يقطع بعضا، ما أنتم صانعون؟ فقالوا جميعا: نمنع اليمين عن الشمال، وتمنع الشمال عن اليمين، فقال: أعطوني العهود على ذلك. فأعطوه العهود والمواثيق على منع بعضهما من بعض، فقال: أيها الناس إني لم أرد بيدي إلاّ ولدي هذين حميرا وكهلان، ولا آمن أنْ يختلفا بعدي، فأعطوا حميرا من ملكي ما يصلح لليمين، وأعطوا كهلان ما يصلح للشمال. وإني جعلت حميرا عن يميني لأنه أكبر من كهلان، وجعلت له ما يصلح لليمين. وجعلت كهلان عن شمالي، لأنه أصغر من حمير، فجعلت له ما يصلح للشمال. فقالوا جميعا: يصلح لليمين، والسيف والقلم
والسوط، وحكموا للشمال بالعنان والترس والقوس
1 / 12
والدواة، وقالوا: إنَّ صاحب السيف يصلح للثبات والوقوف في موضعه، وصاحب القلم لا يكون إلا مديرا فاتقا راتقا آمرا ناهيا، وصاحب السوط لا يكون إلاّ رائضًا سائسًا. وحكموا أنَّ صاحب الوقوف والثبات والفتق والرتق والتدبير لا يكون إلاّ الملك الأعظم الراقد في دار المملكة وهو حمير؛ وحكوا أنَّ العنان وصرف لهوادي الخيل، للذب عن الملك نكاية الأعداء حيث كانوا، وحكموا أنَّ الترس يرد به البأس عند اللقاء، وأنَّ القرش ينال به الناوئ والمعادي على البعد منها، وحكموا أنَّ جميع ذلك لا يصلح إلاّ لحائط الدولة والذاب عنها وعن بيضتها والقائم بحروبها وفتوحها وإصلاح ثغورها: وهو كهلان. فتملك حمير الملك الراتب في دار المملكة، وسلم إليه فكنى أبا أيمن لجلوسه عن يمين أبيه، وتقلد كهلان الأطراف والثغور والحروب ومنتوأة الأعداء حيث كانوا، فلم يزلا على ذلك وأولادهما وأولاد أولادهما: ومن ولد حمير ملك قائم بالملك، ومن ولد كهلان ولد قائم بالثغور والأعمال وقود الجيوش والغزو إلى العدو حيث ك، وكان لكهلان على حمير المعونة بمثل معونة اليمن للشمال في الرمي بالقوس والنزع عليها بالنبل؛ وهما في غير القوس والمال والنجدة؛ وكان لحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلد من رتق الفتق وسد الخلل واستخراج الأتاوات. وفي ذلك يقول هي بن بي أحد من حضر القسمة هذه:
ما سد هذا الورى أبناء قحطان ... إلاّ بفضل لهم وإحسان
ما في الأنام لهم حي يشاركهم ... ولا لواحدهم في الأرض من ثاني
لم يشهد الناس في بدو ولا حضر ... حكما كحكم عظيم الملك والشان
سبا بن يشجب لا بنيه وإنهما ... للسيدان الرفيعان العظيمان
1 / 13
أعطي ابنه حميرًا منه اليمن وقد ... أعطى الشمال ابنه المسمى بكلهان
وقال أقسم ملكي اليوم بينهما ... وقسمة المال للابنين سهمان
يعطي اليمن الذي تسطو اليمن به ... فيما يعانيه من سر وإعلان
وللشمال الذي تسطو الشمال به ... عند النوائب من بأس وسلطان
فالسيف والسوط صارا لليمن معًا ... وهكذا القلم الجاري ببرهان
والترس والقوس صارا للشمال وقد ... صار العنان لهما فالمال نصفان
وصار ذاك بتاج الملك معتصمًا ... دون الجحاجح من أولاد قحطان
وصار بالخيل يحمي الأرض قاطبة ... طول الزمان لذاك الآخر الثاني
وروى أنَّ سبأ لم يكمل بناء السد حتى نزل به الموت، وقيل إنَّ عمره كان خمسمائة سنة وسبعين عامًا، منها خمسمائة عام في الملك. فلما توفى عبد شمس أنشد ابنه حمير يرثيه؛ وهي أوّل مرثية قيلت في العرب:
عجبت ليومك ماذا فعل ... وسلطان عزك كيف انتقل
فأسلمت ملكل لا طائعًا ... وسلمت للأمر لمّا نزل
فلا تبعدن فكل امرئ ... سيدركه بالمنون الأجل
فيا عبد شمس بلغت المدى ... وشيدت مجدًا فلم يمتثل
وشيدت ذحرًا لدار البقا ... فلما أفلت إليها أفل
فلم يبق من غير التقى ... وذاك لعمري أبقى العمل
وأحكمت من هودٍ المحكما ... تِ وآمنت من قبله بالرسل
وأحرمت بالبيت توفي النذو ... رُ كما كان هود لديها فعل
1 / 14
وطغت وأهلكت حتى إذا ... رأيت الهلال بها يستهل
رحلت وزادك خير التقى ... وقوضت عن حرمتها محل
قال نشوان:
أو حمير وأخوه كهلان الذي ... أودى بحادث دهره المجتاح
حمير بن سبأ بن يشجب بن يعقوب بن هود النبي ﷺ
قالوا: ثم إنَّ حمير أقام بمملكة أبيه سبأ، وزاد فيها تعظيما، وكهلان ردفه على ذلك، فلم يزل ملكا حتى مات هرمًا، وملك زيادة على خمسمائة سنة، ولمّا أسن، جمع بنيه وبني عمه ووجه عشيرته فوصاهم وقال: يا بني - وكانوا اثني عشر رجلًا - اعلموا أنَّه ما اجتمع اثنان متآزران متعاضدان على أربعة أو خمسة من أشتان الرجال إلاّ غلباها وملكا أسرها وقيادها، وما اجتمع خمسة نفر متعاضدان متآزران على عشرة أنفار إلاّ غلبوهم، ولا اجتمع عشرة أنفار متعاضدان متآزران على الجماعة التي تكون ضعفهم عدة في رأي العين من أشتات الرجال، إلاّ غلبوهم وملكوا قيادهم؛ وأيما عصبة غلبت أربعين رجلًا يوشك أنْ تغلب الثمانين والمائة وما فوقها، وغلاب المائة حريون أنْ يغلبوا الألف، ومنتهى العز لفرقة أنْ يطمع فيها ألف رجل، وما من رجل أطاعه رجل فقام له بالمجازاة على ذلك إلاّ أطاعه عشرة أنفار، وما من رجل أطاعه عشرة أنفار
1 / 15
فقام لها بمجازاتها على طاعتها إلاّ إطاعة مائة رجل، وما من رجل أطاعه مائة رجل فقام لها بمجازاتها على طاعتها إلاّ إطاعة ألف رجل إلاّ وقد ساد لا محالة، ومن ساد فقد ملك، ومن ملك فقد أوتى المنتهى من أهل في دنياه. يا بني أطيعوا الأرشد منكم، ولا تعصوا الهميسع فأنه خليفتي بعد الله عليكم وأميني فيما بينكم، وأنَّه لسيفكم وانتم لحد ذلك السيف. وأنَّه لرحم، وإنكم سنان ذلك الرمح. وما السيف لولا هذه؟ وما الحد لولا السيف؟ وما السنان لولا الرمح؟ وما الرمح لولا سنانه؟ انتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم. وأنشأ يقول:
همسع لا تجهل مع الناس سيرتي ... فسر بها في الناس بعد هميسع
بني انهم أوصيك خيرًا فأنهم ... تضر بهم من شئت يومًا وتنفع
وعمك وأبن العم دونك بعده ... مرد لمن يردى صفاك ومدفع
هم لكهف بل هو لك موئل ... وهم لك من دون البرية مقزع
وليست عناق الطير يومًا وإنَّ لها ... تذل وتستخذى البغاث وتخضع
تؤوب إلى وكر سوى وكرهت الذي ... تؤوب إليه للمبيت وترجع
هميسع إنَّ الناس وحش وانهم ... إلى الفرق من رد القوارب أسرع
هميسع دار الناس تعط قيادهم ... فحظك منهم أنَّ يطيعوا ويسمعوا
هميسع جد بالخير تجز بمثله ... فكل امرئ يجزى بما هو يصنع
هميسع لا والله ما أنت حاصد ... طوال الليالي غير ما أنت تزرع
1 / 16
وأوصيك بالأقصين مثل وصيتي ... بأخوتك الدنيا فهل أنت تسمع
قالوا: واقتصر كهلان على ما حكم له به من مؤازرة أخيه، وسلمت إليه الأعنة، وملك لأطراف والثغور، وندب إلى أرض الحجاز جرهم بن الغوث ومن لف لفها وولى عليها سيدهم هي بن بي بن جرهم بن الغوث بن شداد بن سعد بن جرهم بن قحطان، وأمرهم أنَّ يسمعوا له ويطيعوا أمره، وقسم عليهم الخيل والعدة والسلاح والروايا وكتب لهي بن إليَّ ساكني الحجاز من العمالقة وهو وسعد بن هران وبني مطر وبني الأزرق وغفار بالسمع والطاعة ودفع الإتاوة إليه. وكان كاتب عهده له:
إلاّ ئك من كهلان عن أمر حمير ... لعامله هي بن بي بن جرهم
إلى من بأعراض الحجاز محله ... من الناس طرأ من فصيح وأعجم
على أنَّ هيا ليس يعصي وأنَّه ... لديهم لذو أمر مشير مقدم
وإلاّ فلا يلحون إلاّ نفوسهم ... إذا ما ابتلوا بالهضلان العرمرم
وجهز إلى أرض نجد مما تياسر من الطائف إلى حضر، فإلي ضرية، فحدود اليمامة، الهميمبن عاصم بن جلهمة الجديسي فيمن تخالف من جديس باليمن ومن لحقهم من
1 / 17
الأتباع. وكتب له إلى سكان ظهر نجد من العمالقة وعبس الأول وعبد ضخم كتابًا، وهو: باسمك اللهم.
من أبن سبا كهلان عن أمر حمير ... إلى أهل للهيم بن عاصم
على أنَّ لا يعصي الهميم وأنَّه ... يطاع ويعطى الخرج السوائم
وإلاّ فلا يلحون إلاّ نفوسهم ... إذا ما ناموا بالخيل تحت الضراغم
قالوا: فتجهز الهميم واليًا على أهل الوبر بنجد، وسارت الأدلاء بين يديه، حتى توسط بلاد نجد ما بين اليمامة وجبلي طيء والطائف. فملكها وأخذ الإتاوة من أهلها وانفذ بها إلى كهلان. ثم إنَّ كهلان دعا أبن جحدر أحد من تخلف باليمن من ثمود بن عابر، ليتجهز إلى تيماء فالوادي فخيبر فتلك النهوج إلى ما قارب أيلة، وعقد له الولاية على ساكني هذه البلاد من ثمود وزهرة بن عمليق، وكان كتابه كتاب لعمرو بن جحدر: باسمك اللهم،
من أبن سبا كهلان عن أمر حمير ... إلى ساكني الوادي لعمر بن جحدر
على طاعة منهم لعمرو بن جحدر ... وللقليل كهلان وللملك حمير
ودفع الإتاوات التي يسألونها ... إلى عاملي عمرو الهمام الغضنفر
وإلاّ فلا يلحون إلاّ نفوسهم ... إذا زارهم بالبيض والسمر عسكري
قال: فتجهز عمرو بن جحدر واليًا على ساكني تلك المواضع في أهل بيته وعشائره من بني سام بالخيل والإبل والعدد، حمير قطن بتيماء. فلما توفي حمير، قام بعده ابنه الهميسع، وآزره عمه كلاه وهو شيخ كبير وقتًا، ثم أقبل على ابنه زيد بن كهلان فقال يا بني إنَّ العمر قد ولى، وبقي من أبيك الأثر، فقم من أبن عمك مقام أبيك من
1 / 18
أبيه وحفظ الهميسع وصية أبيه، وعمل بها، وأجرى الناس على ما كان أبوه حمير يفعله
وقال نشوان:
وملوك حمير ألف ملك أصبحوا ... في الترب رهن ضرائح وصفاح
آثارهم في الأرض بخبرنا بهم ... والكتب من سيرٍ تقص صحاح
أنسابهم فيها تنير وذكرهم ... في الطيب مثل العنبر النفاح
ملكوا المشارق والمغارب واحتووا ... ما بين أنقرة ونجد الجاح
ملكوا ثمود وعادا الأخرى معا ... منهم كرام لم تكن بشحاح
أنقرة: موضع بأقصى بلاد الروم به هلك أمرؤ القيس بن حجر بن حارث الملك أبن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر أبن معاوية بن كندة. فلما حضرت امرأ القيس الوفاة في بلاد الروم قال:
1 / 19
كم خطبة مستحنفره ... وحفنة مدعثر
وطعنةٍ مثعنجره ... مقبورةٍ بأنقره
وله حديث. وقوله ملكت ثمود وعاد الأخرى فإنَّ ملوك حمير ملكت ثمودًا وعادًا الأولى وثمود الآخرة والدليل على عاد الأولى وعاد الآخرة قوله تعالى (وأنَّه أهلك عادًا الأولى). وجمير أمة قديمة كعاد وثمود في القدم يدل على ذلك قول الخلجان بن الوهم العادي ملك عاد يخاطب قومه:
أفي كل يوم بدعة تحدثونها ... ورؤيا على غير السبيل تعبر
فإنَّ لعاد سنة في حفاظها ... سنحيى عليها ما حيينا ونقبر
وأنا لنخزي من أمور تسبينا ... بها جرهم فيمن تسب وحمير
قوله وملوك حمير ألف ملك يدل قول علقمة بن ذي جدن:
يا ابنة القليل ذي فائش الفا ... ئق بعض الكلام، ويحك غضي
1 / 20