كلمة
1 - خلاصة اليومية
2 - الشذور
كلمة
1 - خلاصة اليومية
2 - الشذور
خلاصة اليومية والشذور
خلاصة اليومية والشذور
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة
من أراد أن يقرأ عن الناس والعالم ما يسره، فليخلق للكتاب ناسا جددا في عالم جديد.
تدور هذه النبذة على نقط ثلاث:
أولا:
أن كل ظواهر هذا الكون، علويها وسفليها، ظاهرها وباطنها نتيجة تفاعل «القوى» المختلفة، وكذلك الأمر في الاجتماع البشري.
ثانيا:
أن اللذة والألم، وبعبارة أعم، المنفعة والضرر هما الدعامتان اللتان عليهما تقوم كافة الأخلاق البشرية.
ثالثا:
أن الإنسان حيوان راق، ولكنه لا يزال حيوانا، فمن كان فخورا بعالمه شديد الاعتداد بإنسانيته فهي لا تروقه وربما نفر منها طبعه، ومن كان يقرأ ليقتنع أكثر مما يقرأ ليرضى فإياه عنيت بنشر هذه اليوميات.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
خلاصة اليومية
الجامعة الإنسانية
إن انفراد كل صقع بخصوصية تميزه عن سواه، وتقدم الناس إلى الاشتراك جميعا في الحاجة إلى تلك الخصوصيات بنسبة اتساع مطالبهم تبعا لتقدم العمران؛ مما يدل على أن كل الناس مرتبطون بكل الأرض، وأن حواجز الأوطان ستطمس معالمها لتصير الأرض الوطن العام لنوع الإنسان.
وهذه الحركة الاقتصادية التي جاذبت بين أبعد الشعوب لتبادل المنفعة ستؤدي حتما إلى توحد المصالح العامة بين الأمم؛ بحيث تتضامن كلها في الانفعال بالعوامل الاقتصادية التي تؤثر على بعضها، وهو ما يؤذن بانقضاء الحروب وسيادة السكينة والسلام.
وما زالت العوامل الاجتماعية منذ القدم تقذف بالإنسان في دائرة أشبه بزرد الماء يتسع محيطها شيئا فشيئا؛ فيشمل في كل دور ما كان خارجا عنه في الدور الذي تقدمه، فأن تكون القبيلة من العائلة والشعب من القبيلة والأمة من الشعب والجامعة من الأمة يؤذن بأن الخطوة التالية ستتقدم بنا إلى الغاية التي طالما اشتغل كبار المصلحين لتحقيقها؛ وهي دخول أمم الأرض جمعاء تحت لواء جامعة واحدة، وهي الجامعة الإنسانية.
الفضيلة والرذيلة
الفضيلة والرذيلة كلمتان لما اصطلح جماعات الناس على الاعتراف به أو إنكاره باعتبار نفعه أو ضرره، والمعروف والمنكر وهما من مرادفاتهما في العربية تؤديان هذا المعنى تمام الأداء، فما كان يعد فضيلة عند قوم يعد رذيلة عند قوم آخرين تبعا لما ينجم عنه من النفع أو الضرر عند كل منهما، وربما العمل الواحد في الأمة الواحدة يعتبر فضيلة في هذا الزمن أو ذاك ورذيلة في زمن آخر.
انحطاط الشرق
علة انحطاط الشرقيين أنهم جعلوا لتنازع البقاء ميدانين، فلم يبالوا أن يخسروا الصفقة في هذا العالم ليغنموها في العالم الآخر، وساعدهم على ترك الاشتغال بشئون هذا العالم أن خصب الطبيعة في الشرق قد جعل طلب الضرورات المعيشية مما لا يلجئ إلى التدافع والزحام، كما هي الحالة في الأصقاع التي لا يأتي فيها استثمار الرزق وتوفير أسباب الحياة إلا بوسائط الكد والاستنباط، فكانت الدعة والرخاء من أكبر العوامل التي صرفتهم عن عالمهم إلى تطلب السعادة الكمالية في سواه.
جنون النبوغ
إذا كان الجنون بنوع ما عبارة عن مخالفة ما جرى عليه العرف بين الناس فالنبوغ نوع من الجنون، فإن النابغة يستهين بالتقاليد المرعية بين الجمهور؛ لأنه لا يعرف وجها للتمسك بها، إما لأنها عقيمة في ذاتها أو لأنها كانت صالحة أو ضرورية في زمن من الأزمان، ثم عادت غير ضرورية في الوقت الحاضر.
التشبيه الشعري
ملكة التشبيه تقوى حيث تضيق دائرة الأشياء؛ فإن المتكلم يحاول أن يقرب إلى سامعه ما لا يعرفه وهو كثير بتشبيهه بشيء مما يعرفه وهو قليل؛ ومن ثم كان أهل البدو والريف أقدر على التشبيه من الحضريين وسكان الأمصار، ولقد كان الشاعر دائما أسبق من العالم في التاريخ؛ فإن الإنسان يحس أولا ثم يفكر، فتسخو القرائح في عهد البداوة، وينبغ الشعراء في الأنحاء التي لم يستبحر فيها العمران أكثر مما ينبغون في غيرها.
إرادة المصري
المصريون لم يشعروا بافتقارهم إلى الإرادة إلا بعد أن قسرتهم المزاحمة الأجنبية على الأعمال التي للإرادة دخل فيها، فأما قبل ذلك فكانت أعمالهم من أغنى الأعمال عنها، فلا اعتدال الجو ولا ارتفاع النيل ولا امتناع الآفات ولا جودة المحصول مما يترتب على توجيه إرادة الزارع، بل كل ما يحتاج إليه في صناعته شغل آلي شاق بعيد عن إشراف القوى العقلية.
بقايا الحيوانية في الإنسان
العواطف عبارة عن انفعالات جسدانية لا سلطان لأعمال العقل عليها، وهي في الإنسان راجعة إلى أقدم عهده بالهمجية، بل بالحيوانية الأولى أيام كانت كل أمياله وأطواره أفعالا تقوم بها وظائف جسده من تلقاء نفسها حسب مطالبها من سد جوعة أو قضاء شهوة أو ري ظمأ أو دفع أذى؛ فالرجل الهمجي، ومثله الجاهل الفطري، ليست مدركته إلا مجموعة إحساسات عالية أو خسيسة، ليس للنظر والتروي مجال بينها، وما كان في جميع حالاته إلا آلة تقذف بها طبيعته حيث شاءت، ولكنه في المجتمعات الراقية حيث يرتبط الرجل مع بقية الأفراد بواجبات وأصول جبرية ولا يعود حيوانا مرسلا مع أهوائه وشهواته، يضطر بحكم البيئة إلى الضغط على عواطفه انصياعا لأحكام المصلحة والعقل، ويزداد كلما ازداد الإنسان حاجة إلى التعقل والاستغناء عن قوة الساعد في حفظ ذاته.
فالقليل الذي بقي من عواطفنا وأميالنا اللدنية التي لا تجيبنا إذا سألناها لماذا مصيره إلى التواري والاختفاء حتى يسود حكم العقل على جميع أعمال الإنسان.
العمل والأمل
الغربي والشرقي يتشابهان في أن لكل منهما غرضا من حياته، ولكنهما يتفاوتان في التوفيق بين الأمل والقدرة على تحقيقه، فالغربي إذا طمح إلى أمر عمد إليه من طريقه، فالجندي يحاول أن يكون قائدا والدرزي تاجرا والصانع صاحب معمل وهلم جرا، أما الشرقي فأمله مبهم غامض لا تتميز له وسيلة ولا تتضح إليه سبيل. يحب كل إنسان أن يكون أحسن إنسان كما لو كان يحب ذلك لإنسان سواه؛ أي من غير أن يأخذ للأمر أهبته أو يدبر له عدته، فكثر في أقاصيصنا ذكر أمثال: شبيك لبيك، وبساط الريح، وطاقية الإخفاء، وقضيب السحر، ومسحوق الكيمياء، وغيرها مما يرد في ألف ليلة والأحاجي التي يقصها عجائزنا على أسماع صغارنا قبل أن تفتح لهم أبواب الآمال، فينشئون على التراخي والتواكل وترك تحقيق أمانيهم إلى المصادفة والاتفاق.
الفيلسوف
ليس الفيلسوف صاحب المذهب الشاذ أو المبدأ الغريب، ولا هو بالرجل الواسع الاطلاع أو المتفوق على غيره في ملكاته ومواهبه. الفيلسوف الحقيقي هو الباحث الذي لا ينشد إلا الحقيقة، ينشدها لا ليراها في شكل منتظم أو هيئة مرموقة أو ينظر إليها في ظل مبدأ من المبادئ فيكيفها كما ترسم مخيلته وتوحي إليه موروثاته ومعتقداته وأغراضه، ولكن لتظهر أمامه كما هي بالوجه الذي تظهر به في كل آن عارية عن غواشي البراقش والزركشات، وهو المفكر الذي لا يتسلط عليه رأي من الآراء أو يملك ذهنه غرض من الأغراض، بل يأخذ في البحث سواء لديه على أي نتيجة طلع منه، فليس فيلسوفا ذلك الباحث الذي يقدم على موضوعه برأي مبدئي يتشيع إليه فيما هو بصدده، أو ذلك السفسطائي الذي لا هم له من أبحاثه إلا أن يجد له برهانا يسند إليه ما تلقاه من غيره عن طريق الوراثة أو التلقين.
الحسد
ليس الحاسد هو الذي يطمع أن يساويك بأن يرقى إليك، بل هو الذي يريد أن تساويه بأن تنزل إليه؛ ومن هذا القبيل الرجل العياب الذي يتتبع عورات الناس وسقطاتهم لينزل بهم إلى مستواه ويتغافل عن حسناتهم عمدا؛ لأنه يعلم من نفسه العجز عن الإتيان بمثلها.
المطالعة والتجارب
التجارب لا تقرأ في الكتب، ولكن الكتب تساعد على الانتفاع بالتجارب.
الشعر والألفاظ
الشعر صناعة توليد العواطف بواسطة الكلام، والشاعر هو كل عارف بأساليب توليدها بهذه الواسطة، يستخدم الألفاظ والقوالب والاستعارات التي تبعث توا في نفس القارئ ما يقوم بخاطره - أي الشاعر - من الصورة الذهنية. والألفاظ نوع من اختزال المعاني تشير إلى ما لا يمكن وروده منها على اللسان، أو هي رموز يقترن كل منها بخواطر وملابسات تتيقظ في الذهن متى طرقه ذلك اللفظ، ولا يشترك فيها معه لفظ آخر وإن ترادفا في ظاهر المعنى، فالمترادفات لا تتشابه في المدلول تماما، والكلمة في لغة لا تفيد معنى مقابلتها في لغة أخرى؛ فليست المعاني منطوية في أحرف كلماتها، ولكنها ترمز إليها، ولا مجرد النطق بكلمة يكفي لاستحضار معناها عند كل من يسمعها على السواء، فتختلف الكلمة الواحدة في قوة استحضار المعنى باختلاف مدلولاتها وملابساتها عند السامعين، والتفطن إلى هذا الفرق الدقيق بين معاني الألفاظ والتلطف في أداء كل منها في موضعه يدخلان في الملكة التي يحتاجها الشاعر ليكون شاعرا مجيدا، ولا بد لها من أن يكون للشاعر استعداد فطري لتلقي العوارض والمؤثرات التي تقع تحت شواعره حتى يلم بأسرار النفس وكيفية تطرق الإحساسات المختلفة إليها، وأن يكون قد انطبع في ذهنه نخبة من صور تلك الإحساسات ممثلة في قوالب جماعة من فحول الشعراء ليعلم بالمقارنة بينها أيها أحكم تمثيلا وأبلغ وقعا وأسرع توجها إلى العاطفة المخاطبة به حتى يتسنى له أن ينقل ما يشاء منها إلى نفس غيره، ولا يحتاج الأمر في الشعر إلى الجلاء والإبانة كما هو في النثر، فإنه كما تقدم يقصد به التأثير ولا يقصد به الإقناع، والعواطف قد تتأثر بالعبارة المفاجئة أشد من تأثرها بالعبارة ذات القضايا المرتبة والمعاني الجلية.
فقل أن ترى كبار الشعراء يتكلفون الشرح والتفصيل فيما يردون الإعراب عنه كما يتكلفهما المبتدئون منهم؛ لأنهم أخبر بوسائل التأثير وأعرف بالألفاظ التي لها وقع أبلغ من غيرها على الإحساس.
حب الظهور
الشغف باستلفات الأنظار عام بين جميع الناس، ولكن منهم قوما يظهر كأنهم يطلبونه بألسنتهم وقوما كأنهم يحرزونه بالرغم منهم ومن الناس.
التعصب الديني في المستقبل
طبيعة الدين ليست عدائية وإن ظهر لأول وهلة كأن في هذا القول شيئا من المخالفة للواقع.
حفظ الذات أقوى غرائز النفس الإنسانية، والعواطف المتفرعة عنه أقوى العواطف، تحرك الإنسان المؤثرات، أولا تحركه بقدر ما تمس هذه الغريزة، والإنسان بطبيعته في حالة سلم مع بقية الناس، فالنزاع عارض طرأ من اشتراك إنسانين فأكثر في الحاجة إلى العروض الخارجية، وإن مجرد وجود تلك العروض بحالة لا يظفر بها إلا من غلب، بين فريقين متساويين في الحاجة إليها وعدم الاستغناء عنها، يحسب في ذاته إعلانا من كل منهما صريحا بإشهار الحرب إلى أن يظفر أحدهما بحاجته.
فالدين باعتباره عقيدة مجردة لا يقتضي نزاعا بين الناس، إلا إذا تجاوز حيز العقائد إلى الأشياء الخارجية التي تدخل في معاملات الإنسان، كما يشاهد في الأمم المتأخرة التي تجهل العلاقة الحقيقية بين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، وأكثر ما يشاهد ذلك في أمم القرون الوسطى وما تقدمها من عصور الكهانة والسحر.
فقد مر عهد - ليس بالبعيد - كانت الصلة بين العاطفة الدينية وغريزة حفظ الذات من أحكم الصلات، لا بالنظر إلى مستقبل الإنسان في العالم الآخر فقط، بل بالنظر إلى حياتنا في هذا العالم أيضا، فكان فرعون وشعبه يشربون دما أحمر من نيلنا العذب؛ لأنهم لم يشاءوا أن يدخلوا في دين بني إسرائيل.
كان كل شيء في ذلك العهد إنما يحدث بإشراف القوى الخفية مباشرة؛ فكان للسحاب عمال يسوقونه من بلد إلى بلد، وللرياح والبحار خزنة يصرفونها بتقدير ويمسكونها بتقدير، وكانت العوارض السماوية من كسوف وخسوف وهالات ومذنبات ورجوم ترصد من الأرض تارة كأنها إنذار السخط وتارة كأنها علامة الرضى، وكانت الطواعين والأوبئة والمجاعات والصواعق والزلازل والطوفانات وغيرها من الجوائح الطبيعية تفسر كأنها نقمة الله حاقت بالجنس البشري عقابا له على طغيانه وعصيانه، أما استنزال هذه البلايا - فمع كونه كان مترتبا على مخالفة الإرادة الإلهية - فإنه من حق طائفة اصطفاها الله من بين خلقه واختصها بعلم ما يرضيه وما يسخطه فلا ترد لها كلمة عنده، ففي ذلك العهد الحافل بكل هذه الجهالات ما كان الغريب أن يندفع الناس إلى الشقاق بسبب الدين، بل في الحقيقة بسبب كل شيء، ومن أجل كل شيء يمكن أن يكون باعثا على الشقاق؛ لأن هذا كان معنى الدين في تلك العصور.
الحروب الصليبية
ويظهر في مبدأ الأمر كأن العقل الإنساني استتر، وكأن الضمير العام تنحى عن عمله ردحا من الزمن ثارت في أثنائه الحروب الصليبية بكل غرائبها التي أغرب ما فيها أن يمر بها الإنسان قرنا ولا يدرك مقدار فظاعتها وشناعتها.
والعقل الإنساني لم يستتر ولا تخدر، بل كان على أتم ما يكون عليه عقل المجاميع في مثل تلك الأيام، فكان الصليبيون يعاودون الكرة في كل حملة بعزم متجدد وأسف على فوات الفرصة منهم في الحملة التي تقدمتها لا شائبة فيه للندم، فلم تكن تلك الحروب ثورات حنق أو اندفاعات حماسة دينية، وإنما هي حروب أصولية لم يفتها شيء مما يسبق حروب اليوم من التدبر وإعمال الروية في جوهرية الأسباب وقيمتها من الأهمية. ونحن نغالي في تزكية أنفسنا إذا ظننا أننا نصنع غير ما صنعوا لو أننا كنا موضعهم محاطين بمثل الظروف التي كانوا محاطين بها.
فهذا العالم الذي نراه أمامنا كان في نظر آبائنا عالما مسحورا، الباطن فيه أكثر من الظاهر، فكان مقسوما إلى منطقتين، استولى الله على إحداهما وتنازل للشيطان عن الأخرى، والناس مختلفون في رقم خريطته، فما كان عند هذا الفريق من منطقة الله يعده الفريق الآخر من منطقة الشيطان.
فالصليبيون أغاروا على المشرق ليستخلصوا علم الله المقدس من حوزة أعدائه، ولو سكتوا عنه لما كانوا أهلا لأن يختارهم الله ويجعلهم شعبه، ولا يرضون ذلك لأنفسهم إلا إذا رضوا لها أن يجردوها من كل صفات النخوة والشهامة؛ وهي كل ذخر الرجل وفخره في ذلك الزمان.
ومع ذلك فالخيار بين الرضاء بهذه المسبة وبين فظائع الحروب الصليبية لم يكن بالأمر العسير لولا خشية العقاب، فأي بلاء وأي شقاء لا ينزله الله بهذا الذي ينفض من حوله علمه ويتركه لأعدائه؟ إن إحباط المسعى وإمحال الزرع وتفشي الوباء أقل ما يتوقع من الجزاء على هذا النكوص المعيب!
وقد كانت العداوات تستقر وتهدأ بعد الوقائع الأولى لولا أن انقسم العدوان المتقاتلان بطبيعة الإقليم إلى شطرين - شرق وغرب. متقدم ومتأخر. ضعيف وقوي. طامع ومطموع فيه - بطبيعة موقعهما لا يمكن إلا أن يتجدد العداء بينهما كلما عرضت أسباب الخلاف، وهي كثيرة لا تخلو منها معاملة من معاملاتهما المتبادلة.
التعصب في العصر الحاضر
هل يخشى أن تعود الإنسانية إلى مثل هذه المواقف في الأجيال المستقبلة؟
كلا! فالدين قد نصلت صبغته عن العروض الخارجية. تقدمت العلوم الطبيعية فعرف الإنسان علل الأشياء وكيف ولماذا تحدث، وأيقن أنها لا تحدث من أجله ولا من أجل عمله، لم يعد رجال الدين وكلاء أشغال الله على الأرض يبيعون الرحمة والرزق لعباده بالمال، وفي وكالاتهم وحوانيتهم التي يسمونها المساجد والكنائس، ولكنهم انقلبوا رجالا كبقية الرجال ليس فيهم من السر إلا ما في كل إنسان. عرف الإنسان من أين تأتيه المنفعة ومن أين تأتيه الخسارة، وأدرك أن تلك الطائفة لا يد لها على هذه ولا على تلك، وأنه لا يحق له أن يبحث عن السبب في كلتيهما إلا في عنايته أو تقصيره فيما هو آخذ فيه. عرف أيضا أن الأديان لا تجعل الإنسان نجسا بطبيعته ولا طاهرا بطبيعته؛ فهو لا يطلب من الإنسان كيفما كان معتقده الديني إلا ما تقتضيه إنسانيته، وهي لا تستلزم أن يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، ولكن كل ما تستلزمه أن يكون عضوا عاملا في بنية الهيئة الاجتماعية، وبعد أن كان كله في قبضة ما وراء المادة أصبح للمادة كله، وارتدت الدينيات من العقل إلى زاوية ضيقة بعيدة عن مشاغل الحياة وعلائق الإنسان بالإنسان، ومن الأرض إلى بقاع مقصورة على المعابد والمساجد والبيع. وهكذا كلما انحسر الدين عن بقعة عادت مجال وفاق ووئام بعد أن كانت ميدان نضال وخصام.
تقليد النساء
النساء أسرع تقليدا؛ لأنهن أشد غيرة. وهن أشد غيرة؛ لأن المشاكلة بينهن في المناقب والمفاخر أقرب مما هي بين الرجال.
دلالة القصص على درجة الأفكار في الأمم
من العلامات على انحطاط الفكر ولوعه بالإغراق والإغراب، فإن ذلك ليس معناه في الحقيقة إلا الجهل بحقائق الأمور؛ ولذلك يعمد القصاص والرحالون في الشعوب المتأخرة إلى تجسيم الحوادث والمبالغة في وصف أبطالهم والتهويل في الأخطار التي يفلتون منها، وتكبير المغانم التي يصادفونها على غير انتظار، والمشقات التي يلاقونها في السياحات والأسفار؛ لعلهم أنهم لا يتمكنون من استفزاز استغراب قرائهم بغير ذلك، فيتوهم القارئ وهو يتصفح إحدى تلك الأقاصيص أن صاحبها يتكلم عن أناس من غير هؤلاء الناس، وأنهم يقطنون بلادا ليست كهذه البلاد، بخلاف قصص العصريين فإنها لا تتضمن إلا وقائع يكاد يشاهدها كل إنسان في البيوت وعلى قوارع الطرقات.
وعلى هذا القياس مبالغات الشعراء والمؤرخين؛ فإنها تقل بقدر انتشار المعارف في الأمة وتقدم أبنائها في الوقوف على الحقائق والاهتمام بالجواهر دون الأعراض.
أخلاق الفرد والجماعة
الخلال الشخصية المستحبة لا يمكن أن تستمد أصولها من مصدر أشرف من كونها صالحة لحفظ الحياة، وكذلك الأخلاق الاجتماعية فإنها لا ترد إلى أكبر من كونها لازمة لصيانة كيان الجمعيات البشرية، والجماهير تقدم رجل العموميات وإن كانت تنقصه الخلال الشخصية على رجل الخصوصيات، وإن كان مستكملا من هذه الوجهة؛ لأنها تستفيد من الأول بأكثر مما تستفيد من الثاني.
الجماعات والأغنام
طالما تذكرت أغنام السودان وأنا أقرأ نظرية جوستاف لوبون في كتابه «روح الاجتماع»: «أن الجماعات أسلس قيادا من الأفراد.» فإن قيادة شاة واحدة من تلك الأغنام عمل شاق يعيا به أشداء الرجال، مع أن سوق قطيع كبير منها لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أطفال صغار.
جوقة العالم
العالم بأسره يشترك في تمثيل رواية مضحكة، وأدعى مناظرها إلى الضحك أنهم لا يضحكون من أنفسهم وهم يمثلون كأنهم جادون فيما يعملون.
المضحكات
المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضروري أن نفتش عن رجل من أمثال أبطال موليير لنغرب في الضحك؛ فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنا للنقص وفي كل عمل موضعا للكلفة والتصنع، والوادع الناعم البال ولو كان مغمورا بالشقاء، ذلك الرجل الذي يعرف كيف يفطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه.
الجمال والجلال
النفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان، هما حب الحياة والخوف من الموت، وبهذين العاملين يتعلق الشعور بالجميل والجليل؛ فالجميل كل ما حبب الحياة إلى النفس وأظهرها لها في المظهر الذي يبسط الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها، والجليل كل ما حرك فيها الوحشة وحجب عنها رونق الحياة؛ فالربيع والصباح والنور والصحة والشباب والحركة والمناظر الرائقة والخضرة والأبنية المزخرفة، كلها جميلة؛ لأنها تنعش الحواس وتذكرها بالحياة، والشتاء والليل والظلمة والمرض والهرم والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة والصروح القوية المتينة التي تنبئ بتعاقب السكان عليها والمعابد والهياكل والقوى الطبيعية الهائلة، كلها جليلة؛ لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها. الجميل مظهر القدرة والجليل مظهر القوة، والنفس تقابل القدرة بالإعجاب والقوة بالخشوع.
الاعتراف بالنقص
لا يعترف الإنسان بشيء مما يشعر بنقصه إلا إذا كان يريد أن يتوصل من ذلك إلى الاشتهار بنوع ما من الكمال؛ فروسو والقديس أوغسطين وهيني لم يذيعوا كل تلك الأسرار الخفية التي سردوها في اعترافاتهم - من غير أن يخشوا أن ينقلها سواهم على غير حقيقتها أو تكون هناك ضرورة ماسة لإذاعتها - إلا طمعا في الاتصاف بمزية الصراحة الفلسفية أو الدينية، وهي أكبر في نظرهم من جميع تلك المزايا التي جردوا أنفسهم عنها بمحض اختيارهم.
الأطفال رجال صغار
نفوس الأطفال أصدق معرض تدرس فيه أخلاق الرجال، فإن جميع ما يضحكنا من طباعهم كالأنانية والغرور الشديد والغيرة الحادة، وحبهم المفرط لاستجلاب المدح والإعجاب يظل كامنا في نفوس الرجال، تتغير أشكاله وموضوعاته من الألاعيب إلى العروض الحقيقية وهو باق لا يتغير، وإنما يضطرون إلى مداراته؛ لأنهم لا يجدون من يحتمله منهم كما كان يحتمله آباؤهم وأمهاتهم.
المساومة في التجارة
كثرة اللجاج والمساومة في بيوعنا تدل على أن تجارنا لا يحسبون حسابهم ولا يعنون بتقدير أرباحهم كما يوافق رءوس أموالهم، بل يدعونها عرضة لتقلبات المصادفات، إما إلى المكسب أو إلى الخسارة، وربما كان هذا الإهمال هو السر في اضطراب السوق المصرية وتذبذب الأسعار بين الهبوط والصعود.
حماية العرض
لا يمتدح الرجل بأكبر من نسبة القوة إليه كيفما كان مذهبه في تفسيرها، ولا يعير بأكثر من اتهامه بالضعف كيفما كان مذهبه في تفسيره، والرجل يشتد حنقه للاعتداء على عرض؛ لأنه دليل على استضعافه ووهن جانبه، فقد كان الرجل يحمي النساء من قديم الزمن؛ لأنه أقوى منهن، وكان المنتصر في عهد القبائل لا يعتز بقوته ويؤيد ظفره وتمام غلبته بأقهر من سبي نساء القبيلة المغلوبة، وقد كان النساء يعجبن بالرجل بقدر حظه من الصفات اللازمة لحمايتهن كالنخوة والبسالة والفروسية والبطش والقوة، فكان ميل المرأة إلى غير رجلها أو إغواء امرأة في حوزة رجل اتهاما له في ذات رجوليته؛ ولذلك تشتد الغيرة على العرض في الأقوام الذين تنحصر صفات الرجولية بينهم في هذه المزايا الجسدانية، ولذلك أيضا كانت الأم أكثر إغضاء عن زلة فتاتها من أبيها، وبعض قبائل البجاة تغض عن المعتدي على عرضها متى خرج من غير باب الخص؛ لأنهم يعتبرون ذلك إقرارا منه بالعجز عن مواجهتهم بالعدوان.
ثمرات اليراع
ألا لا تعدن اليراعة آلة
تسوق لك الرزق الذي بت راجيا
يراع الفتى عود تعرى لحاؤه
ولا يثمر العود الذي عاد عاريا
منظر على غير مرسح
كان صاحب هذه اليوميات في فندق (كتراكت) بأسوان حينما شاهد المنظر المحكي في هذه القطعة: نزلت بذلك الفندق بين السائحات في الشتاء الماضي فتاة كانت موضع إعجاب كل من رآها، وامتازت بشعرها الضافي الطويل على غير المألوف في نساء الغرب، وكأنها أرادت أن تداعب عشاق جمالها الكثيرين، فبرزت يوما في شرفة غرفتها بإزار النوم وهي تمشط شعرها وقد جلل ظهرها وجانبا من صدرها، ونادت بالغلام فأعطته مظلة تظاهرت كأنها تريد أن توصلها إلى أمها، وأشارت له إلى سيدة في ردهة الفندق، فجعل الغلام يغدو ويروح ويعرض المظلة على سيدة بعد أخرى وهو ناظر إلى جهتها وهي تشير إليه، فاستلفتت هذه الحركة إليها الجالسين، فما كادت تتحول إليها أنظارهم حتى انفتلت إلى داخل الغرفة وأومأت إليهم برأسها من وراء الستار كما يفعل الممثلون، وتركتهم يضحكون ويصفقون كأنهم يستعيدون هذا المنظر الشائق:
أشرقت من جوانب القصر كالزه
رة لاحت من جانب الأفق سرا
في إزار يضم جسما من البل
لور أصفى ومن جنى الورد أطرى
وتمشت فألقت الريح منها
كشعاع الأصيل في الصيف شعرا
ثم نادت بناعم يشبه القي
ثار جرا ويشبه العود نبرا
زودت أمها بمسجاة خز
ما تقي كالهواء للشمس حرا
أرسلتها لها ولو علقتها
فوق أهداب شعرها كان أحرى
ووقتها شمسا ولو نشرته
في ذرى القصر أصبح الظهر فجرا
أم تراها لو خاطبت أختها الشم
س أكانت تعصي لها الشمس أمرا
تربية المرأة
لا ينبغي أن يقتصر الغرض من تربية البنت على تعليمها كيف تكون زوجة، إلا إذا كنا نعلم الفتى في المدارس ليكون زوجا، والواجب أن نعنى أولا بتعلمها ما تنشأ به امرأة قادرة على النهوض بنصف أعباء الهيئة الاجتماعية، فإن العشرة الزوجية ليست حرفة يتلقى الطالب أسرارها في دور التعليم، ولكنها عمل كسائر أعمال الحياة يحسنه الإنسان أو لا يحسنه بمقدار ما له من الحذق والاختبار.
مذهب نيتشه
نيتشه عدو الضعف يريد أن يجعل العالم قويا لا بتطهيره من الضعف ولا بأن يهتم بترقية علم الطب، ولكن بما هو أيسر عليه من جميع ذلك، باستئصال الضعفاء منه. يصيح أشياعه: انبذوا الضعيف ولا تأخذكم به رحمة؛ لأن الرحمة تعاكس ناموس بقاء الأصلح في مهمته وتبقي على من لا يستحق البقاء.
ولكن من هو القوي؟ ومن هو الأصلح للبقاء؟
هذا ما لا يمكن أن تعرفه من نيتشه ولا من أشياعه.
إن القوى البدنية لم تعد ذات شأن في تمييز الصالح من غير الصالح؛ فالضعيف والقوي يدرآن عن نفسيهما بسلاح واحد. وأضعف الضعفاء الذي لا يقوى على رفع أخف حمل عن الأرض في وسعه أن يقتل ستة من جبابرة المصارعين بتحريك أنملته. ومع ذلك ففي أي وقت نبدأ بحصر الضعفاء والأقوياء؟ ومن أدرانا أن هذا السقيم الفاني الذي نقلته اليوم لا يصبح صحيحا معافى غدا خصوصا إذا نظرنا إلى ما يرجى من تقدم وسائل العلاج عاما بعد عام، وأن هذا الغليظ الشديد الذي نبقي عليه لا يصبح مثله سقيما في يوم من الأيام؟
ثم من هو الأصلح وكيف نعرفه وبأي معيار نقيس صلاحه؟ وإلى من نكل فرز الصالح من سواه؟ وفي أي عمل نجربه؟ أفي عمل واحد أم نتركه حتى نردده على كافة الأعمال؟ وهل نعتبر صلاحيته بالنسبة إلى فترة محدودة أو بلد معين أم يكون ذلك بالنسبة إلى جميع الأزمان والبلدان؟
ومن أدرى هؤلاء الجراحين الذين لا يحسنون غير البتر علاجا، لعل الرحمة لا تكون من مقتضيات الرقي الإنساني ولوازم الاجتماع البشري إذا كان أصلها غير مشاهد في الحيوان؟
إن نيتشه وأشياعه هم الذي يعاكسون بهذا التداخل ناموس بقاء الأصلح، فإنهم بدلا من أن يتركوه مكبا على عمله ينفي الضار ويبقي النافع يعترضونه في وظيفته ويتحكمون فيما من شأنه وحده الفصل فيه.
تغيير المألوف
أصعب ما على النفوس تغيير مألوف، فلو كان هناك نازلة تلم بالإنسان من دون أن تغير شيئا من مألوفاته لما أحس لها بألم، ولذلك تخف وطأة الحوادث ويهون وقعها على من تتوالى عليهم المصائب ويمارسون تقلبات الأيام.
ولو أن الرجل ينظر إلى غير الدهر وإلى العوارض التي يستهدف لها كل إنسان، ولا يبعد أن تباغته في كل آن ومكان لتلطف عنه لذعتها التي يتلوى من قوارص آلامها الذين تداهمهم على غرة واطمئنان. وكذلك آلام الشيوخ، حزن ساكن لا يخالطه ذلك الوجع الحاد الذي يمتزج بآلام الشباب.
الموت
الموت أعم المصائب وقوعا، ولا يزال أشدها إيلاما وأقلها قبولا للعزاء، على أن ذلك لا يفيد؛ لأنه غير مألوف، ولكنه يدل على أن الإنسان لا يجزع لمصاب غيره كما يجزع لمصاب نفسه.
تواضع الملوك
الرعايا تحتسب للملوك تواضعا ما ليس بتواضع في الواقع؛ فلو علم الملك الذي يتنزل إلى مخاطبة السوقة أن في ذلك ما يغض من قدره، بل لو علم أنه لا يرفع مكانته عندهم لما فعله.
الأثرة
الرجل الإيثاري في الحقيقة يتحرى مصلحته أكثر من الرجل الأناني، فإن الأول يحسب حساب مصالحه في الحاضر والمستقبل، والثاني يقصر نظره على المصلحة الحاضرة.
على أن الأثرة الممقوتة ليست هي التي نفسرها بأن يحب الإنسان الخير لنفسه، ولكنها الأثرة التي أساسها جهل حقوق الغير أو تجاهلها، وهي أثرة عتاة المستبدين والأطفال ومن على شاكلتهم من الجهل بعواطف الناس أو عدم الاضطرار للاعتراف بها، وهي أيضا أثرة من يطلق له العنان لحب نفسه وإرضاء مطامعه، وشر هؤلاء ضررا على الاجتماع في وقتنا الحاضر فئة الرأسماليين الذين تتركهم الحكومات يجمعون الأموال ويتمتعون ويتلذذون ويبذخون بما يسرقونه من أتعاب العمال وأرزاقهم؛ وهذا هو الخلق الذي لا يحسن أن يكون في شخص يعيش بين الملايين من أمثاله ويجب أن تطارده الهيئات الاجتماعية بكل وسيلة؛ لأنه آفة الاجتماع.
الحاجات والتقدم
حاجات السواد الأعظم منا لا تزال حيوانية صرفة. أكبر علامات المرض عندنا الحمية عن الطعام، فلان لا يأكل ولا يشرب؛ أي أنه بلغ أشد الداء أو أشد الغم، يبكي الطفل فلا يخطر لأمه أن أمرا يبكيه غير الجوع، يحرم أكثرنا أكل الفاكهة وشم الزهور وشهود الحفلات وغشيان الملاعب والمتنزهات؛ لأنها - كما يقولون - لا تسمن ولا تغني من جوع، يكد فلاحنا طول يومه، بل قل طول عمره ليجد ما يمسك رمقه، ثم لا تسمعه يتذمر أو يشكو كما يفعل الفلاحون في الأقطار الأجنبية، لا لأنه يزهد كسقراط أو يتقشف كديوجنس، ولكن لأنه يجهل ما يطلبه بعد حشو معدته ودفء جلده، وإذا سمعته يشكو فقل أن تسمعه يتظلم؛ لأنه لا يحدث نفسه بأن هناك أحدا يظلمه حقا من حقوقه. حاجات ما أخسها لا يمكن أن تقنع العجماوات بما هو أخس منها، فإذا صح أن رقي الأمة إنما يحسب بقدر تعدد مطالب الفرد، فما أبعدنا عن الرقي الحقيقي! وما أبعد الرقي الحقيقي عنا!
الرياء
ما رأيت مرائيا إلا وجدته مغتابا نماما. والجراءة على الناس في غيبتهم كالتزلف إليهم في حضرتهم، كلاهما علامة الجبن والصغار.
الكلام والأوزان
يظهر أن قوالب الجمل وأوزان الكلمات أثبت انتقاشا في الذهن من حروفها؛ فربما نسي الإنسان معنى الكلمة أو حروفها ثم ذكرها بوزنها، وقد يسبقه لسانه فيخلط بين الحروف مع حفظ الأوزان، فإذا كان يريد أن يقول مثلا: وطفقا يخصفان، نطق بها: وخصفا يطفقان، كما نسمعه أحيانا من بعض الحفاظ، ولعل سرعة استظهار الأشعار والكلام المقفى سببه مثل هذا.
العالم في نظر أكمه
حاولت أن أقف على صورة العالم في مخيلة غلام أكمه، فقال لي إنه يراه كأنه هيولى مضطربة في ظلمة قاتمة لا أول له ولا آخر، قلت: لا تأس يا بني، إن أنفذ الناس بصرا أو بصيرة لا يرى منه أكثر من ذلك.
الموسيقى
التلازم متين بين الأصوات والانفعالات الباطنية، وهو أمتن بين الانفعالات والحركات البدنية، فإن الحيوانات والوحوش والهمجيين والأطفال والنساء أحيانا تترجم عن شعوراتها بالصياح على كيفيات مختلفة مقرونا في الغالب ببعض الحركات البدنية، ثم إن لكل من حالاتنا النفسانية لهجة خاصة، وكل لهجة هيئة تناسبها؛ فلهجة المسرور والظافر والشاكي والحزين والمتألم والغضبان تتباين تباينا يشعر باختلاف مصادرها، وإنك لتسمع الخطيب الذي لا تفهم لغته فتعلم من تغير لهجته وارتفاع صوته أو انخفاضه إن كان راضيا أو ساخطا، حاثا أو محذرا، مبشرا أو منذرا.
فإذا أوقع الموسيقار صوتا تنبه الإحساس الذي يناسبه على الأثر في نفوسنا - كأنهما فيها متلازمان لا ينفكان - وفي الأصوات التي يشتد لها طرب السامع يتنبه مع ذلك الإحساس حركة بدنية مطاوعة للنغم الذي يسمعه، فيهز رأسه أو يحرك عضوا من أعضائه، وهذا أول درجات الرقص ثم يرقص، وقد لا يملك نفسه مع الرقص من الترنم بالصوت الذي يسمعه أو الغناء بما على وزنه من الكلام المفهوم.
فنحن في قبضة انفعالاتنا، تتلاعب بنا كما تلعب الأم بوليدها بين ذراعيها، نرقص ونثب ونصيح بالرغم منا كما يفعل الهمج والعجمات، وترانا في ألطف مظاهر أنسنا نحن إلى همجيات أولئك الجدود.
نهاية الرقي
الرقي العصري كفيل بأن يصل بالإنسان إلى درجة تكون فيها إرادته قانونه، وترفع عنه كثيرا من سلطة الحكومات عليه.
الميراث
ليس للإنسان حق أن يحتجز من الثروة العامة إلا بقدر ما يقوم لها من العمل، فالرجل يسقط حقه في التصرف بثروته متى انقطعت أعماله لموته، وعلى الهيئة الاجتماعية الإنفاق من ريعه على من يهمه أمرهم من بعده.
يترك الرجل لابنه ضيعة، والضيعة قبل عشرة أعوام لا تكلف صاحبها إلا سعيا طفيفا، ولكنها لا تنال بعد عشرة أعوام إلا بتكبد المشاق والصعاب، فيتمتع ذلك الابن الكسول بجزء من الثروة العامة من غير أن يقدم لها عملا في نظيره، وإلى جانبه رجل مجد نشيط يقطع عمره كدا وكدحا دون الوصول إلى اقتناء ضيعة مثل ضيعته؛ وهو خلل متشعب في تقسيم ثروة الأمة لا يستقيم حال الجمعية البشرية إلا بتلافيه.
فراسة المرأة
المرأة ألطف زكانة وأفطن إلى تشابه الملامح من الرجل، فقد رأيت بعض النساء يرين الطفل الصغير قبل أن تتشخص ملامحه فيحكمن بأنه من آل فلان وأن فيه شبه العائلة الفلانية، وقد لا يبدو لغير المتأمل أن بينهما أدنى شبه، والظاهر أن كثرة اشتغالهن بتجميل الملامح قد أكسبهن هذه الخبرة فيها.
التاريخ القديم
كتب التاريخ القديم أقرب إلى الإحصائيات أو سجلات المواليد والوفيات منها إلى التاريخ، فإذا قرأت فصلا عن رجل عظيم ذكروا لك اسم أبيه وأمه ويوم ميلاده ويوم وفاته والبلد الذي نشأ به والبقعة التي قبر فيها؛ فعرفت اسما ولقبا ويوما وبلدا وقبرا ولكنك لم تعرف رجلا.
الطلاق
إن أكثرنا يظن أن المرأة من متممات زينة البيت، فكما أن في البيت متاعا وأثاثا عن كل صنف، كذلك يحسن أن تكون فيه واحدة أو أكثر من صنف النساء، وإن بعضهم ليغير زوجته مرارا ولا يغير ملاءة سريره.
تعدد الزوجات
لا أعلم لماذا يسوغ للرجل أن يستحوذ على أكثر من أربع نساء، ولا يسوغ للمرأة أن تطمع في أكثر من ربع رجل إن لم يكن أقل؟
أقذار المجد
من حسن حظ العظماء أنهم وحدهم الذين يطلعون على الدنايا التي يتلطخ بها طلاب المجد الكاذب.
التغرير
التغرير بالعقول عمل يسير، ولكن نزع الغرور منها من أصعب الأمور، ولأن تمني الإنسان بالباطل أحب إليه من أن تيئسه بالحق.
أحاديث الشبان
من شبان العصر من إذا جلست إليهم لتنصت إلى محادثاتهم حرت في تحديد موضوعها، يبدأ أحدهم بالكلام ولا يتمه ويسأل السؤال ولا ينتظر جوابه، يغني ثم يقتضب الغناء ثم يضحك، ينتقل من كلام تافه إلى كلام أتفه بلا مناسبة أو صلة بين الكلامين، بحيث يسأل الإنسان نفسه أما كان يمكن أن يستغني هذا عن لسانه؟ يشير بيديه ويهز رأسه وقدميه، ويدور هنا وهناك بغير غرض ولا موجب، كأنما عليه أن ينطق بقدر معين من الكلمات ويأتي بعدد معين من الحركات، فهو لا يقصد من كل إشاراته وعباراته إلا أن يصيب العدد المطلوب.
الحرب
من أقوال فتزجرالد على ما أذكر: «إن الحرب تجر إلى الفقر، والفقر يحث على العمل، والعمل يورث الغنى، والغنى يسبب الشقاق، والشقاق يفضي إلى الحرب ...»
ولا أظن أن هذه السلسلة ستحفظ نسقها في هذا الزمان، بل أرى على العكس من ذلك أن السلم سوف يكون في المستقبل مسيجا بسور من الذهب والفضة، فإن انتشار المعاملات واشتباك المرافق الاقتصادية بين الأمم سيكون أول باعث على اتقاء مواقف القتال.
فقد ضعفت الخلافات التي تفضي إلى الحرب بمقدار ما عظمت خسائرها، وكلما تقدم الزمن زادت هذه فداحة وتلك ضعفا.
فالحرب لا ترتكز على شيء من الطبائع البشرية، بل هي تنافرها كل المنافرة؛ فالرجل لا يخوض غمراتها إلا فرارا من عار الناس أو عقاب الحكومة أو سخط الله أو دفعا لخطر على حريته، فهو يقدم على موت مشكوك فيه فرارا من موت محقق أو ما هو بمنزلة الموت المحقق.
فالشجاعة العسكرية عادة اصطناعية، والناس جبناء بطبيعتهم؛ أي أنهم سواء في الخوف من الموت حتى الجنود، على أن هؤلاء يتظاهرون أنهم لا يسوون فقط بين الموت والحياة، بل إنهم يعشقون الموت ويبغضون الحياة، فيقول أحدهم متهكما كلما انحنى جندي في ساحة الوغى من طريق رصاصة توشك أن تثقب صدره: أهي صديق تنحني له؟ كأنه ليس في نفوسهم من كراهة الموت ما يتجشمون من أجل اتقائه إحناء الرأس!
قال تولستوي، وهو قائد قديم: «إن شجاعة الجنود من جنس شجاعة البغال التي تقف إلى جانبهم مشدودة إلى مدافعها، تحاول الإفلات وما تستطيع انفلاتا.» فمهما أوتي المرء من الشجاعة فلا تصدق أنه يقتحم الحرب وله مندوحة عن اقتحامها، كذلك لا تصدق أن إنسانا يواجه الحرب بطبيعة ساكنة؛ لأن الطبيعة البشرية تأبى التعرض للخطر وتنفر من دواعي الهلاك؛ فالهمجيون يهيجون طبائعهم قبل الحرب إلى حد الجنون بدق الطبول وقرع الدفوف والولولة والصياح، والمتمدنون يتشاغلون عنها ويتحاشون ذكر القتلى والإصابات والخسائر وكل ما يخلق فيهم الشعور بحقيقة موقفهم، فيصرفون خواطرهم عن هذه الهواجس بسفساف القول وتوافه الأحاديث؛ فلا تسمع بينهم لحوادث الحرب ذكرا أو خبرا كأنما ليس فيها ما يستحق المبالاة، بينما تكون الحوادث سمر أخلاط الناس على بعد مئات الفراسخ والأميال. هذا على أن تعرض مئات الألوف من الناس في صعيد واحد لخطر واحد من شأنه أن يهون الأمر على كل منهم ويشدد عزيمته على اقتحامه.
وإنه ليس أسخف من أن تسمع ضابطا يشكو ويتأفف من حصن تنهمر عليه المقذوفات من كل جانب، وتنفجر حوله وعلى جدرانه القنابل بين كل دقيقة ودقيقة، وتسأله فيقول لك: إن الطريق إلى الحصن موحلة. فهو يعاني صعوبة في السير عليها.
قال بعض قواد الألمان حديثا: إن الحرب تنمي في النفس كثيرا من الصفات الممدوحة، وأهمها تضحية النفس في سبيل الواجب، على أن هذه هي الفضيلة الوحيدة التي لا تنميها الحرب وتنمي ما يناقضها تماما.
فكل جندي وكل ضابط نابليون صغير - كما يقول تولستوي - يزهق بقدر ما يمكنه من النفوس وييتم بقدر ما يمكنه من الأطفال، ويدمر بقدر ما يمكنه من الدور ليلصق بذراعه شريطا أو يحلي صدره بنيشان يخطف به أبصار البسطاء.
ومع هذا فمهما كان نصيب رأي ذلك القائد من الصواب، فالإنسانية يجب ألا تعول في اكتساب هذه الفضائل على مثل هذا البرنامج الصعب؛ فإنه برنامج يكلفها من النفوس والأموال ما هي في غنى عن احتماله.
فالأمم الآن لا تلجأ إلى الحرب إلا كآخر وسيلة لحل الخلاف، وأين هو الخلاف الذي يربو الضرر فيه على ضرر الحرب المترتبة عليه؟ وهل يبلغ تنازع البقاء بين أمتين في عصرنا هذا أن تسحق إحداهما الأخرى لتتخلص من مزاحمتها، ويخلو الجو لمتاجرها؟
إن أقوى بوادر الخلاف قائمة الآن بين إنجلترا وألمانيا، وهذا الخلاف لا حقيقة له؛ فهو مبني على توهم كل من الأمتين أنها قد تتعرض لمهاجمة الأخرى في المستقبل، فإذا سألت: هل مصلحة ألمانيا تقضي عليها بغزو إنجلترا أو إحدى مستعمراتها؟ وهل تقضي إنجلترا بغزو ألمانيا أو إحدى مستعمراتها؟ وهل الفوز في المنافسة التجارية يتوقف في المستقبل على هذه الوسائل العنيفة؟ كانت إجابتك على كل شواهد الأحوال سلبا.
والأمم لا تترك اليوم لكل أمة تمام الحرية في الموازنة بين مقتضيات الحرب وموانعها بالنسبة لها وحدها؛ فإن أكثر الأمم تشترك في تحمل خسائرها وإن لم تشترك في حشد الجنود وجمع الذخائر، فقد بلغ من استحكام الروابط الاقتصادية بينها أن أقل إشاعة بوقوع الحرب في أقصى المعمورة توقع الارتباك في السوق المالية، فتنخفض الأسعار وتهبط الأسهم وتتزعزع الشركات عدة أيام.
والذي يشاهد من انتشار نفوذ أحزاب الاشتراكيين والعمال، وهم الفريق الذي لا مصلحة له في الحرب، ذلك كله مما يقوي الأمل في أن يوم إبطال الحرب أقرب مما ينتظر بكثير.
الاستخدام
موظفنا الصغير يبيع حريته ووقته وعمله بخمسة جنيهات في الشهر، يناط تقدير كفاءته بإرادة غيره، وربما أريد منه فوق الكفاءة في العمل كفاءة أخرى في الملق والدهان، ينقل من بلد إلى بلد بغير اختياره، ويجبر في كل مرة على ربط صلاته بقوم وقطعها من آخرين، ثم تحظر عليه الحكومة اقتناء الأرض والعقار في الجهة التي يشتغل بها - كأنها تركت له ما يقتني به - وهو معرض في أية ساعة للنقل إلى أية جهة فأين يباح له الاقتناء؟ وتحرم عليه الاشتغال بأمور البلد الذي هو فيه كأنما هي اقتلعته من العالم الخارجي من جذوره، وهو مع ذلك يحسب أنه الرابح في هذه الصفقة، وأنه لا يمكن أن يجد أهنأ من هذه العيشة، يصل إليها بعد أن يتخطى عشرات المزاحمين عليها.
مباراة في الخيال، بين حسن الإنسان وحسن البستان
الموضوع
أخجلت يا ورد خدود الحسان
فاحمر منها ناضر كالدهان
ورعت يا فل عيون المها
فأطرقت تطلب منك الأمان
وزمت الغيد شفاها لها
لما انجلى ثغرك يا أقحوان
ومالت القامات غضبانة
لما انثنى في روضة غصن بان
وأين شدو الطير في مزهر
من مزهر تشدو عليه القيان
الأسباب
فالورد ما احمرت له وجنة
من ريبة حاشا لورد الجنان
والأقحوان الغض لم يبتسم
خبثا ولم يدنس بمين اللسان
وقامة الأغصان لم يثنها
كبر ولم يعطف بهن افتنان
وذاك صداح أهازيجه
لا تشترى بالتبر أو بالجمان
لا يحرم الماهن من لحنه
ما يسمع العاهل ذو الصولجان
الحكم
ما أحسن الحسن وأحسن به
من زينة للناس لولا الحسان
العشق
لا أرى العشق إلا نزوة من نزوات الشهوة البهيمية يخصصها في الإنسان بامرأة - دون سواها - تفاوت الملامح في إناثه، وتعم في البهائم؛ لأن تماثل إناثها في الخلقة لا يدع ما يحتم الانجذاب إلى أنثى بعينها من بقية الإناث.
والحب الشريف والحب الخسيس معدنهما واحد وغرضهما واحد وطبيعتهما واحدة، والذين يتوهمون أنهم يعشقون لمحض التفرج على الجمال الصوري يخدعون أنفسهم، فإن من التماثيل المنحوتة ما هو أجمل صورة من أجمل امرأة في العالم، ومع هذا فنحن لا نشغف به ولا نتدله في حبه، وغاية الفرق بين الحبين الشريف والخسيس أن الأول حب العقلاء الذين يسوءهم تضحية أحبائهم لشهواتهم، وأن الثاني حب الحمقى الذين لا يفكرون في غير قضاء الشهوة.
وهو - أي العشق - أحد الشهوات؛ لأنه الشهوة الوحيدة التي لا تتم إلا بتراضي شخصين يحتاج كل منهما إلى الشمائل والأوصاف التي يصبو إليها الآخر ليقترب كل منهما إلى صاحبه من بين ألوف الرجال والنساء، فالخيبة في العشق هي اليأس من الذات التي لم يستحوذ على إعجابنا سواها من كل هذا الملأ، والتي لا يهمنا من كل هذا الملأ أن يعجب بنا سواها؛ هذه الخيبة أو هذا اليأس ليس معناه فقط عدم التمكن من قضاء شهوة، بل معناه أيضا أن العاشق ناقص فيما يسترعي إليه قلب المعشوق الوحيد الذي لا يبالي إن كان كاملا من هذه الوجهة في نظر غيره، أي ناقص فيما هو به رجل يستحق إعجاب المرأة التي وقع عليها اختياره من النساء، أو فيما هي به امرأة تستحق إعجاب الرجل الذي وقع عليه اختيارها من الرجال، بغض النظر في جميع ذلك عن فوارق الدرجة والمقام ، فإن هذه مميزات تميز رجلا على رجل أو امرأة على امرأة، ولكنها لا تميز ذكرا على ذكر أو أنثى على أنثى.
قطرتا ندى على فسيلة قبر
إمام عييت في الدنيا جهادا
قضيت وما قضيت بها مرادا
وما أبلاك إلا الهم داء
وشر الداء ما نال الفؤادا
ما كنت أقرأ مناعي الجرائد؛ لأنها بكاء مأجور كبكاء النائحات، لا تصادف فيها عين القارئ إلا ما تصادفه على ألواح الأضرحة عند النحات من أعلام مجردة لا تتبين وراءها وجها، ولا تستشف لها معنى.
ما كنت أقرؤها من قبل، ولكني في ذلك اليوم قرأتها، فقد كانت تبدو عليها كباوة الحزن وتعلوها غبرة الكمد، فقرأتها ثم قرأتها فإذا هي تنعي إماما العبد، فأعدت قراءتها فإذا هو بعينه إمام ... صاحبي إمام الذي ما تعودت أن أقرأ اسمه في الصحف إلا مقرونا بملحة من ملحه الرقيقة أو طرفة من طرفه المستظرفة.
أبيت أن أصدق الخبر، والنفس البشرية إذا أبت الموت لأحد لم تشأ أن تصدق نعيه، فما أكذب تعلاتك أيتها النفس! كان ذلك لو كان كل أمر إنما يجري على هواك ووفق مرادك، ولكن ما هذه التعلات منك والأمور كأنما تجيء عمدا على خلاف ما ترومين وبضد ما تشتهين.
فسقطت من عيني دمعتان ما أردت لهما إرسالا ولم أحاول لهما كتما، دمعتان ليستا بالحارتين؛ فقد أطفأت الأسقام جذوة قلبي وتركته جلدة ميتة ما تحس ولا تألم، دمعتان لا تتقد فيهما حرارة اللهف، ولكنهما مشبعتان بكل ما في دموع الأصدقاء على الأصدقاء من مرارة الشجو وغضاضة الأسى.
فذكرت لإمام الأمس المدرج اليوم في وحشته ساعات طيبات ما كنا نحتسبها للزمن، ولكنها الآن حسنة من أجمل حسناته لو أنها تعاد، وضحكات مغتصبة في غفلة الأشجان والأكدار، هي الآن عبرات تشرق بها عيون أصدقائه والعارفين بظرفه وأدبه.
وذكرت له جلساتنا في قهوة إستانبول التي كان يختلف إليها كثيرا، نأوي إليها في قيلولة الظهيرة نستنشق هواء الحديقة ونسمع منه أخف من نسماته فكاهة وأشفى منه للنفوس نكات يفرج عن الصدور كربها وهو أشد الناس كربا، ويزيح عن القلوب غمها وهو أفعمهم بالغم قلبا.
لكن الآن؟
الآن قد مات!
مات قبل أن يداوي الدهر القاسي طعنة من طعناته التي أثخن بها جسده النحيل، مات قبل أن تبتسم الدنيا لفؤاده الكسير مرة بعد ذلك العبوس الطويل، مات في عنفوان الصبا ومقتبل الشباب.
فالوداع أيها الصفي الوفي وداعا أبديا ليس يعقبه سلام، والفراق أيها الصاحب الودود فراقا سرمديا لا مطمع بعده في لقاء.
الألعاب غير الرياضية
إذا انتشرت الألعاب غير الرياضية كالورق والدومينو والنرد والشطرنج والسيجة وأمثالها كان ذلك دليلا على كثرة البطالة أو نضوب مادة الحديث في الوسط الذي تنتشر فيه، وكلاهما دليل التأخر.
النقود والسخاء
يهون البذل في الجهات التي تتعامل بالمقايضة أكثر من الجهات التي تتعامل بالنقود، فإن الدرهم قد تقضى به عدة أصناف مما يشرى بقيمته، على حين أن مقدارا بقيمته من الحنطة أو الأثمار أو الخبز لا يؤدي بعينه في غير ما يستعمل له عادة، والمتكففون وأبناء السبيل يطوفون على الفلاحين في أيام الحصاد فينفحونهم بحفان الغلال والحبوب عن طيب نفس، وقد يسألونهم مليما فلا يسمحون به وهو أقل قيمة مما يعطون.
بقايا الميثولوجي
في الميثولوجي القديمة - والحديثة أيضا - كثير من الأبطال الذين ولدوا من آباء آلهة أو أنصاف آلهة وأمهات من عذارى البشر.
وفي أيامنا هذه من يعتقد إمكان التزاوج بين رجال الإنس ونساء الجن، وأن لبعضهم أولادا من بنات البحر يدعون آباءهم بالمعاشرين.
الفضيلة المأجورة
إذا كنا نعد المرابي الذي يقرض بسعر خمسين في المائة رجلا طماعا مغتالا؛ فليس من الزهد ولا من حب الخير أن يقرض الرجل ربه بسعر ألف في المائة مؤجلة إلى يوم الحساب.
وإذا كان الرجل الذي إنما يمتنع عن السكر والمقامرة خوفا من محاضر البوليس لا نراه في نظرنا رجلا تقيا نزيها، فليس من الاستقامة والفضيلة أن يتركهما الرجل خوفا من نار الجحيم.
وإذا كنا لا نستعظم من الطفل الصغير أن يحفظ درسه لأنك وعدته بتصويره، أو يتجنب اللعب لأنك أخفته من الغول؛ فالرجل الكبير الذي يفعل الخير طمعا في الثواب ويبتعد عن الشر خوفا من العقاب لا يأتي ما يستحق عليه الإطراء والإكبار.
إن كل إنسان يعمل عملا فإنما يترقب من ورائه نفعا لشخصه، ولكن يجب أن يكون ذلك النفع نتيجة محتمة تستلزمها طبيعة عمله ويرتبط بها العمل ارتباط النتيجة بالمقدمة، وليس مكافأة أو أجرا ينتظره من سواه.
المبادئ
الرجل الذي لا يتقيد بمبادئ عامة يطبق عليها آراءه الخاصة، إما أنه رجل سطحي يجهل سر العلاقة التي تماثل بين الحوادث؛ لذلك يجهل كيف يحكم عليها حكما عاما يوحدها في نظره، وإما أنه رجل محنك يدرك سر علاقاتها فيحكم على كل عمل على حدته؛ لأنه علم بالاختبار أنه لا يحدث عمل يماثل الآخر من جميع الوجوه، ويغلب أن يكون صاحب المبدأ شخصا نظريا ناقص الاختبار.
الاعتماد على الذات
إن الذي يكل إلى الناس تقدير قيمته يجعلونه سلعة يتراوح سعرها بتراوحهم بين الحاجة إليها أو الاستغناء عنها.
والطريقة المثلى أن يقوم كل إنسان لنفسه قيمتها؛ فإن المرء - كما يقول بعضهم - يساوي القيمة التي يضعها لنفسه، ذلك خير من أن يطرحها في المزاد على ألسنة الناس.
شرف المهنة
صاحب المهنة يباهي بمهنته كأنه لم يرغب فيها إلا بعد أن تبين مزاياها، وهو يضجر منها كأنه سيق إليها قسرا؛ وذلك لأنه حبا لنفسه يود لها - بما في وسعه - أن يكون أقل الناس تعبا وأكثرهم اعتبارا.
بماذا يشقى الشعراء؟
أصحاب القرائح الشعرية لا يتمتعون بالحياة الحقيقية كبقية الناس؛ فإن حياتهم كلها ذاهبة بين أمل في المستقبل أو ذكرى للماضي، وقل أن تستقر بهم نفوسهم في الحاضر الراهن؛ لأنه دائما على غير ما يشتهون. والشاعر مكتوب عليه الشقاء ما دام مطبوعا على مواهب الشعراء، فهو حاد الخيال تصور له قريحته العالم حافلا باللذة والنعيم مترعا بالصفو ودواعي الهناء مما لا يصدقه الواقع، وتريه الناس على صورة من خلوص الضمائر وصفاء السرائر وطهارة الأخلاق تبرهن المعاشرة على خلافها، وهو لطيف الإحساس دقيق الشعور يوجعه ما لا يكاد يحس به غيره، وتفعل في نفسه الوخزة الهينة ما لا تفعله الطعنة القاسية في نفس غيره، وهو فاتر الهمة، ميال بطبيعته إلى الدعة والاستسلام، محروم من العزيمة الصارمة التي تمكنه من تحقيق أحلامه العديدة وإدراك آماله البعيدة، وهذا من أشد ضروب الشقاء كما قال شاعر منهم:
وأتعب خلق الله من بات آملا
وأقصر عما تشتهي النفس نائله
وهو سليم الطوية طيب القلب، ينطلي عليه خداع الناس وختلهم، وتغره تمويهاتهم فيركن إليهم، ثم لا يلبث أن تكشف منهم الأيام ما يخلف ظنه ويخيب ثقته، وهو عجول كالصبي تتحكم فيه إحساساته الوقتية كأنه الصائم بانتظار الإفطار، سرعان ما تبدو له النعمة بعد ضنك فينغمس فيها غير حاسب للعاقبة حسابا أو مبق لغده بقية، فإذا ولت أيام الرخاء وجاءت بعدها أيام الشدة كان ذلك أدعى إلى طول حسرته وتنغيص عيشه، وهو سريع التقلب كثير الضجر لا يألف البقاء على حال واحد؛ فلا يصبر على الشظف وهو يعرف الترف، ولا يرتاح للفقر وهو يفهم ما هو الغنى؛ فبغير هذه الأطوار - التي هي من مستلزمات سرعة الخاطر، وهو من مستلزمات سليقة الشعر - لا يكون شاعرا مطبوعا، وبها لا يكون سعيدا، إلا أن الطبيعة التي سلطت عليه كل هذا الشقاء لم تحرمه مما يعينه عليه؛ فكما أن خياله يمنيه باللذة الوهمية كذلك يخفف عنه الألم الواقع، وكما أنه شديد الإحساس بالحزن كذلك هو شديد الإحساس بالسرور، ولئن كان محروما من جمع الأموال وتأثل العقار واقتناء القصور والضياع، فإن له نوعا من الارتفاق في كل شيء يراه. قال أديسون في رسالته عن الخيال:
ربما أحس مثل هذا الرجل في مشاهدة المروج والبساتين بارتياح أكبر مما يجده بعض الناس لامتلاكها، فكأن ذوقه الدقيق يخوله نوعا من الامتلاك في كل ما يقع تحت نظره، ويجعل أبسط ما في الطبيعة وأبعد مناظرها عن الصقل والتهذيب تشترك في ترويح نفسه وتطييب خاطره؛ وكأنه ينظر إلى هذا العالم على نور غير نور الشمس، فيكشف منه غير ما يكشف ذلك النور من ذخائر تحجب نفسها عن أكثر من تراهم من الناظرين.
داء الحياة
لقد ثقلت على نفسي حياتي
وأشفق عائدي وشكت أساتي
سئمت فما أريد اليوم إلا
دواء الموت من داء الحياة
إذا كانت حياة المرء سجنا
فشق اللحد باب للنجاة
القول والقائل «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» قاعدة لا يصح إطلاقها في كل حال؛ فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها؛ فإن كلمة مثل قول المعري مثلا:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشئون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.
الآداب القديمة
الآداب القديمة مبنية على جهل فاضح بالغرائز الرئيسية في الإنسان؛ فهي تقول له: من نظر إلى امرأة أجنبية واشتهاها (فقط) فكأنما زنى. من أحب الحياة ورغب في حطام الدنيا فمحال أن يكون صالحا. من عمل حسنة يريد بها الجاه بين الناس فقد انتكس عمله. الحزن لفقد البنين والأصدقاء إثم وكنود إلخ، ويزيدها جهلا على جهل أنها لا تعد هذه الأميال من دواعي فطرته، ولكنها تراها وساوس من روح خارجية توسوس له بالشر وتبعده عن الخير.
الإصلاح الاجتماعي
قد نعرف ما هو الفاسد من نظامات الاجتماع، ولكنا لا نعرف ما سيكون صالحا منها، نقدر أن نهدم بناء متصدعا ولكن لا نقدر أن نقيم في موضعه بناء جديدا، جهد ما يطلب من المصلح الاجتماعي أن ينبه إلى العيوب والأغلاط التي في مجتمعنا فنتلافاها، أما أولئك المصلحون الذين يخرجون كل يوم للناس بنظامات وشرائع ودساتير ومذاهب يدعونهم إليها بزعم أنها كافلة بصلاح الاجتماع فلا يمكن أن يقال: إنهم يتجاوزون حيز التخمين إلى التحقيق؛ ذلك عمل انفرد به الزمن ولم يشرك فيه أحدا.
الضحك
للضحك عدة أسباب أكثرها يدور حول محور واحد هو الاغتباط بأنفسنا، اغتباطنا إما بما نحسه من كمالها أو بسلامتنا من النقص الذي نكشفه في سوانا.
ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورا برجحانه، فهو لا يضحك في الأحوال التي رجحانه فيها معروف غير مجحود، فالرجل المعروف المكانة ليس يسخر من تصرف الصعلوك الوضيع وإن كان مضحكا في ذاته، إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهي بطبقته، أو من أهل بلاد ليباهي ببلاده.
وقد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده، فلما كان ملوك أوروبا وأباطرتها وأمراؤها وسواسها وقوادها مجتمعين في سنة 1851 في فينا، وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت، وقد جلسوا يصلحون ما أفسده ويعيدون ما درسه من معالم أوروبا، أعلن في المجلس في 11 مارس من تلك السنة أن الرجل قد أفلت من جزيرة ألبا، وأنه قد عاد ثانية إمبراطورا على فرنسا، فوجموا هنيهة ثم ارتفعت لهم ضحكة طويلة عالية كأن كلا منهم يقول: إن هذا الكروسيكي لم يعبث بي وحدي، بل عبث بنا جميعا.
البكاء
يبكي الإنسان لغير ما يضحك له، يبكي حين يظهر به النقص والعجز ظهورا لا سبيل للمنجاة فيه، يبكي في المواضع التي يشعر لديها بالقهر التام، ويتحقق له تجرده عن الحول والقوة حيالها، في تلك المواضع يقول المسلم متمثلا: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كأنه لا يريد أن يكون ضعيفا إلا أمام الله الذي يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم في الضعف أمام حوله وطوله، والأطفال والمستضعفون أكثر الناس بكاء؛ لأنهم أقلهم اقتدارا، على أن عدم البكاء لا يفيد في أكثر الأحيان القدرة على دفع المصاب، فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة؛ كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار على كل حال.
الغنى والسعادة
لا تحسدن غنيا في تنعمه
قد يكثر المال مقرونا به الكدر
تصفو العيون إذا قلت مواردها
والماء عند ازدياد النيل يعتكر
الحرية الشخصية وتقدم الحركة الاقتصادية
في البلاد التي تشتبك فيها المصالح وتتوشج الأعمال تجد الناس ينساق بعضهم إلى معاملة بعض قسرا، وكثيرا ما لا يكون للرجل اختيار في معامليه أكثر من اختياره في أقربائه وذويه؛ فلا ينظر منهم ولا يقدر أن ينظر إلى غير الغرض الذي يقصدهم من قبله؛ فمن ثم كان كل عامل لا يعنى بغير تجويد عمله، وليكن بعد ذلك سكيرا أو مقامرا، نصرانيا أو يهوديا، ملحدا أو مؤمنا، محافظا أو حرا، فذلك ما لا يسأله عنه أحد؛ فاحترام الحرية الشخصية - الذي معناه سقوط رقابة البيئة عن الفرد - يكون في مثل هذه الأقطار على أتمه، بل يكون من الآداب الاضطرارية التي لا يحض عليها بالرسائل أو المقالات.
القوة والأخلاق
إذا كانت الحياة صراعا بين القوة والضعف، يبقى فيه الظافر ويتوارى المهزوم، فالقوة باختلاف معانيها محبوبة إلى كل إنسان، والضعف باختلاف معانيه مكروه عند كل إنسان، وكذلك كل ما أفاد القوة فإنه محترم محبوب، وكل ما أفاد الضعف فإنه محتقر مرذول، ومن الأعمال ما يكون مستحسنا ومستقبحا باختلاف عمل القوة فيه، وهذا السطو كان مدعاة الإعجاب فأصبح مدعاة الاحتقار، وما تغير فيه إلا أداته؛ فقد كان يستعان له في العهد الماضي بالشجاعة والإقدام، فأصبح اليوم يستعان له بالجبن والنذالة، فلو حللنا أسمح الخلال وأنبل السجايا لما ألفيناها إلا إشارات تلمع إلى القوة من قريب أو بعيد، يتسم الإنسان مضطرا ليحمي بها نفسه ويمكن لها في الحياة.
فالصبر قوة؛ لأنه تغلب على الأمر الذي يفرق منه غير الصابر، وعدة يتدرع بها الصابر في الملمات.
والرحمة - وهي هنا ضد القسوة - قوة؛ لأنها لا تكون إلا من الأقوياء على الضعفاء ومن الوادعين على المبتلين.
والكرم قوة؛ لأنه علامة استغناء الرجل عن الناس بقدر احتياجهم إليه، كما أن بذل علامة القدرة اكتسابه في كل آن.
والقناعة قوة؛ لأنها تدل أيضا على استغناء الإنسان بنفسه عن الناس.
والتواضع قوة؛ كأن المتواضع يرى أن قدره أظهر من أن يتكلف إظهاره بنفسه.
والعفة قوة؛ لأن العفيف يزجر نفسه فيصونها عن زجر الغير لها، ويراعي حقوق الناس طوعا فيوقرها عن إكراههم له على مراعاتها.
والحلم قوة؛ لأن الحليم بالحلم لا يستفزه تطاول الناس كأنه أقل من أن يؤثر على مكانته.
والحياء قوة؛ لأنه ينزل صاحبه منزلة الوقار ويعصمه عن المهانة التي يلقاها أهل الوقاحة والابتذال.
والتبصر قوة؛ لأن المتبصر يسلم بالأمر الذي لا بد منه كأنه يفعله مختارا قبل أن يرغم عليه.
والصفح قوة؛ لأنه عنوان القدرة الدائمة التي لا تمسها إساءات الناس وعدوانهم، والتي إذا أبقت خصمها اليوم فلأنها قادرة على الاقتصاص منه في أي وقت تشاء.
وسلامة الضمير قوة؛ لأن عدم الاحتراس من الناس يشير إلى عدم الخوف منهم، كأنهم لا يستطيعون أن يصلوا بسوء إلى صاحبه.
والعدل قوة؛ لأنه مساواة بين من يخشى بأسه ويطمع في مساعدته، وبين من يرجى له نفع أو يخشى منه ضرر.
والصدق قوة؛ لأن الصادق لا يضطر كالكاذب إلى إخفاء الحقيقة رهبة من أناس أو رغبة فيهم، ويقرب من الصدق في هذا المعنى الوفاء.
والزهد قوة؛ لأنه غنى سلبي عما ينكب الناس على طلبه.
والورع قوة؛ لأنه اعتصام بقوة الخالق ترفعا عن قوة المخلوقات.
واحترام الضعف قوة؛ لأن احترام الضعفاء كاحترام الأقوياء يدل على أن خوف القوة ليس هو الحامل على الاحترام.
وجميع هذه الفضائل تشترك في فضيلة أخرى وهي أنها تستجلب ثقة الناس إلى أربابها، وتوقيهم الصغار الذي يتلبس به الذين يشتهرون بأضدادها.
على أنك إذا حللت الرذيلة من وجهة أخرى لما وجدت إلا أنها اختصار الطريق إلى الغرض تهافتا من النفس وعجزا عن الصبر على تنكب المحظورات، ووجدت الفضيلة عبارة عن الوصول إلى ذلك الغرض عن طريق كثيرة العوائق والتعاريج يدل التزامها على الجلد والاضطلاع، فيظهر مما تقدم أن الإنسان لا يستطيع أن يفخر بأمر ليس للقوة نصيب منه، ولا يرغب في الاتصاف بوصف إلا إذا كان فيه إظهار لقوته أو مداراة لضعفه، وأنه لا يوجد إنسان مهما بلغ من الورع والتجرد ينفر من العزة ويرتاح للضعة، وإنما يختلفون في فهم معناهما كل بما يصلح له.
إلى المجلس الحسبي
أيهم أحق بالحجر؟ ذلك المسرف الذي يدفع دنانيره أولا فأولا إلى من هو أعرف باستعمالها، أو هذا الشحيح الذي يلتقط من الثروة العامة دراهم يعدها ثم يحرمها من الانتفاع بها طول حياته؟
الغاية واللاغاية
من الناس من يرى أن الثمرة نبتت حلوة ليأكلها الإنسان، ومنهم من يرى أن الإنسان أكل الثمرة لأنها حلوة. منهم من يقول: إن الإنسان خلق أولا ثم صنع العالم من أجله، ومنهم من يقول: إن العالم صنع أولا ثم خلق الإنسان منه. الأولون يعتقدون أن النجوم مصابيح الإنسان والشمس روزنامته والهواء مروحته والبحر صهريجه والأرض سماطه ومناجم باطنها خزانته، وهؤلاء يعتقدون أنه من أرض العالم ومائه وهوائه وعناصره تركيب جسم الإنسان؛ وعلى هذا الخلاف الظاهر يدور الحجاج واللجاج بين أصحاب القصد وأصحاب الاضطرار من قديم الزمان.
الطب والشعوذة
المرض، ألا قوتل المرض من عدو لدود العداء للإنسان. عرفنا السلاح للسباع وعرفنا كل فتاك مثله ولكل عادية مثلها إلا المرض.
نعم نقول للطب والأطباء، ولكن هؤلاء لا يسعفون إلا في الانحرافات التي نبالغ بتسميتها أمراضا، أما في العلل المتمكنة التي إنما يدعى الطبيب لمثلها، فهؤلاء الذين تقول عنهم - ولست أعمم - يقفون حيارى لا يمدون يدا إلا إلى قبض الريال بعد الريال، إلى أن يكل المريض من العطاء أو يملوا من الأخذ، وقد يموت أقصرهما عمرا قبل أن يسأم الآخر.
كنت أظن كل داء من المرض له دواء من الطب، وأن الطبيب إذا فاته علاج فلا أقل من أن يضبط تشخيص أعراضه.
أحوجتني الضرورة إلى الأطباء، وكنت أحسبني أغنى الناس عنهم، فطرقت أبواب عدة عيادات، وكنت إذا دخلت العيادة اطمأنت جوانحي وسري عني ما بنفسي؛ فأشعر بين جدرانها كأني قد لذت بحرم الطب المقدس من أعدائي، وما أعدائي إلا الآلام التي تطاردني في الليل والنهار.
ثم أخرج منها مزودا بنصائح في الطعام ونظام المعيشة لا أحيد عن حرف منها، وفي يدي زجاجة أحسب أن فيها السم القاضي على تلك الآلام، ثم لا تلبث أن تمر بضعة أيام فأراني كأني لم أستشر طبيبا ولم أتناول دواء؛ فأعود إلى طبيب آخر يفحصني فحص زميله مع تنويعات وزوائد عرضية، ولكنها كانت تبغض عندي الرجاء في طبيب بعد طبيب، ثم أنصرف منه بدواء في لونه مغاير لدواء الأمس، وآخذ في طعام غير ذلك الطعام، ونظام في المعيشة غير ذلك النظام، ولكن على غير جدوى.
كنت أسمع من الواحد منهم بعد الآخر بهيئة تليق بمن كان يبيع الصحة بل الحياة بالمقدار: أتريد أن تعرف الحقيقة؟
إن بك ضعفا في المعدة والأمعاء يزول بقليل من العلاج. يقول ثان: إن معدتك كأحسن ما يكون، ولكن الذي تشكو منه في الحقيقة هو فقر الدم.
ويقول ثالث: إن جسمك ليس يفتقر إلى نقطة من الدم وأنت لا يحق لك أن تشكو إلا من السوداء.
ويقول رابع: لولا اختلال الكبد وهياج الصفراء لما كنت تتألم من شيء الآن.
ويقول خامس: إن كل ما بك أن كليتيك لا تؤديان وظيفتيهما تمام الأداء، وليس ما عدا ذلك إلا أثرا يزول بزوال ذلك المؤثر البسيط.
ويقول سادس: لا تصدق شيئا مما يقال لك؛ فكل أعضائك سليمة صحيحة، وليس هذا الذي تشعر به إلا من مخلفات ضعف في الجهاز التنفسي يرجى أن يزول.
وكان هذا الطبيب يقول لي: عليك بالدسم والنشويات، وذاك يقول: إياك والدسم والنشويات، أسمع من هذا أن إدمان استعمال الأدوية مؤذ بالجوف وأن الأفضل الامتناع عن تعاطيها، وأسمع من ذلك أن ترك الداء بلا دواء قد يتخلف عنه خطر جسيم، هذا يقول: استلق على ظهرك طول يومك وابتعد عن كل ما ينبه أعضاءك، ويقول لي الآخر: يجب أن تعين لك وقتا تشغله يوميا بالفلاحة أو تمشي على قدميك بعد كل ساعتين نصف ساعة.
طبيب ينهى عن الاستكثار من السوائل، وطبيب يأمر بألا أتناول إلا اللبن وألا أتناوله إلا ممزوجا بضعفيه من ماء فيشي، إلى مثل ذلك من الوصايا المتناقضة، ولو كانت هذه الوصايا موجهة إلى عشرين شخصا لما كان في الأمر ما يدعو إلى الحيرة، ولكنها موجهة لشخص واحد، وهذا الشخص ليس له مع الأسف قدرة الجن على التطور بعدة أشكال في وقت واحد.
فرأيت أني لو عملت بجميع تلك الوصايا لما ذقت طعاما، وحرت في الأمر فإما أن أكون مصابا بكل تلك الأمراض في آن واحد أو لا أكون مصابا بواحد منها، ووجدت أني لو تركت نفسي لما خرجت عن تلك التجارب والتخمينات مهما تعسفت في التوصيف والتشخيص إلا إذا افترضت الداء حالا بغير تلك الأعضاء التي ذكروها، ولا أعلم أن جسم الإنسان يشتمل على غيرها.
وبعد أن أفرغت في جوفي صيدلية من الأجزاء والعقاقير نقطة بعد نقطة، رأيت أن صناعة الصيادلة ليست أنفع بالنسبة إلي من صناعة السقائين، وأنه لا توجد صناعة لم يتقنها أربابها كصناعة الأطباء، وعلمت أن التحسن البطيء الذي شعرت به لا يمكن أن يدعي علم الطب أي فضل فيه، بل ربما لم أحصل عليه إلا خلسة من الطب والأطباء.
إن هذا الخلط داء مزمن بعلم الطب - وأقصد منه على الخصوص طب العقاقير - يجب أن يعنى الأطباء بمعالجته قبل أن يجعلوا أجسام المرضى جثثا يجربون بها أصناف الأدوية والعلاجات.
عدم الاكتراث
عدم الاكتراث لازمة من لوازم النوابغ العبقريين؛ فالرجل العبقري عالمه في نفسه، له بدوات وأطوار غير التي يألفها الناس ولكنه لا يتخلى عنها، وللناس شعائر وتقاليد يقدسونها ولكنه لا يلتفت إليها، مثله في ذلك مثل السائح الأوروبي أو الأفريقي يهبط الصين؛ فإنه ينظر إلى أزياء القوم وأحوالهم بعين الاستغراب، وإن كانت مألوفة عند كل فرد غيره في الصين، ويظل متمسكا بعاداته وطباعه وإن هزأ منها كل رجل وامرأة من أولئك الأربعمائة مليون الذين يدور عليهم سور تلك البلاد؛ كأنما العبقرية تجعل الرجل من جنس غير الذي منه بقية البشر.
على أن عدم الاكتراث قد ينقلب إلى هنة من أخس الهنات، يتخلق بها من لا خلاق لهم من الأراذل والسفلة، أولئك الذين ينزلون أنفسهم في منزلة لا يمكن أن ينزلهم الناس في أحط منها، أو يخدعون الناس بظواهرهم وباطنهم على خلاف ما يظهرون.
مناقشة مع الأستاذ وجدي
الأستاذ فريد أفندي وجدي أكبر داع من دعاة الدين في مصر يخاطب بلسان العقل في الدينيات، وبهذا الاعتقاد ألقي إليه هذه المسائل التي رأيت مناقشته فيها لازمة بعد أن تصفحت من دائرته الجزء السابع الذي خصصه للبحث في إثبات وجود الله؛ وها هي ألقيها إليه مسألة بعد أخرى:
أولا:
انتظام العالم لا يصلح أن يتخذ دليلا على حدوثه كما لا يصلح أن يتخذ اختلاله دليلا على قدمه، والإنسان باعتباره زبدة الكائنات سواء في قول الخلقيين أو النشوئيين لا يعقل أن يظهر في العالم إلا بعد أن يترتب كل ما دونه في مراتب الخلق، وسواء حدث هذا النظام بعد اختلال أو كان على هذا الوضع من أزل الآزال، فما كان ليأخذ مقره من العالم إلا وهو على درجة من النظام كافلة على الأقل بنشوئه فيه، فمن أعلمه أن العالم الذي يضمه الآن لم يكن في القدم «كاؤسا» كما تخيله شعراء اليونان، وليت شعري إذا كان قد وجد في ذلك الكاؤس سائل مثلي ومسئول مثل الأستاذ وجدي وجلسا يتناقشان في وسط تلك الهيولى كما أناقشه الآن عن آية الخلق في العالمين؛ فبماذا عساه كان مجيبا؟
ثانيا:
لا يمكننا أن نحكم على الشيء أنه متقن إلا إذا وقفنا على الغاية منه؛ فنحن نعرف الساعة أنها متقنة إذا علمنا أولا أنها آلة تستعمل في قياس الوقت، ثم علمنا ثانيا أنها تؤدي هذا الغرض بالضبط.
نعرف أن المنزل مقسم تقسيما حسنا إذا علمنا أولا أنه محل معد للمأوى، ثم علمنا ثانية أنه صالح تماما لهذا الاستعمال.
قال فلتير فيما نقله عن الأستاذ في صفحة 499 من هذا الجزء: «إني إذا رأيت ساعة يشير عقربها إلى الأوقات المختلفة، أستنتج من ذلك بأن لا بد من أن يكون عقلا «هكذا» قد رتب لوالب هذه الآلة حتى استطاع العقرب أن يدل على الساعات دلالة حقيقية، وكذلك إني إن تأملت في آلات الجسم الإنساني أستنتج أن لا بد أن يكون عقلا «هكذا» قد نظم أجزاءه وأجهزته وجعله قابلا لأن يتغذى في الرحم تسعة أشهر متوالية، وأنه قد متع بأعين لينظر بها وبأيد ليتناول بها، إلخ.»
وأذكر أني قرأت مثل هذا الكلام لروسو، ولكن روسو عكس المثل فاستدل من تركيب لوالب الساعة على أنه لا بد أن تكون وراءها غاية مقصودة، وهو استدلال مردود؛ إذ يجب أن تعلم الغاية أولا ثم يستنتج النظام أو عدم النظام بالنسبة إليها، ولكن دعنا الآن في كلام فلتير.
ففلتير جزم بأن الساعة صنعة عاقل؛ لأنه تحقق أنها مقصودة لقياس الوقت، فما هي إذن تلك الغاية التي تبين له أنها مقصودة بخلق العالم؟ وهل يعقل أن يحكم على شيء بأنه محكم، أي أنه يؤدي الغاية منه تمام الأداء، من غير أن نعرف ما هي تلك الغاية؟
ثم لماذا لا نقول مثلا: إن الجنين لو لم يستقر في الرحم مدة الحمل لما تمتع بالحياة، وإنه لو لم تتولد له أجهزة لما كان حيوانا، وإن العين لو لم تكن بهذه الدقة لما أبصرت، واليد لو لم تكن بهذا الوضع لما تناولت ... إلخ؟ بدلا من أن نفترض افتراض فلتير ...
ثالثا:
الإحكام الشامل والتطابق التام اللذان لا بد يشيران إلى القصد مفقودان من الكون، فأين هو ذلك الشيء الذي نراه ولا نود أن يصير أكمل مما هو؟ فالأجرام السماوية تتصادم في كل فترة فتتساقط في الفراغ، وهذه الأرض التي نحن عليها لا شيء يمنع أن تصطدم الساعة بمذنب أو سيار تائه في الفضاء فتلحق بالأجرام التي اندثرت من قبلها، ونواميس الطبيعة تثير نكباتها وطوفاناتها وأوبئتها وحرائقها، فتدمر ما عملت فيه نواميس أخرى ملايين السنين، ولا يتلف ما بدأ في صنعه إلا من يعمل مضطرا في الحالتين، وهم يقولون: أكذلك تكون أعمال المدبر المريد؟ وهذا الكون ليس في الحاضر وما كان في وقت مضى محكما حيث لا موضع فيه للخل، أو كاملا حتى لا شائبة فيه للنقص؛ فهو يتدرج في الرقي فيسد نقصا قديما ويأخذ في تكمل جديد، ونحن نعلم العوامل التي تدفعه إلى الرقي فكلها منه وإليه، فنظامه هذا البديع قد استفاده بذاته أي بعوامله ونواميسه من اختلاله ذاك، وما هذا النظام بأدل على الإعجاز من ذلك الاختلال؛ لأنهما كلاهما أثر لتلك العوامل والنواميس القسرية. وما قال أحد إن الكون انتظم اليوم لأن الله موجود، وإنه كان مختلا بالأمس لأنه لم يكن موجودا.
رابعا:
إذا قيل: إن الإنسان غاية الوجود، كما يفهم من اعتقادهم أن أعمال الإنسان وحدها هي كل ما ينظر إليه من هذا الوجود بعد انقضائه، فلماذا لم يرتب هذا العالم بحيث يوافقه كل الموافقة؟ وإذا كان الإنسان أحقر من أن يوضع الكون حسب ما يلائمه، فلماذا إذن خلقت من أجله كل هذه العوالم التي لا نهاية لها؟ وكيف لا يكون ذلك الشأن لمن خلق من أجله العالم الأول والعالم الأخير؟
خامسا:
إن حوادث الكون كلها تطبق على عوامل ونواميس مطردة، وإنه حتى الطوارئ التي تغم علينا أسبابها لا تلجئنا إلى استمداد سبب لها من خارج الكون، بل إن تعليلها بعلة طبيعية أقرب دائما من تعليلها بعلة من وراء الطبيعة.
سادسا:
ليس في وسعنا أن نقرر أن الكون لا يكون إلا حادثا، إلا إذا كنا قد رأينا أكوانا أخرى مثله ثم أيقنا من حدوثها؛ فنحن نحكم عليه بالحدوث بالقياس إلى تلك الأكوان، أما وهذا كوننا لم نر قبله ولا بعده، ومنه دون سواه نستمد أحكامنا على المادة والوجود، فلماذا لا يكون إلا حادثا ولماذا لا يكون قديما؟ وللمعترض أن يسأل من يقول: «إن الأكوان لا تقبل القدم من طبعها» كم كونا رأى، وفي كم منها تحقق الحدوث؟ كما له أن يسأل من يقول: «إن المادة لا تصدر عنها الحركات والأعمال» في أي موضع غير هذا الوجود رأى المادة محرومة من هذه الخواص؟ فإذا كان لم ير ولن يرى فكأنه يقول: إن مادة هذا الوجود لا تصدر عنها الحركات والأعمال.
سابعا:
إننا إذا أردنا أن نسكت عن النظر والاستدلال أمام الغوامض الكونية فلنسكت عنهما بين يدي العالم والرسول على حد سواء، فلا نلحف في سؤال العالم إلحاف المتعنت: كيف انفصلت الأرض عن الشمس؟ ومتى انفصلت؟ كأنه كان من شهود ذلك الحدث البعيد، ونحن نسكت عما هو أغمض من ذلك وأشد منه إشكالا أمام النبي والرسول.
ثامنا:
إن العدم تصور فاسد من تصورات الإنسان، فلا وجود إلا للوجود ولا حقيقة إلا له، فنحن نرى عدما ولا يمكن أن نرى عدما، فمن أين لنا أن نتوهم غير الوجود؟ فلا مقتضى مطلقا لتصور الوجود كائنا بعد عدم أو صائرا إلى عدم، كما أنه لا مقتضى لتصور الوجود منفصلا عن الأزلية والأبدية، وما ألم بوهم الإنسان خيال العدم إلا من هذه الاستحالات التي كانت تظهر له في بادئ عهده تارة كأنها خلق وإنشاء وتارة كأنها تلاش وفناء، وما هي في الحقيقة إلا انتقال من صورة إلى صورة الوجود، ولولا ذلك لما خطر العدم في عقل ولا ورد على بال، ولولاه لما سمعت إنسانا يسأل: «من أين جاء الوجود ولا إلى أين يصير؟ لأنه لا يتصور غيره ولا يبدو له سواه».
تاسعا:
إن الإلهيين هم المطالبون أولا بالإثبات؛ لأنهم هم المدعون ولا يطالب الملحدون به؛ لأنهم منكرون ليس إلا، ولا يصح أن يطلب الدليل ممن ينكر قضية لم يقم على إثباتها دليل.
كذلك دحض حجة الخصم لا يفيد صحة حجة المدعي، بل كل ما يفيده أن الدعوى لم يقم برهان على بطلانها، كما أنه لم يقم برهان على تأييدها.
هذه هي المسائل التي طافت بذهني وأنا أقلب صفحات الجزء السابع من دائرة معارف القرن العشرين، وربما طافت كذلك بأذهان الكثيرين فوجهتها إلى صاحب الدائرة لعله إذ يدفع هذا الالتباس يرفع خرطوم الوسواس الخناس عن صدور كثير من الناس.
شح البحر
أيا بحر لو كنت الكريم كما ادعوا
قديما لألقيت الجواهر للناس
وحليت منها العاطلات عن الحلى
من اللاء لم يسعدن بالتبر والماس
ولم تدخرها كالشحيح لسارق
تدلى بأمراس إليها ونبراس
فاكهة النعام
تين الصبير وقيت فا
كهة الأوابد والنعام
يحلو إذا كانت جلا
ميد الصخور هي الطعام
فنون الجنون
الجنون فنون، وفنون الجنون كثيرة لمن يريد أن يحصيها، لا أقصد جنون السراي الصفراء، ولا ذلك الجنون الأحمق الذي يعلن عن نفسه في الشوارع والأسواق ويستلفت من لا يلتفت إليه بالحجارة والصياح، كلا! بل أقصد هذا الجنون الخفي الذي لا يسلم إنسان تحت قبة السماء من شعبة منه، هذا الجنون الذي يقول عنه المثل الإنكليزي: «لو كان الجنون مرضا يؤلم لسمعت الصراخ من كل بيت»، فما أكثر المجانين الذين يذهبون ويجيئون بغير جوامع في أيديهم، ولا أغلال في أرجلهم في هذا البيمارستان العظيم!
الناموس الأخلاقي
الأصل في الأصل الأخلاقي أنه الحالة التي يتمنى كل إنسان أن يكون الناس عليها، حسب ما يبدو له أنه أضمن لعلاقاته معهم، فليست الأصول الأخلاقية بالقواعد التي تقضي المصلحة بالتمسك بها، بل كثيرا ما يجيء الأمر على عكس ذلك، ولكنها القواعد التي لو جرى عليها كل إنسان لأصبح الناس - كما يزعم واضعوها - أسعد حالا في مجموعهم مما هم الآن.
ولكن، أليس هناك فاصل بين المطلوب والحاصل؟ ألا يجب أن تقدر درجة حكم الإنسان على نفسه فيما يتعلق بمعاملاته مع الناس؟ إن أولئك الدعاة والوعاظ لا يرون من داع إلى بحث هذه الاعتبارات، يظنون أنه ليس بين المخطئ وبين العصمة إلا أن يعرف خطأه، كأن كل هؤلاء البغاة والأشرار ما كانوا بغاة وأشرارا إلا لأنهم لم يجدوا من يقول لهم إن ما هم فيه بغي وشر.
فمن قديم الزمان تكلم هؤلاء الناس عن الصدق والأمانة والفضيلة، وقالوا لهم: قوموا اصدقوا قوموا استقيموا، ولكن حتى الآن لم يوجد ذلك الرجل الصادق الذي لا يكذب، والأمين الذي لا يخون، والفاضل الذي لا يعرف ما يؤنبه عليه ضميره - وليس بحي الضمير من لا يسمع صوته مرة - على أنه لو وجد ذلك الرجل بين ظهرانينا لكان كمن يعامل الناس بصك يتقيد به من جانبه، ولكنهم هم من جانبهم لا يتقيدون به.
وليس أولئك الدعاة والوعاظ وحدهم أصحاب مبادئ أخلاقية، بل إن لكل رجل تراه مبدأ أو مبادئ من هذا القبيل، فكل رجل لا تروقه حالة الناس، وليس من رجل تروقه حالتهم يتمنى لو يكونون على غير ما هم عليه، فتسمع منهم من يقول: آه لو كان الناس أوفياء! ليتهم لا يخافون، ليت قويهم لا يقسو على ضعيفهم، ليتهم لا يبخل أغنياؤهم على فقرائهم، ليتهم لا يتباغضون، إلى غير ذلك من الأماني التي ربما لم تكن أبعد تحقيقا من سنن أولئك الأخلاقيين.
يقولون ذلك كلما مسهم أذى من تلك النقائض التي ينقمونها من بعضهم، على أن كلا منهم ينتظر حتى يبدأ الناس بالإقلاع عنها ليقتدي بهم، وما من أحد يرضى أن يجعل نفسه مثلة لغيره، وما من أحد يضع يديه في الأنشوطة وهو يرى الأيدي كلها ممدودة إليه، فالناس الآن - وفي كل زمان - يكذبون ويمارون ويتساهلون في الواجبات، ولا مندوحة لهم عن ذلك ما بقي بينهم هذا التدافع والتجاذب على وسائل الحياة.
الحكومة في الشرق والغرب
من المسائل الحرية بالنظر أن شكل الحكومة لم يكتسب شيئا من تعديلاته وأدواره في الشرق كله، لا قديما كما كان يقع مرارا في روما واليونان، ولا حديثا كما وقع في فرنسا وإنكلترا من التجارب المتتابعة وراء تكوين الحكومة الصالحة، ذلك بالرغم من أن الارتباط والضغط اللذين كانا يثيرانهم إلى قلب الحكومات قد نزل أضعافه بالشرقيين، ولكن مع هذا الفرق اليسير - وربما كان فيه كل السبب - أن الاستبداد لا يؤثر هنا على الأحوال المعيشية تأثيره هناك لتيسر الأرزاق وقلة ما للقوانين وكيفيات الحكم في المداخلة في تحصيلها.
وقد يكون هذا الجمود على شكل واحد من أشكال الحكومة ناشئا من انطباع الشرقيين على قلة الاهتمام بالعموميات لتمهد الوسائل الخصوصية، فإذا استولى أحدهم على الملك استقر له الأمر وانقاد له الجميع، وكثيرا ما يتفق أن خادما من خدم البلاط يبسط نفوذه في المملكة فيغتصب الملك لنفسه، ويبقى الحاكم المتصرف إلى أن يزحزحه عن مكانه متعصب آخر يأنس من نفسه الصولة والنفوذ، والناس بمعزل عن هذه الانقلابات، يسلمون بها ولا يشتركون فيها، فهي - أي حكومة الشرق - لا ترتكز على الشعب، فلا تتحول باختلاف مصالحه ولا الشعب يعتمد على اختلاف هيئاتها، فقد أنشأت نفسها بقوة ساعدها ولم ينشئها الشعب كما هو شأن الحكومات في الغرب، وقد شدت أزرها في كثير من المواقف بالسلطة الدينية التي رأت من مصلحتها أن تتبادل وإياها المعاضدة والتناصر، فجمدت جمود عقائد الأديان في وهم الإنسان.
في صالون حلاق
ما بالها تطفر كالغزال
ساحرة بالتيه والجمال
هيفاء من أوانس الأندلس
ذات جبين كالنهار المشمس
قد أسفرت حالية بالنور
في وجنة ومقلة وثغر
من كل زهر ناضر الرواء
والزهر لا ينضر في الشتاء
ثم استوت في مجلس هناكا
تمد للخلائق الشباكا
أمامها المرآة فيها يظهر
ما ليس في غير المرائي تنظر
تمثالها في صفحة البلور
مرتسما بريشة من نور •••
وكان يرعاها أريب كيس
فقر في موضعه لا ينبس
وصوب الطرف إلى الرذيلة
يرمق تلك المصورة الجميلة
كمن يهاب الشمس في السماء
فيرتضي بقرصها في الماء
فساءها حتى إلى الطيف النظر
أهكذا تبخل ربات الخفر
الحسن إن ضن به المليح
كالمال إذ يدفنه الشحيح
الزهر إذ يزكو لغير ناشق
والبدر إذ يبدو لغير رامق •••
فأقبلت تضحك للقرين
عن لؤلؤ في ثغرها مكنون
قالت ألا تنظر للمغرور
يحدق في المرآة كالمسحور
ما زال يرنو نحوها بالطرف
حتى لقد أخجل فيها طيفي
فأومأ القرين للحلاق
يبتسم ابتسامة الإشفاق
وقال قل للحاجب الصديق
لا يكسر المرآة بالتحديق
من يكثر اللمح لها في الليل
قد يعتريه خبل في العقل •••
فقال «عفوا يا قرين الشمس»
ذاك الأريب منغضا بالرأس
ما في المرايا ثم من شيطان
يخاف منه المس للإنسان
بل إن فيها ملكا مكملا
يوحي لنا الحسن كما تنزلا
ملكت منه الذات واستأثرتا
ففز بها مغتبطا هنئتا
ودع لنا هذا الخيال مغنما
فإنه ليس لزوج حرما
الارتقاء ودلال النساء
لا يرغب الرجل في المرأة في الشعوب المنحطة إلا للعلاقة التي بين كل ذكر وأنثى؛ فالمرأة في تلك الشعوب يهمها أن تكون مرغوبة من هذه الوجهة، والدلال ومنه الخفر والخيلاء وترطيب الكلام والتخنث والزهو باستكمال المحسنات الأنثوية من قرائن تلك الرغبة والمحركات لها أيضا، أما حيث تكون للمرأة مزايا تحبب فيها غير هذه المزية كسلامة الذوق والحديث ودقة النظر ومشاركة الرجل في تدبير شئونه، فالدلال من هذا النوع لا يحس إلا بقدر ما يكون طبيعيا في المرأة، فالعربيات والسودانيات أكثر دلالا من المصريات والسوريات، والمصريات والسوريات أكثر دلالا من النمسويات والإيطاليات والفرنسويات، وهن أكثر دلالا من الألمانيات والإنكليزيات، والأوروبيات بوجه عام أكثر دلالا من الأمريكيات.
وربما جاءت السوبرمان التي يمنوننا بها مجردة من كل أثر من هذا الدلال.
طمأنينة اليأس
ماذا أصنع؟
سؤال إذا ألقاه المصاب على نفسه فعجزت عن الجواب، هان عليه المصاب، يقوله المحتضر والمقضي عليه بالإعدام، ويقوله المفجوع بعظائم الرزايا وفوادح الآلام، يقوله فتطرق نفسه إطراق الرضى والاقتناع، بهذا السؤال «الإسفنكسي» يرقد ساكن الروع، جان سيساق غدا إلى ساحة القتل، بل بهذا السؤال يترقب ذلك الجاني ساعة القضاء عليه كمن يترقب ساعة العرس، كي يتخلص من وساوس لعل وربما، إلا أن من النفوس طائفة لا تسكت عن هذا السؤال في حال من الأحوال فتجيب عليه بالصدق والكذب، بالممكن والمحال، فالويل لأمثال هذه النفوس الحمقاء!
الحنان لعلة
الخال أشد عطفا من العم؛ لأن الرجل ينافس أخاه بأبنائه ولا ينافس أخته بهم، والعمة أشد عطفا من الخالة؛ لأن المرأة تنافس أختها بأبنائها ولا تنافس أخاها.
الرأي العام
لو استطعت أن أتمثل الرأي العام في صورة شخص واحد لرأيته فيلمانيا غاشما، هائل الجثة صعب المراس ضعيف الذاكرة، سريع التقلب، قريب التهيج، سهل القياد، متناقض الأفكار، يقبل كل ما يقال له من غير تدبر ولا إمعان، والساسة والزعماء وجماعة الصحف والأحزاب محتفون بذلك العملاق الغمر يملقونه ويصادونه فلا يكاد يصدقهم بهذه الأذن حتى يكذبهم بتلك، وهو تارة يهم بالبطش بهم وتارة يضحك لهم ملء شدقيه، ولا بد أن يكون كذلك مجموعة أفكار خليط من الناس لا يحتمل أيهم تبعة رأيه شخصيا.
هواجس ما بين القبور
كلفنا بالحياة فما الذي أغرانا بحبها، وكرهنا الموت فلماذا كرهناه؟ «سؤال فيلسوف الفلاسفة وأغبى الأغبياء سيان في العي عنه»، بل إن ذلك الفيلسوف - ولست أهينه - كالحيوان الأبكم والجماد الأصم سواء في الصمت أمام هذا السؤال.
سل حجرا: لماذا يأتلف بذراته ويحتفظ بشكله، سله عن هذين وهما مبلغ ما لديه من حياة، ثم سل من تشاء من جهابذة العلم وأساطين المعرفة علام آثر الحياة وكيف بدا له أن يتمسك بهذا البقاء؟! إنك لا تسمع منه صوتا أوضح من سكوت ذلك الجماد.
ألا أخلق بهذا الذي يدعونه تنازعا على البقاء أن يدعى سباقا إلى الفناء، سباقا من العفاء مبتدؤه ومنتهاه إلى العفاء، نحن كلنا في ذلك المضمار متلاحقون، السابق منا كالمسبوق، والأول والآخر سواء.
فهذا المالك المطاع، الذي لا يفرض على عباده أكثر من الإيمان إلى الغبراء برهانا على التذلل أمام عزته، والتصاغر لدى عظمته، دعه اليوم وعزة السلطان وأبهة المقام، ثم عد إليه بعد أيام، ألا ينتثر على تلك الغبرا ترابا تمشي عليه الدواب وتطأ فوقه الأنعام؟
وهذا الألمعي اللبيب: الذي تتلألأ كلماته في ظلمة الجهل تلألؤ النور في حلك الليل، ننافس يتيمات الدرر بأقواله تنزيها لها عن لفظ هذا الأنام، ونحاكي بنفائس الأعلاق معانيه إغلاء لها عن سائر الكلام ... أنظره إلى أيام، فما أقرب معدن ذلك الجوهر إلى معدن هذا الرغام عند كيمياء الحمام.
وهذا التياه بجماله، الفتان بدلاله، الذي تتهافت الأبصار على لمحة إليه، وتتلهب الشفاه إلى قبلة منه؛ أمهله أيضا إلى أيام ... ثم انظر أين منه تحت الثرى لحاظه الساحرة، وطلعته الباهرة ووجنته الناضرة ومراشفه العذبة الطاهرة، ألا ترى أحسن محاسنه غبارا ينفض عن الأحذية وتصان عنه الأقدام؟
وذاك الكمي المغوار الذي حرم على الأسود لحمه، وسمم في ملاغم النمور دمه ... ما باله يسرح الدود منه في مكامن الشدة والعرام، وتتمكن الهوام من بدنه حيث لا يبلغ لا نصل ولا حسام؟
فما هذه الحياة؟ لا كانت الحياة! حيينا على الكره منه، ونعيش على الكره منه، وننسل فنهب أبناءنا الحياة على الكره منا ونحبها ونحن على ذلك مكرهون.
ما هذه الحياة؟ لا كانت الحياة! كلام يعجم على عقولنا ويرن صداه في أعماق ضمائرنا، والموت من فوق منابر النعوش ينادينا، بلسان يسمعه الأعجمي كالعربي، والأصم كالسميع، والبعيد كالقريب قائلا: «أيها الناس إن حياتكم هذه إلا احتضار طويل، تعالجون له كلما استطعتم إطالة ومدا، ولأن تعجلوه اليوم قبل غد والساعة قبل الساعة التي بعدها أحرى بكم لو كنتم تعقلون».
نقض اللغات
كم من كلمات على ألسنة الناس بلا معنى! وكم من معان في أفكارهم بلا كلمات!
اقتراح
لست أدري لماذا لا تفتح حديقة الحيوانات أبوابها سحرا في أيام من فصل الصيف والربيع، فيشاهد الزائر الطبيعة تفرك جفنيها من النعاس وهي في ثياب النوم، ويرى كيف تنهض من فراشها بين جمادها ونباتها وحيوانها، ويسمع ذلك اللحن المؤلف من زئير السباع وصياح الدواب وتغريد الطيور وزقاء العصافير وعزيف الصبا وحفيف الأشجار؟! أيظن مدير الحديقة أنه يحبو زواره بمشهد أبدع من هذا في النهار؟
عشاء المدينة
إن هذه الظواهر المدنية ليست عميقة الأثر في نفس الإنسان؛ فإن البواعث التي تخرجه عن هذا الطور السطحي مثل الغضب الشديد والجنون والدفاع عن الحياة تعيده إلى استعمال أبشع وسائل العراك الوحشي كالنهش والعض والتخديش بالأظافر لا سيما في الصغار والنساء، والوقائع متعددة عن المجانين الذين أكلوا جوارح الأحياء، والمقتولين الذين أنشبوا أنيابهم في أجسام قاتليهم وقضموا من أعضائهم ما وصل إلى أفواههم؛ طمعا في الخلاص.
وحش في غير لقاب
الإنسان أشد الحيوان ضراوة، يفترس من البر والبحر والهواء وما هو بمضطر كاضطرار الوحوش إذ ترد عنها قوارص السغب، ولكن ليتلذذ ويتفكه بتنوع الألوان واختلاف الطعام، وكما أن السبع قد يغتال فريسته من أجل نهشة من اللحم، وكذلك إنساننا قد يسطو على شرف أخيه وطمأنينته فيسلبها منه من أجل لذة فارغة لا يضيره الاستغناء عنها، فالوحشية ليست في البرثن والناب أكثر منها في الشوكة والسكين، وليست هي في الفتك والاغتيال بأقبح منها في الإفك والاحتيال.
وما في الغول والسعلاة طبع
وهذا المرء من شرواه خال
وكم في الناس إن تنظر إليهم
طبائع ما تراها في السعالي
تربيتنا الدستورية
إلى الآن يخيفون الأطفال في الأرياف البعيدة بالعسكري، يخافون من كل لابس الطربوش كخوفهم من العفاريت والغيلان.
التنافس سلم الرقي
يضيق مجال التنافس في الأقطار الزراعية البحتة التي لا تعمل فيها الصناعة فتبطئ حركة التقدم؛ لأن المجانسة الطبيعية في نتاج الزراعة قد أوقفت التحسينات الصناعية عند حد محدود؛ ولذلك بقي فلاح اليوم نموذجا لا يفوته شيء من فلاح طيبة وممفيس، فالأكواخ الطينية والمحراث الخشبي وسراج الزيت وأثواب الصوف بلونه الطبيعي على جلود الغنم، ومنسوج الكتان الغليظ والخبز الأسمر والسمك المملح والجبن والبصل والكراث لا تزال على حالها في عهد بناة الأهرام، وستبقى كذلك إلى أن تنشأ لنا صناعة وطنية نزاحم بها في سوق الصناعات، هنالك نضع أقدامنا على قاعدة ثابتة مستقرة ونأخذ في الرقي المتواصل المطرد.
يا ليل
شمل الظلام أعالي الآكام
والنور غادر طاوي الأعلام
وطغى على الأكوان بحر طام
نامت عوالمها ورنقها الكرى
والنجم نام ونام ما فوق الثرى
والخلق بين مهموم ونيام
والليل أرحب ما يتاح لنائم
ضاقت مذاهبه بهذا العالم
وطوى على كشح من الأيام
يا ليل عفيت الفوارق والمدى
سويت ما بين الملوك ومن غدا
في حكمهم كسوائم الأنعام
يا ليل أنسيت الحزين مصابه
وسللت من صدر العليل عذابه
وحبوته بروائع الأحلام
كم فاز فيك المعتفون بما ارتضوا
وأذقتهم طيب الرجاء وقد قضوا
عهد الرجاء وما حظوا بمرام
وجمعت أهل العشق لم يتجمعوا
في غفلة ممن يلوم ويمنع
بالروح دون تواصل الأجسام
لا يكتمون من الحياة ودادهم
أو يعرضون وقد أذاب فؤادهم
مثل الغضى من لوعة وهيام
أحييت من أردى الحمام وقتلا
وبعثتهم من بعد أن صاروا إلى
رمم بوالي في الثرى وعظام
يا ليل أنت أبر ما يدعو الورى
رفرف على أهل المدائن والقرى
وابسط ظلالك فوقهم بسلام
آليت أظلم من ظلامك حالكا
نور يضيء إلى الشرور مسالكا
ويري العيون خوافي الآثام
وأعف من إنسان سوء يفسد
شيطان جن في ظلامك أسود
ما قط فارق عالم الأوهام
يا ليل فاحلل في العوالم سرمدا
إني لأفرق للنهار إذا بدا
أشباح خلق في النهار لئام
السعادة في وهم الناس
يعتقد بعضهم أن السعادة أن تتوفر لدى الإنسان جميع مبتغياته حتى لا تعود له بغية في الحياة، وأن التعاسة بأن يصفر الإنسان من جميع حاجاته حتى لا يكون شيء من مستلزمات الحياة إلا وهو محتاج إليه، على أني لا أحسب هذا التعيس أحق بالانتحار من ذلك السعيد.
احترام الضعف
تغلب آداب احترام الشيوخ والنساء في الشعوب التي من دأبها - أو كان من دأبها - الغزو وشن الغارات - وراقب ذلك في الأتراك - كأنهم يأنفون من إظهار البأس على من لا ينتظر أن يفاخرهم ببأسه.
الانخفاض أساس الرفعة
أعلى المراتب ما أقيم بناؤه
فوق النقائض من بني الإنسان
وإذا بدا لك أن تشيد عاليا
فاجعل أساسك غائر الأركان
يشقى المماكس والمخاتل والألى
سادوا الخلائق من ذوي التيجان
لولا الغرارة في الأنام وما بهم
من ذلة مرذولة وهوان
فضل الفقراء على مدنية الإنسان
أكثر الانقلابات العظيمة تمت على أيدي الفقراء؛ لأنهم الفئة التي ترغب دائما في تبديل ما هي عليه.
الحجاب: خير للرجل الذي يخشى أن تصادفه امرأة في الطريق فيفتن بها أن يرجع إلى نفسه فيقوم طباعها ويلطف من شبقها، ذلك خير له وللعالم من أن يحكم بالسجن المؤبد على نساء العالم كله.
والمصلح الذي يتذرع بفصل الجنسين إلى منع الأضرار التي تنجم عن اختلاطهما، كالحكومة التي توكل بكل فرد حارسا أو تحبس الناس جميعا لتمنعهم من ارتكاب الجرائم، كلاهما يضيع الغاية في سبيل الواسطة.
أين موضع العجب؟
في جزيرة منعزلة من جزر النيل رجل إنكليزي وامرأته يقضيان الشتاء في تلك الجزيرة ثم يبرحانها عند ظهور الصيف، وقد وضعا في خدمتهما نحو الأربعين خادما بين رجل وامرأة، فكانوا يقصرون في تأدية أعمالهم غالبا؛ فتصيح بهم السيدة غضبى: «عجبا، أربعون شخصا يعجزون عن خدمة اثنين!»
نعم، عجيب أن ينفق رجل وامرأة على ما لا يكاد يفي بتهيئة معدات أكلهما وسكناهما في المشتى، ما يكفي للإنفاق على أربعين عائلة في كافة لوازمها!
آداب المجاملة
الصراحة - أي إظهار شعور النفس في حقيقته - خلق فطري في الإنسان، ولكن الرياء والمواربة والنفاق والمجاملة مستحدثات متصنعة أوجدها تداول الحاجة بين الناس؛ ففي القرى حيث تقتصر حاجة كل إنسان على ساعده ترى الغلاظة والخشونة في الكلام، وتراهم أبعد ما يكونون في حديثهم عن الكياسة والتزويق، وكذلك بين النساء الجاهلات بالحاجات المعنوية في العشرة والمسامرة وتبادل العواطف، فإن الصراحة عندهن على أتمها؛ لأنه قل أن توجد بينهن امرأة تحتاج في مؤنتها إلى امرأة أخرى؛ لاعتمادهن جميعا من هذه الوجهة على الرجال.
ومتى ازدحمت الأعمال بتقدم العمران واعتمد كل عامل في عمله على ذاته؛ قلت كذلك المجاملات الفارغة واقتصر الناس من الكلام على الضروري المفيد ونبذوا اللغو والهذر.
وربما كانت هذه الجفوة التي عرف بها العنصر السكسوني في ألمانيا وأمريكا وإنكلترا من لزائم الاعتماد على النفس واستقلال الفكر، وهما الخلقان اللذان امتاز بهما أبناء هذا العنصر بين عناصر البشر، كما يمكن أن نرجع بهذه المجاملة المستسمجة بيننا إلى عدم استقلالنا والتعويل على غيرنا قبل أنفسنا في قضاء حوائجنا.
محك المعجزات
للفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم ميزان دقيق يزن به المعجزات، قال في بعض فصوله ما معناه: إذا أخبرك رجل عن معجزة فانظر إن كان تكذيب ذلك الرجل مستحيلا أبعد من استحالة وقوع تلك المعجزة فصدقه.
فمثلا: إذا جاءك رجل وقال إنه رأى الشمس تطلع من الغرب بعد نصف الليل، فإذا كان وقوع ذلك الأمر الخارق أقرب إلى الاحتمال من كذب رجل أو مائة رجل مثله أو ألف أو مليون فصدق المعجزة، وإلا فاقطع بأنها ملفقة.
حقيقة الشعور بجمال التصوير
في استحساننا للصور شيء من الإعجاب الخفي بإتقان المصور، فيتفاوت إعجاب الناظر على حسب الدرجة التي يقدرها للإتقان في نظره؛ فصاحب الذوق الساذج يكتفي بتخطيط «كروكي» عن مجمل الشكل المرسوم، فلا يطالب الرسام إذا رسم رجلا بأكثر من أن يأتي به كاملا لا ينقص عضوا من أعضائه، فيبحث عن الرأس والعين والأنف والأذن ... إلخ هل لها علامة ظاهرة في الرسم أم لا؟ ثم لا يعنى بمضاهاتها على الأصل، يطلب منه رجلا لا يلتبس عليه بالقرد أو جملا لا يلتبس بالزرافة.
ذلك أننا تعودنا أن نعجب دائما بالصانع في صنعته على قدر ما استلزمته من الحذق والقدرة، وعلى قدر ما لدينا من إدراك ذلك الحذق وتلك القدرة، فنحن تروقنا صورة اليد أكثر من الصورة الشمسية وإن كانت هذه في الواقع أضبط من الأولى وأدق منها انطباقا على الأصل، إلا أن استخراجها ليس فيه ما يشبع حاسة الغرابة؛ لأنه لا يشف عن البراعة التي يشف عنها استخراج الأولى، ولو كان للإعجاب بالصور سبب غير هذا السبب لكانت الثانية أولى بإعجابنا.
أعمار الموتى
قلت هذه الأبيات على قبر صديق زرته بعد عام وقد مات في التاسعة عشرة:
قد مر عام وأنتا
من القبور حسبتا
اليوم عشرين عاما
تحت التراب بلغتا
سيان يوم وجيل
في عمر من بات ميتا
بنات أوروبا على الإبل
قل للحسان على المطي رواكضا
رفقا بأعناق المطي قليلا
لا يرتكضن فهن في أقصى المدى
أدنى أعماق النفوس مثولا
حسب الحسان من القلوب رواقلا
إما خفقن وحسبهن ذميلا
تقسيم التركات
إذا مات رجل عن مائة ألف جنيه وخلف وراءه ابنا، فكيف يحق لهذا الابن الاستيلاء على جميع هذا المبلغ؟ وبأي مسوغ يستحل ذلك الولد هذا المقدار من ثروة الأمة؟
نعم، إن على الوالد أن يربي ولده، وله أيضا أن يعينه على إنشاء مستقبل له في الحياة، فليكن الأمر كذلك؛ فليس في هذا نزاع، فإذا ما مات ذلك الأب فلتقم الحكومة مقامه وتتول تربية ولده وتمده متى حان له أن يعمل لنفسه بما يبدأ به عملا من الأعمال، ولتتركه بعد ذلك يلاقي ما يستحقه بجدارته من نجاح أو فشل، وتنفق الباقي في تحسين حال المجموع بما لا يمكن أن يأتي على يد فرد من الأفراد.
محادثة مع أخي الصغير أمام البنك المصري
قرأ الغلام على لوحة المصرف الكبير «ا ل ب ن ك، ا ل م ص ر ي» فصاح بي: أهذا محل البنك؟
قلت: نعم، إنه هو محله.
قال: أين هو إذن؟
قلت: هذا البيت الذي تراه أمامك.
قال: لقد كنت أسمع الناس يقولون: أخذت من البنك، البنك أعطاني، البنك يطلب من فلان؛ فأحسب أنه رجل كبير كثير الأموال، يجلس في محله وينفح الناس بالنقود كما يطلبون.
قلت: إنه لكذلك، رجل أو رجال كبيرون، لا بالجسم الضخم ولا بالشعر الأبيض ولكن بالذهب، وهم كما حسبت، ينفحون من تسمعهم من التجار وأصحاب المزارع والعقار بالنقود، إلا أنهم لا يطيقون كلفة الجلوس ومد اليد بالفلوس، فهم ينامون هناك على أسرتهم ويبعثون جنيهاتهم تدور وتنحدر من يد إلى يد ومن كيس إلى كيس، ثم تعود أيديهم وأكياسهم في آخر الدورة أضعافا مضاعفة.
قال: وإني أراهم يزنون الجنيهات والريالات في الموازين، فبكم يا ترى يبيعون الأقة؟
قلت: إنهم يبيعون الدرهم بدرهمين.
قال: وهؤلاء الصيارفة والبوابون الذين يزنونها ويصفونها ويحملونها، ألا أحسبهم أسعد العمال حالا وأكثرهم مرتبات وأجورا.
قلت: كلا! بل هم في ذلك عمال كبقية العمال.
قال: فكم أجرة هذا البواب؟
قلت: كأجرة ذلك البواب.
قال: وهذا العامل؟
قلت: كذلك العامل.
قال: عجبا! أعامل البنك وهو لا يقلب يديه إلا في الذهب والفضة يأخذ ما يأخذه عامل الأوراق والمحابر والأقلام؟
قلت: أي نعم، كذلك قضى الناس: أن يكون أقلهم حظا من المال أكثرهم اشتغالا فيه.
قال: إننا نحن الأطفال بمثل ذلك في ألعابنا.
قلت: ولكننا نحن الرجال ذوي الشوارب واللحى نرضاه في شرائعنا وأعمالنا فماذا تقول؟
فبهت الغلام وألقى بكرته أمامه ثم عدا في أثرها!
أين الحقيقة؟
أين الحقيقة؟ لا حقي
قة كل ما زعموا كلام
الناس غرقى في الهوى
لم ينج غر أو إمام
إن الحقيقة غادة
كالغيد يضمرها اللثام
كل يهيم بها فإن
لاحت لهم صدوا وهاموا
كم أشرق الحق الصراح
فأعرضت عنه الأنام
والناس لو تدري خفا
فيش يروق لها الظلام
لا حق إلا أنه
لا حق في الدنيا يرام
ولما نشرت هذه الأبيات في الجريدة ، نشر كاتب في العدد 3360 من اللواء مقالا افتتاحيا تحت عنوان «يرون الحقيقة ويمارون فيها» قال منه: إن الذين ينحرفون عن طريق الحقيقة لم يضلوه ولو شاءوا لاستقاموا فيه، ولكنهم لا يشاءون؛ فالحيلة فيهم قليلة.
مثلهم مثل من يجعل بينك وبين الشمس يده إذا تعالت في السماء ليحجب عنك نورها وهو يدري بأنه لا يحتجب، فالويل لهم من أنفسهم والويل لطلاب الحقيقة منهم.
نعم، إن الحقيقة لا تدرك بين الذين أشربوا في نفوسهم هذه الطباع ولكنها غير مجهولة ولا خافية، وهل يخفى النور على بصير وقد ضمن مقالته أبياتا بهذا المعنى.
فقد ظن الكاتب أني أنكرت الحقيقة مطلقا، وليس هذا مرادي، فالحقائق من صنف (2 × 2 = 4) كثيرة لا تحصر ولا تنكر، ولكن الحقيقة التي عنيتها ليست من طراز هذه الحقائق؛ فهي الحقيقة الكبرى، الحقيقة الشاملة التي ينضوي تحتها كل ما عداها من حقائق، فمن هو ذاك الذي يحسب الكاتب أنه يعرف هذه الحقيقة ويماري فيها؟ تلك أكبر من أن يعرفها أحد فيكتمها، بل تلك أسطع من أن يقابلها بصر إنسان.
خلود الفنون
تساوى الآن أرباب القرائح والفنون، فلم يعد الشاعر ينفرد بتخليد ثمرات قريحته عن زميليه المصور والمغني؛ فبواسطة التصوير الشمسي الملون أصبحت الصورة تنقل من قرن إلى قرن من غير أن يذهب تقادم العهد برونقها، وبالفونوغراف والأنواط الموسيقية أصبح في الإمكان حفظ أصوات المغنين وألحان الموسيقيين مئات السنين بعد أن كانت تخرج من بين شفاههم فيلاشيها الهواء.
نقد الكتب
يحسن بالقارئ أن يعيد تصفح الكتب التي يقرؤها مرة في كل ثلاث سنين على الأكثر، فإنه يضاعف انتفاعه بها ولا تفوته طلاوة الجديد؛ فإنها تتغير في نظره حتى لقد يظهر له كأنه يقرؤها للمرة الأولى فيرى في معانيها ودقائقها ما كان لا ينتبه إليه من قبل، كما يبدو له من مآخذها وأغلاطها ما كان يخفى عليه، وربما تغير حكمه عنها إلى نقيضه فيروقه ما كان يرفضه ويرفض ما كان يروقه مترقيا مع ارتقاء معلوماته.
وبإعادة تلاوة الكتاب في ظروف مختلفة، يتجرد القارئ عن تأثير الظروف عليه في قراءته ويتخلص إلى المعنى المقصود.
أسحار أيار
نشرت هذه الأرجوزة في العدد 976 من الجريدة الصادرة في يوم 26 مايو سنة 1910:
قد أقبل الربيع
بنشره يضوع
ففاحت الزهور
وصاحت الطيور
حديثها تلحين
ولحنها شجون
سجية فطرية
من قدرة سرية
ما ركبت مزمارا
أو هذبت أوتارا •••
الورد في البستان
يميل بالأغصان
يسطو بلون الأفق
عند احمرار الشفق
كأنه الخدود
تهفو بها القدود •••
والفل في الرياض
كالحدق المراض
يرنو بلحظ فاتر
لكل وجه زائر
مختلف الأوراق
مزدوج الطباق
كنجمة الصباح
تهم بالرواح
يا من جفاه الوسن
وحالفته المحن
أزرت به العيون
ومله القرين
الفل طرف أحور
لكل وجه ينظر
لا يغمض الدلال
منه ولا الملال
يرمز للعفاف
بلونه الشفاف •••
والنرجس الجميل
أقصده النحول
ما باله قد أطرقا
لا يستقيم مطلقا
كالتابع المطيع
في حضرة المتبوع
أم أبصر الزهورا
فارتد مستطيرا
وعاذ بالرحمن
من فتنة الحسان
كالناسك المعتزل
عن دهره في شغل
ما جال قط بالبصر
في حسن ربات الخفر
قد أنكر الجمالا
يحسبه ضلالا
كأن من سواه
ليس هو الإله •••
وفاح مثل المندل
من جانب القرنفل
يا سيد البهار
وحلية الأبكار
أدميت في التليد
أنيملات الغيد
طيات ثوب الغانية
ما عنك إلا راوية
مسنن الحوافي
في ورق لطاف
تخالها في الشكل
مثل ثنايا الطفل
ضاحكة للأم
ناغته بعد ضم •••
ودارت الأقاحي
مبيضة النواحي
كأنها الملاح
دارت عليها الراح
فاهتزت الخصور
وافترت الثغور
يا ألف ثغر يبسم
جذلانة لا تسأم
الشهد منها يرشف
والطيب عنها يعرف
كيف يرى الحزين
أو يعبس الجبين
في محضر صبوح
بوجهك المليح •••
وأشرق النيلوفر
كالبدر حين يسفر
يحنو إلى ذكاء
في الصبح والمساء
كالراهب الحبيس
في هيكل المجوس
أتلفه القيام
والنسك والصيام
فاصفر كالمفئود
من خشية المعبود •••
وانتشر المنثور
كأنه الذرور
طرازه مؤتلف
ووشيه مختلف
كأنه قوس قزح
أو خيط نور في قدح
أو لعب الأزاهر
في موسم المساخر
بالورق الملون
من كل صبغ متقن
فالأحمر الخضيب
والأصفر المشوب
والواضح المحمر
كالثغر إذ يفتر
شفاهه لا تطبق
يا حسنها لو تنطق •••
والنيل يجري ساكنا
كالشيخ يسري واهنا
يحدث النجوما
حديثه القديما
قد أقبلت عليه
وحملقت إليه
وراق للنسيم
ما راق للنجوم
فأمسك الأنفاسا
وأنصت اختلاسا •••
والبدر في سماء
يسبح في السناء
مجرد الإهاب
في ذلك العباب
ولاح نجم هالي
مشمر الأذيال
يعمل في الديجور
كالخنجر المشهور
فانقض زنجي الدجى
في دمه مضرجا
وأقبل النهار
يحفه الإكبار •••
يا أيها النيام
قد أدبر الظلام
الماء والهواء
والأرض والسماء
والعشب والنوار
والطير والأشجار
والحوت في البحار
والوحش في القفار
تنهض للبكور
قبل انبثاق النور
فما لهذا النائم
من عنصر ابن آدم
قد خالف الطبيعة
في هذه الشريعة
مذ جعل القنديلا
عن شمسه بديلا •••
لو أنصف الزمان
وأسعف الإمكان
ما أشرق النهار
أو دارت الأدوار
إلا على الربيع
وزهره البديع
الانعطاف
يسر في كل انعطاف استحضار العاطف حال المعطوف عليه استحضارا تتنبه معه في النفس حاستها في مثل تلك الحال.
فالمرأة أعطف على المرأة من الرجل؛ لأنها أخبر بخبايا نفسها واختلاجات قلبها.
والمرزوء يرثي للمرزوء أكثر من الخلي؛ لأنه الأقرب منه إلى فهم حاله والاستشعار برزئه.
وسرعة الخاطر ملازمة لشدة التأثر؛ لأن سريع الخاطر أسرع من غيره إلى لحظ المشابهات البعيدة بين شكايات الناس وشكايته، ومن أهل هذا الخاطر السريع من تبلغ به قوة الاستحضار أن يستحضر أمرا مضى فيضحك أو يبكي كما لو كان الأمر قد وقع له فعلا في ذلك الحين، وأصحاب هذا المزاج هم الذين ينسون أنفسهم في غمار الناس ويتسلبون عن ذواتهم في وسط الجماعة، فيغلب عليهم ضعف الإرادة؛ لأنهم لا يملكون اطمئنانهم الداخلي أمام المؤثرات المتناقضة، ولا تأتي أعمال هؤلاء إلا إذا كانوا فيها ملاحظين أو منفذين لا مدبرين ولا مديرين، أما الأعمال التي تحتاج إلى حضور الذهن واستقلال الحكم وعدم الانقياد إلى مؤثرات الوسط، كالقضاء والسياسة وإدارة الأشغال، فهم لا يبرزون فيها بتاتا.
والشفقة عند القبائل المتبربرة مرادفة تقريبا لمعنى الجبن؛ لأنها بهذه المثابة عبارة عن خوف على النفس من طريق الخوف على الغير ، وكذلك الغلاظة عندهم مرادفة معنى البأس والصلابة.
هذا باعث الرحمة، وهذا أيضا باعث الضمير
فالرحمة ليست إذن حيلة اخترعها الضعفاء لمصلحتهم كما افترض النيتشيون، ولكنها طبيعة من طبائع الإنسان، والفرق فيها بينه وبين الحيوان فرق بين دماغ ودماغ؛ فذهن الإنسان لارتقاء تركيبه يأخذ الشبيه بالشبيه، وذلك ما يصل إليه الحيوان.
شعر حافظ
يعجبني من حافظ جلاله في شعره، يعجبني منه ذاك الجلال وإن كنت أعتقد أن الجلال الظاهر لا يتطلب من شعرائه سموا في المشاعر أو أفضلية لها على شعراء الجمال، فعندي أن إدراك الجمال ينبغي له تهذيب في النفس ودقة في الذوق لا تكتسبان إلا مع العلم ومعاينة ثمرات الفنون، ذلك إلى استقامة الفطرة وسلامة الطبع، وليس كذلك الجلال؛ فإنه لقوته الضاغطة على الحواس يضطر النفس إلى الشعور به قسرا ما دامت على استعداد له، ويندر أن تعرى نفس عن استعداد للشعور بالجلال.
وتعجبني منه موسيقيته في شعره؛ يوقع لك النغم ثم يتركك تغني على ليلاك. ومن الشعراء من تجدهم كأحداث الرسامين يرسم لك الشجرة فلا يترك ورقة من أوراقها، ويلقي إليك بقصة فيقررها كما يقرر الشاهد شهادته أمام القاضي، أولئك ككتاب الهيروجليفي يصورون لك شكلا ما هم عاجزون عن تصويره معنى، والأمي يتراءى له كأن تلك التصاوير أحكم من الحروف تمثيلا وأوضح منها مدلولا.
وأما فيما عدا ذلك، فشعر حافظ كما قال فيه الدكتور شميل ولم يرد أن يطريه: «كالبنيان المرصوص متين لا نجد فيه متهدما.» فهو يعتمد في تعبيره على متانة التركيب وجودة الأسلوب أكثر مما يعتمد على الابتداع أو الخيال.
نوبة الخفقان
إذا كان قلبي بين جنبي مضمرا
لي الغدر لم أرهب لقلب امرئ غدرا
إذا دق لا أدري أتتبع بعدها
له دقة أم أنها الدقة الأخرى
الإلياذة
أضاع البستاني أعواما في تعريب الإلياذة لو قضاها - أو بعضا منها - في تعريب نخبة من أسفار الحكمة الغربية لكان ذلك خيرا للعربية وقرائها من نقل كل ملاحم الأقدمين إليها. نقل إلينا تلك الملحمة الضخمة التي تشتم عنجهيات البدو وجلافات القبائل في كل قصيدة من قصائدها، على حين بدأ الأوروبيون أنفسهم يمجونها ويزهدون فيها، وما كانت تطرب إليها نفوسهم في عهد من العهود، ولكنهم يقلدون في الإعجاب بها بعضهم بعضا؛ فيكتب النقاد في تقريظها ويترنم القراء بوقائعها وأناشيدها، وكلهم يظن أن غيره أعلم منه بسر ذلك الإعجاب المستولي على الجميع، وكلهم في الحقيقة سواء في جهل ذلك السر، وما جعل للإلياذة هذه القيمة بين كتب الأدب المعدودة في لغات الغربيين إلا أنها الكتاب الوحيد الذي بقي لجامعات أوروبا جيلا بعد جيل تدرس فيه بلاغة اليونانية وقواعد شعرها القديم، فكان يتلوها منهم كل كاتب قبل أن يكتب وكل شاعر قبل أن يشعر، ويعتبرونها كما يعتبرون سفرا يدرس في الجامعات، ثم يتشدقون ويتفيهقون بها تفيهق عارف اللسان المجهول وقارئ الكتاب النادر.
ولقد فقدت هذه القيمة بترجمتها إلى اللغة العربية؛ فلم يبق فيها إلا تلك السخافات والحماسيات التي لا أشبهها إلا بوقائع سيف بن ذي يزن وأبي الهلالي مما يقرؤه كل منا في حداثته، ولكن الوهم قد صيرنا لا نجرؤ على النطق بأسمائها كما صيرهم الوهم يشيدون بذكر إلياذتهم وينصبون ناظمها «المستر» ملكا على الشعراء.
الرشوة
فشت الرشوة والصنيعة في الشرق؛ لأن الشرق عش الاستبداد، والرشوة والصنيعة تفشوان حيث تنطلق يد الحاكم بلا مراجعة ولا تعقيب، فلا مناص للشاكين والطالبين من استرضائه والاحتماء به، أما حيث تنحصر سلطة الحاكم في تطبيق أحكام القانون فإنهما يمتنعان إلا بقدر ما يفضل - بعد تنفيذ السلطة العمومية - من سلطة يكتسبها الموظف لشخصه.
الطريقة الإنشائية
العناية بتنميق الألفاظ عيب الطريقة الإنشائية وحسنتها في آن واحد، وهي عيبها لأن المبالغة في العناية بالألفاظ من طبيعتها أن تصرف صاحبها عن تحري المعاني والتثبت من الحقائق، وهي حسنتها لأن هذه العناية من طبيعتها أن تغزر مادة الكاتب اللفظية فتتوارد الكلمات على سن قلمه بلا تعمل أو كلفة، فيجري قلمه في الكتابة جري لسانه بالكلام، وحقق ذلك العيب وهذه الحسنة في كتابات جماعة الإنشائيين من كتاب الجيل الماضي، وأعني بهم أمثال الطويراتي وعبد الله نديم والشدياق واللقاني وأديب إسحاق وإبراهيم المويلحي وأضرابهم من زعماء الطريقة الإنشائية.
وحدة الحكومة
لا أرى لماذا يخطر للأكثرين أن الجامعة الإنسانية تقتضي وحدة الحكومة؛ فليس ما يساعد على هذا الخاطر اليوم، وربما كانت الحكومات المستقلة غدا أكثر منها اليوم عددا، فلا أهمية البتة لوحدة الحكومة في تكون الجامعة الإنسانية، ويكفي أن الأمم سوف تساس في المستقبل طبقا لنظريات مشتركة في الحكم وتجري على وتيرة واحدة في أوضاع العمران، ذلك أدعى إلى التقارب والتآخي من اشتراكها في أشخاص الرؤساء الذين يحكمونها، ومتى وصلت الأمم إلى مستوى واحد في الأفكار والنظامات فما أغناها إذ ذاك عن الانضمام تحت قطعة واحدة من القماش.
القضاء والقدرة في الطبيعة
ليس لنا في أعمالنا اختيار حقيقي بالمعنى المراد من الاختيار، بل إن اختيارنا نفسه نتيجة أعمال اضطرارية تقوم بها وظائف الجسم، ومن ذلك يتبين مقدار ما في قول القائلين برفع القصاص عن فاقد الاختيار من الوجاهة أو عدم الوجاهة في بعض الظروف.
كلنا ننطوي
أينعي يا زهور
واهتفي يا طيور
والعبي واطربي
يا بنات الغدير
وانشري يا صبا
نافحات العبير
واخطري سحرة
بين نور ونور
واسطعي في الدجى
ساعة يا بدور •••
ساعة تنقضي
في دهور تدور
كلنا للردى
والبرايا غرور
كلنا ينطوي
في ظلام القبور
السعادة
السعيد من لا يفكر بالسعادة.
حرم الأوهام
الخيالات الشعرية والأساطير الدينية مستطابة في موضعها محترمة ما دامت في كسر دارها، ولكنها متى تعدت مرة منطقة وخاطرت بنفسها إلى منطقة الحقائق، فعقابها هناك الإعدام ودمها هدر، كذلك حمام الحرم، فمن أرادها فليطلبها في موطنا ولا يخرج بها منه فيجني عليها وعلى نفسه بهذه الغربة المميتة.
عرض الحياة
ترى من سيرة الجانب الأكبر من الناس في حياتهم كأنهم يخالون أنهم دعوا في العالم إلى وليمة يأكلون فيها ويشربون ويقصفون ويطربون، ثم ينصرفون في آخر الليل ليناموا، لعمري إذا كان هذا هو الغرض من كل حياتنا هذه، فما أحقر ما يفوتنا بالموت من حياتنا! وما أشد ما ظلمنا الموت بهذه البغضاء!
سائلوا بطرس باشا
ليت شعري ماذا كان يعني شوقي بك بقوله على قبر بطرس باشا:
القوم حولك يا بن غالي خشع
يقضون حقا واجبا وذماما
يتسابقون إلى ثراك كأنه
ناديك في عهد الحياة زحاما
يبكون موئلهم وكيف رجاؤهم
والأريحي المفضل المقداما
أكان يريد أن يقول: إن زائري قبر الرجل وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء، وفيهم نائب مولاه الأمير ووكلاء الدول وأكابر السراة والوجهاء، أكان يريد أن يقول: إن هؤلاء كلهم ممن كانوا يقصدون من نادي ابن غالي موئلا وكهف رجاء يستعطفون من أريحية ساكنه الجواد ويستدرون من أفضاله؟ أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى فأخطأ التقليد؟ أم لعله كان لا يريد أن يقول شيئا؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعية أعيد ليرثي كل من يموت من خدامها بلا مقابل؟
الحر والخصب ينميان الأديان كما ينميان الأغصان
الحر والخصب كلاهما طبعا الشرقي على الكسل وقلة العمل، وكلا هذين من دأبه أن يطلق للفكر عنان التصور والخيال، ويغري النفس بالاسترسال في الأماني والآمال، فالشرق من قديم الأزمان مهد الأديان ومهبط وحي الوجدان، وليت شعري إذا لم تكن العقائد من نتائج الخيال، فعلام لا ينشأ إلا في الشرق أمثال برهما وبوذا وكونفشيوس وزردشت وموسى وعيسى ومحمد وسواهم من الأنبياء وواضعي الديانات؟
ابن حمديس
شاعر صدت عنه الشهرة بعد أن أقبلت عليه، وطواه الخمول بعد أن طبق ذكره الآفاق.
فلقد نسي الرجل بعد أن ذاع اسمه في العالم العربي، فكان ينشد له في قرطبة ومراكش وصقلية ومسيني وبغداد، استدعاه المعتمد بن عباد من قرطبة إلى إشبيلية، وكان قد اجتباه فلم يزل صديقه ملكا وأسيرا، وذكره أكثر أصحاب التراجم والسير، فأشار إليه ابن الخطيب في نفح الطيب، وشهاب الدين العمري في مسالك الأبصار، وعماد الدين الأصفهاني في جريدة القصر وجريدة العصر، وابن القطاع في الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة، وذكره هذا أيضا في طبقات الشعراء، وأبو الصلت بن أمية الأندلسي في الحديقة، وحاجي خليفة في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، وابن بشرون الصقلي في المختار في النظم والنثر، وابن بسام ولا أذكر أين نقله ابن خلكان في وفيات الأعيان، ونقل له بعض هؤلاء عن بعض، وأطنبوا الثناء عليه بما عرفوا من قدره، ولكن وافق بعده أن اضمحلت دولة العرب في المغرب وانقرضت لغتهم من تلك الأمصار؛ فضرب النسيان على اسمه مع ما ضرب عليه من معالم مدنيتهم هناك.
ولكن هذا الشاعر المجهول قد زاد بديوانه على ثروة اللغة العربية ذخيرة أضاعها التفريط، وأودع ألفاظها من المعاني ما لم يضمنها إياها شاعر عربي آخر، ولقد كان ينبغي ألا نذكر المتنبي والبحتري وابن أبي حفصة وابن هانئ وغير هؤلاء من محترفي الشعر، كان ينبغي ألا نذكرهم مرة إلا ذكرنا ابن حمديس مرارا، هذا الذي لا يذكره قراء العربية إلا كما يذكرون شعراء الفرس والصين، ولولا «ابن» قبل حمديس لما درى أكثرنا إن كان اسم رجل أو اسم مكان.
ولم يأت واحد ممن أشاروا إليه ولا على طرف من سيرته، ولا بينوا مسقط رأسه وتفصيل نشأته، ولعلهم كانوا يجهلون ذلك أو لعلهم لم يستقصوه كعادتهم في إيراد التراجم، فكل ما عرفته من أمره بعد أن تصفحت ما عثرت عليه من المصنفات التي ورد فيها اسمه أنه وفد على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وفي تلك السنة رحل إلى إفريقية وصحب العرب، وأن له كتاب الجزيرة الخضراء من بلد أندلس، وقال ابن بشرون: إن والده عبد الجبار كان شاعرا وفضله على أبيه، وقد اتفق أكثر من واحد على أنه قضى نحبه في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وقال بعضهم كان ذلك في شهر رمضان من تلك السنة، وأنه توفي في جزيرة ميورقة وقيل بيجاية، ودفن إلى جنب ابن اللبانة الشاعر المشهور، وزعم أنه قد عمي في أواخر أيامه. ويظهر من قصيدته في العصا التي يقول فيها:
كأنها وهي في كفي أهش بها
على الثمانين عاما لا على غنمي
ومن قوله في موضع آخر :
ثمانون عاما عشتها ووجدتها
تهدم ما تبني وتخفض ما تعلي
أنه قد بلغ الثمانين أو ناف عليها، فيكون قد ولد حوالي سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وأنه قد صار شاعرا تقربه الخلفاء في نحو العشرين من عمره.
طبع ديوانه بروما طبعة غالية من نسخة نقلها «زكريا بن خضر بن علي بن طاهر البقاعي ثم اللبناني ثم الدمشقي»، وفرغ من كتابتها في شهر ذي القعدة سنة ست بعد الألف، واسمه في نسخة من ديوان عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الصقلي السرقوسي، ويدعوه بعض الرواة أبا محمد عبد الجبار، ولعلها كنية، ومنهم من ينسبه إلى الأزد.
أما الديوان فجيد أكثره، لا سيما ما كان منه وصفا أو نسيبا صانه الإهمال عن الابتذال فلم تبهت له من القدم طلية، وله سرقات عن بعض شعراء المشارقة، ولكنها سرقات ظاهرة أو هي سرقات أمام العين كما يقولون، أما فهمه للشعر فيختلف عما كان يفهمه منه قدماء الشعراء؛ فقد تذوق كنه الشعر ونفذ إلى روح الإلهام، فمن قوله في الشعر:
ووجدت علم الشعر أخفى من هوى
لم تفشه عين لعين رقيب
وقال في معرض آخر:
وإذا أردت بأن تصور للمنى
صورا فسلمها لفكرة شاعر
شعره وجداني لا صناعي؛ فهو براء من المديح المتكلف والوصف المدعى؛ ولذلك تعرف من الشعر من هو الشاعر، فكان الرجل عفيف اللسان يترفع عن الفحش والمقال القبيح كما قال:
إني امرؤ لا ترى لساني
منظما ما حييت هجوا
وكان سليم الطبع جليل القدر، فكان يرتاح المعتمد بن عباد إلى بث شكايته إليه، ويجد سلوة في مراسلته بعد أن نفي إلى أغمات، فيجيبه الشاعر بما يفعل بنفسه فعل المرهم بالجرح النغار.
انظر كيف يمدح عن سرور قلبي بالعمل وإعجاب صحيح بالممدوح، قال يمدح أبا الحسن علي بن يحيى ويذكر رده أهل سفاقس إلى أوطانهم:
يا يوم مرجعهم إلى أوطانهم
أرجعت أرواحا إلى أبدان
نزلت بك الأفراح في عرصاتهم
وبها يكون ترحل الأحزان
فلذا القلوب إلى القلوب تراجعت
في ملتقى الآباء بالولدان
والأمهات على البنات عواطف
والمشفقات على اللدات حوان
سر القرابة بالقرابة منهم
وتأنس الجيران بالجيران
وتزاور الأحباب بعد قطيعة
دخلت بذكر الود في النسيان
في كل بيت نغمة ومسرة
شربوا سلافتها بلا كيسان
ودعاؤهم لك في السماء محلق
حتى لضاق بعرضه الأفقان
كحجيج مكة في ارتفاع عجيجهم
وطوافهم البيت ذي الأركان
صيرت في الدنيا حديثك فيهم
مثلا يمر بأهل كل زمان
فخر يقيم إلى القيامة ذكره
مثل الشنوف تناط بالآذان
وقال يرثي جارية له غرقت:
وواحشتا من فراق مؤنسة
يميتني ذكرها ويحييها
أذكرها والدموع تسبقني
كأنني للأسى أجاريها
جوهرة كان خاطري صدفا
لها أفيها به وأحميها
يا بحر أرخصت غير مكترث
من كنت لا للبياع أغليها
أبتها في حشاك مغرقة
وبت في ساحليك أبكيها
ونفحة الطيب في ذوائبها
وصبغة الكحل في مآقيها
عانقها الموج ثم فارقها
عن ضمة فاض روحها فيها
ويلي من الماء والتراب ومن
أحكام ندين حكما فيها
أماتها ذا وذاك غيرها
كيف من العنصرين أفديها
فهل سمعت أهدأ من هذا تفجعا؟ لو كانت هذه الجارية لسيف الدولة، أما كان المتنبي يكسف الشمس ويخسف القمر وينثر الكواكب شذر مذر.
وهل فات واضعو الأناشيد الوطنية قائلا يقول قبل ثمانية قرون:
ولو أن أرضي حرة لأتيتها
بعزم يعد السير ضربة لازب
ولكن أرضي كيف لي بفكاكها
من الأسر في أيدي العلوج الغواصب
وكيف يقول في الفونوجراف من هذا قوله في العود:
في حجرة أجوف له عنق
نيطت بظهر نخاله حدبه
يمد كفا إليه ضاربة
أعناق أحزاننا إذا ضربه
قلت ألا فانظروا إلى عجب
جاء بسحر فأنطق الخشبه
وماذا أبقى لمصورة الفلكي بعد هذا الوصف:
والبدر قد ذهب الخسوف بنوره
في ليلة خسرت أواخر مدها
فكأنه مرآة قين أحميت
فمشى احمرار النار في مسودها
فعسى أن يوفق إلى نشر ديوان هذا الشاعر طابع يعرف فائدته وفائدة القارئ حتى لا ينفرد بين أبياته الصادقة هذا البيت:
إني امرؤ أبني القريض ولا أرى
زمنا يحاول هدم ما أنا بان
الشتاء في أسوان
ألق الربيع على البشير
كانون آذن بالظهور
أسوان تزهو حين يذبل
كل مخضر نضير
في كل مربأة بها
نور تألف فوق نور
بلد تجود له الطبيعة
بالصغير وبالكبير
لا تستجن شموسه
إلا على غير البصير
فهواؤه برء العلي
ل وماؤه عذب نمير •••
ما طب جالينوس قي
س بطبه إلا غرور
أبدا تحوط به ودائ
عها بسور خلف سور
من كل شاهقة كأن
ن قلالها عمد الدهور
حصن تهاب طروقه ال
آفات طرا والشرور •••
يولون أقفر غابها
من كل مختال فخور
سرحت صوادحها وأط
لق ورقة الأيك النضير
يلقين حبات القلو
ب من الجوانح والصدور
الفاتنات تكاد إح
داهن من حسن تنير
الناهدات كما ترى ال
أهرام في الرسم الصغير
العبهريات الشذى
والكوثريات الثغور •••
الورد في وجناتهن
ن يضوع في كل الشهور
المرسلات الشعر كال
ذرياب مصفرا غزير
متمنطقات بالدم
قس مؤزرات بالحرير
من كل قاع جؤذر
تلقاه أو ظبي غرير
مثل الشموس برزن لل
أكوان من فجر الشعور
داراتهن مطالع
لم تدر ما نور البدور
فيهن معترك الغر
ام ومعرض الحسن الطرير
الحور هن خلقن لل
فردوس لا للزمهرير •••
الماء فاض على الجنا
دل والسواحل والجسور
خلجانه تنساب كال
حيات ما بين الصخور
متسابقات كالسو
ابق في مجال مستدير
والنيل مصطفق كمن
قد هزه فرط السرور
متدافع الأمواج تر
قص وفق توقيع الخرير
وترى الزوارق كالبو
اشق حوما أو كالنسور
قد حار فيها العنصرا
ن الريح والماء القدير
والشمس شاخصة تكا
د تنوء من جهد المسير
فضفاضة الأذيال تخ
طر كالعروس إلى السرير
وكأنها فوق الذرى
فوق الجزائر والبرور •••
حسناء ترقب قادما
في النيل من أعلى القصور
وعلى الروابي والهيا
كل مسحة الشفق الأخير
تبدو كما نصل الخضا
ب بعارض الشيخ الوقور
ما كان أول مغرب
شهدت على مر العصور •••
كم آية في الكون أخ
فى من خفيات الضمير
من لا يرى إلا العيا
ن فما يرى إلا يسير
مساوئ المدنية ومحاسنها
التقدم الاقتصادي مصحوب دائما بشرور وقساوات تنكر وجه المدنية وتدنيها في السحنة من ضرتها الهمجية، ومع ذلك فهذه الشرور ضرورية لا بد منها، بل هي شرور إذا لم تظهر بذاتها وجب علينا أن نعمل لإيجادها؛ فإن كل شر منها يسبق دائما إصلاحا اجتماعيا يعم جميع الجنس البشري، وإليك مثلا أو أمثالا، فلولا ازدحام أوروبا لما عمرت أمريكا، ولولا طمع أرباب المعامل لما كان تضامن العمال.
وما ألطف قوله:
يطيب أفواههن الحديث
بحمر الشفاه وبيض الثغور
كما مر بالورد والأقحوان
نسيم مشوب بريا العبير
ألا يرتشف من بيتيه هذين رضاب الحسان، وتتنسم ريح الورد والأقحوان؟!
وما أغزر دموع هذين البيتين:
ويا ريح إما مريت الحياء
ورويت منه الربوع الظماء
فسوقي إلي جهام السحاب
لأملأهن من الدمع ماء
وهل قال شلي في قصيدة القنبرة أحدث من هذا:
أصبا هبت بريحان الصبا
أو شمال سكرتني بالشمول
حيث غنتني شادي روضة
مطربات بخفيف وثقيل
في أعاريض قصار خفيت
دقة في الوزن عن فهم الخليل
ولحون حار فيها معبد
وله علم بموسيقى الهديل
والدجى يرنو إلى إصباحه
بعيون من نجوم الجو حول
وما أبلغ وأصدق ما قال:
وأشراك الردى في الغيب تخفى
كما يخفين في ترب الحضيض
عجبت لجمعه فيهن صيدا
حوى بين القشاعم والبعوض
وأين بيتا صبري أو شوقي في تنزيه صاحبتهما من هذا البيت:
لا تنكري أنك حورية
روائح الجنة نمت عليك
ولولا استبداد الرأسماليين لما وضعت مبادئ الاشتراكية التي ستغير أصول الشرائع والآداب في العالم قريبا، ولولا جشع المرابي لما تأسست نقابات الزراع، وهكذا كل داء يحمل ترياقه في جراثيمه، وكل سيئة طارئة يتبعها حسنة دائمة مما لا تكفله لنا الطبيعة ولا الطبيعيون.
أما ساداتنا الفلاسفة الذين يهشون على الجنس البشري كما يهش الراعي على غنمه، صائحين: ارجعوا إلى الطبيعة! عودوا إلى المروج والحقول! فلا أعلم أهم يظنون العالم يعيش الآن فيما وراء الطبيعة؟! أم لعل الطبيعة لا تأوي إلا بين الأشجار والظلام والأودية والجبال؟!
الغرام بالفلسفة القديمة
شاهدت بعض الأدباء ينهمكون في مطالعة كتب الفلسفة اليونانية، وينكبون على تطبيق قضايا علم المنطق، ويسهرون الليالي في مذاكرة ألغاز علم الكلام، وما هو - لو أصابوا - إلا علم الكلام الفارغ، إن كان للكلام الفارغ علم يدرس، يتحملون كل هذا النصب في الاشتغال بتلك المغالطات والتخمينات، ولو بذلوا بعضه في تحصيل العلم الحديث لأوعبوا منه القسط الأوفر.
لا أنكر أن مراجعة الفلسفة القديمة مما لا بأس به للوقوف على حركة الأفكار، ولكن لا إلى الحد الذي يشغلنا عن فلسفتنا، كما أن زيارة الأطلال والآثار مطلوبة للنظر والاعتبار، ولكن لا يصح أن تنسينا بيوتنا.
البغاء
سل الكتاب الفضلاء الذين يدهشون لانتشار البغاء بين الرجال والنساء: ما الذي يدهش من الأمر؟
أمن طبيعة الزوج أن يقتصر على امرأة واحدة، أم من طبيعة الزوجة أن تقتصر على رجل واحد؟
لا هذا ولا ذاك.
فالقيود الأدبية هي التي قسرت كلا من الزوجين على الاكتفاء بالآخر، وكان البغاء يكثر أو يقل حسب اشتداد تلك القيود أو ارتخائها تبعا لاعتداد الرجل بقوته البدنية أو قلة قيمتها عنده (راجع حماية العرض).
فإذا بحثنا عن علة لهذا البغاء فلا نبحث عنها في الرجل والمرأة، فإنهما لم يتغيرا في طبيعتيهما عن ذي قبل، إنما نبحث فيما تغير من تلك القيود والحدود، وها نحن نراها كلها قد تبدلت دينية كانت أو أدبية؛ لأنها لا تلائم عصرنا، والذي علينا أن ننتظر حتى يهيئ المجتمع نفسه كما يلائم هذه الحال، أو يحدث لنا قيودا جديدة في موضع تلك القيود المنحلة.
وإلا فإذا كنا لا نعلم إلا اشمئزاز النفوس منفرا من البغاء العقيم، فبأي حق نحظر فعله على من لا تشمئز نفسه منه؟
جناية الصناع على الصناعة
لو كان لا يتوخى الصانع غير المقصود من صناعته لرأيت الصنائع أبعد في طريق الكمال والإتقان مما تراها الآن.
تقول للمغني: هذا صوت شجي، فيقول لك: أي نعم، ولكنه على غير ألحان الغناء.
وتقول للخطاط: هذا خط حسن، فيقول لك: حقا ولكنه لا ينطبق على قواعد الكتابة، وتسمع مثل ذلك من الكاتب والطبيب والنجار والحداد.
فيا ذلك المغني ويا هذا الخطاط، ما طلب الناس منكما إلا صوتا مطربا أو خطا معجبا، فاطويا قواعدكما أو فألقياها في اليم، ما دام الصوت يطرب، والخط يعجب بغير تك القواعد.
الكاتب والشاعر
الكاتب من تتشخص له في كتابته روح يتجلى فيها نهجه ومذهبه وسياق أفكاره، وهذه الروح هي السمة التي تميز بين قلم وقلم، فإذا كانت تتضاهى أنساق الأيدي، فأنساق العقول لا تتضاهي إلا إذا كان منحاها فيها التقليد لا الابتكار، أما غير هذا الكاتب ممن يستمدون ويخططون، فأولئك نساخ يستعيرون أساليب غيرهم لمعاني غيرهم، فليس لهم من كتاباتهم إلا الإمضاء، أو هم توائم لا يعرفون إلا بالأسماء.
وكتابات هذه الزمرة أقرب إلى مواضيع إنشاء التلاميذ منها إلى ثمار القرائح ومبتكرات الأفكار، فالترجمة أليق ما ينتسب به هؤلاء إلى حرفة الكتابة، هذا إذا كانوا يجيدون لغة من اللغات وإلا ففي غير الكتابة من الحرف ما يغنيهم عن تلويث أصابعهم بالمداد.
أما الشاعر فاسمه بلغتنا يشير إلى تعريفه، ولعل معجما من معاجم اللغات لا يتضمن اسما للشاعر أدل على مسماه من اسمه في اللغة العربية.
قد عرفنا أن وزن الأعاريض غير قرض الشعر، ولكن من هو الشاعر؟
أهو المقصد الذي لا يعجز عن ترصيع قصائده بما يبهر ويخلب من الخواطر البراقة والمعاني الخطابية المتلألئة؟
كلا! هذا شاعر يذكرني بصاحب ذوق مبهرج يريد أن يزين غرفته بالرسوم فيرصص سجوفها وحوائطها بالإطارات والكفافات حتى لا يبرز منها قرن أو تظهر فيها زاوية، أو بذاك المصور الذي يصبغ رسمه ببهي النقوش وبهيج الألوان ليبهر بها أبصار الناظرين، أو بتلك القروية التي تحلي يديها فتدس عشرة أصابعها في أنابيب من مختلف الخواتم والفصوص.
فليس الشاعر من يزن التفاعيل، ذلك ناظم أو غير ناثر، وليس الشاعر بصاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل، ذلك ليس بشاعر أكثر مما هو كاتب أو خطيب، وليس الشاعر من يأتي برائع المجازات وبعيد التصورات، ذلك رجل ثاقب الذهن حديد الخيال.
إنما الشاعر من يشعر ويشعر.
ولقد ضاع الشعر العربي بين قوم صرفوه في تجنيس الألفاظ وقوم صرفوه في تزويق المعاني، فما كان شعرا بالمعنى الحقيقي إلا في أيام الجاهليين والمخضرمين على ضيق دائرة المعاني عندهم، وسيعود كذلك في هذه الأيام على يد أفاضل شعراء العصر.
قاسم أمين
إن اسم قاسم لحقيق من فتياتنا وآنساتنا بأن يرقمنه في الشنوف ويطرزنه على المناديل؛ فإن ذلك عنوان عرفان الجميل، وإنه لأحيا أثرا من رفع النصب وإقامة التماثيل.
تحرير المرأة ليس من الأعمال الطنانة التي أكثر ما فيها دوي ورنين، ولكنه عمل هادئ رصين ينزوي في البيوت والخدور، لا يبرز إلا قليلا على قوارع الطرقات، ولا يصرخ إلا نادرا على منابر المنتديات.
فالمرأة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت سجينة فأطلقها وكانت أمة فأعتقها، والأمة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت شلاء فأبرأها من ذاك الشلل الذي أمسك شقها عن الحركة دهورا وأعواما، والإنسانية مدينة لقاسم، لأنه أنقذها من رق لا تجرؤ مصلحة الرقيق على مطاردته، والفخر في تحرير المرأة لا يزال الآن من نصيب قاسم، أما من قفوه في هذا المقصد فهم إنما درجوا على طريق بينة الآثار وسلكوا في منهج مأبور.
الحقوق العامة والاستعمار
إباحة الحقوق العامة لكافة الأفراد في كافة الأوطان مرهونة على زوال الاستعمار.
ومتى يزول الاستعمار؟
متى عولت الدول على جودة البضاعة لا على قوة الأساطيل، وأخذ كل أهل إقليم في استغلال إقليمهم واستخراج ذخائره؛ فتسقط حجة المستعمرين الذين يقولون - وهم صادقون فيما يقولون - إن الأحق بالأرض هو الأقدر على الانتفاع بخيراتها والنفع بها، يومئذ يبطل الاستعمار، ويومئذ ترشد الأمم من ضلال الوطنية فلا يطلب الوطن من الفرد إلا عضوا عاملا، ولا يطلب الفرد من الوطن إلا محلا للعمل، يومئذ تتحد وجهة الإنسانية فتتكاتف وتتآزر بعد أن كانت تتقاطع وتتدابر.
اللغة العربية
قد لا تقل اللغة العربية عن أوسع اللغات في كثرة المفردات، ولكنها لا تزال من أفقرهن في المعاني، وقد لا تنقص مواد المعجم العربي عن بضع مئات من الألوف، ولكنها مع ذلك تظل أفقر من لغة أخرى لا تشتمل على أكثر من ثلاثين أو أربعين ألف مادة؛ ذلك أن اللغة العربية ليست لغة واحدة، وإنما هي مجموعة لغات شتى، فربما كان للشيء الواحد عشرة أسماء، تدعوه كل قبيلة باسم منها لا تدعوه به أخرى؛ مما أكثر فيها المترادفات بلا جدوى، فبينما نستغني في معنى من المعاني عن ستة أو سبعة أسماء نحتاج في معان أخرى إلى اسم واحد، وقد شعر العربي بهذا الافتقار في المرتين اللتين اضطر فيهما إلى الخروج من الدائرة الضيقة التي كان فيها بين المناخ والبيداء ومضارب الخيام؛ الأولى: لما نقل الفلسفة اليونانية فدخل في اللغة العربية كثير من مصطلحات اليونان، وحدثت فيها أوزان واشتقاقات لم تكن تمس الحاجة إلى استعمالها من قبل، والثانية: في عصرنا هذا عند انتشار العلم الحديث باكتشافاته واختراعاته التي لم تكن تخطر لسكان البدو أو الحضر على بال.
أقول ذلك توصلا إلى القول بوجوب توسع اللغة العربية الفصحى بنحت جملة من كلمات اللغة الدارجة في بنيتها، ونقل المصطلحات العلمية والفنية إليها كما هي في لغاتها الأصلية؛ لئلا نجشم الطالب العربي مراعاة اصطلاحين عوضا عن اصطلاح واحد، ولئلا ننفصل عن الحركة العلمية العامة فتنشق بين أمم العالم بعلم عربي لا قبل له بمساوقة علم الأمم جمعاء.
فالعلم العصري علم الإنسان، وليس علم العربي أو الإنكليزي أو الفرنسي، فالاهتمام بتعريبه عبث واشتغال بما لا يفيد.
مستقبل الشعر
الشعر يخالف العلم، ولكنه لا يناقضه إلا كما يناقض الطب الهندسة وتناقض الكيمياء الطبيعة.
والرجل الراقي يفترق عن المنحط بكيفية التخيل لا بكميته؛ فالأول مرتب الخيال لطيفه، والثاني مشوش الخيال كثيفه، فالعالم لا ينقص خيالا كلما ازداد علما.
فإذا تنبأ علماء العصر فليتنبئوا بتحسن الشعر وارتقائه لا بحئوله وامحائه.
يا راحلا صدع الحمام شبابه
فعلمت كيف تصدع الأكباد
إني لأحسبني أراك مجاهدا
والنيل حولك دائم الأزباد
وأراك ترمقني وقد غلب الردى
وأقام جند الموت بالمرصاد
في ساعة ما كان أغفل خاطري
عما عراك وفت في الأعضاد
أمسيت رسما في التراب معطلا
وغدوت نصب روائح وغواد
ويحي! أترقد تحت أطباق الثرى
وأقيم بعدك هانئا برقاد؟
أتبيت رهن صفائح وجنادل
وأبيت بين وسائد ومهاد؟
لو أنصفت أيامنا لبكيتني
لكنها تجري بغير مرادي •••
سقيا لأطهر موجتين أقلتا
بين الجوانح أطهر الأجساد
حنتا عليك وضمتاك كأنها
ضمات صدر أخيك بعد بعاد
فمضيت بينهما كأنك هاجع
واها لذاك الهاجع المتهادي
يا زهرة شرقت بما تحيا به
فذوت وأورق شوكها بفؤادي
إن الحياة - وما حييت لكي ترى
سر الحياة - كثيرة الأضداد
فلئن عدوت من الحياة نعيمها
فلقد عداك شقاؤها المتمادي
عزاء إلى ضيف الشارع
أيهما أرفع في حكمكم
يا أمة ديدنها البخس
منعم توقظه غادة
أو بائس توقظه الشمس
غطاء هذا ريطة رصعت
نجما وذاك الخز والبرس
إلى ساكنة الدور الخامس
يا طلعة في العلا تراءت
تحفها هالة البهاء
أكوكب أنت في الدراري
أم ملك لاح في العلاء
أم أنت حورية أطلت
للناس من شرفة السماء
إن تحقري الأرض فارفعينا
إليك يا ربة السناء
أيها البدر
أنا في الأرض ساهر أيها البد
ر وفي الأفق أنت يا بدر ساهر
ناظري وحده يراك وقد أغ
فى من الناس موهنا كل ناظر
فأعني على السهاد كلانا
حائم في الظلام يا بدر حائر
الفصل الثاني
الشذور
الراحة
أبونا آدم رجل سبط القامة، عريض الألواح، جثل الشعر، في لون بشرته أدمة، وعلى ميحاه سيماء الطيبة والسلامة، ولنظراته دلائل الأمانة والجهامة، ولم أدركه أنا ولكني صادفته في المنام، وعرفني به وحي الدم، والدم كما يقولون جذاب، والعرق دساس، فلما صادفته ذكرت موجدة لطالما وجدتها عليه كلما راجعت سيرته في الجنة، فقلت له: يا أبانا يغفر الله لك، ما أقل ميراثك وأكثر وراثك! أقطعوك الجنة بما رحبت فلا صنتها عليك ولا حفظتها لبنيك بعدك، ثم خرجت منها فما تزودت من ألطافها وأطايبها ولا احتقبت من تحفها وعجائبها، عزاء لأبنائك الضارسين بالحصرم الذي أكلت، والمنغصين بالثمرة التي جنيت، وتركتهم في ظلمات الحياة يعمهون، وعلى وجه الأرضين والبحار يخبطون، فلا يهتدون، فهلا إذ كنت في الفردوس كان لك بطيباته المحللة غناء عن تلك الشجرة الممنوعة ؟ وهلا إذ أكلت منها تذكرت بنيك، فقطفت لهم من ثمار الفردوس ما يتنسمون منه رائحة تلك الدار التي كنت فيها؟ ثم أورثتهم الحنين إليها! وكان مطرقا، وكأنما هجت في نفسه ذكرى منسية، فاغرورقت عيناه بالدمع ورأيته يغالب نشيجه ويتنهد ثم مد إلي يده وقال: قدك يا بني قدك!
ولا تعجل باللوم على أبيك، فوالله ما الزلة في الأولى والآخرة إلا زلة أمكم حواء سامحها الله، وما نسيتكم - علم الله - يوم الخروج يوم المعصية والحرمان، أواه، وما كان أحلى تلك المعصية ثم ما كان أمر ذلك الحرمان ... كنت أمشي في ذلك اليوم وأتلفت أسفا على ما أودع ووجلا مما أنا قادم عليه، وكانت حواء تمشي إلى جانبي ذاهلة مستعبرة، والنساء يا بني يفعلن الأفاعيل وهن بعد لا يملكن فيها غير الذهول والبكاء، فبينا أنا أمشي وأتعثر، وأبطئ الخطوة أستزيد بها الدقائق، وقد كان لنا مثل مقام الأبد لولا ما فرطنا ... إذ عاينت على قدى خطوات جوهرا وهاجا قد صفت حوله الطير وحفت به الأملاك، وهم ساهون عنه غير مقبلين عليه؛ ذلك جوهر الراحة يا بني، ومن آفته أن من يحرزه لا يحس به ولا يقدر قيمته، فأوضعت إليه فالتقطته ولم يشعر بي أحد.
قلت: وأين ذلك الجوهر يا أبتاه؟! أهو معك الآن؟ قال: مهلا، إني خشيت أن أظهر حواء عليه فترزأنا به كما قد رزأتنا بالنعيم كله، فسترته بيدي وما كادت تمس الأرض قدمي حتى أسرعت فخبأته في حرز حريز، وقضيت - وا أسفاه - ولم أطلع أحدا من أبنائي على موضعه، وهذا سر لا إخالكم وقفتم عليه، فلا غرو أن قام منكم في الزمن الأخير من ينتسب إلى القردة دوني، ولا بدع أن تيأسوا من الجنة وتولوا بوجوهكم عنها ...!
قلت: بل قد وقد وقفوا عليه، ولا أدري من أين، ودروا أنك التقطت جوهرا من الجنة وأنه جوهر الراحة، فطفقوا يبحثون عنه في اليقظة والمنام، وكلما ظنوا أنهم ثقفوه إذا هم أبعد ما كانوا عنه؛ إذا التمسوه في المجد فهناك البوار والعطب، وإذا ابتغوه في الأمل لم ينقض لهم أرب حتى يجد لهم أرب، وإذا أراغوه في اللهو فعاقبته الندم، أو نشدوه في البطالة ففي البطالة السأم ... تائهين على غير هدى، ضاربين في مناكب الأرض سدى، يبدءون ويعيدون، ويعيدون ويبدءون، وهيهات ما يوعدون، أفلا كفيتهم الآن هذا النصب، وعوضتهم عما تجشموه من الكرب وسالف الحقب؟ قال: لا تطمعوا أن تجدوه حيث أنتم كادحون، فإنما قد دفنته تحت التراب، في مكان لا يراه من ينظر السماء ولا يرى السماء من ينزل إليه ... ولكنكم متى حللتم جوف الأرض واطرحتم كل أمل لكم في ظهرها، فهناك الراحة السرمدية!
الغرور
دخلت على صديق لي أديب، فسمعته يجادل رجلا أميا لم يغادر مسقط رأسه قط، وكأنه كان يهمه أن يقنعه بضلاله ويؤنبه عليه، فكان يخاطبه بلهجة بين الغضب والسخرية ويقول: أي شيء زين لك أنك تفقه من هذه الشئون ما لا أفقه وأن لك فيها رأيا تعتد به فترجحه على الآراء كافة؟!
أبأن الله منحك من ذكاء القريحة ونفاذ البصيرة ما قد حرمته، وما ادعيت من قبل ولا ادعى لك أحد أنك من أرباب المواهب النادرة والأفكار الخارقة؟!
أم بسعة اطلاع وغزارة علم وقد علم الناس وعلمت أنت أنني تقلبت في مجالس التربية من لدن نطقت بأولى كلماتي إلى أن استغنى عن المسح شاربي، وطالعت من الكتب أضعاف زنتك ورقا وأنت لم تقرأ حرفا في صحيفة ولا تفرق إلى اليوم بين الألف والعصا؟!
أم باختبار الناس وممارسة الأيام وأنت في عقر دارك منذ ولدت لم تبرحها صباحا إلا لتنكفئ إليها مساء، وأنا قد سايرت الدهر وساريت النجم فقاسيت الغربة وكابدت المحنة وصحبت علية الناس وغوغاءهم، وبلوت كبراءهم وصغراءهم، وزاولت كل عمل، وطرقت كل باب فانكشف لي من ظواهر الناس وبواطنهم ما لو أنني لم أقرأ بعده كلمة لكان حسبي، وما لو أنه لم ينكشف لي لما كنت قد قصرت عن شأو أنت أدركته، ولا جهلت أمرا أنت حصلته ولم تجهله؟
أم بالسن وأنت ندي، أم بالوحي والإلهام وقد انقضى عهد النبوة، أم بالصدفة ولا حجة للصدفة؟
قلت: لعلي أجيبك عما يزين له ذلك، يزينه لك الغرور الذي تمتلئ منه كل جانحة وتنبض به كل جارحة، ولولاه لمات أكثر الناس غما بقصورهم وحزنا وأسفا على عجزهم وتخلفهم، وإذا كان لا بد لكل إنسان من أن يحب نفسه، فلا بد له من أن يغتبط بها وإلا فقد عجز الإنسان حتى عن حب نفسه لغير سبب، كما قدر الغرور على أن يخلق لكل إنسان سببا يرضيه عن نفسه، وأنت لو أمكنك أن توقف إنسانا ثم أمررت أمامه الثقلين جميعا يقولون له إنه أجهل الناس وأحقر الناس وشر الناس وأضعف الناس، ثم خلا ذلك الإنسان بنفسه، لأمكنه أن يوهمها أنه أعلم الناس وأجل الناس وخير الناس وأقوى الناس، يكذب الناس كلهم ويصدق الغرور؛ لأن الغرور يقدر على أن يواسيه فيما يسلبه منه الناس، ولا يقدر على أن يعوضوه عما يسلبه منه الغرور، فإن كان فقيرا علل نفسه بأنه سليم الجسد موفور العرض أو بأنه لو أحصيت ديون الغني وأمواله لكان هو أثرى منه مع الراحة من عنت الغرماء، أو أنه يدبر ماله القليل بما يجعله أغنى من صاحب المال الكثير، أو أن الله أخلف له في ذريته ما أنقص من رزقه، وأنه يكسب قوته بعرق جبينه وكد يمينه، وذاك يكسبه من السحت والحرام، ويبدده في البذخ والآثام.
وإن كان جاهلا زعم أنه ليس بالغبي، ولو كان تعلم ما تعلمه العلماء لبزهم في العقل، وتقدمهم في الفضل، وأنه على جهله يفهم بالبداهة ما لا يفهمه العلماء إلا بالدرس واللجاجة.
وإن كان مهينا ذليلا قال: ما لي وللرفعة والثناء، والعزة القعساء، أضيم الأبرياء وأعتو على الضعفاء، وأروي بهم الحقد والبغضاء، وما يتبعهما من سوء الثناء، وأنصب لما ليس يعنيني من الأشياء، وأخدم المرءوسين وأنا أحسبني من الرؤساء، ألست أنا في هذه الدعة والرخاء أولى بالغبطة والخيلاء، وأعز في ذلتي وضرعي من الأعزاء؟!
وإن كان ناشئا حدثا ومنافسوه من الكهول والشيوخ قال: أجل، ولكنني أعلق في اليوم ما لا يعلقونه في الشهر، وأفيد في الشباب ما لا يفيدون في الهرم، وأعي وأنا في الدار ما لا يعيه غيري بغير الرحلات والأسفار والتجوال في شواسع الأقطار.
وإن كان دميما اتهم المرآة، أو مجرما سب القضاة، أو بذيئا قال: ما هذا بذاء، هذا مضاء ... أو بخيلا أو جبانا أو منافقا قال: هذا عين الحكمة والدهاء، ولب الفطنة والذكاء.
وهكذا يعين الغرور كل امرئ على ألا يسلم لمن هو أعلى منه بالسبق والأفضلية، ويدخل عليه أن ما عنده خير مما عند غيره، ومن حسن حظ المغرورين أن النعم والنقم والمناقب والمثالب توائم، تتشابه في السمات، وتتباين في الصفات، ولكل نعمة توأم من النقمة، ولكل فضيلة صنو من الرذيلة؛ فالسعادة أخت البلادة والدعة أخت التواني، والإرادة أخت العناد، والزمانة أخت الحياء والأنفة أخت العجرفة، والقحة أخت الجرأة، والاحتيال أخو الذكاء، والجود أخو السرف، والبخل أخو القصد، والمجد أخو الجبروت، والحلم أخو الجبن، والفصاحة أخت الثرثرة، والكآبة أخت الوقار، والحدة أخت الضجر، وهلم جرا، فيسهل على المغرور أن يمسخ كل فضيلة رذيلة، ويمثل كل نقمة في زي النعمة، ويكون هو أسعد الناس بمثالبه ونقمه، ويكون غيره أشقى الناس بمناقبه ونعمه.
ومما يحكى ويناسب ما نحن بصدده أن عجوزا شوهاء قرعاء عوراء بخراء وقفت أمام المرآة مرة وجعلت تقول: عجوز! نعم ولكنني شبت على صلاح ... شوهاء! بلى ولكنني لم أتحال ولم أزور على الناس بالطلاء كما تصنع سمجات النساء.
قرعاء! أجل ولكنني لم أدنس رأسي بوساد الخنا والفجور. عوراء! إي ولكنني لم أنظر لريبة قط ... بخراء! صدقوا ولكنني طهرت فمي أن ألوثه برائحة الهجر والمهاترة ونتن السفه والمشاتمة، فوفرت بعلي وأمن جلسائي من لساني ... قالوا: وكان إبليس واقفا يسمعها، فقال: يا فاجرة! لقد عرضتك على الزناة والفسقة في مشارق الأرض ومغاربها، فكلهم عافوك وصدوا عنك، وأقسم لو كان فيك مطمع لغير القبر لما أبيت أن تضمي إلى عيوبك التي فيك هذه المخازي التي تعيرينها النساء، وتدلين عليهن بالطهارة منها.
وإلى هنا لا نعد الغرور شرا محضا، فكم أرضى ساخطا، وكم خفض من جأش محروب، وكم طلبة ذابت عليها أنفس الناس حسرات فأعطاهم منها في الوهم ما لم ينالوه ولن ينالوه في الحقيقة، والغرور قد يقعد المرء عن طلاب الكمالات بما يخيل إليه من حصولها عنده واستحواذه عليها، ولكنه طالما استفز نفوس الطامحين إلى العلى بما أكبر من أخطارهم في أنظارهم فالتزموا حقوق المنزلة التي فرضوها لأنفسهم، ثم أفضى الأمر إلى أن تبوءوها فاستحقوها بالتطبع بها والمواظبة عليها، فهو خير وشر، وحق وبهتان، وما أخطأ كارليل حين قال: «هو حاسة سادسة لا تشبع.» وكما أننا لا نصم الأذن إذا أسمعتنا ما نحب وما نكره، ولا نفقأ العين إذا أرتنا ما يسر وما يسوء، ولا نجدع الأنف إذا أنشقنا ما ينعش وما يؤذي، ولا نقطع اللسان إذا أذاقنا ما يحلو وما يمر، كذلك لا نستأصل الغرور إذا كان فيه مع الصدق الآجل كذب راهن، وكان الكنز لديه لا يخلو من المارد.
نادي العجول
نبئت أن العجول اجتمعت مرة لتنشئ لها ناديا تأوي إليه، ولا تعلم ماذا ساقها إلى هذا الخاطر الغريب، أقلة العلف، أم ضيق المذاود؟ أم ذاك مرض النوادي الذي سرى من النبهاء إلى الأغمار، قد فشا حتى سرى من الأناسي إلى الأبقار؟ هذا سر في صدور العجول.
فلما تكامل عددها، وانتظم عقدها، وقف منها عجل يظهر من كبر دماغه أنه ملم بالتاريخ والأخبار، وقال: «أيها السادة! إن العجل مدني بالطبع، ونحن معشر العجول قد ميزنا الله على بني آدم بضخامة الأجسام وصلابة القرون، ولقد عبر بهؤلاء الناس زمان كانوا يعرفون لنا بأسنا ويتمسحون بأذيالنا حتى أيقنوا أن لن يقوى على حمل هذا الدنيا أحد سوانا، فألهونا من فرط الإجلال، وسبحوا لنا بالغدو والآصال، وكانوا يحسدوننا على قروننا فدعوا أكبر أبطالهم وأشدهم بأسا وأرفعهم ذكرا - أعني الإسكندر المقدوني - بذي القرنين، وما إسكندرهم هذا؟! وما قرناه؟! إن أصغر عجل فينا ليهشم رأسه إذا ناطحه، ويجندله إذا واثبه أو صارعه، فالعجب لك أيتها العجول ! لم لا تذكرين ذلك المجد الخالد، فتقام لك الصوامع والمعابد، بدل النوادي والمعاهد؟ ألما تنتبهي لما يجب عليك لبني جنسك، وما هو فرض معين عليك لنفسك؟!
قال محدثي: ولما بلغ الخطيب إلى قوله هذا بان الحماس على أوجه العجول قاطبة فهزت رءوسها استحسانا، وفحصت الأرض بأظلافها طربا، وضربت جنوبها بأذنابها مرحا، وخشي عاقبة هذا الحماس عجل هرم، فقام وقال: قد عرفنا ما يوجب علينا إنشاء هذا النادي، وسمعنا في بيان ذلك ما سمعنا، فخذوا بنا في انتخاب الزعيم، ومن رأيي ألا يزيد وزنه عن عشرة قناطير ليكون خفيف الحركة في أعمال النادي ...
وكان يتكلم ويتمهل ليلحس شفتيه ويجتر مضغ العلف التي ترد إلى فكيه، فلم يمهله الخطيب الأول بعد جملته الأخيرة فوثب كالمنخوس وصاح وهو يرتعد من الغضب: «لا! لا! لا! وكلا وألف مرة كلا، ومعاذ النعرة الجنسية أن نرضى بهذا الاقتراح، أفنقبل علينا زعيما لا يزيد وزنه عن عشرة قناطير؟! فماذا أبقينا إذن لهؤلاء الآدميين العجاف الضآل؟! هذا وربي ما يزري بشرف العجول، ويحط أسعارنا في الأسواق حطة لا قائمة لنا بعدها يد الدهر.»
قال محدثي: فماج النادي واضطرب، ثم كثر الزئاط واللجب، وكاد ينفض الجمع بلا طائل، لولا أن تلافى الأمر ذلك العجل الهرم فوقف مبتسما وقال: يا إخواني: «ما أردت أن أغض من شرفكم بما اقترحت عليكم، ولكن معنا هنا أبقارا حلب الدهر أشطرها، وأكل نير السواقي فرائصها، فهي ما زالت ترى أن السمان الفوارة منا عرضة لظلم بني آدم، وأنه خير للنادي أن يكون زعيمه معتدل الضخامة لا بالجسيم الهائل ولا بالنحيف الناحل، فإن كان ذلك لا يرضيكم، فشأنكم وما تريدون، ودونكم وما ترتضون، فإنا لكم أيها الإخوان لموافقون.» هذا وبرك فهدأ الاضطراب وجالت رقاع الانتخاب.
جالت الرقاع فانتخبت العجول زعيما شنيع الوجه، منفرج البطن، منحوس الطلعة، نكير الصوت، ثم اختارت الرئيس فالوكيل، فالناموس، فالمفتش، فالأمين - خمسة عجول تتفاوت في الجسامة حسب تفاوتها في الدرجة، فاصطفت صفا، ثم أقبلت وأدبرت، ثم دارت في النادي تدبدب بأرجلها ، وتشول بأذيالها وتنفخ التراب بمناخرها، ثم خورت خوارا رج الفضاء، وطبق الأرجاء، وأصبح في الدنيا من ذلك اليوم ناد للعجول.
علم الاحترام
نعم علم الاحترام، ولماذا لا يكون الاحترام علما؟! ألا يشتمل كما تشتمل العلوم كلها على مبادئ وأصول، وحقائق وفروض؟! والعلوم على تعددها تبحث في مقادير المواد والأشياء وفي نسب بعضها إلى بعض، فإن تجاوزتها إلى الناس لم ترتق إلى الموازنة بينهم، ووضع قيمة صحيحة لكل منهم، أما علم الاحترام الذي نريد أن نبتكره فيبحث في أقدار الناس وما يتفاضلون به من عروض الحياة ومحاسن الشيم، فهو أشرف العلوم موضوعا، وهو آخر ما يتلقاه الطالب منها؛ لأن الطالب يتلقى العلوم الأخرى في الكتب ويحضرها على الأساتذة، وهذا العلم لا كتاب له يحصر أبوابه وأقسامه، ويضبط قواعده وأحكامه، ولا أستاذ يمليه عليه طالبه فيريحه من جمع متفرقه؛ إذ هو مفرق بين أيدي الناس الرفيع منهم والوضيع، والمحنكين منهم والأغرار، ففي كل يد عجالة مبتورة، ومع كل خريج وصية ناقصة، وإنما على الطالب أن يتتبع أجزاءه في مظانه، ويستعين عليه بأهله، فإنه إن لم يفعل لم يكن قصاراه أن يجهل ما يحترم به الناس، بل جهل الناس ما يحترمون به.
ولم أقصد بعلم الاحترام هذا الذي يصنعه بعضهم؛ إذ تراه يتهيب ويوجل وهو داخل على من يحترمه كأنه يقتحم غابات إفريقية، أو ينتفض ويشد عرى قبائه كأنه يقابل ثلوج المنطقة القطبية، أو يهبط بيديه ثم يرفعهما كأنه يحثو التراب على رأسه، أو يرخيهما على صدره كالكلب يعالج الوقوف على رجليه، فهذا علم شائع قد حفظه كثير من الناس وأتقنوه، وليس بين الرجل وبين أن يتضلع منه إلا أن يحتقر نفسه فتنقاد له مبادئه وخواتيمه في أقل من قولك ألف باء.
ولكن قصدت العلم الذي من عرفه فقد عرف الإنسان ومن جهله فقد جهل كل شيء، والذي لا يعلمه إلا القليل، ولا يعمل به إلا الأقل من ذلك القليل.
رأيت رجلا ذا قدم في هندسة البناء راسخة، وشهرة في سائر فنون الرياضة ذائعة، وكنت أسمع أخاه يقول: لو كان أخي في أيام خوفو لما بنى الهرم الأكبر أحد سواه، ولو حضر بابل يوم اندك صرحها لما دكه الله، ولكن رأيته يطأطئ على يد صعلوك يسيل مخاطه على سباله، ويجري لعابه على لحيته فيقبلها ظهرا لبطن ثم بطنا لظهر، فقلت: هذا رجل يشيد الهياكل إلا أنه يعبد الأصنام، ويعرف نسب الأعداد والأرقام، ومقاييس الأجسام والأحجام، ولكنه لا يعرف الطول من العرض، الخلف من القدام في علم الاحترام.
هذا نصيب مهندس كبير من هذا العلم، فما ظنك بالجهلة؟! وماذا يبلغ أن يكون جهد السوقة السفلة؟!
تقول لك آداب السلوك: احترم من ينفعك، وتقول لك آداب الصدق: احترم من ينفع الناس، والقصد بين المذهبين أن تحترم من لا يسعك احتقاره سواء في سرك أو في علانيتك، أما الناس فيحترمون من يخافون شره أكثر من احترامهم من يطلبون بره، وربما شاب احترامهم لأهل البر بعض الرياء وأما احترامهم للظلمة والطغاة، فخالص لا شائبة للرياء فيه، بل هو احترام لو أكرهوا أنفسهم على تركه لما استطاعوا.
ويا رب فتى مبتدئ في هذا العلم يخرج من كنف أبيه أو أستاذه ويمضي على رأسه حائرا لا يعلم من يحترم ولا كيف يحترمه، ولا يعلم من يحتقر ولا كيف يحتقره، وتراه يغالي باحترامه ويضن به على من لم يكن أمة في رجل، وعالما مجتمعا في واحد، ويمسك بميزانه وقد وضع في إحدى كفتيه صنجة النبوغ وصنجة الأخلاق وصنجة السمت وصنجة الرئاسة وصنجة الثروة، وغيرها من الصنج التي يوزن بها الرجال، ويذهب بالكفة الأخرى عله يجد في الناس من يملؤها ويثقل فيها، فما هي إلا دورة أو دورتان في الطرق والبيوت والأسواق والمحافل حتى يئوب وقد رفع كفته أكثر الصنج، يرفعها واحدة بعد واحدة ولا يدع في الكفة إلا صنجة أو اثنتين، وهما في الغالب صنجة الرهبة وصنجة الطمع، ثم لا يمضي غير يسير حتى يصبح وهو لا يرجح في ميزانه إلا أخف الناس وزنا عنده، ولا يخف فيه إلا أرجح الناس وزنا عنده، وحتى يكون بين ظاهره وباطنه في الاحترام أبعد مما بين الأرض والسماء.
ولقد هالني هذا الأمر وخفت منه على آداب المبتدئين، فعن لي أن أدعو لجنة من العلماء إلى وضع كتاب واف صريح في علم الاحترام، يعصم الناس من الخلط والخبط فيه ويحجزهم عما يتخلله من الدهان والملق، فاستقر رأيي على هذه الفكرة أياما، ولكنني رجعت إلى نفسي فقلت: ومن يا ترى يشرح للناس مسائل هذا الكتاب؟ وأي أستاذ يرضى بأن يعلم الناس علما يحتقرونه به؟! ألا يكون شأن الأساتذة في هذا الكتاب كشأن الفقيه المنافق في كتب الدين، يلقن الناس منها ما يدر عليه الرزق، ويوطئ له الأعناق، ويعمي عنه العيون، ويتركهم من الدين القويم في جهل مقيم، وعن اليقين في ضلال مبين؟!
فيئست من أن يكون للناس قسطاس صادق المعيار، أمين على الأقدار، ورأيت أن أفضل ما يصنع العلماء أن يشتغلوا بعلومهم التي انقطعوا لها، وأن يدعوا كلا وما يهتدى إليه في علم الاحترام.
جمجمة الإنسان
أذكر فيما قرأت من حكايات الفرس حكاية يروونها عن النبي عليه السلام؛ زعموا أنه أصحر ذات يوم قائظ ومعه الصحابة فنزل في شجرة باسقة وإلى جانبها غدير ماء مصطفق رقراق يشوقك النظر إليه إلى الشرب منه، فلما اشتد أوار الظهيرة عطش النبي، فقام إلى الغدير فتناول منه بجمع كفيه، وشرب فوجد أبرد ماء وأعذبه، وأصفى ورد وأطيبه، ثم عطش مرة ثانية فعاد إليه فترشف منه رشفات روته من غلة العطش ولم تروه من عذوبة الماء وحلاوته، وذهب في المرة الثالثة فوجد على الشاطئ إناء فأخذه وملأه من الغدير واجترع منه جرعة فإذا تلك العذوبة ملح زعاق، وإذا صفاؤه الضاحك البشوش قذر لا يطاق، فمج الماء من فمه ونظر في الإناء فألفاه نظيفا ولم يتبين فيه ما عساه أن يكون منشأ هذه الملوحة والقذارة، فرفع بصره إلى السماء متعجبا، وكأنه يسأل الله عن سر هذه المعجزة وماذا أراد - جلت قدرته - بهذه العبرة، ويقول كيف ينقلب الماء في لحظة من طعم إلى طعم والغدير واحد والشارب واحد، فما ارتد طرفه حتى أنطق الله الإناء في يده، فقال: لا تعجب يا نبي الله فإن في التراب الذي صنعت منه ذرة في جمجمة إنسان، فهذه الذرة هي سبب هذا التغير، ولو عللت يا نبي الله من الماء براحتك كما نهلت لما أنكرت من طعمه ما أنكرت.
ما أراد واضع هذه القصة أن يقول إن في جمجمة الإنسان مرارة كمرارة الحنظل ترشح في طعم الماء كما يرشح الحنظل فيما يخالطه من الأشياء، ولكنه يقول فيما ورى به: إن في رءوس الناس سما حاضرا يرد الطيب خبيثا، ويحيل السائغ المريء كريها مسقما، وإن هذا الجانب المسموم من رءوسهم يضيع عليهم كل ما يدأبون له ويضبون عليه ببقية جوانب رءوسهم التي بها يعملون على رفاهة العيش، ويرغبون في هناوة البال.
إن هذا السم الذي في رأس الإنسان يضني صاحبه قبل أن يضني البعيدين عنه، وكلما كان الرأس قريبا إليه وكثير الاشتغال به كان سمه أفتك وأسرع فعلا، وهذا هو المشاهد المحقق؛ فأول من يلدغ الإنسان نفسه ثم عترته الأدنون، ثم خلصاؤه المقربون، ثم أهل وطنه المعاشرون، ثم الأعداء الحاقدون، ثم من لا يعرفهم ولا يعرفونه من الناس: أبعدهم عنه أسلمهم، وألزمهم له أظلمهم، ولو تسنى لامرئ أن لا يعيش إلا مع من لا يكترث لهم ولا وصلة بينه وبينهم، لما عز على أحد أن يستبدل أقصى الناس عنه بألصقهم به، ولقد جعل السم في ناب الأفعى وقاية لها فصار هو مدعاة هلاكها، حتى إن ما يقتل منها لأجله أضعاف ما ينجو بسببه، وهكذا صار السم الآدمي مقتلا وسلاحا لصاحبه، وداء ودواء له.
أنا لا أصدق إلا أن الإنسان أقدر على إشقاء نفسه وغيره، منه على إسعاد نفسه وغيره، فلماذا هذا؟ ألأن السعادة ليست ضرورية للإنسان كالشقاء؟! نعم، نحن أرغب في السعادة ونحن أطلب لها، ويخيل إلينا أننا لا نحيا بغيرها، ولكن لماذا لم نعط من وسائل السعادة ما أعطيناه من وسائل الشقاء؟ وما معنى هذه الرغبة يا صاح؟ هل تأتلف الرغبة والحاجة دائما؟ أم هل ترتبط الكراهية بالاستغناء في كل حين؟ اللهم لا.
فيا أيها الظامئ الجاد وراء السراب: إن كان ظمؤك إلى السعادة وليس إلى شيء آخر فلا ترج أن تشربها في جمجمة إنسان، ولا سيما الجديدة التي لم تعتق والمقفلة التي لم تكسر ... وإنك قد يحلو لك سلسبيل الحياة إذا تجرعت منه بكفيك، ولكنك حيثما عمدت إلى إناء غير يدك، أو أداة خارجة عن جسدك، فهنالك لا بد من ذرة من جمجمة إنسان.
الصدى ونرجس
الصدى في أساطير القدماء جنية من بنات الغاب والأودية، ونرجس فتى سليل إلهين من آلهة الماء، وكانت (الصدى) ذات منطق فصيح وحديث خلاب يستهوي السامع فينسيه نفسه، ويلهيه عن شأنه، فمرت بها (هيرا) حليلة (زوس) رب الأرباب فاستوقفتها بالحديث وعاقتها عما قدمت له، وكانت (هيرا) قادمة لتباغت (زوس) مع خليلاته، فلما وصلت كن قد هربن وبقي حليلها وحده في مخدعها، وعلمت (هيرا) أنه لولا (الصدى) لما أفلت أولئك الضرائر منها، فغضبت عليها وسلبتها قوة الحديث إلا أن تردد ما تسمعه ولا تزيد عليه.
أحبت (الصدى) (نرجس) فلم يحفل بها، وامتنع عليها أن تبثه هيامها فذاب لحمها، وبلي عظمها، ولم يبق منها إلا نفس مصعد وصوت مردد، أما (نرجس) فقد نقمت عليه (نمسيس) بنت الليل والربة المنتصفة للمظلوم من الظالم، نقمت عليه جفاءه وتيهه فأمهلته إلى أن أقبل على بعض العيون ووقف يعجب بما أبداه الماء من جماله فمسخته زهرة في مكانه، فهو لا يبرح واقفا على حافات العيون والجداول ناكس الطرف يطل على خياله في الماء.
بهذا التمثيل الشعري كان القدماء يفسرون عجائب الطبيعة ويشاركونها الإحساس فيبتهجون ويخالون أنها تضحك لهم، ويحزنون ويحسبون أنها تبكي معهم ويصاحبونها مصاحبة الأحياء للأحياء، فكانت الطبيعة حياة كلها، وليس في زاوية من أخفى زواياها موضع للجمود.
وقد كانت هذه الأساطير مادة غزيرة للشعراء فأولعوا بالنظم فيها، وعني أحدهم بنظم قصص المبدولين والمتقمصين فسبكها أحسن سبك ... وهو (ببليوس أوفيداس ناسو) شاعر لاتيني ولد قبل الميلاد ونفاه القيصر أوغسطس من روما لافتتان الشعب الروماني بغزله، كما نفى عمر بن عبد العزيز الفرزدق من المدينة لتهتكه، وكما نهى المهدي بشارا عن النسيب في أبان المدنية العباسية، وإليك ما نظمه في حكاية الصدى، قال:
راحت الصدى تقفو أقدام نرجس ولا يراها، وكلما لحقته تعاظمت برحاؤها، وتحرقت أحشاؤها، كهواء المشاعل يتبعها ولا تدركه الأبصار، ويكاد يضطرم وإن لم تمسه نار، وطالما همت بأن تفاتحه بتحية أو تستعطفه بكلمة، فكان يخونها الحياء ويستعصي عليها النداء.
وضل نرجس عن رفاقه يوما، فجعل يصيح: أليس هنا أحد؟ قالت الصدى: هنا أحد ... وسكتت.
فبهت نرجس وتلفت حوله ليرى مصدر الصوت، ونادى: هلم إلي! هلم إلي! فسمع الصدى تجيبه: هلم إلي ...
وقال نرجس: دعينا نلتق، فسرعان ما سمع رجع كلامه بصوت مد فيه الحنان، وترنمت به الشعاب والغيران، ووثبت إليه تضمه وتعانقه فأجفل منها ومضى وهو يقول: اغربي عني! لا كنت ولا كان قلبي إن جرى بيننا الحب ...
صدمة كسرت قلب الصدى، فنادت وهي كاسفة: جرى بيننا الحب!
ثم ما زالت ينخر في قلبها الداء الدفين، ويأكل منها الكمد والأنين، حتى عادت أرق من الهواء، وبراها النحول إلا خفقة نداء، لا تلبث أن يعبث بها الفضاء.
اللؤم المكتسب
اللؤم ضربان: لؤم موروث ولؤم مكتسب، فأما اللؤم الموروث فذلك الذي لا حيلة لصاحبه فيه، ولا حيلة لمخلوق في صاحبه، وقد يتمنى اللئيم التطهر من وصمته والبراءة من شبهته، وهيهات ذلك، وأما اللؤم المكتسب فلؤم يضطر إليه بعض الأشقياء اضطرارا، لؤم رجل سالم الناس فحاربوه، وحاربهن فواربوه، وبسط إليهم راحة الأمان فضربوه عليها، وصرح لهم عن سويداء قلبه فوخزوه فيه، فتعلم من الناس أن يقف منهم موقف المحارب الحذر، يراوغهم في أمره ويكتم عنهم مواطن قوته، ثم يفتش عن مواطن ضعفهم ويتجسس على المغامز في صفوفهم، أفهموه أن ما هم فيه حرب لا سلم، ومخاتلة لا مجاملة، وغش ولا نصيحة؛ فعمد إلى نفسه أولا فأخفاها وراء سور من الرياء كما يخفي المقاتل نفسه وعدته وراء سور حصنه، ثم عمد إلى مقاتليه فدبر كيف يصرعهم، ومن أين يبتدرهم، إذا ابتسم له مبتسم تفقد قلبه هل فيه مطعن مكشوف أو ثلمة مطروقة وتعهد جوارحه لئلا تضطرب عند المجادلة أو تؤخذ على غرة، ويعود فيرد تلك الابتسامة بمثلها ويجزي على ابتسام بابتسام، وإذا بكى بين يديه باك أسرع إلى قلبه فأضفى عليه الدرع واجتهد أن تكون أصفق دروعه وأمتنها لئلا يكون ذلك البكاء خدعة من خدع الحرب، فإذا تثبت من قلبه وتهيأ لمقابلة العدوان بمثله رجع إلى ذلك الباكي فإما بطش به أو كان أكثر من ذلك لؤما فيصافحه، ولكن بعد أن يجرده من كل سلاحه وبعد أن يقلم أظفاره وينزع شكته ويتركه، ولو شاء أن يخدش نفسه فضلا عن أن يخدشه لما استطاع؛ فهو بعد ذلك أسيره الذي يطيع إشاراته ويسخره في قضاء حاجاته، لا صنيعته الذي يحسن إليه ويرفه عنه، وقديما سمى الناس المحسن آسرا والمحسن إليه أسيرا، وهم في هذه التسمية ما تعدوا الحقيقة قيد أنملة إلى المجاز.
واللؤم المكتسب هو لؤم من صدق الناس فكذبوه ووفى لهم فخونوه، وعمل لخيرهم فأضروه، وأحب أن يبادلهم النفع فلم يقنعوا بما دون استنزافه وامتصاصه، ولم يرضخوا له إلا عن أيسر ما لديهم وأهونه عليهم، ويرضخوا له عن هذا اليسير الهين وهم قادرون على جحده والمماطلة فيه، ورآهم يصدقون من يكذبهم ويأتمنون من يخونهم ويخدمون من يؤذيهم، ولا يشترطون عليه في نظير هذا التجاوز العظيم في هذه الصفقة الربيحة إلا أن يكون خداعا ماكرا ودساسا لئيما، فعلم أن هاته السوق أربح من تلك وأسهل في الممارسة، ورأى أن الناس كما يزدرون الرذيلة التي لا يحميها أحد كذلك يزدرون الفضيلة التي لا يحميها أحد، فعلم أنهم ما أحبوا الفضيلة ولا كرهوا الرذيلة، ولكنهم يخافون كلا منهما حين يكون مخيفا ويزدرونه حين يكون عزلا ليس عنده ما يخافون، ووجد الفضيلة أوعر مسلكا؛ لأنها غريبة، والرذيلة ممهدة الطريق؛ لأنها كثيرة الأمثال والأشباه، فتنكب الأوعر إلى الأسهل وألقى بدلوه في الدلاء.
رأى ما رأى، وعلم ما علم ثم وقف وقفة يحاسب نفسه، فأيقن أنه لن يصلح الناس، وأنه بين أن يعتزلهم إذا قدر فيكون دينه له ودينهم لهم، أو يصحبهم فيعاملهم بالسكة التي يقبلونها ما دامت كل سكة غيرها زائفة في نظرهم، وما دام الخيرون في هذه الأرض كالجن لا يظهرون لكل إنسان.
وإن للؤماء عادة ألا يبوحون بأسباب لؤمهم ولا يحاولون التنصل مما يرمون به؛ لأن الناس لا يصدقونهم ولا فائدة لهم من تصديقهم إياهم؛ فلذلك يتهمهم الناس بالحق والباطل، ويقبلون فيهم كل ما يقال عنهم، ومتى رأى الناس رجلا يسيء الاعتقاد بهم جميعا لم يسمعوا له قولا في واحد منهم، وقالوا: ذاك ديدنه في التبرم، وتلك شنشنة له في التجني، فيصدقون شكوى الشاكين منه ولا يصدقون شكواه في أحد، ويأبون أن ينصفوه وإن كان مغبونا، فيتسع بينه وبينهم مجال التهم وتقطع بينهم قلة الإنصاف:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
وما كان لئيم لئيما إلا بعد يأس من إنصاف الناس، ويقين من عسفهم في القضاء واغترارهم بظواهر الأحوال.
ولقد سمعت يوما جماعة ينتاشون عرض رجل لم أعلم عليه من سوء، فوصموه بنهاية اللؤم ورجموه بأشنع الخبث، وكان أطولهم لسانا وأفحشهم طعنا فتى كان يدعي أنه ساعده فخذله، وأحسن إليه فقابل إحسانه بالإساءة، فلقيت ذلك الرجل فسألته، فقال: نعم، أعطاني قطعة من السم صغيرة في قطعة من الحلوى كبيرة، وهو يطالبني الآن بثمن تلك الحلوى، ويمن علي أن وهبني السم بلا ثمن، وأخذ يقص علي من نوادر إساءة ذلك الفتى في الإحسان، وغلظته في الملاطفة، وتقطيبه في البشاشة، ما لو أنه قضى العمر في مناوأته والكيد له لم يكن معتديا عليه.
قلت: فلم لا تفشي الحقيقة، وأقل ما فيها ألا يفتري عليك الناس بما ليس فيك أو يعيبوك بعيب أعدائك؟!
قال: سواء علي أيعيبني الناس أم يشكرونني، بل أحب إلي أن يعيبوني ويحذروا جانبي من أن يحسنوا الظن ويخدعوني، وإن المشقة التي أحتملها في إقناعهم ببراءتي لأشد كثيرا من الضرر الذي يصيبني من اعتقادهم في اللؤم إن كان فيه ضرر. •••
أنا لا ألوم هذا اللئيم الذي اقتبس دروس اللؤم من العالم كله، وكيف وهو يقتبس من أستاذ يلوح له بالعصا أنى ذهب! يلوح له بها عند مشيه وقعوده، وعند جده وونائه، وعند أكله ونومه، وعند مصادقته ومعاداته، ويوشك أن ينهال عليه بها فيقتله كلما سها عن درس من دروسه أو هم بأن يتتلمذ لأستاذ غيره.
وأجد من يلوم هذا اللئيم كمن جلس على مائدته بين زوجه وولده، وبين يديه صحاف الطعام، وأمامه الأتباع والخدام، فجعل يلوم الصياد الذي خرج يبحث عن صيده في الآجام الموحشة، فتقلد سلاحه ومشى ينظر كلما نقل قدمه إلى أمامه وإلى ورائه، وعن يمينه وعن شماله، وهو من الحيطة والتربص يكاد ينظر بكل عضو فيه أو كأنه من التمهل التلف يدوس على الشوك ويخطو على جحور الأراقم، يخاف إن هو غفل أن يفوته رزقه أو يثب عليه سبع فيفترسه، فيلوم ذلك الصياد على احتراسه وارتيابه، ويطول عليه بأمنه ودعته، وما كان هو أكثر منه أمنا؛ لأنه أكرم قلبا ولا كان الصياد أكثر ارتيابا؛ لأنه ألأم خيما وأردأ عنصرا.
أنا لا ألوم هذا اللئيم على أنني لا أحب أن يكثر أمثاله في العالم، وعذري إياه أن الذنب في لؤمه على قومه، ولكن البغيض المرذول هو اللئيم المجبول، فإنه لئيم أحسن الناس إليه أم أساءوا، ولادته جريمة، وموته - وليس سوى موته - تكفير لتلك الجريمة.
البخيل
كان فيمن أعرف من الناس رجل لا يعرف الناس أبخل منه، كان هذا الرجل إذا اشتهت نفسه الشيء مما تشتهيه الأنفس من طيبات المأكل والملبس أخرج القرش من كيسه، فنظر إليه نظرة العاشق المدنف إلى معشوقه ثم رده إلى الكيس وقال: هذا القرش لو أضيف إليه تسعة وتسعون مثله لصار جنيها، والجنيه بعد الجنيه يجلب الثروة العريضة ويجمع المال الحير، وهبني تهاونت بإنفاقه اليوم وسمحت نفسي به، فلا آمن أن تسخو بغيره غدا، فإنما القروش كلها واحدة في القيمة وليس قرش بأغلى من قرش، والشهوات حاضرة في كل وقت، فكأنني أنفقت اليوم بإنفاقي هذا القرش جميع ما سوف أملكه وأدخره من المال، وفتحت على نفسي باب الفاقة الدائمة والعوز المستمر مطاوعة لشهوة حمقاء، إن أنا وقمتها الآن ماتت واسترحت منها، وإن آتيتها على ما تدعوني إليه كل ساعة، كنت كمن يرمي الوقود في النار ليخمدها، وكنت كمن يشتهي الفقر ويتمنى الإعدام، وتلك والله الحماقة بعينها.
وكان إذا تم عنده الجنيه على هذه الكيفية أسقطه في صندوق ثقب له ثقبا في غطائه، ولم يجعل له مفتاحا لئلا يتعود الفتح والإقفال، ويجرؤ على ذلك الذخر بالكشف والابتذال، وخوفا من أن تراوده نفسه لفرط شغفه بالذهب على مس جنيه من تلك الجنيهات، فيجر المس إلى التحريك، ويجر التحريك إلى الأخذ فالإخراج فالصرف، وهناك الطامة العظمى والداهية الشؤمى، ويقول: إن سلما أنت واقف على قمته حري أن تصل يوما إلى أسفله، وما لك ألا تغلق الشر من بابه وترقع الفتق من أوله وتتلافى الأمر في بدايته قبل أن تتعذر عليك نهايته؟ وكان يرى الفقر من بعيد فيظنه أدنى إليه من حبل الوريد، فالفقر عنده محيط بكل مكان، شامل لكل زمان، وما دام في الأرض درهم فهو فقير إليه، وما دام فقيرا فالاطمئنان محال عليه، ولقد ألفنا أن نسمي البخلاء عبيد الذهب، وكان الأصوب أن نسميهم عبيد الفقر؛ لأنهم يضحون الذهب للفقر، وهم يحبون الفقر ويخشونه، يحبونه فيعيشون عيشة المعدمين والبؤساء مع تمكنهم من الثراء، ويخشونه فيتقونه وعندهم له من كل دينار وقاء.
فإذا سقط الجنيه في ذلك الصندوق، لا، بل في تلك الحفرة، كانت تلك السقطة آخر عهده بالهواء والنور، وآخر عهده بالهبات والبيوع، وآخر عهده بالأنامل والكفوف، وهوى من ذلك الصندوق في منجم كالمنجم الذي كان فيه، وشتان المهد واللحد، ومات موتة لا تنشره منها إلا يد الوارث إن شاء الله، وقد فعل.
ولو أتيح لتلك الجنيهات أن تتحادث في ذلك السجن المطبق عن ماضيها كما يفعل السجناء؛ إذن لسمعت من أحاديثها العجب العجاب بين جنيه رحالة جواب، يتنقل بك من السويد إلى الكاب، وينبئك عن الأعاجم تارة وتارة عن الأعراب، وجنيه فرار غدار، ما سلم بالليل إلا ودع بالنهار، وجنيه نشأ في الحانات والمواخير، فاسترق رنته من رنات الكئوس والقوارير، وجنيه عاشر الأبرياء والجناة، ورافق النساك والغواة، وجاور المعوزين والسراة، ومر بالمساكين والعتاة، وطفر من الأصدقاء إلى الأصدقاء، ومن العداة إلى العداة، وكلها تشهد شهادة لا بهتان فيها أن مالكها الأخير أقدر من قنص الدينار، من الأبرار والفجار، وأخبر من صاد النضار، من الشطار والأحبار، وأول من راض هذا المعدن السيار على السكينة والقرار.
ولو أتيح لك أن تشهد ذلك البخيل وقد مثل عند صندوقه وألجأته الضرورة إلى الاستمداد منه - وناهيك بها من ضرورة - إذن لحسبت أنك تشهد في جنح الليل الأعكر سارقا ينبش القبور عن أكفانها، وقد تملكه الهلع من حراسها وسكانها، أو لحسبت أنك تشهد كاهنا متحنثا يقوم عند صندوق النذور يهم بأن يمد يده إليه فيتحرج من أن يستحل ودائعه لئلا يحل عليه قصاص الله ويحيق به غضبه، فإن ألحت عليه الحاجة أقسم أن لن ينام ولن يهدأ أو يرد إلى الصندوق ما استعاره منه، وقد لا تجد بين ألف كاهن كاهنا واحدا يقسم هذا القسم ويبر به، ولكنك لا تجد بين ألف بخيل بخيلا واحدا يحنث في هذه اليمين.
ففي وقفة من تلكم الوقفات اقترض البخيل من صندوقه جنيها، وآلى بالطلاق من عرسه ألا يدخل البيت إلا والجنيه معه، وذهب إلى السوق فكدح فيها ما كدح واحتال حتى استرجع الجنيه نصفا ذهبا والنصف الباقي قطعا فضية، وكانت تلك عادته إذا أبدل الفضة بالذهب؛ كي تكون كل قطعة صحيحة صماما حديديا يحبس فيها ما تحتويه من القطع الصغيرة أن تتناثر وتتسرب إلى إحداها نزغات الجود ووساوس النفس الأمارة بالجميل، والخبيث يسيء الظن بنفسه ويتهمها بالسخاء عن القليل الطفيف مداعبة لها وإدلالا عليها، وإلا فقد وثق وثوق المؤمن بإيمانه أنه لو انثالت عليه نقود المشرقين والمغربين دراهم ودوانق وسحاتيت لما سولت له نفسه أن ينفق سحتوتا منها في غير ما يدفع التلف جوعا والهلاك عريا، فما تمهل حين صار الجنيه في يده إلا ريث أن أهرع إلى الصيرفي فناوله إياه مفرقا وقال: أعطني به جنيها ذهبا.
قال له الصيري: هات خمسة ملليمات.
قال البخيل: وعلام هذه الملليمات الخمسة؟ إنك تأخذ هذا الجعل من الناس على أن تنقدهم الفضة بدل الذهب، وأنا أعطيك فضة وأطلب ذهبا، أفلا تحمد الله على أنني صفحت لك عن حقي وجئتك ساعيا إلى مكانك؟!
فما زاد الصيرفي على وكزه في صدره وكزة قذفت به إلى الجانب الآخر من الطريق، فما تململ الرجل ولا تأفف، بل وقف حيث قذفت به الوكزة صامتا، والصيرفي لا يشك في أنه ينتظر أن يمر الشرطي فيستعديه عليه، فمر شرطي وثان وثالث لا يدعوهم ولا يبرح مكانه، والناس يظنون أنه يحدث نفسه بالانقضاض على الصيرفي، فيوسعه ضربا ولكما فيخطئونه ويلومونه وينصحون له بأن يعتذر إليه ويسترضيه، وبينا هو كذلك أقبل على الصيرفي شيخ ريفي، فكذب البخيل كل ظن وعاجل الشيخ، فكان أسبق من يده إلى جيبه وصاح به: رويدك يا هذا، إنك تريد أن تبدل جنيها، وهذا اليهودي يتقاضاك خمسة ملليمات، وأنا أقنع منك بملليمين، فهاك الفضة وهات الذهب، والتفت إلى الصيرفي، فقال: بارك الله فيك، فقد قيضت لنا رزقا كنا في غفلة عنه، ولا يزال هذا دأبنا كلما اجتمع جنيه عندنا، ثم ولى والصيرفي يكاد ينشق عن جلده من الغيظ والناس يضحكون.
وكأني بك أيها القارئ تظن أن الرجل آلى بالطلاق وحرص على أن لا يمين فيه وفاء لزوجه وضنا بذات فراشه واحتفاظا بأم بنيه، فإياك أن تظلم الرجل بهذا الظن، فإن الاحتفاظ والضن بشيء غير المال ضعف يربأ بنفسه عنه، ولكنه تحرى أفدح الأيمان كفارة وأصعبها كلفة، فرأى أن كفارة الحلف بالله سهلة وربما كان في الصيام من الاقتصاد ما يغريه بالحنث كلما أقسم بالله، فاختار يمين الطلاق يهدد نفسه به ويخوفها من مؤخر الصداق ومئونة الأولاد ومصاريف القضايا ، ثم لا بد له من زوجة تكفيه نفقة الخادم وشراء الطعام من السوق، وهذه الزوجة لا بد لها من مهر قل أو كثر، دع عنك الأعراس وما تستدعيه من الخروج عن العادة في الإنفاق ليلة أو ليلتين، فإذا آلى بالطلاق ذكر كل ذلك وأكثر منه فكان قيدا لا يستطيع منه فكاكا، ولا يفوته مع هذا أن يصانع نفسه بأنه من القابضين على دينهم الذين يجتنبون حدود الله، ولا يلعبون بيمين كيمين الطلاق، والحقيقة أنه لا يجتنب حدود الله إلا لأن اجتنابها يوافق هواه، ولو كلفه خوف الطلاق معشار ما يصون من ماله لجار عن كل حد لله وللخلق، وعلى أنه لم يضطر يوما إلى امتحان دينه ولم يقف بين ارتضاء الطلاق وجرائره وانتهاك حدود الله وأوامره؛ لأنه لم يكذب على صندوقه قط، فإذا استعار منه في الصباح سدد له الحساب في المساء.
ومرض هذا البخيل مرض الموت فجزع جزعا شديدا، وكان جزعه لأنه سيموت عن أقل من عشرة آلاف جنيه كاملة، وكان ذلك كل أربه من الحياة، فاستحضر الطبيب بعد أن نهكته العلة ودب السقم في أوصاله وعظامه، فأمره بأن يتعاطى دواء وأن يقصر طعامه على لحم الطيور، وكان صاحبنا على مذهب النباتيين اقتصادا لا فلسفة، فتملص يحايل الداء ويتملق الطبيب عسى أن يعدل عن وصفته، والداء يأبى إلا لحوم الطير، والطبيب مصر على رأيه، ولما كان أربه في العيش لم ينته وعشرة الآلاف لم تكمل، فقد رضي أهون الشرين وأصاخ لقول الطبيب وصار يأكل كما أمره وهو يتلهف ويتغصص ويتبع كل لقمة يزدردها بعملية حساب، وهل أصعب في الهضم من الحساب وأثقل على المعدة من الأرقام الصماء؟ ولم يزل يقول بعد كل أكلة: الله الله على الصحة! لو كنت الآن صحيحا أما كانت تكفيني أكلة بدرهم! فلم يسعفه الدواء ولم يمرأه الغذاء، وما ذاك إلا لأن الطبيب داواه بالطب الذي يداوي به الناس، ووصف له ما كان يصفه لكل مريض مصاب بمثل مرضه، ونسي أنه يداوي داءين لا داء واحدا، وفاته أن داءين أحدهما مزمن والآخر طارئ لا يصلحان بفرد دواء، ولو سمعه كيف كان يأسف على الصحة ولماذا كان يأسف عليها لعلم أن صحة هذه البنية غير صحة سائر البنى، وأن لها مرضا غير أمراضها، وأن الغذاء الذي ظن أنه يشفيه ويقويه قد حز من بدنه وأضاف مرضا على مرضه، وقد مات المسكين بدائه ذاك، وما أحسبه ندم على شيء وهو يفارق الدنيا ندمه على تلك الدراهم التي أطاع فيها الطبيب جزافا، وماذا عليه لو قد عصاه فلم يفقد سوى حياته؟!
ولهذا البخيل نوادر عديدة يذكرها معارفه؛ فكان لا ينقضي له يوم إلا على نادرة طريفة مع بائع أو زميل أو شريك أو مدين، وكنت أستظرفه فأتودد إليه وأشيعه على مذهبه فلا أقتصد في إطراء الاقتصاد ولا أبخل بكلمة في مدح البخل، وإذا فاوضته في الأدب أو طالعت معه في الكتب لم يكن أحقر على لساني من أسماء هرم بن سنان وحاتم طيئ وكعب بن أمامة ومعن بن زائدة وأبي دلف وغيرهم من أجواد العرب، فأشنع بهم وأسأل الله السلامة من مثل مصيبتهم في عقولهم وأموالهم، وأقول له: ما أجدر ما دار بتمثال من الذهب، فيقول: أي وأبي ولولا ما في ذلك من الإسراف، ولشد ما كان يتهلل وجهه حين أتلو عليه نكبة البرامكة، فيقول: حيا الله الرشيد، ما أحكمه وأحزمه! وقبحهم الله، ما أخرقهم وأحمقهم! بادوا وخلفوا وراءهم للناس مثلا سيئا وقدوة ذميمة، وكانت له في أسباب نكبتهم فلسفة خاصة لم يفتح الله بها على أحد قبله، يقول لك: لا تصدق ما يتشدق به كذبة المؤرخين عن أسباب نكبة البرامكة، فوالله ما نكبهم ولا قتلهم إلا الإسراف والتبذير، أسرفوا في البذخ وبذروا أموالهم في الصلات فحسدهم الموصول وسخط عليهم المحروم، فترصدت لهم العيون وتوغرت عليهم الصدور، واستعظم الرشيد عليهم ما هم فيه فمثل بهم ذلك التمثيل، وفجعهم في أرواحهم وأموالهم وآمالهم فلم يغن عنهم صنائعهم وذووهم، ولو أنهم بخلوا لنامت عنهم الأنظار وخرست عنهم الأفواه؛ لأن من نعم الله على البخلاء أنه يجمع لهم بين مزيتي الغنى والفقر، فلهم من الغنى المال الكثير ولهم من الفقر الأمان من حسد الحاسدين، ولهم من الغنى القدرة على ما يبتغون ومن الفقر القناعة بيسير ما يأكلون ويلبسون، وهما مزيتان لا يجمعهما الله إلا لمن رضي عنه من عباده.
بيد أنني في صحبتي له كنت لا أستطيع ساعة أن أفكر بأنني أصاحب إنسانا له علي مثل الذي لي عليه، وكنت أحمل نفسي على أن تصدق أنه من البشر كما تراه عيني فلا تذعن، وكيف وهي لا تحس بأدنى اختلاف بين ملاطفتي إياه وملاطفتي الكلب أو القرد الأليف ليأنس بي ولا ينفر مني، ولقد ضل - والله - من يتألف الكلاب والقردة ويلهو برؤية الحيوانات العجيبة وعنده البخلاء يضمهم وإياه جنس واحد ومدينة واحدة فلا يتألفهم ولا يخف إلى رؤيتهم، أليس لو جاءك رجل فأخبرك بأن في مدينة كذا دابة تموت من الطوى وبين يديها الطعام الفاخر، ويفرش لها المهاد الوثير فتجفوه إلى الأرض الخشنة، وتطلق في الفضاء الفسيح فتزمجر وتئن، وتسجن في قفص الضيق فتطرب وتطمئن، وقيل لك: إن هذه الدابة منفردة بهذه الأطوار بين بنات جنسها، أما كنت تبادر إلى تلك المدينة أو تتمنى أن تساق إليك تلك الدابة؟ فالبخيل هو تلك الدابة الغريبة في تكوينها، الشاذة في أطوارها، التي تعد من الناس وليست منهم، وتجانسهم في الصورة والقوام ولا تشاكلهم.
إن الناس يعرفون البخل بأنه الحب المفرط للمال، وهذا تعريف ناقص من جميع أطرافه، وهل العلاقة بين البخل والمال إلا كالعلاقة السطحية بين العلم والأوراق، وبين الشجاعة والسيف، وبين الزمن والساعات؟ وقد وجد البخل قبل أن تحتجن الأموال وتسك النقود كما سلف العلم قبل أن تصنع الأوراق وتقدمت الشجاعة قبل أن تطبع السيوف، ودار الفلك قبل أن تخترع الساعات، ولو أصبحت الدنيا قد انقرضت منها الأموال وفني من أيدي الناس الذهب والفضة لما قضى ذلك بفناء البخل من قلوب البخلاء؛ لما قدمنا من أن البخل شيء بمعزل عن المال.
وإنما البخل عاهة تحجب الفكر وتفسد الطبع وتفرد المرء عن الفطرة العامة بين بني جنسه بفطرة منكوسة عوجاء وتذره خلقا عجيبا، كل حظه من الحياة أن يحرم نفسه حظوظ الحياة، يستغرق الوسع في طلب الوسيلة، ثم لا هو يقنع بالوسيلة ولا هو يطلب بها الغاية، وليس البخل عاهة واحدة بل هو جملة عاهات ممثلة في هذه العاهة؛ فهو مزيج من الجبن الدنيء الذي يصور للمرء الخطر المستحيل كأنه قضاء حتم لا مرد له، ومن الخسة التي يتساوى عند صاحبها الفخر والعيب، وتلحق عنده مراغة الهوان بمقام السؤدد، ومن البلادة التي تميت فيه كل أريحية فلا تهتز في نفسه أمنية أو عاطفة تقوى على كسر قيود شحه وجبنه، وقد ظهرت هذه الخلال للناس قبل أن يتمدينوا بآلاف السنين ومقتوها فمقتوا البخل متفرقا قبل أن يمقتوه مجتمعا، وغاية الفرق بيننا وبينهم أنهم كانوا يستضعفون من تكون فيه خلة من هذه الخلال فينبذونه عنهم ويهضمون حقه ويدوسون حرمته، ولربما طلوا دمه وتبرأ منه ولاة ثأره، وأما في مدنيتنا هذه التي وضعت سنة المال موضع سنة الحياة، فقد صار البخيل فيها يحل ويبرم، ويؤخر ويقدم، ويحلل ويحرم، ويستشفع إليها بيد فيها المال ويد فيها جبنه وخسته وبلادته فتقبل منه هذه لتلك، وإنها لعمري لمن الخصال التي انحطت بها المدنية عن الهمجية - وما هي بالقليلة، فكم خصلة في المدنية يستحب المدني الهمجية لأجلها ويأنف الهمجي بحق أن يتصف بها!
اللغات والتعبير
لولا أن الناس من أصل واحد في الخلق، ومن لحمة قريبة في النسب، بحيث إن ما يعرو أحدهم يعروهم جميعا وما يصدق على جميعهم يصدق على كل واحد منهم، لما أجدت عنهم اللغات في كتابة أو كلام، وعقلت ألسنتهم عن كل فهم وإفهام.
ولو كان التقارب بينهم تاما، والشبه في السن والميل والسليقة محكما لما افتقروا إلى اللغة، ولكان يستشعر أحدهم في روعه ما يقوم في روع الآخر من غير حاجة إلى الشرح والبيان.
ولا ريب أن الناس يتفاهمون ببواطنهم أكثر مما يتفاهمون بظواهرهم، وإن لاح لنا أن الأمر خلاف ذلك لطول عهدنا باستخدام اللغة في الإعراب عن مرادنا، فما اللسان إلا موضح ومفسر لما عساه أن ينبهم على السامع من مجمل سر المتكلم ومما قد تحتويه أفكاره، ولا يمكن أن تعبر عنه تمام التعبير وجداناته، أما حالته النفسية فهي أفصح من أن يفصح عنها اللسان، بل أفصح من أن يخفيها إذا حاول إخفاءها.
وما كان الإنسان قبل آلاف الحقب هو بعد بهيم سارح في مراتع العجمة، يعول فيما يراه من رضى صاحبه أو غضبه، ومن صدقه أو مكره، ومن أمانته أو خيانته، إلا على ما يتفرس في أسارير وجهه وغمزات طرفه وحركات أعضائه، وكان إذا كلمه لم يكد يثق بكلامه ويأمن اغتياله أو يطابق مدلول أقواله ما وقر في قلبه من مغزى إشاراته ومعنى ملامحه، فهو يأتمن السليقة ويرتاب في اللسان، وهذا سبب إعجاب الناس بالأشعار والخطب والكتب التي مصدرها السليقة وامترائهم فيما تعبث به يد الصنعة؛ لأنهم يقرءون نتاج السليقة فينفذ إلى سلائقهم، ويصيب مواقعه منها ويحرك من القارئ مثلما حرك من نفس الشاعر أو الكاتب، فيعلمون أنه صدقهم وحسر لهم عن سريرته فيركنون إليه.
ويقرءون نتاج الصنعة فلا يجاوز ألسنتهم وكأنهم يقرءونه وهم ينظرون الشاعر أو الكاتب وهو يتعمد للظهور لهم بغير مظهره، ويتنقب لهم بنقاب يخفي وجهه أو يبديه في غير صورته، أو يرائيهم بتجميل هيئته وتدميم طلعته، فيخالجهم الشك فيه ويعرضون عنه، إلا إذا كان القارئ من الغرارة بحيث يصدق كل ما يقال أو من الجهل بحيث لا يميز بين السليقة والصنعة، فإنه يقبل حينئذ كل قول على علاته، فلا تمنعه المماذقة عن المصادقة، وتنكسر خزانة نفسه بمبرد اللص أسهل مما تنفتح لصاحب المال.
ولقد - والله - أحسن جولد سمث إذ يقول في إحدى رواياته: «لسنا نستعمل الكلام للإفصاح عن حاجاتنا بقدر ما نستعمله لمداراتها.» فقد طمس الكلام إلى اليوم من الحقائق أضعاف ما فند من الأكاذيب، وضلل من المهتدين أكثر مما هدى من الضالين، وإنك ربما تقترب من الرجل فتطلع من سيماه على ما يريبك فتتوجس منه، فإذا سألته وكان من ذوي اللباقة والبراعة في المراء والمخادعة لبس عليك الحقيقة وأزال الريب من نفسك، فينصحك لسان حاله، ويغشك لسان مقاله، وكان آمن لك لو أنك صدقته ساكتا ولم تصدقه ناطقا.
هذا فيما يملك الناس أن يبينوه أو يكنوه، وإن هناك أفكارا تلتوي على اللغات وتشمس عن التقيد بالكلمات، فما فضل الناطق في هذه الأفكار على الأعجم؟! وما زيادة الفصيح على الأبكم؟! لا فضل ولا زيادة، ومن الأفكار ما هو أعوص من أن يعبر عنه، ولكنه أقوى من أن يكتم، السكوت عنها ممض والتعبير عنها ممتنع، لم يتغلغل الكلام إلى أعماقها فيخرجها، وليست هي بالتافهة الضئيلة فتدفنها في مهدها وتدرجها، وقد خصت ولم تعم، فلم يكن لها حظ من اللغات العامة، وتفرقت ولم تجتمع فليس بين أصحابها المتفرقين لغة متبادلة، فاعلم أنه لا يريحك من هذه الأفكار إلا سكوت كالخطاب.
وذلك أن تجد ولو على البعد من يعاني مثل هذه الأفكار فيحيط بكتابك من عنوانك، وتلهمه الكلمة العاجلة ما تضيق به الفصول المذيلة، ويسبح معك برهة في عالم لا ألسنة فيه ولا آذان!
يتحادث الرجلان وبينهما تنافر في الأماني والأذواق، فيفرغ أحدهما جعبة بلاغته، ويمتهي غرار حجته، ويستنفد أفانين حيلته، ويحسب أنه أقنع جليسه واستولى على لبه، ثم ينهض هذان الجليسان وإن بينهما من البعد لما هو أبعد مما بين الميت ومناديه، والنجم ورائيه، ويجلس غيرهما وقد توافيا على أمنية، وتمازجا في الطوية، فيقضيان الساعات لا ينبسان إلا بالكلمة بعد الكلمة ثم ينهضان وقد نقل كلاهما إلى أخيه خلاصة نفسه وطبع صورته في صدره، ومن منا من لم يشاهد الحالتين فتبين له لغة الصمت أحيانا مقدار حداثة لغات الكلام.
وإني لأصغر شأن هذه العلوم والآداب القائمة كلها على تفاهم اللغات كلما تأملت فرأيت الأشياء الكثيرة التي تقوم بوجدانات الإنسان ولا يحس بها، والتي يحس بها ولا يعبر عنها، والتي يعبر عنها ولا تصل برمتها إلى عقل سامعها، فيتأكد لي أن الناس في حاجة إلى تفاهم أرقى من هذا التفاهم اللغوي، ولعل هذا النقص هو علة كثير من المشاكل التي تقع بينهم أمما وأفرادا، وتزول لو كان التفاهم بينهم كاملا.
فليتخذ الناس اللغات رموزا وإشارات تنوب عن المعاني لمن يعرفها، ولا تمثلها لمن لا يعهدها أو يأنس بها، وليعلموا أنهم ما داموا لا يقولون كل ما يريدون أن يقولوه فهم خرس وإن نطقوا، وإنما البليغ المبين من الناس رجل يجيد الإشارة بلسانه أو يراعه، ولن تغنيه هذه الإجادة عن أن يكون سامعه ممرنا على التنجيم والتخمين، وأما من أخطأه هذا المران، فسيان عند الإشارة باللسان، والإشارة بالبنان!
قوة الإرادة
خطر لي أن أبتدع في التجارة بدعة حسنة، فاخترت أن أتاجر بالأخلاق النافعة للمصريين؛ فاقتديت بأولي الخبرة والنظر البعيد من التجار إذا عزموا الاتجار بسلعة من السلع في بلد من البلدان، يتوخون حاجة السوق ويستقصون عادات أهل البلد، ثم يقدمون على بصيرة من عملهم وأمل وطيد في الرواج والنجاح فتوخيت حاجة السوق في مصر، وتقصيت عادات المصريين وفتشت عن الخلق الذي ينقصهم أكثر من أي خلق سواه، فعلمت أنه قوة الإرادة، فعولت على أن يكون اشتغالي بهذا الصنف من الأخلاق.
وراقني هذا الخاطر فمنيت نفسي رواجا سريعا وربحا جزيلا، وأنني سأكون أنفق تجارة وأكثر عائدة من المتاجرين بيننا بالوطنية والدين؛ لأن حاجتنا إلى الوطنية والدين أقل من حاجتنا إلى الأخلاق ولا سيما قوة الإرادة، وفي مصر كثير من الوطنيين والمؤمنين، ولكن قل فيها من كملت عليه نعمة الأخلاق فغنوا فيها عن المزيد، وذهبت أحصي أرباحي ومكاسبي في السنة الأولى فالسنة الثانية، وفي السنين التالية فضاق بها الحصر ولم يستوعبها الحساب، وسرني أن أحلم بأنه لن يكون في الاثني عشر مليونا الذين يسكنون وادي النيل مصري واحد إلا لديه مقدار كبير أو صغير من تجارتي، فقلت: إنها والله للتجارة التي لا تبور.
واكتريت الدكان في أوسع أحياء العاصمة وأحفلها بالسابلة والقطان وزخرفته أيما زخرفة، فصفحته بالبلور وغشيت جدرانه بالذهب وصنعت رفوفه من خشب الهند، ونقشت عليه لوحة من أجمل ما خط الكاتبون كتبت عليها «هذا دكان قوة الإرادة، يعطيك على نفسك سلطانا لا حد له»، ثم جلست على بركة الله أشمر للتعب والعمل وأخففهما عني بما أرجوه من المنفعة لي وللناس.
فكان أول من سنح لي في صباح أول يوم فتحت فيه الدكان رجلا سكران قد تخالعت أعضاؤه من الوهن، واحمرت عيناه من السهر وانعقد لسانه من الحمر، فوقف قبالة الدكان يترنح ذات اليمين وذات الشمال وأوشك أن يميل على ألواح البلور فيحطمها ويكدر علينا صباح الاستفتاح بطلعته المشئومة، ولو كنت ممن يتطيرون لأغلقت دكاني لساعتي وجزمت بالفشل، ولكنني تصبرت ولبثت ألاحظه وهو تارة يحملق إلي وتارة يتهجى العنوان حرفا حرفا حتى أتى على حروفه بعد شق النفس، ثم قال لي وكأن روحه تصعد مع كل كلمة: أأنت صاحب الدكان؟
قلت: نعم.
قال: أنت بعينك؟
قلت: أنا هو بعيني لا سواي.
قال: وتبيع قوة الإرادة؟!
قلت: من جميع الأصناف والأثمان.
قال: ولنا أيضا تبيعها؟! لا تؤاخذني فإني أحب أن أستفهم.
قلت: أجل، لك ولكل من يشتريها.
قال: فأنا أسهر كل ليلة كما ترى وأسكر وأقامر وأجيء في هذه الساعة فيثقلني النوم ولا أحب أن أنام، فهل عندك صنف من الإرادة أتسلط به على النوم ويقويني على السهر ليل نهار؟
قلت: ليس هذا من الأصناف الموجودة ولو وجد لما بعناه، ونحن باعة الأخلاق لا نقل في الأمانة لصناعتنا والحفاظ بذمتنا عن الصيادلة، وقد تعلم أنت أن الصيادلة لا يبيعون كل دواء لكل طالب، ولكن عندنا أصنافا أصلح لك من هذا الصنف، فهل لك فيها؟
قال: أرنيها.
فسردت له أسماء الأصناف التي في الدكان وأريته كل صنف منها في علبته، ولم آله تفصيلا لفوائدها وترغيبا فيها وبسطت له أسماء الإرادة المانعة، وخواصها منع الناس عن مقارفة العادات الضارة؛ من التدخين إلى المقامرة ومن الكذب إلى الوقيعة، وتختلف المقادير والأثمان باختلاف الإدمان والأزمان.
وأصناف الإرادة العاملة وخواصها إيلاء الناس عزيمة وصبرا على تذليل مصاعب الأعمال وتحقيق همامات الأنفس ، وأرخصها قضاء المرء واجبه، وأنفسها قضاؤه واجب أمته ونوعه، وهي أغلى من الإرادة المانعة؛ لأن القدرة على أداء الواجب أندر من القدرة على اجتناب المحظور، وأعلى هجرك ما تؤاخذ به فعلك ما تحمد عليه، وعددت له أسماء نفر من عظماء الرجال الذين دفعتهم قوة الإرادة ودفعت بهم أممهم إلى ذروة من الشرف تتقاصر عنها الذرى، وأطنبت في الوصف والتحسين وهو يصغي إلي بما بقي في حواسه من الانتباه؛ فأطمعني إصغاؤه في أن يكون أول تجربة ناجعة وأصدق إعلان عن الدكان، ورأيته يطرق مليا ثم قال: ولكن من يضمن لي جودة الأصناف ويكفل نقاوتها من الأخلاط والأوشاب؟
فقلت في نفسي: سبحان الله! هذا الذي يذهب كل ليلة إلى الخمار لا يسأله أيسقيه سما أم خمرا، ويغشى موائد القمار يخسر كل ليلة صحته وماله ثم ينساق إليها بغير سائق لا يريد أن يشتري قوة الإرادة إلا بضامن! ولكنني جاريته وقلت له: لا خوف عليك من هذه الجهة، فسأعطيك علبة نموذجا فجربها وسل من شئت من التجار، ولك بعد ذلك الخيار. •••
انصرف السكران بالعلبة ذلك اليوم وعاد إلي في اليوم الثاني مفيقا صاحيا فجلس بتؤدة وأدب وقال لي: لقد تعاطيت أمس علبتك ولم أعاقر ولم أقامر، ولا أدري أبفضل العلبة ذلك أم لنفاذ المال مني، وكنت إذا نفد المال مني اقترضت، فلم أقترض أمس، فلا أدري أيضا أكان ذلك قوة في الإرادة أم حياء من الرفض، وكنت لا أستحي فلا أدري والله أكان حيائي خلقا جديدا اكتسبته منذ تعاطيت قوة الإرادة أم هو لتكرار الطلب واليأس من الإجابة.
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
على أنني سألت التجار تاجرا تاجرا، فاستغربوا اسم الصنف ولونه ورائحته ومعدنه، واتفقوا على أنهم لم يسمعوا به لا في الشرق ولا في الغرب، ما عدا التاجر فلانا فقد عرفه وفحصه قليلا فرده إلي مشمئزا وهو يقول: خذ يا شيخ! فقد سئمنا هذا السخف والتدجيل! وهل فرغ الناس من سلطان الهموم فيسلطون عليهم قوة الإرادة أيضا ؟! وإذا كانت عوائق الدهر تحرمك شطرا من ملذات الحياة وأنت تحرم نفسك الشطر الباقي فأنت لا شك الذي يقال فيه: إنه عدو نفسه ... فخل عنك هذه الأضاليل ولا يغرنك ما تقرأ من العناوين وما تسمع من المواعيد، فلو كان في هذه التجارة خير لما غفل عنها الناس إلى اليوم، ولم ينسها دهاقين التجار الأزمان المتطاولة لتكون بدعة من بدع هذا الزمان المنكود.
فأسكت هذا المهذار، وندمت على التفريط في العلبة، وكان أعجب ما عجبت له كلام ذلك التاجر لعلمي بأنه ممن يميزون من أمثال هذه الأصناف ويحسون بنقص السوق فيها، ولم يكن بيننا مجاورة أو مشاركة، فخفي عني غرضه من تبغيض الناس في بضاعة ليس بيني وبينه منافسة عليها، ولكني وقفت فيما بعد على سبب ذلك، وهاك بيان ما وقفت عليه. •••
رأى فلان المذكور هذه التجارة المستحدثة فقدر لها الربح الطائل والرواج السريع، ورأى أنه ليس أيسر عليه من تقليدها، شأن الأعلاق النادرة، تزييفها كثير والغش فيها جائز؛ وذاك لأن عارفيها معدودون، ولأن جاهليها يحكمون عليها باللون والرونق وليس بالثمرة والجوهر، فقرر بينه وبين شيطانه أن يستفيد من هذه الفرصة ويختص بذلك الربح فما وني دون أن فتح له دكانا تجاه دكاني وتأنق في تزويقه وتنظيمه، وكتب عليه «هذا دكان قوة الإرادة الصحيحة، يعطيك سلطانا لا حد له على ملذات الحياة».
فتح الدكان واستأجر له دلالا سليطا يفتأ سحابة النهار يصرخ بصوت كقصف الرعود أو قرع الطبول: يا طالب الإرادة الصادقة، حي على الغنيمة قبل فواتها! يا عشاق العزيمة الماضية هلموا إلى أعظم معمل للعزيمة الماضية، هيا إلى أرخص سلعة سعرا وأسرعها فعلا وأصمدها على الطوارئ أثرا، إرادة لا تتكاءدها عقبة ولا تصدها عن غايتها طلبة، فمن اشتهى السكر فصدته عنه مرارة الراح فليشتر من هذا الدكان؛ فيستعذب تلك المرارة ويعاف عندها كل حلاوة، ومن صبا إلى الشهوات فأشفق من عقابيلها مغباتها زودناه بقوة إرادتنا فأصبح لا يحفل بالعذل والملام، ولا يبالي بالضيم والسقام، ومن تورط في القمار ثم تهيب خشية الإملاق والدمار، ومخافة الفضيحة والعار، فعندنا ما ينزع منه تلك المخافة، ويضحكه من هواجس تلك الخرافة، وعندنا لكل مريد إرادة، ولكل إرادة شهادة، فالبدار البدار! قبل غلاء الأسعار، فاليوم بدرهم وغدا بدينار.
فما شككت في أن المسكين معتوه قد خسر رأسه وسوف يخسر رأس ماله، وتوقعت له الخراب الجائح القريب؛ إذ من أين له يزاحمني في تجارتي وأنا مبتدع التجارة وهو المقلد، وأنا أبيع إرادة الجد والعمل، وهو يبيع إرادة اللهو والكسل، ولكن سرعان ما أخطأ حسابي وارتد علي تكهني، وما راعني إلا الجماهير على أبوابه يتكوفون وبضائعه في كل واد تسير، بحيث لم تخل منها المدينة والقرية، والبيت والحانوت، والحانة والنادي، ولم ينته الشهر، ففتح دكانا جديدا إلى جنب دكانه، ودار الحول فكان له في الحي خمسة دكاكين، وأصبح أعظم تاجر في الديار.
أما أنا فقد أعطيت في اليوم الأول تلك العلبة لذلك السكران فكانت أول وآخر ما صدر من دكاني، ومرت أيام وأيام، وتلتها شهور وشهور، وتمت ثلاث سنوات مجرمات، وأنا بتلك الحال أراقب التلف يدب في بضاعتي وأعاين السوس ينخر في إرادتي - وما الإرادة إلا كالسيف يصدئه الإهمال ويشحذه الضراب والنزال - فدهشت وغضبت ثم صبرت وتعللت، ثم يئست وسلمت، فأقفلت الدكان وطلقت التجارة، وهأنذا أسأل عن المحكمة لأودعها الدفاتر والمفاتيح.
الشجاعة والعدوى
لا أحسب أحدا يجهل أن هناك فرقا بين الشجاعة وحب الموت، كفرق بين الجبن وحب الحياة، فقد يهجم اليائس الموتور على حتفه، ويطرح بنفسه مطارح الهلكة، وهو بعد الجبان المنخوب، وربما كان هجومه هذا آية جبنه وجزعه، وقد يبرز الوحش الضاري للفارس الصئول أو يدهمه القطار أو يسقط عليه الحجر العظيم فيتحاشاه ويفر منه ...
وهو الجريء على الحمام المقبل
وإنما يحمد الاستخفاف بالحياة والاجتراء على الموت إن كان ذلك الواجب تصغر الحياة فيه، ويتحتم الموت لأجله، وأما فيما سوى ذلك فلا واجب على الحي أقدس من واجب صيانة الحياة ودفع الموت عنه، ولا جناح عليه أن يحب البقاء أبد الدهر لو كان إلى البقاء سبيل.
إن كان ذلك كذلك فلا فائدة لك ولا للناس في أن تدخل مع جراثيم الحميات والأوباء في وقعة مشكوك فيها، وأنت وحدك وهي - أبادها الله وشتت شملها - قد شبت على الاتحاد والتكاثر وإن كانت في جو مصر! فتهاجمك في الماء والهواء، ومن بين يديك ومن تحت قدميك، وأنت لا تراها ولا تشعر بها، ونحن مع ما نعلم من أن الحكومات تكافئ كل شجاع على استقبال الموت في حومات الوغى وبين نيران الحريق، ما علمنا قط أنها علقت نوطا أو وساما على صدر أحد؛ لأنه صارع الميكروب فصرعه وانتصر عليه، اللهم إلا إن كان بعض الأطباء قد يظفر منها بالنوط أو الوسام تنويها بنصره عليه وفتكه به، ولكنك خليق ألا تغرك شجاعة هؤلاء الأطباء؛ فإنهم يحاربون الجراثيم وهي مكتوفة في الأنابيب ومخدرة بالعقاقير، وليس هذا من أصول الحرب ولا من شروط المناجزة في شيء.
وإن من غرائب الخليقة وطرف العقول أن يكون بين إخواننا في الآدمية من تراه يقيم في وسط بؤرة تصعد منها رائحة البلى، ويركد فيها الهواء من ثقل ما على كاهله من القذر والقذى، وتسمع فيها الميكروب كالذباب ...
هزجا يحك ذراعه بذراعه
وينادي فيها عزريل ليلا ونهارا: ألا من حي فأزهقه؟ ألا من نأمة فأسكتها؟ ألا من تعب مكدود فأحمله؟ ويمر أمام بصره في تلك البؤرة مركبات الأموات حثيثة العدو من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ... وتقول له: انج يا صاحبي بروحك واسلم بعمرك، وقد يكون من مذهبك أن من ينتظر مثل هذه النصيحة من سواه غير جدير بأن يحرم الحفار أجرة قبره والبزاز ثمن كفنه، فتغلظ على نفسك، وتأخذك الهوادة في مذهبك وتنصحه بالرغم من ذلك فيقول لك: معاذ الله أن أخاف الموت أو أفر من قرب الله ... يقولها الملعون وكأنه يعتقد أن الله بعيد إلا عن تلك البؤر التي يفوح نتنها وتطرد الملائكة وخامتها، ويقولها الملعون وهو يجهل أن عمر بن الخطاب فر من الطاعون، ولما لامه أبو عبيدة وقال له: أتفر من قدر الله ؟ قال: نعم، إلى قدر الله ... وناهيك بعمر شجاعة وصبرا وإيمانا بالله واتكالا عليه.
ولو صاحب من هذه الطغمة - ولا عار في الصحبة - عثرت به في إحدى تلك البؤر فنصحته تلك النصيحة فكنت كأنما أخزه بها وخزا، وإذا هو يزور عني ويلوي كشحه ويقول: أأنا أعبأ بالحميات والأمراض؟ ومثلي يا فلان يرضى أن يذاع عنه أنه أجفل من الموت؟ وهل يدركنا الموت في مكان وينسانا في مكان؟ وما كان ظنك بعقلي وأنت تنصح لي بالجلاء عن داري التي ولدت فيها والانهزام أمام عدو لا أراه؟ وأين ما عودتك في من الجلد وعودتني فيك من تشجيع الأصدقاء؟! وقلت: حسبك ولكني آسف يا سيدي على هذه الشجاعة الفائقة ألا تتصدى بها لكل قوة من قوى هذه الطبيعة المغرورة بنفسها، وما بالك تستهزئ بالموت بالجراثيم كأنك تستصغرها ولا تستهزئ بالموت غرقا أو حرقا أو صبرا، وهذه القواطر والسيارات والترام كثيرة في البلد، والناس يتنحون لها عن الطريق ويفرون منها كل مفر، فما بالك لا تثبت أمامها وتريها أنك لست من هؤلاء الناس؟ بل ما بالك لا تبالغ في احتقار الجراثيم والزراية بها فتشرب قدحا من حمض الفينيك الذي يقتلها لتبرهن لها على أنك لا تعبأ بما يميتها فكيف بها؟!
ولما رأيت أنني سألته بقدر ما سألني وأجبته بمثل ما أجابني، فصلت من عنده وأنا أفكر في اقتراح أعرضه على أولي الأمر، وهو أن تجمع الحكومة أفراد هذه الطغمة وتلصق بوجوههم علامة يعرفهم بها من يراهم، حتى إذا وقف أحدهم في طريق سيارة أو ترام أو تعرض أمام صائد يطلق على هدفه، لم يكفف الصائد يده، ولم يتعب السائق في إيقاف سيارته أو ترامه، فيضيع من وقت الركاب دقيقة أو أكثر لإنقاذ حياة هانت على صاحبها إلى هذه الدرجة، وليست هي على الناس بأقل هوانا.
مواضع الملاحة
مهما تعمقوا في تعريف الملاحة ووصف محاسن الوجه وقالوا فيها ما يشبه قولهم في السحر أو الروح واليوم الآخر، فلا إخالها ترد في بادئ أمرها إلا إلى أنها شارة في أظهر عضو من الجسم - أعني الوجه - كانت، ولا تزال في بعض الأحيان تدل على فضيلة جنسية في جسم الرجل أو المرأة.
إن أظهر ما تظهر الملاحة من معارف الوجه في العين والشفة؛ لأنهما الجارحتان اللتان ترتسم فيهما حالة النفس وإحساسها بغاية الوضوح والجلاء، وبهما تختلف أمة عن أمة وجنس عن جنس، فالعربي والمصري والصيني والإنكليزي والألماني وغيرهم من الملل والأمم يتماثلون بالعيون والشفاه، وكذلك الرجل والمرأة، أصدق وأوجز ما يقال في هاتين الجارحتين أنهما نافذة النفس، فمنها تطل على العالم ومنها يطل العالم عليها، ولعل ما تكشفه منا وللناس أكثر مما تكشفه من الناس لنا.
لا بد من صلة محكمة دقيقة بين العين والرأس؛ لأن نظرة العاقل غير نظرة المجنون، وقل مثل ذلك في الغادر والأمين، والفظ والوديع، والسقيم والسليم، والشهوان والعفيف، فإن لكل منهم نظرة غير نظرة الآخر، أما صلة الرأس بالجسم وما يندمج فيها من الطبائع فمعلومة ملحوظة؛ فالعين بهذه المثابة هي عنوان صفة النفس ومزاج الجسد.
ولا بد من صلة بين الشفة والإحساس؛ لأن الشفة هي ملتقى أعصاب الوجه وهي أدق أعصاب الجسم، فلا تهيج في الجسم هائجة ولا تسكن به ساكنة إلا بدا لها أثر على الشفة، فتفتر أو تتهدل أو تنقبض أو تتقلص أو ترتجف، وترى الإحساس في الشفة يتوق إلى مقابلة مثله؛ لأن الإحساس يبلغ فيها أشده، وهذا هو الميل إلى اللثم والتقبيل، نعم إن الأعضاء كلها تميل إلى المماسة، ولكن الميل لا يكون إلا على قدر إحساس كل عضو، فلا تميل اليد إلى اليد كميل الشفة إلى الشفة؛ لأن الفرق بينهما في الإحساس كالفرق بين المصافحة والتقبيل، وقد وضعت هذه الحساسية في الفم؛ لأنه هو باب الجوف، والجوف بحاجة إلى حاسة ظاهرة تجيد له جس الأشياء قبل وصولها إليه، وقد نرى الأعمى لا يعتمد في جس الأشياء إلا على شفتيه؛ لأنه حين فقد البصر وأصبح معتمده على الحس وحده لا يشعر في جسمه بما هو ألطف على المس من شفتيه.
فالشفة هي ترجمان الإحساس ومجس العواطف، وإذا كان في الإنسان خاصة تتصل بالإحساس كان أحرى الجوارح أن تظهر عليها تلك الخاصة الشفة، فقليلا ما يلتبس عليك الصابر الكظوم بالقلق اللجوج أو الأريب الكيس بالحميقة الأبله، من التأمل في شفاههم وهيئة أفواههم، وإذا التبسوا عليك ساعة الهدوء والصفو لا يلبسون ساعة الغضب والاهتياج.
ولرب وجه صبوح جميل يروقنا استواء خلقه واعتدال تقسيمه ويحيرنا نقد معارفه وقسماته، ولكنا يؤلمنا ألا نتملى من ذلك الوجه بحظ الاستحسان الذي شوقنا إليه منظره، ووجه أقل منه جمالا وصباحة وأخفى روعة ورواء وهو يسبينا ويثير بلابلنا ويستولي على إعجابنا، وقد ننسب ذلك أحيانا إلى اختلاف الأذواق أو خفة الدم، ولو أنعمنا النظر في ذينك الوجهين لم يطل بحثنا عن السبب، وعلمنا أن ما نسميه تارة باختلاف الأذواق وتارة بخفة الدم هو معان تتضمنها العيون والشفاه ليست من جمال الصورة، على أنها هي شطر الجمال الأكبر، وهي التي تفيض على ذلك التناسب الهندسي الممول روحا حيا جذابا.
إن لكل عضو جماله الخاص به، وجمال العيون والشفاه عام لا يجمل الجمال إلا به، ولو نظرنا إلى مزية في العيون والشفاه تجعل لها هذا الشأن في تقدير الجمال غير اتصالها بالإحساس ذلك الاتصال الذي ألمعنا إليه، لما أبصرنا لها أي مزية سواها، فلماذا لا نقول: إن الأصل في حب الجمال هو امتحان قابليات الجسم بأظهر أجزائه للناظر؟!
أفي ذلك بخس للجمال؟! ما الجمال إلا صبغة لا تفارق الجسوم، فكيف نوفق بين احتقار الجسم وتنزيه صبغته؟!
هذا كلام لا يرضى به عشاق الجمال ولا يروقهم أن يكون حبهم له نوعا من جس النبض وفنا من الفراسة، فإن كان إرضاؤهم لا بد منه فليذكروا أن جمال أجدادنا لا يستحق أكثر من ذلك، وأننا لم نرث جمالنا وعواطفنا من غير أولئك الأجداد.
Unknown page