Khulāṣat al-mukhtaṣar wa-naqāwat al-muʿtaṣar
خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر
Editor
أمجد رشيد محمد علي
Publisher
دار المنهاج
Edition
الأولى
Publication Year
1428 AH
Publisher Location
جدة
Genres
بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمانٌ يقينيّ بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر، فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها.
وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلّا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله: قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلّا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق، ثم لاحظت أحوالي؛ فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس؛ فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بَعْدُ على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى، لا تسبق لي رغبة في طلب الآخرة بُكرةً، إلّا ويحمل عليها جند الشهوة حملةً فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل... فعند ذلك تنبعث الداعية وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان...
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمرُ حدَّ الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إليَّ(١)، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها ألبتة...
ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري.. التجأت إلى الله تعالى التجاء
(١) أي: مَن يأتي للأخذ عنه.
35