والمنافسة الحقيقية التي تدفع الخطيب إلى الإجهاز على خصمه وتفنيد مزاعمه بكل ما أوتي من شدة عارضة وفصاحة بيان؛ لا تكون إلا في المسائل السياسية والقضائية، وأما في غير ذلك كالحفلات الأدبية والمناظرات العلمية وسواها، فالواجب يقضي بالتضامن بين الخطباء حتى إذا عرض للواحد ما يفسد عليه موقفه، أو لا يترك لكلامه وقعا حسنا كان للآتي بعده مجال لإصلاح هذا الفساد بالثناء على الخطيب السابق والإشارة بمزاياه؛ مما يساعد على إزالة سيئ الأثر دون أن يحس الحضور بهذه المناورة الولائية؛ لأن للجمع عقلية تختلف عن عقلية الفرد، وحكم الجماعة في مثل هذه الحفلات مقيد بحوادث الساعة، والجمهور مستعد أبدا للحلم والمعذرة والرضى.
الخطيب والجمهور
1
إن بين الخطيب والجمهور صلة نسب وقرابة، ولكنها ليست متينة الأسباب في كل حين، وهذا ما يجعل موقف الخطيب حرجا، فإن الجمهور مؤلف من طبقات مختلفة، وفيه العالم والأمي، والقنوع اللين العريكة، والعنيد الصلب الشكيمة، فإذا كان الخطيب ممن ألفوا المنابر، واعتادوا على تلك الوجوه الشاخصة إليهم والعيون المحدقة بهم، فقد وجد السبيل ممهدا أمامه وكان فوزه أكيدا، وإذا كان على خلاف ذلك أو هو يخطب للمرة الأولى، فقد عز مطلبه ووعرت طريقه، وكان من الواجب قبل كل أمر أن يستميل الحضور إليه، وأن يهيئ نفسه لقبول ما قد يصدر عنهم من ضجة أو ضحك أو مقاطعة أو غير ذلك، ولا سيما إذا كان في الحفل كثير من العامة كما يحدث في الاجتماعات السياسية أيام الانتخابات، وهذا أمر قليل الوقوع عندنا لعدم توافر الأسباب الداعية إليه.
وربما ساء الخطيب قلة الإقبال عليه وعدم امتلاء النادي بالسامعين، فعليه أن يدافع هذا الأثر ويتغلب على غيظه ويلقي خطبته بكل ما أوتي من حماسة، حتى إذا خرج الناس معجبين بما قال كان لخطابه صدى جميل في المحافل والأندية لا يلبث معه أن يتغير اعتقاد الناس فيه فيأسف من قصر عن الحضور، ويعاهد النفس ألا يدع فرصة تفوته فيما بعد لسماع هذا الخطيب.
ومثل ذلك إذا كان السواد الأعظم من عامة الناس الذين لم تسمح لهم أعمال الحياة ومطالب الجهاد أن يتوسعوا في الثقافة فلا يكونن هذا مثبطا له؛ لأنه لا يشق عليه أن يستميلهم ويملك عليهم نفوسهم ولو لم يعوا كل ما يقول؛ فإن السامع الأمي كالفقير الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يلبس الخز والديباج، ويروقه مع ذلك مرأى هذا الزهو وربما حصل عليه بالتصور، فهو أي السامع يدرك أن في كلام الخطيب ما يسمو عن مداركه أحيانا، ولكن يسره أن يسمع ويرى، وقد ترضيه من الخطيب بعض الظواهر أو الحركات فتلقي ستارا على جهله، ويمحو من ذهنه أثر العجز الذي هو فيه، فيخرج مسرورا مسحورا لأن حكم الجماعات يكون عادة حسب الأهواء والشهوات والتأثيرات النفسانية.
وقد يقف خطيبان أو أكثر في ناد فيأتي الواحد بأبلغ ما يمكن، ويلم بموضوعه من كل أطرافه، ولا يترك شاردة إلا قيدها، ويقول الآخر كلاما سطحيا لا يدل على تعمق في الدرس ولا اجتهاد في البحث، ولكنه يأتي ببعض النكات المستظرفة فينال من الاستحسان والتصفيق أضعاف ما نال الأول، إلا أن هذا الفوز عارض لا يلبث أن يزول عندما تنقشع غيمة التأثير الخطابي، وينشر قول هذا وذاك، ويطلع القراء على فحواهما، ويسهل لكل في خلوته أن يبدي حكما صحيحا بعيدا عن التأثيرات الخارجية.
ولا يجوز للخطيب أن يحتقر العامة؛ لأن غايته في الغالب هي التهذيب والإرشاد والإصلاح، ولا يصل إليها بالازدراء بسامعيه بل هو بهذا الاحتقار يخولهم الحق أن يحتقروه. وأول ما يجب عليه في هذه الأحوال أن يتعرف إلى أهوائهم ويجاريهم في مشاربهم أحيانا، فقد لا تكون بعيدة عن الصواب وأن يصغي إلى كلامهم، فالحكمة قد تأتي من فم الجاهل، وأن يتبع المثل الأعلى الذي يريد أن يرسمه للناس، فلا يأنف من عرضه عليهم ولا ييأس من تقريبهم منه.
2
من العقبات التي تعترض الخطيب وهو على المنبر أن لا يفهمه كل إنسان، فتقوم المعارضة من كل ناحية لأن هذا الجمهور المختلف الطبقات والأمزجة والتربية والغاية يسري فيه ألف مذهب وألف عقيدة وألف وهم، وعلى الخطيب أن يؤلف بين هذه القوى المتباينة ليقودها في طريقه، ولا يتم له ذلك إلا بالصبر والحلم وطول الأناة والتسامح. وهو يسعى إلى إرضاء الجمهور ولكن لا من طريق الإكراه الذي يفضي إلى الفشل، فإذا دافع عن رأيه فلا يكون دفاعه بمحاولة هدم مذهب سواه، فإن لكل رأي مظهرا من مظاهر الحقيقة، ولم نسمع أبدا أن كل الناس خرجوا من حفلة خطابية راضين مقتنعين، وقد كان والدك روسو يقول عن نفسه: «أنا أطلب من كلامي نجاحا لا انتصارا.» وهذا ما يجب على كل خطيب أو مناظر أن يضعه نصب عينيه، وخطاب أنطونيوس في مقتل قيصر أبلغ مثال يقدم على ذلك.
Unknown page