Khitab Wa Taghayyur Ijtimaci
الخطاب والتغير الاجتماعي
Genres
وتمثل طبيعة الأسئلة التي يطرحها الطبيب جانبا آخر من جوانب تحكمه في الموضوع، إذ إنها ليست أسئلة مفتوحة تتيح للمريضة حرية الكلام (كأن يقول مثلا «حدثيني عن حالك في الآونة الأخيرة») ولكنها أسئلة «مغلقة» إلى حد ما، بمعنى أنها تفرض حدودا صارمة نسبيا على إجابات المريضة. وبعض هذه الأسئلة ينتمي إلى ما يرد عليه بالإيجاب أو بالنفي، بمعنى تأكيد مقولة معينة أو إنكارها (مثل «هل تشعرين بالحرقان هنا؟») وبعضها الآخر تبدأ بحروف معينة مثل «ماذا»، و«متى»، و«كيف»، وهي الأسئلة التي تطلب تفاصيل محددة عن وقت شرب الكحول وكميته ونوعه.
ومن المفيد أيضا أن ننظر إلى العلاقة بين أسئلة الطبيب وإجابات المريضة. ففي السطر الرابع يبدأ الطبيب سؤاله قبل أن تنتهي المريضة من الكلام، فيقع التداخل. ويحدث ذلك أيضا في السطرين 20 و24، وإن كانت إجابة المريضة في هاتين الحالتين تتضمن وقفة ربما ظنها الطبيب دليلا على انتهاء الإجابة. وفي حالات أخرى يتبع دور الطبيب مباشرة كلام المريضة دون توقف، إما بإبداء تقدير للحالة متبوع بسؤال (السطران 10 و13) أو بسؤال فقط (السطر 16). ويختلف النسق في السطر 23 للأسباب التي أوردها أدناه. وهذا يؤكد أن الطبيب يعمل وفقا لنهج موضوع سلفا، أو أنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى حالما يرى أنه حصل على معلومات يعتبرها كافية، حتى ولو أدى ذلك إلى مقاطعة كلام المريضة. وإذا نظرنا إلى هذا النهج بعيني المريضة فربما وجدنا أنه يتكون من سلسلة من الأسئلة غير المتصلة التي يتعذر توقعها، وربما يكون هو السبب في أن إجابات المريضة عنها تسبقها لحظات تردد (السطور 15، 18، 29، 42)، على العكس من إجاباتها عن أسئلة الطبيب في القسم الأول من المقتطف.
والصورة الشاملة إذن، فيما يتعلق بمعالم التحكم في التفاعل، تدل على أننا نشهد حلقات تتكون كل حلقة منها من سؤال وإجابة وتقييم، وأن الطبيب يطبق من خلالها نهجا موضوعا سلفا، وأنه يستطيع بفضله أن يتحكم في أدوار كلام المريضة ومضمون كل دور وطوله، إلى جانب تقديم الموضوعات وتغييرها. ولأقدم الآن بعض التعليقات الموجزة على ثلاثة جوانب أخرى لهذه العينة، قبل معالجتها معالجة وافية في أواخر هذا الفصل، وهذه هي النوعية، والتأدب، والجو الخلقي.
والمقصود بالنوعية مدى التزام منتج النص بمقولاته، أو إقامته - على العكس من ذلك - مسافة تفصل بينه وبينها، أي تحديد درجة «ارتباطه» بالمقولة، وفق المصطلح الذي وضعه هودج وكريس (1988م)، ولكن الارتباط الذي يبديه منتج النص كما يبين هودج وكريس، بإحدى الصور التي تمثل العالم لا تنفصل عن العلاقة (و«الارتباط») بين منتج النص وغيره من المشاركين في الخطاب. ففي السطرين 2-3 مثلا تعرف المريضة «حموضة المعدة» بأنها «حرقان شيء مثل الحرقان يعني أو ما عداه» أي: إن المريضة تشرح ما بها أولا بتعبير طبي شعبي، ثم تقيم مسافة بينها وبين الشرح باختزاله في تشبيه («مثل الحرقان») ثم تزيد من المسافة التي تفصلها عنه ب «المراوغة» (براون ولفنسون، 1978م) بتعبير «أو ما عداه». والنوعية هنا تفيد ضعف الارتباط، ولكن التمييز عسير في هذه الحالة بين صدق المقولة وبين العلاقات الاجتماعية الكامنة في دوافع المريضة لقول ما تقوله: تراها تختار ضعف «النوعية» لأنها غير واثقة من دقة شرحها، أم لأنها عازفة عن قول شيء يشبه المعرفة الطبية في تفاعل مع خبير طبي معترف به؟ أي إن صدق المقولات والعلاقات الاجتماعية، بمعنى المعرفة والسلطة، ترتبط بروابط معقدة ويتعذر فصلها في مثل هذه الحالات.
فلأتحول الآن إلى التأدب: إن المريضة تقدم في السطرين 21-22 قضية شربها الخمر، وهي قضية يصعب الخوض فيها على ما يبدو ويمكن أن توقعها في حرج، باعتبارها إضافة ذيلت بها إجابتها عن سؤال من أسئلة الطبيب. ويقول ميشلار (1984م، 86) إنها تتكلم في هذه اللحظة بأسلوب فيه «ميوعة» أو «دلال» أو «لمسة طفولية» وهو ما يمكن تفسيره بأنه محاولة للتخفيف من التهديد لاحترامها لذاتها وللحفاظ على «ماء وجهها» بعد اعترافها بمعاقرة الشراب (انظر براون ولفنسون، 1978م، والقسم الخاص بالتأدب في مكان لاحق بهذا الفصل) وعلى العكس من ذلك، لا تتضمن أسئلة الطبيب عن شربها الخمر أي تخفيف، فهي أسئلة صريحة بل وحتى قاسية (السطر 41)، فهو يصف حالة المريضة بأنها حالة «إسراف في الشراب» في صياغة تفتقر إلى الدبلوماسية أو التخفيف (أعود لقضية الصياغة فيما بعد). أي إن أسئلة الطبيب تتسم بمستوى تأدب منخفض، وأنا أستخدم المصطلح بمعناه الواسع المستخدم في دراسات التداولية (انظر مثلا ليتش، 1983م؛ براون ولفنسون، 1978م) بحيث يعني التوجه والحساسية ل «الحياء» عند المشاركين واحترامهم لذواتهم، وخصوصيتهم واستقلالهم.
ولنا أن نربط بين التأدب وبين مفهوم الجو الخلقي الأعم والأشمل، وهو الذي يعني كيف يمكن للسلوك الكلي للمشارك - وهو الذي يعتبر كلامه (المنطوق أو المكتوب) وأسلوبه ونغمته جزءا منه - أن يعبر عن شخصيته ويشير إلى هويته الاجتماعية وذاتيته (مينجينو، 1987م، 31-35). والأطباء يظهرون في الممارسة الطبية المعيارية ما يمكننا أن نسميه الجو الخلقي العلمي (إذ يعتز الطب الحديث بأنه «العلم الطبي») وهو الذي يتحقق بأشكال مختلفة في الطرائق التي يلمسون بها المرضى وينظرون إليهم أثناء فحصهم، وفي الطرائق التي يستنبطون بها الموضوعات من أقوال المرضى، وغياب دقائق التلطف الخاصة بمعاني العلاقة بين الأشخاص مثل التأدب، وهي التي من شأنها الإيحاء بالتوجه إلى المريض باعتباره شخصا، لا التوجه العلمي إلى المريض باعتباره «حالة» (انظر إيميرسون، 1970م، حيث ترد فحوص أمراض النساء وفق التوجهات المذكورة وفيركلف 1989م، أ، 59-62 حيث ترد مناقشة لها).
كان تحليل العينة الأولى حتى الآن منحازا لجانب واحد في تركيزه على تحكم الطبيب في التفاعل. ويشير ميشلار إلى وجود طرائق لتحليل المقابلة الشخصية أكثر توجها إلى منظور المريض. والواقع أن هذه الطرائق أهم من زاوية التناص. سبق لي أن أشرت إلى أدلة التناقض بين المنظور الطبي ومنظور الخبرة العادية، والتي نجدها في الأسلوب الذي يستبعد به الطبيب أجزاء معينة من أقوال المريض، إذا بدت له خارج الموضوع. فإذا كان كلام الطبيب يظهر فيه باتساق «صوت» الطب، فإن أقوال المريض تمزج صوت الطب بصوت «عالم الحياة»، أو الخبرة العادية (وهذان المصطلحان من عند ميشلار الذي يقتبسهما من هابرماس). وأما التحليل البديل الذي يقترحه ميشلار فيركز على الجدلية، والتضارب والصراع داخل التفاعل بين هذين الصوتين. ويوحي هذا بالتوسع فيما قلته إلى الآن عن التناص؛ بحيث يسمح بإقامة علاقة تناص مجسدة في حوار صريح بين مختلف الأصوات التي يأتي بها مختلف المشاركين إلى حلبة هذا التفاعل.
فإذا نظرنا إلى التفاعل من هذه الزاوية بدا لنا أكثر تشتتا وأقل انتظاما من اعتباره تجليا لسيطرة الطبيب، إذ تتكرر مقاطعة الصوتين، صوت الطب (ط) وصوت عالم الحياة (ع) مرارا: أي إن «ع» يقاطع «ط» في السطر 21 (من «لم أقل الحقيقة») و«ط» يقاطع «ع» في السطر 24 («هل يزيد الشراب من سوء الحالة؟») و«ع» يقاطع «ط» في السطر 29 («ما يكفي حتى أنام») والعكس بالعكس في السطر 31 («كأس أو كأسان في اليوم؟») فإن «ع» يقاطع «ط» في السطر 42 («منذ أن تزوجت») والعكس بالعكس في 44 («ومنذ متى كان هذا؟») وتواصل المريضة نوبة حديثها التي بدأتها في السطر 45 بتفسير مطول عن سبب حاجتها إلى الكحول، ولماذا تلجأ إلى الكحول بدلا من الأقراص وحسب، ويتبع ذلك من جديد سؤال من «ط» (وهل تتناولينها (أي الأقراص) بكثرة؟) وفي هذا الجزء من المقابلة الشخصية يصبح «ط» و«ع» متنازعين، ويستخدم الطبيب تحكمه في الأسئلة لإعادة تأكيد صوت الطب. ومع ذلك فإن التدخلات المتكررة من جانب «ع» تقلق فيما يبدو نهج العمل الذي وضعه الطبيب، وانظر دلائل التردد التي بدأت تظهر قبل طرح أسئلة الطبيب (السطور 23-24، 27، 37، 41، 44). وإذا كان الطبيب نادرا ما يرجع إلى عالم الحياة، فإن المريضة تستخدم صوت الطب باستفاضة، وهي تبدي سعة صدر للطبيب بهذا المعنى أكبر مما يبديه هو لصوت عالم الحياة. والواضح أن الصوتين متضادان في المضمون؛ فصوت الطب يجسد العقلانية التكنولوجية التي تتعامل مع المرض من حيث كونه مجموعات لا سياق لها من الأعراض الجسدية، ولكن صوت عالم الحياة يجسد عقلانية «منطق الدنيا» التي تضع المرض في سياق جوانب أخرى لحياة المريضة. ويشير ميشلار (1984م، 122) إلى أن التضاد يتفق، فيما يبدو، مع التمييز الذي يقيمه شوتز (1962م) بين «الموقف العلمي» و«الموقف الطبيعي».
والتحليل من حيث تحكم الطبيب في التفاعل، والتحليل من حيث وجود جدلية بين صوتين، يعتبران معا من أساليب التعمق في النظر في الممارسة الطبية المعيارية على مستوى تحليلي متناهي الصغر، وفي الطب باعتباره صورة للممارسة المهنية. غير أن مهنة الطب، مثل غيرها من المهن تشهد تحولات كبيرة في المجتمع المعاصر. وربما يكون أهم ما يمكن لتحليل الخطاب أن يسهم به في هذا الصدد هو أن يكون وسيلة لبحث ما تمثله هذه التحولات «على الأرض»، بالنظر في أساليب التفاعل الحقيقية بين الأطباء والمرضى.
العينة الثانية: مقابلة شخصية في إطار الطب البديل
Unknown page