(مُقَدّمَة)
﴿وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات فأتمهن قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا، قَالَ: وَمن ذريتي، قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين﴾ ﴿٢: ١٢٤﴾ .
﴿وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذِي من قبلهم، وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا، وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ﴾ ﴿٢٤: ٥٥﴾ .
﴿وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ لخائف الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم، إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم﴾ ﴿٦: ١٦٥﴾ . .
هدَانَا الْكتاب الْحق، وَالنَّظَر فِي تَارِيخ الْخلق، إِلَى الِاعْتِبَار بخلافة الشعوب بَعْضهَا لبَعض، فِي السِّيَادَة وَالْحكم فِي الأَرْض، وبخلافة الْأَفْرَاد والبيوت فِي الشعوب، وَمَا فِيهَا من حق مَشْرُوع وتراث مَغْصُوب، وَإِلَى مَا لله تَعَالَى فِي ذَلِك من الحكم وَالسّنَن الاجتماعية، وَالْأَحْكَام وَالسّنَن الشَّرْعِيَّة وَمن الْعَهْد بِالْإِمَامَةِ الْعَامَّة لبَعض الْمُرْسلين، والوعد باستخلاف وإرث الأَرْض لِعِبَادِهِ الصَّالِحين، وَمن تِلْكَ السّنَن الْعَامَّة ابتلاء بعض الشعوب بِبَعْض ليظْهر أَيهَا أقوم وَأقرب إِلَى الْعدْل وَالْحق فَيكون حجَّة لَهُ على الْخلق ولينتقم من الظَّالِمين، تَارَة بأمثالهم من المفسدين، وَتارَة بأضدادهم من المصلحين، وَتَكون عَاقِبَة التَّنَازُع لِلْمُتقين، فالمتقون هم الَّذين يَتَّقُونَ بَاب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنَن الله الشَّرْعِيَّة والكونية فِي الْعَمَل، والصالحون هم الَّذين يجتنبون الْفساد، ويسلكون سَبِيل الرشاد، ويقومون مَا اعوج من أَمر الْعباد.
1 / 7
عهد الله تَعَالَى بِالْإِمَامَةِ الْعَامَّة لنَبيه وخليله إِبْرَاهِيم وللعادلين من ذُريَّته غير الظَّالِمين، فوعد بهَا قوم مُوسَى من بني إِسْرَائِيل، وَقوم مُحَمَّد من بني إِسْمَاعِيل، قَالَ تَعَالَى فِي الْوَعْد الأول ٢٨: ٥ ﴿ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين﴾ وَقَالَ فِي الْوَفَاء بِهِ ٧: ١٣٧ ﴿وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهِ وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا﴾ الْآيَة وَقَالَ فِي الْوَعْد الثَّانِي ٢٤: ٥٥ ﴿وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم﴾ . . وَقد صدق الله هَذِه الْأمة وعده ووفى لَهَا، كَمَا وفى لمن قبلهَا، ثمَّ سلبها جلّ مَا أَعْطَاهَا، كَمَا عاقب بذلك سواهَا، إِذْ نقضت عهدها كَمَا نقضوا، وفسقت عَن أَمر بهَا كَمَا فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كَمَا اغتروا، وَإِنَّمَا ناط تَعَالَى إِرْث الأَرْض، بِإِقَامَة الْحق وَالْعدْل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الْخلق، وَاسْتثنى من نيل عَهده الظَّالِمين، وتوعد بسلبه من الْفَاسِقين، وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْهَا أَن تعْتَبر بذلك فتثوب إِلَى رشدها، وتتوب إِلَى رَبهَا، عَسى أَن يرحمها، وَيتم لآخرها، مَا أنْجز من عَهده لأولها، وَلكنهَا لما تفعل، وَعَسَى أَن تفعل.
إِن الْمَرِيض الْجَاهِل بمرضه لَا يطْلب لَهُ علاجا، وَإِن من يطْلب العلاج من غير الطَّبِيب الْعَارِف بمرضه لَا يُصِيب نجاحا، وَإِن دَاء الْمُسلمين ودواءه مُبين فِي كِتَابهمْ الْمنزل، وَلَكنهُمْ حرمُوا على أنفسهم الْعلم وَالْعَمَل بِهِ، اسْتغْنَاء عَنْهُمَا بِفقه المقلدين وكتبهم، وَيُمكن الْعلم بهما مِمَّا أرشدهم إِلَيْهِ الْكتاب من السّير فِي الأَرْض، للنَّظَر فِي أُمُور الْأُمَم وَالِاعْتِبَار بسنن الله فِي الْخلق، وَلَكنهُمْ قَلما كَانُوا يَسِيرُونَ، وَإِذا سَارُوا فقلما ينظرُونَ ويعتبرون.
1 / 8
وَالْإِسْلَام هِدَايَة روحية، وسياسة اجتماعية مَدَنِيَّة، أكمل الله بِهِ دين الْأَنْبِيَاء، وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نظام الِاجْتِمَاع البشري من سسن الارتقاء، فَأَما الْهِدَايَة الدِّينِيَّة الْمَحْضَة فقد جَاءَ بهَا تَامَّة أصلا وفرعا، وفرضا ونفلا، إِذْ مدارها على نُصُوص الْوَحْي، وَبَيَان الرَّسُول ﷺ لَهَا بالْقَوْل وَالْفِعْل، وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين جهلوا هَذَا الأَصْل، فغلا بَعضهم فِي الدّين، فَزَاد فِي أَحْكَام الْعِبَادَات والمحرمات الدِّينِيَّة، والمواسم والأحزاب والأوراد الصُّوفِيَّة، مَا ألفت فِيهِ المجلدات، ويستغرق الْعَمَل بِهِ جَمِيع الْأَوْقَات، ويستلزم جعله من الدّين نُقْصَان دين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِذْ لم يكن لديهم شَيْء مِنْهُ، وَلَو اشتغلوا بِمثلِهِ لما وجدوا وقتا لفتح الْبِلَاد، وَإِصْلَاح أُمُور الْعباد. . وَأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الْإِسْلَام أساسها وقواعدها، وَشرع للْأمة الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِيهَا، لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وترتقي بارتقاء الْعمرَان وفنون الْعرْفَان، وَمن قَوَاعِده فِيهَا أَن سلطة الْأمة لَهَا، وأمرها شُورَى بَينهَا، وَأَن حكومتها ضرب من الجمهورية، وَخَلِيفَة الرَّسُول فِيهَا لَا يمتاز فِي أَحْكَامهَا على أَضْعَف أَفْرَاد الرّعية، وَإِنَّمَا هُوَ منفذ لحكم الشَّرْع ورأي الْأمة، وَأَنَّهَا حافظة للدّين ومصالح الدُّنْيَا، وجامعة بَين الْفَضَائِل الأدبية، وَالْمَنَافِع المادية، وممهدة لتعميم الْأُخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الْأُمَم الصورية والمعنوية. . وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين قصروا فِي إِقَامَة الْقَوَاعِد وَالْعَمَل بالأصول، وَلَو أقاموها لوضعوا لكل عصر مَا يَلِيق بِهِ من النّظم وَالْفُرُوع. .
ظَهرت مَدَنِيَّة الْإِسْلَام مشرقة من أفق هِدَايَة الْقُرْآن، مَبْنِيَّة على أساس البدء بإصلاح الْإِنْسَان، ليَكُون هُوَ المصلح لأمور الْكَوْن وشئون الِاجْتِمَاع، فَكَانَ جلّ إصْلَاح الْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِقَامَة الْحق وَالْعدْل، والمساواة بَين النَّاس فِي الْقسْط، وَنشر الْفَضَائِل وقمع الرذائل، وَإِبْطَال مَا أرهق الْبشر من استبداد الْمُلُوك والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدّين على الْعُقُول والأرواح، فبلغوا بذلك حدا من الْكَمَال، لم يعرف لَهُ نَظِير فِي تَارِيخ الْأُمَم والأجيال، واستتبع ذَلِك مَدَنِيَّة سريعة السّير، جَامِعَة بَين الدّين والفضيلة، وَبَين التَّمَتُّع بالطيبات والزينة، ارتقت فِيهَا الْعُلُوم والفنون بِسُرْعَة غَرِيبَة، حَتَّى قَالَ الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف لوبون فِي كِتَابه (تطور الْأُمَم): إِن ملكة الْفُنُون لم تستحكم لأمة من الْأُمَم فِيمَا دون الثَّلَاثَة أجيال الطبيعية إِلَّا للْعَرَب، وَيَعْنِي بِالثَّلَاثَةِ أجيال: الجيل الْمُقَلّد، والجيل المخضرم، والجيل المستقل. .
1 / 9
لقد أَتَى على النَّاس حِين من الدَّهْر وهم يظنون أَن المدنية الإسلامية قد مَاتَت وبليت، فَلَا رَجَاء فِي بَعْضهَا، وَأَن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فَلَا مطمع فِي مَوتهَا، ثمَّ اسْتَدَارَ الزَّمَان وَظهر خطأ الحسبان، وَكثر فِي حكماء أوروبة وعلمائه من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بِمَا يفتك بهَا من أوبئة الأفكار المادية، وَالروح الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف فِي الشَّهَوَات الحيوانية، وَقد كَانَ من أساطين أهل هَذَا الرَّأْي شيخ فلاسفة الْعَصْر هربرت سبنسر الإنكليزي مؤسس علم الِاجْتِمَاع، وَكثر أَهله بعد الْحَرْب الْكُبْرَى، لما ترَتّب عَلَيْهَا من الْمَفَاسِد الَّتِي لَا تحصى، فقد أرثت الأحقاد والأضغان بَين الشعوب الأوروبية، وضاعفت الْمَفَاسِد والمشاكل الْمَالِيَّة والسياسية، وَلكنهَا قد هزت الْعَالم الإسلامي والشرق كُله هزة عنيفة، وأحدثت فِي شعوبه توارث لم تكن مألوفة، فسنحت لَهُ فرْصَة للْعَمَل، هِيَ منَاط الرَّجَاء وَقُوَّة الأمل. .
وَإِن أعظم مظَاهر هَذِه الفرصة نهضة الشّعب التركي من كبوته الَّتِي قَضَت على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بَين الدولتين الإيرانية والأفغانية، وبثه دَعْوَة الِاعْتِصَام مَعَ سَائِر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه فِي إِلْغَاء الامتيازات الْأَجْنَبِيَّة، وَالنَّقْص من سَائِر الْقُيُود والأغلال السياسية والمالية، فرجاؤنا فِيهِ أَن يشد أواصر الإخاء مَعَ الْأمة الْعَرَبيَّة، ويتعاون مَعهَا على إحْيَاء المدنية الإسلامية، بتجديد حُكُومَة الْخلَافَة على الْقَوَاعِد المقررة فِي الْكتب الكلامية والفقهية، وَألا يرضى بِمَا دون ذَلِك من الْمظَاهر الدُّنْيَوِيَّة، وَلَا يغتر بتحبيذ عوام الْمُسلمين لما قَرَّرَهُ فِي أَمر الْخلَافَة الروحية، فَمَا أضاع على الْمُسلمين دنياهم وَدينهمْ، إِلَّا تحبيذ دهمائهم لكل مَا تَفْعَلهُ حكوماتهم ودولهم، ناهيك بشعور الْمُسلمين، الَّذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين، إِنَّه شُعُور شرِيف، وَإِنَّمَا يعوزه الرَّأْي الحصيف، فقد كَانَ السوَاد الْأَعْظَم من هَؤُلَاءِ الملايين، يَرْمِي من يُخَالف أهواء السُّلْطَان عبد الحميد بالخيانة أَو المروق من الدّين، وَهُوَ السُّلْطَان الَّذِي أقنع جُمْهُور ساسة التّرْك بِإِسْقَاط سلطة السلاطين، الَّذِي تحمده الْيَوْم هَذِه الملايين، وَمَا لَهُم بِهَذَا وَلَا ذَاك من علم وَلَا سُلْطَان مُبين. .
أَيهَا الشّعب التركي الْحَيّ: إِن الْإِسْلَام أعظم قُوَّة معنوية فِي الأَرْض وَإنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمكن أَن يحيي مَدَنِيَّة الشرق وينقذ مَدَنِيَّة الغرب، فَإِن المدنية لَا تبقى إِلَّا
1 / 10
بالفضيلة، والفضيلة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِالدّينِ، وَلَا يُوجد دين يتَّفق مَعَ الْعلم والمدنية إِلَّا الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا عاشت المدنية الغربية هَذِه الْقُرُون بِمَا كَانَ فِيهَا من التوازن بَين بقايا الْفَضَائِل المسيحية، مَعَ التَّنَازُع بَين الْعلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فَإِن الْأُمَم لَا تنسل من فَضَائِل دينهَا، بِمُجَرَّد طروء الشَّك فِي عقائده على أذهان الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات مِنْهَا، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بالتدريج فِي عدَّة أجيال، وَقد انْتهى التَّنَازُع بفقد ذَلِك التوازن، وَأصْبح الدّين والحضارة على خطر الزَّوَال، واشتدت حَاجَة الْبشر إِلَى إصْلَاح روحي مدنِي ثَابت الْأَركان، يَزُول بِهِ استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الْأَغْنِيَاء للْفُقَرَاء، وخطر البلشفية على الْأَغْنِيَاء، وَيبْطل بِهِ امتياز الْأَجْنَاس، لتتحقق الْأُخوة الْعَامَّة بَين النَّاس، وَلنْ يكون ذَلِك إِلَّا بحكومة الْإِسْلَام، الَّتِي بيناها بالإجمال فِي هَذَا الْكتاب، وَنحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إِذا وفْق الله للْعَمَل بهَا. .
أَيهَا الشّعب التركي الباسل: إِنَّك الْيَوْم أقدر الشعوب الإسلامية على أَن تحقق للبشر هَذِه الأمنية، فاغتنم هَذِه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خَالِد، لَا يذكر مَعَه مجدك الْحَرْبِيّ التالد، وَلَا يجرمنك المتفرنجون على تَقْلِيد الإفرنج فِي سيرتهم، وَأَنت أهل لِأَن تكون إِمَامًا لَهُم بمدنية خير من مدنيتهم، وَمَا ثمَّ إِلَّا المدنية الإسلامية، الثَّابِتَة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدِّينِيَّة، فَلَا تزلزلها النظريات الَّتِي تعبث بالعمران، وتفسد نظم الْحَيَاة الاجتماعية على النَّاس. .
أَيهَا الشّعب التركي المتروي: انهض بتجديد حُكُومَة الْخلَافَة الإسلامية، بِقصد الْجمع بَين هِدَايَة الدّين والحضارة لخدمة الإنسانية، لَا لتأسيس عصبية إسلامية تهدد الدول الغربية، فَإِن فعلت ذَلِك وَأثبت إخلاصك وَصِحَّة نيتك فِيهِ، فَإنَّك تَجِد من عُلَمَاء الإفرنج وفضلائهم وأحرارهم من يشد أزرك، وَيرْفَع ذكرك، وَيدْفَع عَنْك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين. .
أَيهَا الشّعب التركي الْعَاقِل: إِنَّنِي أهدي إِلَيْك هَذِه المباحث الَّتِي كتبتها فِي بَيَان حَقِيقَة الْخلَافَة وأحكامها، وَشَيْء من تَارِيخه وعلو مكانتها، وَبَيَان حَاجَة جَمِيع الْبشر إِلَيْهَا، وَجِنَايَة الْمُسلمين على أنفسهم بِسوء التَّصَرُّف فِيهَا، وَالْخُرُوج بهَا عَن موضوعها، وَمَا يعْتَرض الْآن فِي سَبِيل إحيائها، مَعَ بَيَان الْمخْرج مِنْهَا، بِمَا أشرع السَّبِيل، وأنار الدَّلِيل، بمقال وسط بَين الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل، جَامع لآراء العارفين
1 / 11
بمصالح الدُّنْيَا وَحَقِيقَة الدّين، فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ، وَإِنَّمَا الشُّكْر لَهَا، بِالْعَمَلِ بهَا ﴿وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم وَلَئِن كَفرْتُمْ إِن عَذَابي لشديد﴾ ...
1 / 12
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالخلافة الإسلامية
لقد كَانَت الْخلَافَة والسلطنة فتْنَة للنَّاس فِي الْمُسلمين كَمَا كَانَت حُكُومَة الْمُلُوك فتْنَة لَهُم فِي سَائِر الْأُمَم والملل. . وَكَانَت هَذِه الْمَسْأَلَة نَائِمَة فأيقظتها الْأَحْدَاث الطارئة فِي هَذِه الْأَيَّام، إِذْ أسقط التّرْك دولة آل عُثْمَان، وأسسوا من أنقاضها فيهم دولة جمهورية بشكل جَدِيد، من أُصُولهَا أَنهم لَا يقبلُونَ أَن يكون فِي حكومتهم الجديدة سلطة لفرد من الْأَفْرَاد لَا باسم خَليفَة وَلَا باسم سُلْطَان، وَأَنَّهُمْ قد فصلوا بَين الدّين والسياسة فصلا تَاما وَلَكنهُمْ سموا أحد أَفْرَاد أسرة السلاطين السَّابِقين خَليفَة روحيًا لجَمِيع الْمُسلمين، وحصروا هَذِه الْخلَافَة فِي هَذِه الأسرة، كَمَا بَينا ذَلِك بالتفصيل فِي هَذَا الْجُزْء وَمَا قبله من الْمنَار. لذَلِك كثر خوض الجرائد فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة وأحكامها، فَكثر الْخَلْط والخبط فِيهَا، وَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ، فَرَأَيْنَا من الْوَاجِب علينا أَن نبين أَحْكَام شريعتنا فِيهَا بالتفصيل الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام، ليعرف الْحق من الْبَاطِل، وَأَن نقفى على ذَلِك بمقال آخر فِي مَكَان نظام الْخلَافَة من نظم الحكومات الْأُخْرَى، وسيرة الْمُسلمين فِيهِ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُم فِي هَذَا الزَّمَان.
وَإِن تأييدنا للحكومة التركية الجديدة، لمما يُوجب علينا هَذَا الْبَيَان والنصيحة، وَنحن إِنَّمَا نؤيدها لمَكَان الدّين، ومصلحة الْمُسلمين، وَمَا أَضْعَف ديننَا وَأَهله، إِلَّا محاباتهم للأقوياء فِيهِ، فَكَانَت مُحَابَاة الْعلمَاء للملوك وَالْخُلَفَاء وبالا عَلَيْهِم وعَلى النَّاس، وَقد أَخذ الله الْمِيثَاق على الْعلمَاء ﴿لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه﴾ ﴿وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ وَمن الله نستمد الصَّوَاب، ونسأله الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب:
1 / 13
فارغة
1 / 14
التَّعْرِيف بالخلافة الإسلامية ووجوبها شرعا
1 / 15
فارغة
1 / 16
التَّعْرِيف بالخلافة
الْخلَافَة، والإمامة الْعُظْمَى، وإمارة الْمُؤمنِينَ، ثَلَاث كَلِمَات مَعْنَاهَا وَاحِد، وَهُوَ رئاسة الْحُكُومَة الإسلامية الجامعة لمصَالح الدّين وَالدُّنْيَا.
قَالَ الْعَلامَة الأصولي الْمُحَقق السعد التَّفْتَازَانِيّ فِي متن مَقَاصِد الطالبين، فِي علم أصُول عقائد الدّين: الْفَصْل الرَّابِع - أَي من العقائد السمعية - فَفِي الْإِمَامَة، وَهِي رئاسة عَامَّة فِي أَمر الدّين وَالدُّنْيَا خلَافَة عَن النَّبِي [ﷺ]
وَقَالَ الْعَلامَة الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة: الْإِمَامَة مَوْضُوعَة لخلافة النُّبُوَّة فِي حراسة الدّين وسياسة الدُّنْيَا.
وَكَلَام سَائِر عُلَمَاء العقائد وَالْفُقَهَاء من جَمِيع مَذَاهِب أهل السّنة لَا يخرج عَن هَذَا الْمَعْنى، إِلَّا أَن الإِمَام الرَّازِيّ زَاد قيداّ فِي التَّعْرِيف فَقَالَ: هِيَ رئاسة عَامَّة فِي الدّين وَالدُّنْيَا لشخص وَاحِد من الْأَشْخَاص. . وَقَالَ: هُوَ احْتِرَاز عَن كل الْأمة إِذا عزلوا الإِمَام لفسقه. . قَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد بعد ذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف وَمَا علله بِهِ: (وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُل الْأمة أهل الْحل وَالْعقد وَاعْتبر رئاستهم على من عداهم أَو على كل من أحاد الْأمة) .
1 / 17
حكم الْإِمَامَة أَو نصب الْخَلِيفَة
أجمع سلف الْأمة، وَأهل السّنة، وَجُمْهُور الطوائف الْأُخْرَى على أَن نصب الإِمَام - أَي تَوليته على الْأمة - وَاجِب على الْمُسلمين شرعا لَا عقلا فَقَط كَمَا قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة، وَاسْتَدَلُّوا بِأُمُور لخصها السعد فِي متن الْمَقَاصِد بقوله: لنا وُجُوه: (الأول) الْإِجْمَاع وَبَين فِي الشَّرْح أَن المُرَاد إِجْمَاع الصَّحَابَة قَالَ: وَهُوَ الْعُمْدَة، حَتَّى قدموه على دفن النَّبِي [ﷺ] (الثَّانِي) أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ مَا وَجب من إِقَامَة الْحُدُود وسد الثغور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِحِفْظ النظام (الثَّالِث) أَن فِيهِ جلب مَنَافِع وَدفع مضار لَا تحصى وَذَلِكَ وَاجِب إِجْمَاعًا (الرَّابِع) وجوب طَاعَته ومعرفته بِالْكتاب وَالسّنة، وَهُوَ يَقْتَضِي وجوب حُصُوله وَذَلِكَ بنصبه اهـ. وَمعنى الْأَخير أَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ من وجوب طَاعَته فِي الْمَعْرُوف شرعا وَوُجُوب مَعْرفَته بِالْكتاب وَالسّنة وَكَونهَا من أهم شُرُوطه يَقْتَضِي أَن نَصبه وَاجِب شرعا، وَقد أَطَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد فِي بَيَان هَذِه الْوُجُوه وَمَا اعْترض بِهِ بعض المبتدعة الْمُخَالفين عَلَيْهَا وَالْجَوَاب عَنْهَا.
وَقد غفل هُوَ وَأَمْثَاله عَن الِاسْتِدْلَال على نصب الإِمَام بالأحاديث الصَّحِيحَة الْوَارِدَة فِي الْتِزَام جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم، وَفِي بَعْضهَا التَّصْرِيح بِأَن
" من مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث لِابْنِ عمر مَرْفُوعا، وَسَيَأْتِي حَدِيث حُذَيْفَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَفِيه قَوْله [ﷺ] لَهُ
" تلْزم جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم ".
من ينصب الْخَلِيفَة ويعزله؟:
اتّفق أهل السّنة على أَن نَصْبَ الْخَلِيفَة فرض كِفَايَة، وَأَن المطالب بِهِ أهل الْحل وَالْعقد فِي الْأمة، وَوَافَقَهُمْ المغتزلة والخوارج على أَن الْإِمَامَة تَنْعَقِد ببيعة أهل الْحل وَالْعقد. . وَلَكِن اضْطربَ كَلَام بعض الْعلمَاء فِي أهل الْحل وَالْعقد من هم؟ وَهل تشْتَرط مُبَايَعَتهمْ كلهم أم يَكْتَفِي بِعَدَد معِين مِنْهُم؟ أم لَا يشْتَرط الْعدَد؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَن تكون تسميتهم بِأَهْل الْحل وَالْعقد مَانِعَة من الْخلاف فيهم، إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ أَنهم زعماء الْأمة وأولو المكانة وَمَوْضِع الثِّقَة من سوادها الْأَعْظَم، بِحَيْثُ تتبعهم فِي
1 / 18
طَاعَة من يولونه عَلَيْهَا فينتظم بِهِ أمرهَا، وَيكون بمأمن من عصيانها وخروجها عَلَيْهِ، قَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد كَغَيْرِهِ من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء: هم الْعلمَاء والرؤساء ووجوه النَّاس زَاد فِي الْمِنْهَاج للنووي الَّذين يَتَيَسَّر اجْتِمَاعهم. وَعلله شَارِحه الرملى بقوله لِأَن الْأَمر يَنْتَظِم بهم ويتبعهم سَائِر النَّاس. وَهَذَا التَّعْلِيل هُوَ غَايَة التَّحْقِيق منطوقًا ومفهومًا فَإِذا لم يكن المبايعون بِحَيْثُ تتبعهم الْأمة فَلَا تَنْعَقِد الْإِمَامَة بمبايعتهم. . وَهَذَا هُوَ الْمَأْخُوذ من عمل الصَّحَابَة ﵃ فِي تَوْلِيَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فَإِن عمر عَدّ البدء فِي بيعَة أبي بكر فلتة لِأَنَّهُ وَقع قبل أَن يتم التشاور بَين جَمِيع أهل الْحل وَالْعقد إِذْ لم يكن فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة أحد من بني هَاشم وهم فِي ذروتهم، وتضافرت الرِّوَايَات بِأَن أَبَا بكر ﵁ أَطَالَ التشاور مَعَ كبراء الصَّحَابَة فِي ترشيح عمر فَلم يعبه أحد لَهُ بِشَيْء إِلَّا شدته، وَإِن كَانُوا يعترفون أَنَّهَا فِي الْحق، فَكَانَ يُجِيبهُمْ بِأَنَّهُ يرَاهُ يلين فيشتد هُوَ - وَهُوَ وزيره - ليعتدل الْأَمر، وَأَن الْأَمر إِذا آل إِلَيْهِ يلين فِي مَوضِع اللين ويشتد فِي مَوضِع الشدَّة، حَتَّى إِذا رأى أَنه أقنع جُمْهُور الزعماء - وَفِي مقدمتهم عَليّ كرم الله وَجهه - صرح باستخلافه فقبلوا وَلم يشذ مِنْهُم أحد، وَلما طعن عمر رأى حصر الشورى الْوَاجِبَة فِي الزعماء السِّتَّة الَّذين مَاتَ الرَّسُول [ﷺ] وَهُوَ عَنْهُم رَاض لعلمه بِأَنَّهُ لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِم أحد وَلَا يخالفهم فِيمَا يتفقون عَلَيْهِ أحد، لأَنهم هم المرشحون للْإِمَامَة دون سواهُم (وهم عُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَلما أخرج نَفسه عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مِنْهُم وَجعلُوا لَهُ الِاخْتِيَار بَقِي ثَلَاثًا لَا تكتحل عينه بِكَثِير نوم وَهُوَ يشاور كبراء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَلما رَجَعَ عُثْمَان دَعَا الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وأمراء الأجناد فَلَمَّا اجْتَمعُوا عِنْد مِنْبَر رَسُول الله [ﷺ] بعد صَلَاة الْفجْر صرح لَهُم بِاخْتِيَارِهِ لعُثْمَان وَبَايَعَهُ هَؤُلَاءِ كلهم، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيره. . وَالْمرَاد بأمراء الأجناد وُلَاة الأقطار الْكُبْرَى مصر وَالشَّام وحمص والكوفة وَالْبَصْرَة وَكَانُوا قد حجُّوا مَعَ عمر فِي ذَلِك الْعَام وحضروا مَعَه الْمَدِينَة. وَلما شَذَّ أحد هَؤُلَاءِ الْوُلَاة - وَهُوَ مُعَاوِيَة فَلم يُبَايع عليا كرم الله وَجهه مَعَ إِجْمَاع سَائِر الْمُسلمين على مبايعته - كَانَ من الْفِتْنَة وتفرق الْكَلِمَة مَا كَانَ. . وَإِنَّمَا تصح الْمُبَايعَة باتفاقهم، أَو اتِّفَاق الرؤساء الَّذين يتبعهُم
1 / 19
غَيرهم، وَمن لم يتبعهُم بِالِاخْتِيَارِ، سهل عَلَيْهِم إكراهه بِقُوَّة الْأمة على الطَّاعَة والانقياد. . وَمن رُؤَسَائِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْر قواد الْجَيْش كوزيرى الحربية والبحرية وأركان الْحَرْب لَهما. . وَمَتى تمت الْبيعَة فِي العاصمة وَجب أَن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إِذا كَانُوا يتبعُون فِيهَا، وَإِلَّا وَجب أَن يَنْضَم إِلَيْهِم زعماء أَهلهَا من الْعلمَاء والقواد وَغَيرهم. .
وَغلط بعض الْمُعْتَزلَة وَالْفُقَهَاء فَقَالُوا: إِن الْبيعَة تَنْعَقِد دَائِما بِخَمْسَة مِمَّن يصلح للْإِمَامَة بِدَلِيل مَا أَشَارَ بِهِ عمر إِذْ حصر الشورى فِي المرشحين السِّتَّة وَقبل جَمِيع الصَّحَابَة مِنْهُ ذَلِك فَكَانَ إِجْمَاعًا. . نعم كَانَ إِجْمَاعًا على الشورى وعَلى أُولَئِكَ السِّتَّة فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة، لَا إِجْمَاعًا على ذَلِك الْعدَد فِي كل مبايعة، وَقَالُوا إِن مَذْهَب الأشعرى أَنَّهَا تَنْعَقِد بِعقد وَاحِد مِنْهُم إِذا كَانَ بمشهد من الشُّهُود وَهُوَ غلط وَاضح؟ وَقد ذكر هَذَا القَوْل الْفُقَهَاء مُقَيّدا بِمَا إِذا انحصر الْحل وَالْعقد فِيهِ بِأَن وثق زعماء الْأمة بِهِ وفوضوا أَمرهم إِلَيْهِ، وَهَذَا لم يَقع وينذر أَن يَقع. . وإمامة عُثْمَان لم تكن بمبايعة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَحده بل كَانَت عَامَّة لَا خَاصَّة بِهِ، وَكَذَلِكَ مبايعة عمر لأبي بكر، فَإِن الْإِمَامَة لم تَنْعَقِد بمبايعته وَحده، بل بمتابعة الْجَمَاعَة لَهُ، وَقد صَحَّ أَن عمر أنكر على من زعم أَن الْبيعَة تَنْعَقِد بِوَاحِد من غير مُشَاورَة الْجَمَاعَة وَكَانَ بلغه هَذَا القَوْل فِي أثْنَاء حجه فعزم على بَيَان حَقِيقَة أَمر الْمُبَايعَة وَمَا يشْتَرط فِيهَا من الشورى على جَمَاهِير الْحجَّاج فَذكره بَعضهم بِأَن الْمَوْسِم يجمع أخلاط النَّاس وَمن لَا يفهمون الْمقَال، فيطيرون بِهِ كل مطار، وَأَنه يجب أَن يرجئ هَذَا الْبَيَان إِلَى أَن يعود إِلَى الْمَدِينَة فيلقيه على أهل الْعلم والرأي فَفعل ...
قَالَ على مِنْبَر الرَّسُول [ﷺ]: بَلغنِي أَن قَائِلا مِنْكُم يَقُول وَالله لَو مَاتَ عمر لبايعت فلَانا، فَلَا يغترن امْرُؤ أَن يَقُول إِن بيعَة أبي بكر كَانَت فلتة فتمت، أَلا وَإِنَّهَا قد كَانَت كَذَلِك وَلَكِن وقى الله شَرها، وَلَيْسَ فِيكُم من تتطلع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر، من بَايع رجلا من غير مشورة من الْمُسلمين فَلَا يُبَايع هُوَ وَلَا الَّذِي بَايعه لغرة أَن يقتلا. ثمَّ سَاق خبر بيعَة أبي بكر وَمَا كَانَ يخْشَى من وُقُوع الْفِتْنَة بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لَوْلَا تِلْكَ الْمُبَادرَة بمبايعته للثقة
1 / 20
بِقبُول سَائِر الْمُسلمين، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَقد أقرَّت جمَاعَة الصَّحَابَة عمر على ذَلِك فَكَانَ إِجْمَاعًا فتقرر بِهَذَا، إِن الأَصْل فِي الْمُبَايعَة أَن تكون بعد استشارة جُمْهُور الْمُسلمين وَاخْتِيَار أهل الْحل وَالْعقد وَلَا تعْتَبر مبايعة غَيرهم إِلَّا أَن تكون تبعا لَهُم. . وَأَن عمل عمر ﵁ خَالف هَذَا الأَصْل الْقطعِي فَكَانَ فلتة لمقتضيات خَاصَّة لَا أصلا شَرْعِيًّا يعْمل بِهِ، وَمن تصدى لمثله فَبَايع أحدا فَلَا يَصح أَن يكون هُوَ وَلَا من بَايعه أَهلا للمبايعة، بل يكون ذَلِك تغريرًا بأنفسهما قد يُفْضِي إِلَى قَتلهمَا إِذْ أحدث فِي الْأمة شقاقا وفتنة.
سلطة الْأمة وَمعنى الْجَمَاعَة
قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف الْمُؤمنِينَ ﴿وَأمرهمْ شُورَى بَينهم﴾ وَالْقُرْآن يُخَاطب جمَاعَة الْمُؤمنِينَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يشرعها حَتَّى أَحْكَام الْقِتَال وَنَحْوهَا من الْأُمُور الْعَامَّة الَّتِي لَا تتلعق بالأفراد كَمَا بَيناهُ فِي التَّفْسِير، وَقد أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر - وهم الْجَمَاعَة - لَا ولي الْأَمر، وَذَلِكَ أَن ولي الْأَمر وَاحِد مِنْهُم، وَإِنَّمَا يطاع بتأييد جمَاعَة الْمُسلمين الَّذين بَايعُوهُ لَهُ وثقتهم بِهِ، وَيدل على هَذَا الْمَعْنى مَا ورد من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الْتِزَام الْجَمَاعَة وَكَون طَاعَة الْأَمِير تَابِعَة لطاعتهم واجتماع الْكَلِمَة بسلطتهم كَحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي [ﷺ] قَالَ:
" من رأى من أميره شَيْئا فليصبر عَلَيْهِ فَإِن من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " وَلما أخبر النَّبِي [ﷺ] حُذَيْفَة بن الْيَمَان بِمَا يكون فِي الْأمة من الْفِتَن فِي الحَدِيث الصَّحِيح الْمَشْهُور قَالَ: فَمَا تَأْمُرنِي إِن أدركني ذَلِك؟ قَالَ [ﷺ]: " تلْزم جمَاعَة الْمُسلمين " وإمامهم " قَالَ قلت: فَإِن لم يكن لَهُم جمَاعَة وَلَا إِمَام؟ قَالَ " فاعتزل تِلْكَ الْفرق كلهَا " إِلَخ. . وَفِي بعض الْأَحَادِيث بَيَان أَن الْجَمَاعَة وهم السوَاد الْأَعْظَم أَي بِالنِّسْبَةِ إِلَى صدر الْإِسْلَام.
وَمن الْأَدِلَّة على سلطة الْأمة - وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على الْإِجْمَاع - حَدِيث " لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة - وَفِي لفظ لن تَجْتَمِع - وَفِي رِوَايَة زِيَادَة وَيَد الله على الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار " وَفِي أُخْرَى " سَأَلت رَبِّي أَلا تَجْتَمِع على ضَلَالَة وأعطانيها " وَهُوَ فِي مُسْند أَحْمد وجامع التِّرْمِذِيّ وَالْكَبِير للطبراني ومستدرك الْحَاكِم ...
1 / 21
قَالَ الطَّبَرِيّ بعد ذكر الْخلاف فِي الْجَمَاعَة، وَمِنْه حصر بَعضهم إِيَّاه فِي الصَّحَابَة: وَالصَّوَاب لُزُوم الْجَمَاعَة الَّذين فِي طَاعَة من اجْتَمعُوا على تأميره، فَمن نكث بيعَته خرج عَن الْجَمَاعَة (قَالَ) وَفِي الحَدِيث أَنه مَتى لم يكن للنَّاس إِمَام فافترق النَّاس أحزابًا فَلَا يتبع الْمُسلم أحدا فِي الْفرْقَة ويعتزل الْجَمِيع إِن اسْتَطَاعَ ذَلِك خشيَة من الْوُقُوع فِي الشَّرّ. . نَقله عَنهُ الْحَافِظ فِي شرح البُخَارِيّ وَأقرهُ. .
هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة هم أولو الْأَمر من الْمُسلمين وَأهل الْحل وَالْعقد وَالْإِجْمَاع المطاع. . وَمِنْهُم كبار الْحُكَّام، وَأهل الشورى لَدَى الإِمَام، وَمَتى خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْكتاب وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة فِي أَمر من الْأُمُور الْعَامَّة فهم المعنيون المطالبون بتنفيذ الْأَمر، ومراقبة المنفذ: وَمن الْآثَار الدَّالَّة على الْإِجْمَاع فِي ذَلِك قَول أبي بكر ﵁ فِي خطبَته الأولى بعد الْمُبَايعَة: " أما بعد فقد وليت عَلَيْكُم وَلست بِخَيْرِكُمْ فَإِذا اسْتَقَمْت فَأَعِينُونِي، وَإِذا زِغْت فقوموني ". . وروى نَحوه عَن عمر وَعُثْمَان: وهم الَّذين فرضوا لَهُ راتب الْخلَافَة كَرجل من أوساط الْمُهَاجِرين لَا أعلاهم وَلَا أَدْنَاهُم. .
وَفِي متن المواقف للعضد: وللأمة خلع الإِمَام وعزله بِسَبَب يُوجِبهُ، وَإِن أدّى إِلَى الْفِتْنَة احْتمل أدنى المضرتين. . وَقَالَ شَارِحه السَّيِّد الْجِرْجَانِيّ فِي بَيَان السَّبَب: مثل أَن يُوجد مِنْهُ مَا يُوجب اختلال أَحْوَال الْمُسلمين، وانتكاس أُمُور الدّين. . كَمَا كَانَ لَهُم نَصبه وإقامته لإنتظامها وإعلائها. . وَسَيَأْتِي مثله لإِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَقد تقدم فِي التَّعْرِيف بالخلافة قَول الرَّازِيّ إِن الرِّئَاسَة الْعَامَّة هِيَ حق الْأمة الَّتِي لَهَا أَن تعزل الإِمَام (الْخَلِيفَة) إِذا رَأَتْ مُوجبا لعزله، وَقد فسر السعد معنى هَذِه الرِّئَاسَة لِئَلَّا تستشكل فَيُقَال إِذا كَانَت الرِّئَاسَة للْأمة فَمن المرءوس؟ فَقَالَ إِنَّه يُرِيد بالأمة أهل الْحل وَالْعقد أَي الَّذين يمثلون الْأمة بِمَا لَهُم فِيهَا من الزعامة والمكانة، ورئاستهم تكون على من عداهم أَو على جَمِيع أَفْرَاد الْأمة. . وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، وَيُؤَيّد هَذَا تَفْسِير الرَّازِيّ لأولى الْأَمر فِي قَوْله تَعَالَى ٥٨: ٤ ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم﴾ فقد حقق أَن المُرَاد بأولي الْأَمر أهل الْحل وَالْعقد الَّذين يمثلون سلطة الْأمة. وَقد تَابعه على هَذَا النَّيْسَابُورِي وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ الإِمَام، ووضحناه فِي التَّفْسِير مستدلين عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى (وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه
1 / 22
مِنْهُم﴾ وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن أولي الْأَمر الَّذين كَانُوا مَعَ الرَّسُول يرد إِلَيْهِم مَعَه أَمر الْأَمْن وَالْخَوْف وَمَا اشبههما من الْمصَالح الْعَامَّة لَيْسُوا عُلَمَاء الْفِقْه وَلَا الْأُمَرَاء والحكام، بل أهل الشورى من زعماء الْمُسلمين.
شُرُوط أهل الِاخْتِيَار للخليفة:
اشْترط الْعلمَاء فِي جمَاعَة الْمُسلمين أهل الْحل وَالْعقد شُرُوطًا بَينهَا الْمَاوَرْدِيّ فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة بقوله:
(فصل) فَإِذا ثَبت وجوب الْإِمَامَة ففرضها على الْكِفَايَة كالجهاد وَطلب الْعلم فَإِذا قَامَ بهَا من هُوَ أَهلهَا سقط فَرضهَا عَن الكافة وَإِن لم يقم بهَا أحد خرج من النَّاس فريقان (أَحدهمَا) أهل الِاخْتِيَار حَتَّى يختاروا إِمَامًا للْأمة (وَالثَّانِي) أهل الْإِمَامَة حَتَّى ينْتَصب أحدهم للْإِمَامَة. .
فَأَما أهل الِاخْتِيَار فالشروط الْمُعْتَبرَة فيهم ثَلَاثَة (أَحدهَا) الْعَدَالَة الجامعة لشروطها (وَالثَّانِي) الْعلم الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة من يسْتَحق الْإِمَامَة على الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِيهَا (وَالثَّالِث) الرَّأْي وَالْحكمَة المؤديان إِلَى اخْتِيَار من هُوَ للْإِمَامَة أصلح، وبتدبير الْمصَالح أقوم وَأعرف. . وَلَيْسَ لمن كَانَ فِي بلد الإِمَام على غَيره من أهل الْبِلَاد فضل مزية يقدم بهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَار من يحضر بِبَلَد الإِمَام مُتَوَلِّيًا لعقد الْإِمَامَة عرفا وَشرعا لسبوق علمهمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَن من يصلح للْإِمَامَة فِي الْأَغْلَب مَوْجُود فِي بَلَده اه (فتح الْبَارِي) . .
أَقُول: لهَذِهِ الشُّرُوط مَأْخَذ من هدى السّلف فقد قَالَ الطَّبَرِيّ: لم يكن فِي أهل الْإِسْلَام أحد لَهُ من الْمنزلَة فِي الدّين وَالْهجْرَة والسابقة وَالْعقل وَالْعلم والمعرفة بالسياسة مَا للستة الَّذين جعل عمر الْأَمر شُورَى بَينهم.
1 / 23
أما الْعَدَالَة الَّتِي هِيَ الشَّرْط الأول فَهِيَ عِنْد الْفُقَهَاء عبارَة عَن التحلي بالفرائض والفضائل، والتخلي عَن الْمعاصِي والرذائل، وَعَما يخل بالمروءة أَيْضا، وَاشْترط بَعضهم فِيهَا أَن تكون ملكة لَا تكلفًا، وَلَكِن التَّكَلُّف إِذا الْتزم صَار خلقا. .
وَأما الْعلم فيعنون بِهِ علم الدّين ومصالح الْأمة وسياستها وَإِذا أَطْلقُوهُ كَانَ المُرَاد بِهِ الْعلم الاستقلالي الْمعبر عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَيفهم من كَلَام بَعضهم أَن الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع شَرط فِي مجموعهم لَا فِي كل فَرد مِنْهُم، فقد قَالَ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَنه يشْتَرط أَن يكون فيهم مُجْتَهد. . وتقييده شَرط الْعلم بِمَا قَيده بِهِ يدل على أَنه يخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان فَإِن اسْتِحْقَاق الْإِمَامَة فِي هَذَا الْعَصْر يتَوَقَّف على عُلُوم لم يكن يتَوَقَّف عَلَيْهَا فِي العصور الْقَدِيمَة، وَقد ذكر بعض الْعلمَاء أَن من مرجحات اخْتِيَار الصَّحَابَة لأبي بكر (رض) أَنه كَانَ أعلمهم بأنساب الْعَرَب وبأحوالهم وقواتهم، وَلأَجل هَذَا لم يهب من قتال أهل الرِّدَّة مَا هابه عمر، ولابد الْآن للْإِمَام وَجَمَاعَة الشورى (أهل الْحل وَالْعقد) الَّذين هم قوام إِمَامَته وأركان حكومته من الْعلم بالقوانين الدولية والمعاهدات الْعَامَّة، وبأحوال الْأُمَم والدول الْمُجَاورَة لبلاد الْإِسْلَام وَذَات العلاقات السياسية والتجارية بهَا من حَيْثُ سياستها وقوتها وَمَا يخَاف ويرجى مِنْهَا، وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لَا تقاء ضررها وَالِانْتِفَاع بهَا. .
وَمن الْآثَار فِي ذَلِك قَول الْحَافِظ فِي الْكَلَام على مبايعة عُثْمَان من (الْفَتْح): وَالَّذِي يظْهر من سيرة عمر فِي أمرائه الَّذين كَانَ يؤمرهم فِي الْبِلَاد أَنه كَانَ لَا يُرَاعِي الْأَفْضَل فِي الدّين فَقَط بل يضم إِلَيْهِ مزِيد الْمعرفَة بالسياسة مَعَ اجْتِنَاب مَا يُخَالف الشَّرْع فِيهَا فلأجل ذَلِك اسْتخْلف (أَي أمَّر) مُعَاوِيَة والمغيرة بن شُعْبَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ مَعَ وجود من هُوَ أفضل مِنْهُم فِي أَمر الدّين وَالْعلم كَأبي الدَّرْدَاء فِي الشَّام وَابْن مَسْعُود فِي الْكُوفَة. . وسيرة أبي بكر وَعمر فِي الْخلَافَة يقْتَدى بهَا وَلَا سِيمَا فِي الْأُمُور الْعَامَّة الْكُلية الَّتِي تسمى سنة بِدَلِيل اشْتِرَاط عبد الرَّحْمَن إِيَّاهَا مَعَ سنة الرَّسُول على عَليّ وَعدم تَرْجِيحه لعدم جزمه فِي الْجَواب أَو تَقْيِيده بالاستطاعة وترجيحه لعُثْمَان لجزمه بِغَيْر قيد لِأَن سنتهما نَالَتْ الاجماع وَلقَوْله ([ﷺ])
" اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر " رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن حُذَيْفَة وصححوه، وَبَالغ فُقَهَاء
1 / 24
الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة فعدوا أَعمال عمر قَوَاعِد فِي الجزئيات كالخراج ومعاملة أهل الذِّمَّة وَهِي أَعمال اجتهادية تتبع الْمصلحَة. .
وَهَذَا الْعلم هُوَ الْمَادَّة لما ذكر فِي الشَّرْط الثَّالِث من الْحِكْمَة وجودة الرَّأْي. وَلم يشْتَرط قُوَّة العصبية فيهم لِأَن الْمَفْرُوض أَنهم أهل الْحل وَالْعقد الَّذين تعتمد عَلَيْهِم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وَأَن أَحْكَام الشَّرْع فِيهَا هِيَ الحاكمة والنافذة، وَأَن الْمُسلمين لَا يدينون إِلَّا بهَا، وَلَا يخضعون إِلَّا لمن ينفذها، وَأما التغلب بعصبية الْجِنْس فَلَيْسَ من هدى الْإِسْلَام فِي شَيْء، بل هُوَ خُرُوج عَن هدايته، وَحكمه فِيهِ سَيذكرُ بعد. .
فَعلم مِمَّا تقدم أَن لقب أهل الْحل وَالْعقد مُرَاد بِهِ معنى المصدرين فِيهِ بِالْقُوَّةِ وبالفعل وهم الرؤساء الَّذين تتبعهم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وأهمها نصب الإِمَام الْأَعْظَم وَكَذَا عَزله إِذا ثَبت عِنْدهم وجوب ذَلِك، وَمن يملك التَّوْلِيَة يملك الْعَزْل، كَمَا تقدم بَيَانه فِي مَسْأَلَة سلطة الْأمة، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الإِمَام الَّذِي " جَار وَظهر ظلمه وغشمه وَلم يرعو لزاجر عَن سوء صَنِيعه: فلأهل الْحل وَالْعقد التواطؤ على ردعه وَلَو بِشَهْر السِّلَاح وَنصب الحروب " وَمن ظن أَن كل من يُوصف بِالْعلمِ والوجاهة تَنْعَقِد ببيعتهم الْإِمَامَة وَيجب على الْأمة اتباعهم فِيهَا فقد جهل معنى الْحل وَالْعقد وَمعنى الْجَمَاعَة وَالْإِجْمَاع، وَمَا تقدم من الْأَخْبَار والْآثَار، وَمن كَلَام الْمُحَقِّقين فِي الْمَسْأَلَة وَلَا سِيمَا شُرُوط أهل الِاخْتِيَار. .
الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِي الْخَلِيفَة:
قَالَ السعد: وَقد ذكر فِي كتبنَا الْفِقْهِيَّة أَنه لابد للْأمة من إِمَام يحيى الدّين وَيُقِيم السّنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الْحُقُوق ويضعها موَاضعهَا. وَيشْتَرط أَن يكون مُكَلّفا مُسلما عدلا حرا ذكرا مُجْتَهدا شجاعا ذَا رَأْي وكفاية سميعا بَصيرًا ناطقا قرشيا. . فَإِن لم يُوجد فِي قُرَيْش من
1 / 25
يستجمع الصِّفَات الْمُعْتَبرَة ولى كنانى، فَإِن لم يُوجد فَرجل من ولد إِسْمَاعِيل فَإِن لم يُوجد فَرجل من الْعَجم اه.
وَالْمرَاد بقوله مُجْتَهدا الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، بِالْعلمِ بأدلتها التفصيلية. . وَالتَّفْصِيل الْأَخير فِي حَال فقد القرشى للشَّافِعِيَّة وَقيل إِنَّه من فرض مَالا يَقع، وكل مَا قبله مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد أهل السّنة، إِلَّا الْحَنَفِيَّة فقد أجَاز بَعضهم تَوْلِيَة غير الْعَالم الْمُجْتَهد لِأَنَّهُ يَسْتَعِين بالمفتين الْمُجْتَهدين كالقضاء، وَقد قَالَ الشَّيْخ قَاسم بن قلطوبغا فِي حَاشِيَته على المسايرة لشيخه الْكَمَال بن الْهمام إِن الشُّرُوط الَّتِي لَا تَنْعَقِد الْخلَافَة بِدُونِهَا عِنْد الْحَنَفِيَّة هِيَ الْإِسْلَام والذكورة وَالْحريَّة وَالْعقل وأصل الشجَاعَة وَأَن يكون قرشيا. ا. هـ أَي وَمَا عدا هَذِه فشروط تَقْدِيم فِي الِاخْتِيَار لَا شُرُوط انْعِقَاد ووضح الْمَاوَرْدِيّ هَذِه الشُّرُوط بقوله:
وَأما أهل الْإِمَامَة فالشروط الْمُعْتَبرَة فيهم سَبْعَة (أَحدهَا) الْعَدَالَة على شُرُوطهَا الجامعة (وَالثَّانِي) الْعلم الْمُؤَدِّي إِلَى الِاجْتِهَاد فِي النَّوَازِل وَالْأَحْكَام (وَالثَّالِث) سَلامَة الْحَواس من السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان ليَصِح مَعهَا مُبَاشرَة مَا يدْرك بهَا (وَالرَّابِع) سَلامَة الْأَعْضَاء من نقص يمْنَع من اسْتِيفَاء الْحَرَكَة وَسُرْعَة النهوض (وَالْخَامِس) الرَّأْي المفضى إِلَى سياسة الرّعية وتدبير الْمصَالح (وَالسَّادِس) الشجَاعَة والنجدة المؤدية إِلَى حماية الْبَيْضَة وَجِهَاد الْعَدو (وَالسَّابِع) النّسَب وَهُوَ أَن يكون من قُرَيْش لوُرُود النَّص فِيهِ، وانعقاد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَار بضرار حِين شَذَّ فجوزها فِي جَمِيع النَّاس لِأَن أَبَا بكر الصّديق ﵁ احْتج يَوْم السَّقِيفَة على الْأَنْصَار فِي دفعهم عَن الْخلَافَة لما بَايعُوا سعد بن عبَادَة عَلَيْهَا (أَي أَرَادوا مبايعته) بقول النَّبِي [ﷺ]
" الْأَئِمَّة من قُرَيْش " فأقلعوا عَن التفرد بهَا، وَرَجَعُوا عَن الْمُشَاركَة فِيهَا حِين قَالُوا: منا أَمِير ومنكم أَمِير، تَسْلِيمًا لروايته، وَتَصْدِيقًا لخبره، وَرَضوا بقوله: نَحن الْأُمَرَاء، وَأَنْتُم الوزراء وَقَالَ النَّبِي [ﷺ]
" قدمُوا
1 / 26