Khawatir Khayal
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Genres
ولقد جهلت ما مر وقتئذ، وبعد قليل التقى الاثنان فوق سلم الشاطئ.
سألته «كزم» وقد نكست رأسها غاضة طرفها: هل دعوتني يا سيدي؟ - نعم، لم انقطعت ولأي سبب أهملت منذ أيام خدمة أربابك؟ فالتزمت الصمت.
خبريني عن فكرتك دون أن تكتمي شيئا. ثم أدارت وجهها قليلا وأجابت: «إنني خاطئة يا سيدي، وقد أهملت واجب العبادة.» فأجابها الكاهن: «إنني أعلم يا «كزم» أن نفسك فريسة الاضطراب والحيرة.» فأخذتها هزة خفيفة ثم كشفت وجهها وجلست تحت قدمي الكاهن وانهمرت عبراتها كالوابل، فتقهقر الكاهن قليلا ثم قال لها: «أنبئيني عما يجول في فؤادك أرشدك سبيل السلام.» فأجابت بلهجة ذات عقيدة ثابتة وكلمات منقطعة: «إن سمحت تكلمت، ولكني أخشى ألا أجيد التعبير بوضوح، وإنك بلا ريب يا سيدي قد حزرت كل شيء. إنني أحببت إنسانا حبا يقرب من العبادة، وكنت أجله وأحترمه، ولقد فاض قلبي بالسعادة والهناءة حينما انقطعت لإتمام هذه الشعائر.
ولقد رأيت في منامي معبود نفسي جالسا في بستان قابضا بشدة بيسراه على يمناي متمتما لي في أذني بكلمات ملؤها الحب، ولم أجد غرابة في هذا المنظر، زال الحلم واستمر تأثيره، وفي الغد حينما وقعت عيناي عليه ظهر لي بحالة غير التي كنت أعهدها فيه، واستمرت صورة الرؤيا في مطاردتي واستحوذ علي الرعب، وسولت لي نفسي الهرب إلى مكان قصي، ولكن الصورة ما فتئت مرتسمة في ذهني، ومن هذا الوقت لم تعرف نفسي السلام، وأصبح كل شيء من نفسي غامضا مبهما.»
وبينما هي تمسح الدموع من عينيها شاهدت الكاهن يدق حجر السلم برجله اليمنى بعنف، وحينما انتهت من حديثها سألها: حدثيني عمن رأيته في حلمك، فأجابت إجابة توسل ويداها مضمومتان: «لا أستطيع.»
فألح عليها قائلا: «يجب عليك أن تعترفي لي بكل شيء.» ثم لوت يديها وقالت له: «أتريد ذلك؟» فأجاب: «هذا واجب عليك.» فصاحت قائلة: «ما كان إلا أنت سيدي.» وهوت على الحجر تصعد الزفرات، ولما عادت إلى وعيها واستطاعت الجلوس أجابها الكاهن برفق وصوت عذب: «سأبارح هذه المواطن الليلة ولن تريني عوض، واعلمي أنني كاهن ولا أخص هذا العالم ويجب عليك أن تنسيني.» فأجابت بصوت خافت: «سيتم ما تريد يا سيدي.» ثم قال لها الكاهن: «أستودعك الله.» ثم انحنت كزم دون أن تنبس ببنت شفة، ونفضت غبار قدميه ومسحت به رأسها، ثم غادر القرية هذا الرجل الصالح.
طلع القمر وأعتم الليل فسمعت ارتطام الأمواج، وهاجت الرياح العنيفة في الظلمات كأنها تريد أن تطرد الكواكب من سمائها. (13) الخشاب الشاعر
هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره، إذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب، ولقد خان الحظ شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور، ولو أنه معروف بين الخاصة من الطبقة الراقية في الأدب، ولقد جنت عليه المطابع المصرية؛ إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالآستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا.
خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوروبا ومصر عدة طبعات، بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا، وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.
وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر، وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول بين ربوع الشام وأشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي، ويطرحان التكلف ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما، لم يعززا بثالث في ذلك الوقت.
Unknown page