مقدمة
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
باب النقد
الروايات التمثيلية
الأبحاث الموسيقية
متفرقات
بلاغة الغرب
مقدمة
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
باب النقد
الروايات التمثيلية
الأبحاث الموسيقية
متفرقات
بلاغة الغرب
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
تأليف
محمد كامل حجاج
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن من على الإنسان بفيوضه الربانية، ونفحاته المباركة العلوية، حتى سما إلى أرفع ذرى الخيال، وأنتج في عالم البلاغة أفخم مثال، وصلاة وسلاما على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ومن فتن بروائع بلاغته العقول والألباب، وبعد؛ فأهدي إلى القراء بعض ما جادت به القريحة وجال فيها الخيال من فنون مختلفة، وأبحاث متفاوتة وقليل من قطع معربة في التمثيل وغيره عسى أن تصادف قبولا عند الجمهور الكريم، ولا أنسى الحفاوة العظيمة التي تقبل بها القراء والفضلاء «بلاغة الغرب»، ولعمري إنها لتدل على كرم حاتمي وتسامح كبير حيال عمل لا يستحق كل هذا الثناء، وإني أقدم لهم واجب الشكر على هذا العطف الكريم وتلك السجايا النادرة، وأدعو الله أن يوفقنا جميعا لخدمة الأمة وأن يمكننا من أداء الواجب؛ إنه سميع مجيب.
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
(1) الربيع
ذهبت بعد ظهيرة يوم طاب هواؤه، وصفت سماؤه، مع رفقة من خير الأصدقاء، وصفوة الأحباء، إلى القناطر الخيرية؛ لنمتع منا النواظر، ونجلو الخواطر، ونمحو ما خط على جباهنا من غضون سطرتها الهموم والشجون بجمال الربيع المتجلي بمظاهره الساحرة، فوق تلك الجنات الناضرة، والمياه اللجينية الجارية، والأفياء الظليلة الوارفة.
هناك مهد الربيع وإيوانه، وبهاء الطبيعة الغض وسلطانه، ومهبط طيف الشعر والخيال، ومظهر الجمال والجلال، ومهب النسيم الأريج، ومنبت الزهر الشذي البهيج.
هناك ملتقى الأنهار، وقرة الأنظار، وقبلة النعيم، وشفاء السقيم، وملاذ المحزون، وسلوان المفتون.
خطت هذه الجنان الفيحاء، والغابات الغلباء بذوق سليم، إذ توخي فيها تمثيل الطبيعة وحراجها وروابيها ومروجها، وخمائلها ودروبها ودوحها الشاهق، ونخلها الباسق؛ فأصبحت يتيمة عقد رياض القطر فلا ترى فيها شكلا هندسيا ولا سطحا معتدلا، وقد نثرت فوق تلك البسط الزمردية أشجار تفاوتت أحجامها واختلفت أبعادها واتجاهاتها.
يظن الساذج أن تلك الروضات لا نظام لها، خالية من الفن والترتيب، ولكنها في الحقيقة خاضعة لنظام دقيق فني لا يدركه إلا من أوتي ذوقا رفيعا، ومارس فن النباتات وتخطيط الحدائق زمنا طويلا.
سارت بنا مركبة «الترولي» فوق تلك القناطر الفخمة، وماء الترع يتدفق من فوق أبواب العيون الموصدة وهو يدوي عند تدهوره كالرعد القاصف، والسيل العرمرم الجارف، ويدحرج اللجج الهائجة المزبدة حتى وصلنا إلى الحديقة الأخيرة في الضفة الثانية من الترعة المنوفية، وهي بيت القصيد من تلك الجنان وأحدثها عهدا.
عرجنا يسرة عند ملتقى النيل بتلك الترعة، وصعدنا إلى ربوة شائقة سائرين في ممر نثرت في جانبيه شعب من أصول الأشجار العظيمة، وغطي طرف منها بالطين، غرست فيه بعض النباتات الفارشة من «بلومباجو» كاس بزهره الأزرق الصافي «وجيرانيوم بلتاتوم»، وقد ازدان بأزهاره من أحمر وأبيض ووردي «وروسيليا جونسيا»، وقد استرسلت فريعاتها الشعرية، وتدلت عناقيدها المرجانية.
جلسنا فوق مقعد بقمة تلك الربوة وعلى كثب منا شجرة «دوتزيا كريناتا» كاسية بعناقيدها البيضاء الناصعة كأنها مجللة بالجليد، وقد زرعت حولها دائرة من «البيجونيا» ذات الأزهار المستمرة فلمعت أوراقها كالأطلس، وغطيت بأزهارها الرشيقة الحمراء، وعلى مقربة منا دائرتان؛ إحداهما من المنثور، والثانية من الخيري، وقد تضوع المكان بأرجهما الشذي.
أشرفنا من هذه الربوة الزمردية على ذلك الفردوس الفخم، وقد امتد أمامنا فرشه السندسي، ونثر فوقه بديع الزهر ورشيق النور كأنه بساط من استبرق نثر عليه اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والماس.
انتقلنا إلى الجهة اليمني فشاهدنا أشجارها الباسقة من اللبخ «والبوانسيا ناريجيا» وغيرها، وقد تسلقت عليها «البوجنفليا» الحمراء، «والرينكوسبرموم» الياسميني بأزهاره البيضاء التي تحاكي الياسمين في رياه وشكله، «والبومونسيا» بأزهارها التي تشبه الأبواق البيضاء وشذاها المنعش.
جللت هذه المتسلقات جذوع تلك الأشجار وكستها ثيابا بديعة، وصعدت فروعها إلى أفنان الدوح لتعانقها وتلثمها وتحتمي بها من غائلة الرياح العنيفة التي تعبث بأغصانها الرفيعة اللدنة.
نبتت تحت ظلال خمائل الأيك نباتات مختلفة تخشى الشمس والقر والقيظ مثل: كزبرة البئر والسرخس والهليون الربشي «والبروميليا» «والكليفيا»، فأصبحت تمثل ركنا من أركان غابات البريزيل.
تخيرنا هناك مكانا جميلا فيؤه ظليل، ونسيمه عليل، على ضفة بركة ماؤها سلسبيل، وبه مقعدان كبيران تظللهما شجرة من الخلاف المتدلي.
لبثنا لحظة سكوتا نفكر في جمال الربيع، وبينا أنا مفتون بهذا الحسن الساحر، إذ عبثت الصبا بغدائر الخلاف المسترسلة فمسحت وجهي كأنها تداعبني وتلاطفني، فالتفت إلى الشجرة فرأيت طيف الشعر فناجاني بصوته العذب: «خذ اليراع والقرطاس ومجد الربيع بما أوحيه إليك من فاتن النفحات.»
سلام زينة الكائنات، وموقظ الأرض من السبات، تحية طيبة يا كاسي العود بقشيب البرود، ومرصع الأشجار برشيق الأزهار، وشذى النوار، ويانع الثمار.
تحرض جميع المخلوقات على الهيام، فتوردها موارد الجوى والآلام، وتطلق ألسنة العنادل والشحارير والبلابل فتصدح بشجي الأنغام، معربة عما يخالجها من ضرام الغرام، وتغري الأزهار فتنفر من براعمها، وتهرب من سجن أكمامها ناشدة عشاقها، من نحل وفراش تعانقها، وترتشف معسول ثغورها.
أي ربيع العيش، ورائد النزق والطيش، ومهلك النفوس والأجسام، ومفسد الألباب والأحلام، يا لك من أعمى أصم، وظالم غشوم لا يرحم، لا يردعك عقل ولا خلاق، ولا يروعك إرهاب ولا إرهاق، أغرك عنفوان الشباب، فضللت محجة الصواب، وانغمست في حمأة الملذات، وشرفك ربك فأبيت إلا أن تماثل العجماوات.
رباه إنك تعلم أنني زللت ربيعي بشكيمة العقل، وقضيت أيامي كلفا بنيل متفاوت المعلومات، وأداء الواجبات، مولعا بمجيد الكماليات، مستبشعا كل لذة جثمانية، مستمرئا الملذات الشريفة النفسية، ولكن النفس لم تبلغ مناها، ولم تؤد من واجباتها منتهاها، فعساك اللهم تطيل أيام صبوتي، وتمد في نعيم صحتي، لأتم فروضي وواجباتي، وفي ذلك هناءتي وسعادتي، ومطمح أملي وأمنيتي. (2) الزمن
سلام أيها الخالد الفتي، سلام أيها العادل القوي، بوركت يا شيخ الحكماء، وإمام الفلاسفة والعلماء!
أنت محيي الفضل ومخلده، ومعلي الحق وممجده، ومزهق الباطل ومبدده، أنكر فضلك الجهلاء، ولعنك ظلما الأغبياء، وما دروا أنك مثقف الأحلام، ومصحح الأحكام، لم يفلح أبواي في تأديبي، ولا أستاذتي في تهذيبي، وكنت وحدك لي خير مؤدب، وأفضل وأعظم مهذب.
كنت بالأمس أظن الجهلاء فضلاء، والوزانين شعراء، والخونة أمناء، والمنافقين أصدقاء، والظالمين أبرياء، والمرائين أتقياء، فرفعت عن طرفي غشاوته، وأزلت عن قلبي غفلته، فتجلت لي الحقيقة بأبهى مظاهرها، وأكمل معانيها.
أيها الزمن! علمتني القناعة فغنيت، ونعمتني بسعادة النفس فهنئت، ودرعتني بالصبر فلم أجزع، وسلحتني باحتمال المكاره فلم أهلع، ورضي عني الناس فارتاح ضميري، وانشرح صدري، فلست مؤملا من دنياي بعد هذا غير رضا الخالق.
لم أنس وقفتك أيها الزمن أمام المأمون وقد سولت له نفسه أن يهدم أثر الفراعنة الجليل، وأنت تضحك منه وتقول له: «ذراعك قصيرة أيها الغر عن أن تنال منه نيلا، ولا تستطيع جميع الأنام أن تدمر ما خلدته الأيام!»
ظهرت النوابغ في عصور كان أهلها والأنعام سواء، فرأى بعضهم أن الانتحار خير وسيلة للتخلص من هذا الخلف المشئوم، والخلق المذموم، وفضل الآخرون اعتزال هاته الأنعام والانزواء في بيوتهم، لتجنب ازدرائهم وسخريتهم.
زمجر الشعر في صدر «توماس شاترتون» وهو غلام، فأصبح وهو في ربيعه السابع عشر شاعرا مجيدا، ولم يؤثر شعره في قومه حتى يكفوه غائلة الجوع، وكان يسخر منه محافظ لندره قائلا له: إنك يا بني عائش في عالم الأوهام، سابح في بحار الخيال والأحلام، وما هذا إلا باطل لا ينفعك ولا ينفع الناس، واعلم أن الله خلق إنكلترا كهيئة سفينة قائمة بمراقبة القارة الأوروبية، وقد انبعث منها مئات مثلها من السفن تمثل دولتها في مستعمراتها، وقد قام الملك واللوردات بجانب العلم والبوصلة والخيزرانة، وأمسكت الأمة بحبالها ومدافعها فلا ترى أحدا وسط هذه المعمعة عديم الفائدة، فأنبئني إذن عما يعمله الشاعر وسط الملاحين.
فأجابه «شاترتون»: «إن الشاعر ليبحث في النجوم عن طريق السفينة التي تشير إليها أصبع الخالق.»
ثم ناوله اللورد ورقة وقال له: «هذه مائة جنيه ففكر في الأمر، فإن هذا المبلغ لا يستهان به.»
تناول الورقة ولم يكد يتم قراءتها حتى جن من الغضب والغيظ، وهرول إلى غرفته التي استأجرها بمسكن «كيتي بيل» صاحبة محل الحلوى الذي دار فيه الحديث بينه وبين المحافظ وبعض رفاقهما، فشرب جرعة كبيرة من محلول الأفيون، فسمع أنينه طبيب فرنسي كان يتردد إلى هذا المحل، فهرول إليه فوجده في الاحتضار وقال له: «أيها الطبيب! اشتر جثتي بديني.» ثم أسلم الروح وهو في ربيعه الثامن عشر، ووجد الطبيب فوق منضدته ورقة كتب فيها: «إنني مدين لرب البيت بثلاثة جنيهات مقابل سكناي عن ستة شهور، وعسى أن لا يأسف المستر «كيني بيل» حينما يبلغه أن طفليه كانا يعطياني في بعض الأحيان شيئا من الحلوى، وكان ذاك قوتي الوحيد.» وبجانب هذه الورقة التي ناولها له اللورد وانتحر بسببها فإذا فيها:
إنني أعرض عليك أن تكون خادمي الأول مقابل مائة جنيه في العام.
لم يجد قوم «جوت» وهو زعيم شعرائهم قولا يطرونه به غير قولهم: «إنه كان جميل الخط ولم يخطئ في الإملاء.»
ولما مثلت أوبيرا «كارمين» للموسيقي الفرنسي الشهير «بيزيه» صفر له الحاضرون صفير الازدراء والسخرية، فاحتم الرجل ومات مكمودا بعد بضعة أيام.
ولم ير الموسيقي الشهير «هايدين» مزية في أبي الموسيقى وأكبر نابغة فيها «بيتهوفن» إلا «أنه يحسن التوقيع على الكلافسان».
اعتزل «بيتهوفن» الناس وبلغ به الأمر أن شك في نبوغه، ولبث خاملا إلى أن مات فقيرا حليف الهموم والأشجان.
لم يكن للمصور الفرنسي الشهير «جيريكو» بين قومه قدر يذكر؛ إذ لم يعترفوا له إلا بأنه «كان يسحق الأصباغ جيدا».
عزى الزمن هؤلاء المنكودين الذين عثر بهم الجد قائلا: «صبرا أيها الكرام، فقد عجزت عن هؤلاء الأنعام، وإن لم يظهر فضلكم اليوم فغدا يملأ الخافقين ويدوي صداه في المشرقين.»
اجتاحت الأيام هؤلاء الطغام، وخلف من بعدهم خلف كريم، هذبه الزمن فمجد هؤلاء النوابغ وخلد ذكرهم، ونشر آثارهم حتى عمت أركان الأرض وأصبحت نموذج الكمال، ومثال الجمال والجلال، وأضحت رفات هؤلاء النوابغ تقول في رموسها: «بوركت أيها الزمن الحكيم، والمنصف البار الكريم!» (3) الزهرة والشيطان الجميل
بعدا أيها الشيطان الجميل! بعدا أيها الفتان الخائن! بعدا أيها الممثل المائن! بعدا أيتها الأفعى التي لان ملمسها وفي أنيابها العطب! بعدا أيتها الكأس التي يلذ للشارب أولها ويقتله آخرها! بعدا أيها النمر الملتحف بجلد المهاة! بعدا يا من يصبغ فؤاده بالرياء والسواد كما يصبغ وجهه بالحمرة والبياض! بعدا يا من كلامه كالعسل وفعله كالأسل! بعدا يا خضراء الدمن ونكد الزمن! بعدا أيها السراب الغرور! بعدا يا جرثومة الشرور!
بلوتك ففررت منك فرار الآبق، حاولت افتناني آونة بجمالك، وطورا بسحرك، وتارة بحولك، وأخرى بحيلك، فما طلت مني طائلا، ولا نلت مني نيلا، ورجعت بصفقة المغبون! وكدت تأكل سبابتك من غيظ وجنون.
لو كنت صادقا في حبك، شريفا في خلالك؛ لكنت ملكا كريما يبث الهناءة أنى سار، يريح القلوب، ويزيح الكروب، وينسي المصائب، وينشط الإنسان على الكدح في دنياه بهمة لا تعرف الملل، وقلب ملؤه الآمال.
هبطت من مقام الملائكة إلى حظائر الأنعام بمحض إرادتك، مفضلا الملذات البهيمية على الملذات الشريفة النفسية، فتمرغت في حمأة الموبقات، بعدما كنت محلقا فوق أزاهير الجنات.
اقتربي مني أيتها الزهرة البديعة فأنت عندي خير من هذا الشيطان الجميل، أنت روحي وريحاني! يفتنني مرآك، وتنعشني رؤياك، أنت لي في وحدتي خير أنيس وأدنى وأخلص جليس! أنت نموذج الجمال! أنت مثال اللطف والبهاء!
لا تخشي مني لمسا يذهب بنضارتك، أو هجرا يقضي على رشاقتك؛ فإنني نعم الوفي الأمين والمخلص البار.
لست من غلاظ القلوب والأكباد الذين يقطعون عنقك دون رحمة ليزينوا بك صدورا قبحتها الشرور، ويثبتوك بإبرهم دون شفقة لئلا تفلتي من العذاب، وسرعان ما تموتين فيطرحونك تحت أقدامهم، وما حملوك حبا فيك بل طلبا للزينة ومأربة لا حفاوة.
إنني أحبك وأغار عليك من النسيم فلربما استرق من شذاك وحمله لقوم لا يستحقون إلا ريح السموم، أو ساق إليك من جراثيمه ما يؤذيك فأحميك في مكنون الحجرات وأخصك بالزلال البارد ولو لم يكن عندي منه غير ما ينقع الغلة، إنني أقنع بمقعد خشن وأوثرك بثمين البلور المزخرف بصفائح النضار، إنني أجلب أصلك من مشارق الأرض ومغاربها بثمن غال، وأخدمك بنفسي وأخصك باحترامي وإجلالي فأنت بهجة النفوس، وريحانة القلوب، ونعيم الدنيا والآخرة.
أنت نعيمي وهناءتي، أنت عزائي في بلائي، أنت جليسي في وحدتي، أنت أنيسي في وحشتي، أنت سلواني في همومي وأحزاني.
فسلام أيتها الزهرة وبركات تترى عليك لتحميك مدى الأزمان من قسوة الإنسان. (4) حضري ريفي
قاسيت من سكنى المدينة آلاما ثقالا، وأعواما طوالا، قضيتها بين ضيق صدر وقلق، ووطأة حر وأرق، لا يتسرب النوم إلى أجفاني وقت الهجير من أناشيد باعة حب العزيز ودفوفهم، وأغاني بائعي الحلوى المثلجة وأبواقهم، وصخب الصبيان ولغطهم، فكنت أهرع في الآصال إلى الخلوات أو ضفاف النيل لأستطيع أن أحضر مسألة أو أحرر كلمة.
أردت أن أيمم الخلوات وأتخير منها مقاما طيبا ساكنا هنيئا بين الحقول النضرة والمياه الجارية والظلال الوارفة والهواء الطلق، في بقعة لا أحتاج فيها إلى سفر يلجئني إلى ركوب قطار أو انتظاره، فعثرت بعد البحث والتنقيب على موطن مبارك بشبرا في أطراف حديقة «شيكولاني»، وجدت فيه دارا فيحاء، يزينها حديقة صغيرة غناء، تعانقها الحقول من جوانبها الأربع، وقد خيم عليها السكون، واكتنفتها الدعة، ورفرف فوقها نسيم الصبا، وصفرت حولها الرياح من زعزع ورخاء، وشمأل ونكباء.
كنت ذات يوم جالسا في طنفي الشمالي أروح نفسي بنفحات النسيم العليل، مسرحا ناظري في مزارع البرسيم الواسعة المزرية ببسط الإستبرق الأخضر، وقد انتثرت فيه الأنعام السائمة من ضأن ومعز وبقر وإبل تجلببت بمختلف الثياب، وبجانب البرسيم حقل زرع برا أوشك أن يدرك وقد افترشته شمس الأصيل فزادت لونه العسجدي توهجا، وطفق النسيم يداعب سنابله حتى أمسى كأنه خضم زاخر مالت عليه الشمس وقت غروبها فجعلته كذوب النضار.
تتهافت السيدات وأبناؤهن - وغالبهم من الإفرنج - على هذه الحقول الفتانة والخلوات الجذابة؛ ليمرحوا ويلعبوا ويغنوا متهللين بذاك النعيم العظيم.
قامت على كثب من هذه الحقول المباركة البقية الباقية من حديقة «شيكولاني»، وقد ضرب حولها سور من حديد، وارتفع وسطها كهف بني بذوق سليم، وعلاه كوخ صنع من سوق النخيل بشكل رشيق يأخذ بمجامع القلوب، تزينه شجرة من «البوجنفيليا» الحمراء، وقد احتضنت أعواد الكوخ وكست جوانب الكهف بغدائرها المسترسلة، وارتفعت وراء هذا الغار أشجار عظيمة من «الفيكوس» كانت له بمثابة ستار أخضر يحجب ما خلفه ويزيده رونقا وبهاء، وقامت على يمينه نخل باسقات مالت عراجينها ببسرها الأحمر والأصفر كأنها غادات رشيقات مسبلات شعورهن وبآذانهن أقراط من نضار وياقوت.
ما أجمل الليل في تلك المواطن وما أحيلى بدره! إذ يتجلى في تلك الفجاج المترامية بسناه الناصع، ولألائه اللامع، بشكل يذهب بالأشجان يثير الشعر في القرائح الخامدة، ويؤجج العواطف في القلوب الجامدة.
أجلس في المساء في طنفي لأروح النفس بنسيم عليل يحمل إلي عرف أزهار حديقتي، فينعشني بأريجه العبق، وتشجيني موسيقى الطبيعة، إذ يبدأ الكروان بغنائه الشجي بعد الغروب، ثم يليه عند إقبال الظلام جوق الجندب بصفيره الرنان، وعلى كثب من ذرانا ساقيتان إحداهما خلفنا والأخرى أمامنا تدوران الهزيع الأول من الليل، وقد تباين صوتاهما فكانت إحداهما تحكي أنين «ألفريد دوموسيه» وقد هجرته خليلته، والأخرى تمثل شكوى «ألفريد دوفيني» وقد خانته حليلته.
وعلى رمية سهم من الجهة الغربية تجري الترعة البولاقية وقد نصبت عليها الشواديف، وحينما يأتي دور المناوبة ويغمرها الماء يهرع إليها الضفدع ويغني بصوته الغليظ كما يجأر في الأذكار سوقتنا بحلوقهم بشكل ينفر منه الدين قبل النفوس.
كثيرا ما أسمع في سكون الليل ألحانا تنبعث حولنا ترددها كواعب غربيات بنغمات توقظ ما سكن من أليم الذكرى، وتثير ما كمن من تباريح الهموم؛ فيتبدل سروري نكدا، ويغرورق طرفي بعبرات تحجب ما يراه من محاسن الطبيعة التي كشفها البدر، فأهرول إلى أعماق الحجر هربا من ذاك الصوت الرخيم، وأستغيث بكتاب قيم ينسيني متاعبي وآلامي، ويخمد في صدري ما هاج من عنيف العواطف وتأجج من مضض الذكرى.
إنني أستيقظ في الصيف عادة في الساعة الخامسة، فأنزل إلى حديقتي؛ لأنعش نفسي بأرجها الشذي، وأمتع طرفي بشروق الشمس وما تفتح من بديع الزهر، ورشيق النور، وأنشط بفلاحة الأرض أعضائي وأعصابي من خمودها الذي عراها من النوم والسكون في حجر مقفلة، ثم أستأنف عملي على الأصيل، وأروي نباتاتي وأمنحها من العناية ما تتطلبه.
أترقب ذكاء عند غروبها لأبتهج بمنظرها الشائق وقت المغيب كأنها درة متدحرجة فوق بساط من زخرف يكاد توهجه يخطف الأبصار، وكأن السماء حولها صحفة أصباغ المصور، أو كأنها حريق صادف وقودا مختلفا فاندلعت منه أعلام من نار تباينت ألوانها، وكأن السحب وهي تحفها أقواس نصر شامخة نصبت لوداع الشمس، وكسيت بألوية من مختلف الديباج، وزينت بورود وأزهار متفاوتة الألوان.
وترى آلافا مؤلفة من الزرازير والعنادل فوق الأيك صادحة للشمس بنشيد الوداع، باكية لفراق يسلمها إلى سجن الظلام بعدما كانت تمرح مغردة متنقلة من فنن إلى فنن، طاعمة من يانع الأثمار وشهي الجنى، مرتوية من لذيذ ماء عناقيد الأعناب.
أيها العيش الجديد، لقد هجت مني ذكرى الطفولة الحلوة وقتما كنت أجوب المزارع والأجران فرحا مرحا كالفراش المتهلل، أركب النورج، وأصيد الأسماك، وأستحم في الترع، وأنسى الغداء مستعيضا عنه بالذرة المشوية في الحقل.
كنت خالي البال عائشا في ظل أبوي أسكنهما الله فراديس الجنان، فيا ليتني لبثت طفلا إلى يومنا هذا وعاش لي أبواي، ولم أدر أسرار الحياة وحقيقة الدنيا ونكد العيش وسوء الحظ.
تلك سنة الدهر فلنطأطئ له الرءوس خاضعين صاغرين، فلا حيلة معه تنفع، ولا حول لنا نجالد به وندافع مع خصم لا يقهر، وجبار لا يشفق ولا يرحم. (5) فراش وفي
تاقت النفس بعد ظهيرة يوم من الخريف، رق هواؤه، وصفت سماؤه، واعتل نسيمه، وغرد طيره، أن تستملي الخيال، وتناجي الوجدان، فضن وجمد، وانطفأ توقده وجمد، فاستغثت بطيف الشعر وهو أعظم رفيق، وأوفى صديق، فناجاني أن لا تطمع مني بنيل ما دمت في مكانك، فإني أنفر من هذا الهواء المسموم، واللغط المشئوم، وموعدنا الأصيل على ضفاف النيل.
ذهبت إلى روض الجزيرة المشرف على النيل، وتخيرت مكانا خاليا بجانب نفق جميل بني بأعواد الأشجار والصخور، وجللته النباتات المتسلقة ببديع أزهارها، ونثرت فوق صخوره نباتات من فصائل مختلفة فكستها ثوبا قشيبا من حسن وبهاء.
وجهت وجهي شطر المغرب لأمتع ناظري بمرأى الشفق الشائق، فانتعشت نفسي من ذاك المنظر الفخم، إذ رأيت فوجا من السحب المربدة فوق الشمس عندما اصفرت من ألم الفراق، فانعكست أشعتها فوق الغمام وازدان بفاتن الألوان، فكأنني أرى قوس قزح وقد عظم حتى ملأ الغرب، أو يخيل إلي أنني واقف في ظلام الليل فوق أكمة من آكام «نابولي» أشاهد منها بركان «فيزوف» وهو يقذف لهبا تندلع منه ألسن عديدة تلون كل منها بلون خاص، وتشكل بأشكال مختلفة، كون مجموعها شكلا بهيجا يعلوه دخان كثيف رمادي اللون كأنه عهن منفوش، أو إطار جميل يحف صورة في الإتقان آية، وفي الجمال نهاية.
وبينا أشاهد هذا المنظر الشائق، إذ رأيت طيف الشعر محلقا فوق رأسي، ثم أسر إلي إنني سأنفحك بنفحات ترضيك فخذ اليراع وصور ما سأسوقه إليك، ثم ودعني وانصرف.
لمحت بعد هنيهة طفلة جميلة كأنها دمية جاد بها بنان «فدياس» تعدو فوق بساط العشب الزمردي وهي تطارد فراشا جميلا كأنه استعار بردا من ذاك الشفق، أو كأنه قطع من وريقات ورود مختلفة الألوان خيط بعضها إلى بعض، أو صفائح الجمان رصعت بزبرجد وياقوت ومرجان، وما لبث أن حط هذا الفراش فوق صدري كأنه يتوسل إلي أن أنقذه من صائدته الرشيقة، فمسحت الطفلة ولاطفتها قائلا: أتبيعينني هذا الفراش المسكين بصورة جميلة تماثلك ولفافة شهية من «الشكولاته»؟ - إنك تخدعني ريثما يفلت صيدي.
ثم منحتها الثمن فتهللت وهرولت إلى مربيتها وطفقت تفاخرها بثمن صيدها.
هدأت روع الفراش وطمأنته وقلت له: إنني أحبك حبا جما فلا أستطيع مفارقتك، فهل ترافقني إلى داري لتعرف مكانها علك تزورني من آن لآخر وتتخذني صديقا وفيا؟ - ذلك ما كنت أبغيه، فإنني مدين لك بحياتي.
ثم رجعت إلى داري وصديقي محلق في العلا متتبع خطواتي إلى أن وافيناها فقلت: أهلا بمثال الرشاقة واللطف، أهلا بآية الجمال والظرف، مرحبا بصاحب البرد المزركش، والطيلسان المرقش، دونك أزهارا نضرة من ورود ونرجس وسوسن وأقحوان، فاقتعد منها ما تشاء، وارتشف ما تشتهي من رحيقها، ثم افتح لي صدرك وخبرني عن سرائك وضرائك. - إننا معشر الفراش خلق فتن بالأزهار والرياض، لا نأكل إلا رحيقها، ولا نشرب غير نداها، نأنس بها وتأنس بنا، وتحبنا ونحبها، وحينما يرانا الإنسان متعانقين يتملكه الحسد وينقض علينا ويسمر جناحينا بإبره ثم يحقننا بسموم تكون لنا قاتلة ومحنطة، ويحفظنا في رموس من الزجاج، ويتخذ من رفاتنا زينة، ومن عفننا ذخيرة، إننا نحسن للإنسان وهو لا يدري، ونعمل له الخير دون أن نعلنه، إذ لا نريد جزاء ولا شكورا، نحن الذين يبدعون له كل يوم من مختلف الثمار ما يلذ له، ومن شائق الأزهار ما يفتنه، نحن وحدنا الذين تفتح لهم عاشقاتهم الأزهار ثغورها لنلقحها من أبناء جنسها، فنحدث لهم ألوانا شتى تسر الناظرين، فيا له من قاس ظالم نعامله بالإحسان ويكافئنا بالعدوان. - هون عليك أيها الصديق البار فقد جبل الإنسان على الظلم والعدوان، وإن أردت أن تتقي شروره فاعتزله واهرع إلى الغابات العذراء، واتخذها لك وحدك جنة تنعم بسكونها وترتشف ثغور زهرها وتنتعش بنسيم صباها وشميم شذاها، وحبذا لو تفضلت وزرتني من فترة لأخرى حتى أنعش النفس بحديثك الحلو، وأمتع الطرف بجمالك المتجدد، وتيقن أنك تجد عندي في كل الأوقات من بديع الزهر ما تشتهي أن تقتات منه وتنعم به.
ليتني أوتيت حريتك وهناءتك! ليتني وهبت جمالك ورشاقتك، فأنتقل من الزهرات إلى الثمرات، ومن العيون الجاريات إلى شائق الجنات، ومن الندى البليل إلى النسيم العليل، تتخذ من ثغور الأزهار مضجعا، ومن وريقاتها المزرية ببديع الديباج غطاء، ومن أوراق الأفنان عرشا وسماء. - سنلتقي قريبا فلا تخش فراقا طويلا أيها الصديق الوفي، والمحسن السخي. - على الطائر الميمون، تشيعك المهج والعيون! سلام يا ملك الجنات! سلام يا مبدع الثمرات والزهرات! سلام يا رب الرشاقة والجمال، سلام يا حلو الشمائل والخلال! (6) الأدب حليف الشقاء
يرتاح روحي ويبتهج فؤادي لقراءة سطور الشقاء وآيات البؤس والآلام ارتياح أذني لسماع ألحان الأشجان، ونغمات التأوهات والأحزان، ويهدأ ثائري وينعم بالي لرؤية تمثيل الفاجعات والأكدار، ومطاردة القضاء ومعاندة الأقدار.
كنت ذات يوم منفردا مهموما مكروبا أستعرض جيوش شقائي، وصور بؤسي وبلائي، لا أجد بجانبي فؤادا رحيما أشكو إليه بثي فيسكن آلامي بكلمة حلوة أو عبرة مترقرقة آنس منها عطفا وإشفاقا.
كبر على الزمان أن يرى بجانبي فؤادا رحيما يتوجع لبلائي، ويتهلل لسعادتي وهناءتي، ويؤنسني في وحدتي، ويسليني في وحشتي، فاختطف أما حنونا بارة صالحة، فذهب بذهابها آخر قلب شفيق وخاتمة العزاء والسلوان والرحمة والحنان.
وبينا أنا مطرق الرأس مسترسل العبرات، إذ شعرت بيد لطيفة تمسح رأسي المطرق، وطرفي المغرورق. نظرت إلى الطارق فإذا هو طيف الشعر بوجهه المشرق وثغره الباسم يقول: «بجانبك كتاب جديد لم تقرأه بعد، وهو خير عزاء، وأجل شفاء.»
أسرعت إلى الكتاب وطفقت أقرأ صحفه بشوق زائد وارتياح عظيم، فإذا هو يسطر تاريخ «ديبورد فالمور» الشاعرة المجيدة الفرنسية مع نخب من قريضها، كانت آية في الجمال ومثالا للرشاقة والرقة، تشجي النفوس برخامة صوتها، وتفتن القلوب ببراعة تمثيلها، وتسحر الحواس برائق شعرها، ورائع بلاغتها.
لم تؤثر جميع هذه المحاسن الخلابة، والشمائل الجذابة، والمواهب العظيمة الفتانة في الدهر حتى يرق لها ويشفق عليها، بل ناضلها بفاجعاته وشقائه نضالا يشيب لهوله الولدان، ولم تجد في مشارق الأرض ومغاربها راحما ينتشلها من وهدة البؤس ويحميها من عدوان الزمان.
فكرت طويلا علي أفهم أسرار الزمان في مطاردته لأهل الأدب وأصمائهم بنبال الشقاء، والألم والبلاء، حرت في أمري فهرعت إلى طيف الشعر مسائلا: أيها الطيف الخالد، والخيال الجواب! لم يعادي الزمن أبناءك الأوفياء، ويسالم الجهلاء الأغنياء؟ - لولا هذا العداء لما اقتعد الأديب هذه الذروة الشماء، يطعنه الزمن بخنجره فيوقظ حواسه الهاجعة؛ فينبعث منه أنين الشعر الساحر كما يطعن الموسيقار مزهره بريشته فينطلق منه صوته الفتان بشجي الأنغام والألحان.
أفاض الله من نوره على بصره وقلبه وسمعه وشمه؛ فرأى جمال الطبيعة وهي عارية، وفهم نظامها وانسجامها، وسمع أنغام طيرها ورياحها، وشم عرف شذاها.
أرسله ربه هاديا للضالين، ومعلما للجاهلين، ومعزيا للمصابين، وملطفا لشقاء البائسين، أيحسد الأغنياء الأغبياء على ما أوتوه من حطام الدنيا وما مثلهم إلا كمثل الأنعام السائمة في المروج الخضراء، لا تدري من الدنيا إلا أن تملأ كرشها وتتمرغ في روثها.
خبر الشعراء أنهم إذا شاقهم تراث الدنيا هبطوا من مقام الملائكة الشريف الأعلى إلى زرب الأنعام النجس الأدنى؛ فينطفئ نور حجاهم، وتغلظ قلوبهم وأكبادهم، قل لهم أن لا يتركوا الشعر يرعد ويبرق في صدورهم لئلا يقضي عليهم وهم في ريعان شبابهم؛ فتحرم الخلائق من برهم وخيرهم.
أنبئهم بأن لا يكظموا أنينهم المطرب، ولا يخمدوا تأوهاتهم المشجية؛ فإنها عزاء لهم ولغيرهم من المنكودين، وتسبيح وتمجيد للخالق، وإن صادفت وقرا في آذان أهل الأرض فسيسمعها رب رحيم عادل. (7) الصداقة
كنت ذات ليلة ساهرا بغرفة مطالعتي أتمم قراءة القسم الأخير من كتاب «سان مار» لفخر شعراء فرنسا وحكمائها «ألفريد دوفيني»، وقد وجدتني من شدة التأثر زائد الحرارة، سريع التنفس، مستجمع الحواس هائج الأعصاب، وكأن حروف الكتاب قد تجسمت أمام عيني حتى خيل إلي أني أراها من وراء منظار، وكنت لا ألبث أن أبدأ الصحيفة حتى آتي على آخرها بسرعة غريبة دون أن يفوتني شيء من خفي معانيها، ودقيق مبانيها، وبعيد مراميها، وما وصلت لآخر الكتاب حتى زاد اضطرابي، وغاب صوابي، واغرورقت عيناي رحمة وحنانا لخاتمة فتيين جنى عليهما قلبهما الشريف الرحيم، وذكاؤهما الحاد العظيم.
ذهبت كالمحموم إلى فراشي، وطفقت أستعرض في مخيلتي صور ما تلوته من آيات البؤس وسطور الشقاء وأليم العذاب ما أخر نومي وأطال سهادي، ثم أغفيت عند تباشير الفجر، وأنقذني النعاس من متاعبي وآلامي فانتقلت إلى عالم الأحلام.
رأيتني سائرا في واد عظيم لم أر مثله في المقام الدنيوي يشقه نهر كبير، تحفه من الجانبين سلسلتان من جبال منحدرة جللتهما رياض غناء، وغابات غلباء، أشجارها كاسية من أزهارها البديعة، وبعضها مثقل بثمارها الدانية اليانعة، تصدح فوق أيكها بشجي أنغامها عنادل وشحارير تجلببت بمفوف الرياش، وقد انتثرت وسط هذه الجنان قصور شائقة شاهقة بنيت جميعها بذوق سليم، ونظام عجيب، وانسجام تام، فكانت لمحة من العين كافية لأن تلم بجميع هذه القصور المبثوثة في سفوح الجبال الخضراء، كأنها منظر من مناظر الطبيعة نقشته ريشة «كورو» وعلق فوق حائط أخضر.
رأيت النهر كالماس في صفائه، واستشف ناظراي قراره، فشاهدت فيه شعب المرجان وأصداف اللؤلؤ، وأسماكا سابحة تبهر الرائي بجمالها وألوانها.
وبينا أنا مفتون بهذا النعيم، إذ شعرت بيد لطيفة مست كتفي من الوراء، فالتفت فإذا هو «دوتو» فعانقني وقال: «مرحبا بذي القلب الرحيم الذي رق لبؤسنا وبكى لمصابنا الدنيوي، هيا بنا إلى قصر «ماريون دلورم» فلربما نجد عندها أغلب الإخوان والأصدقاء.»
صحبته إلى قصر تجمعت فيه أسباب السعادة والهناءة، وانبعثت منه ملذات تسر النواظر وتشنف الأسماع وتفتن القلوب؛ فابتهجت لرؤية «سان مار» وبجانبه خطيبته «لادوشيس دومانتو»، تلك الفتاة الفتانة و«كورنيي» و«ملتون».
استقبلني الجميع بترحاب وشوق، وشكروا ما آنسوه مني من عطف وحنان، ثم أنشأت «ماريون دلورم» تمازح أصدقاءها وتداعبهم برشاقتها المعهودة وجمالها الفتان وحديثها الساحر، فأقبلت من وراء «سان مار» وخطيبته ومسحت خديهما الناعمين بيديها المزريتين بأيدي الدمى قائلة: «الآن وقد التأم شملكما، وكفكفت عبراتكما، وزالت آلامكما، تنعمان بالحب والحرية بعدما كنتما لا تتمكنان من محادثة بعد شق الأنفس في زوايا مذبح الكنيسة وهي مقفرة دون أن يسبقكما عين «ريشليو»، أراكما الآن تقرآن في عيونكما آيات الحب العذري «كبول وفرجيني».»
ثم انتقلت إلى «كورنيي» وقالت له: «قد ارتحت من نكد الدنيا ونسيت نعلك التي كنت تنتظر الإسكاف ريثما يخصفها لك وأنت حافي القدمين، وزالت غضون وجهك وصرت تشنف أسماعنا وتفتن نفوسنا بشعر أبلغ وأرق من شعرك الدنيوي.»
ثم جلست إلى «ميلتون» وقالت له: «الآن وقد نسيت ازدراء خلاني وعدم اهتمامهم بك حينما كنت تقرأ لهم قصائدك في الشيطان ببهو منزلي بباريس، وكيف ألجأك الدهر لأن تكون كاتم أسرار لعات جبار ألجم فاك، وكيف رسفت في أغلال العمى والشيخوخة بعد أن عضك الفقر بنابه فأصبحت الآن ولا هم لك إلا أن تختال في برد شبابك القشيب، وتتنقل في الرياض تنقل الفراش المفتون ببديع الأزهار وجميل النوار.»
رجعت «ماريون دولورم» إلى كرسيها واقترحت على «دوتو» أن يقوم في الجمع خطيبا ويحدثهم عن الصداقة، وقالت له: «إنك صرفت شبابك في دراسة علم الاجتماع والفلسفة والقوانين، وكنت أنت و«سان مار» المثال الوحيد في الدنيا للصداقة والوفاء.» فلبى الأمر وأنشأ يقول: «لم يخلق الله في الدنيا نعمة أجل من الصداقة؛ إذ هي حب مقدس أنزله الله على قلبين طاهرين شريفين متماثلين في الصفات والأخلاق، فأصبحا وقد استنار فؤادهما بنور الله يقرأ كل منهما ضمير الآخر، ويفهم ما يرتسم على جبينه وعينيه من صور السرور أو الهموم، فلا يلبث أن تنعكس هذه الصورة في نفسه، ويشعر بعين شعور صديقه فيتوجع لبلائه ويتهلل لهناءته.
لا صداقة بين صغير وأمير، ولا بين شريرين؛ فما الأولى إلا تمليق، وما الثانية إلا اشتراك في الجرم.
شاهدت في حياتي الأولى أن بعض الناس يتخذون الصداقة التمثيلية وسيلة لنيل مآربهم وقضاء أغراضهم، وما هؤلاء إلا مداهنون منافقون.
كان يكفيني من الصديق عاطفة حنان وحب، ولكني ما كنت لأعثر عليها عند أغلب هؤلاء الأصدقاء، بلوتهم فما وجدت فيهم غير مخلص وفي واحد اعتمدت عليه وشاطرته هناءتي وشقائي إلى أن حز رأسينا ذاك الطاغية الجبار، وأراحنا من آلام الدنيا وفاجعاتها.»
صفق له الجميع تصفيق الإعجاب قائلين: «لا فض فوك أيها الحكيم.»
وافتني «ماريون دولورم» باسمة الثغر، بادية البشر، وجلست إلى جانبي تلاطفني قائلة: «أما يهدأ بالك وترفأ عبرتك مما رأيته من نعيم مقيم، وفرح عميم، فأولى لك بعد ما شاهدته أن لا تتأثر مما تقرؤه من سطور شقائنا وصور بؤسنا وآلامنا، فقد أنستنا هذه السعادة الدائمة جميع ماضينا التعس المنكود.»
وبينا أنا منتعش بهذا الحلم اللذيذ، إذ دوى في أذني صوت مزعج كأنه استغاثة مكروب أو صراخ ملهوف: «خبازي يا ورق العنب.» فانتبهت من سباتي وأسفت لمبارحة هذا النعيم المقيم، والملك الفخم العظيم. (8) جمال الأزهار
تباركت مبدع الكائنات، وبارئ المخلوقات، ومجمل الغبراء بالجنات الغناء، والغابات الغلباء، ومرصع النبات بشائق الأزهار، وفاتن النوار، لقد تجلت قدرتك، وظهرت عظمتك في الزهرة مثال الجمال، ونموذج الحسن والجلال، وآية البهاء واللطف، ومنبع الرشاقة والظرف، كيف لا وقد سقاها الندى بطله المنعش، وحملت إليها الصبا عبيرها الأريج، وأرسلت إليها الشمس من أشعتها العسجدية ألوانا شتى تسر الناظرين.
إنها لنعيم الدنيا والآخرة عند أولي الألباب وفتنة الشعراء؛ إذ هي مبددة أحزانهم، ومسرية أشجانهم، وطاردة وحشتهم، ومفرجة كروبهم، ومفرحة قلوبهم، وأعظم ذكرى لجليل صنع الخالق.
لحا الله فظا غليظ القلب عبث بهذا الجمال، ولم يشفق على تلك الرقة وذاك اللطف، فقطع أعناق الزهر وشد عليه بيد جافية قاسية، ودس أنفه فيه ليشمه فهشمه وأحرقه بأنفاسه المتأججة بنار الشره، ثم يطرحه في مواطئ النعال حينما يسلم روحه إلى الصبا، وجماله إلى الشمس، ونضارته إلى الندى.
مجد الأقدمون الزهر حتى قال اليونان: إن بعضا من العظماء في الميتولوجيا استحال إلى أزهار، إذ رووا أن النرجس كان شابا رشيقا غض الشباب، وهب جمالا ساحرا، وحسنا نادرا، يدعى «نارسيس» فافتتنت به الأرباب الأقدمون والحور، وفي ذات يوم امتد فوق العشب ليشرب من ماء عين رائقة ساكنة، فأبصر نفسه على صفحات الماء، فحاول أن يتملك شخصه الآخر المرتسم على الماء فلم يستطع، فطفق يتخبط من الغيظ حتى مات واستحال إلى نرجسة.
كما أنهم أطلقوا اسم كثير من حسان الحور على بعض النباتات الجميلة مثل: «أماريلليس» و«نيرين»، وكانتا من حاشية «ديان» ربة الصيد، واشتهرتا بحسنهما الفتان. •••
رحت ذات يوم إلى داري بعد انقضاء أعمالي، وكان يوما عصيبا التهب فيه الجو فأصبح كتنور أكلبه السجر وأسعده الوقود، وفرت الصبا من بطش الهاجرة، وأرسلت الغزالة سهاما محترقة صائبة، فرأيت أزهار حديقتي وقد مالت أعناقها، وانقبضت وريقات تويجها، وكاد يكمد زهاء ألوانها، تستغيث وهي صامتة بعبرات استعارتها من قطر الندى، واختلطت برحيقها المعسول، ثم علقت بأهداب الأزهار كأنها أقراط من ماس متدلية من أذن تزري بالورود، فهرولت إليها واقتطفتها بسوق طويلة ووضعتها في آنية بلورية ملئت زلالا باردا، نسيت غذائي وجلست متلهفا بجانبها إلى أن انتعشت وعادت إليها نضارتها وزهاؤها وتصوبت أعناقها، فناجيتها بهذا النجاء:
لبيك أيتها المخلوقات الرقيقة، سعديك أيتها الأجسام الرشيقة، لقد رجعت إليك من أقصى المدينة مسرعا لأنقذك من شر القيظ، إنني أغار على جمالك الفتان فلا ألمسك، ولا أقرب أنفاسي المحرقة من جسمك اللطيف ، بل أقنع بإطالة النظر إليك والإعجاب بمحاسنك الخلابة، وأرضى بما ترسلينه إلي من شذاك مع نفحات الصبا لأمد في حياتك، ويطول نعيمي وهناءتي، وعسى أن يقتدي بي قومي ويرأفوا بهذا البهاء واللطف؛ فإن الزهر لحري بالعناية والحنان، والرحمة والرضوان. (9) الأمل
ألفت النفس منذ طفولتها أن تخلد إلى الدعة والسكون، وتنفر من جلبة الجماعات، وتستبشع هرج الناس ومرجهم في مواسمهم وأعيادهم، وما فتئت تصبو إلى العزلة مؤثرة أن تسامر كتابا قيما أو تناجي زهرة جميلة حتى أصبحت تعد الدار جنتها الفيحاء ونعيمها المقيم.
يا ما أحيلى ليلا ينقذني من نصب الأعمال وقيظ النهار الموهن للقوى والمشتت للخيال ... ما أشهى ليلا سعيدا يسلمني إلى الراحة وينعشني بنسيم عليل يحمل شميم الأزهار، ويقربني من طيف الشعر، ويسكرني بنشوة الأماني والآمال، وينسيني آلاما تتجدد، وشقاء ينتاب ويتردد.
أهرع في الليل إلى طنف اكتنفته الصبا، وامتدت أمامه الرياض والحقول، وسكن إليه القمر فما برح يمر فوقه وينيره.
لاحظت بين النجوم كوكبا دريا ما انفك يطلع فوق رأسي وهو أكبر مما حوله وأشد لمعانا، فصبت نفسي إليه وحسبته نجمها المسير، وطالعها الذي يكتم في صدره أسرارا يتطلع إليها روحي ولا يدري إن كانت خيرا أم شرا.
أقضي هزيعا من الليل وأنا شاخص إلى نجمي المحبوب وهو يبسم لي في تلألئه، وينظر إلي نظرات فاترات ملؤها العطف والحنان، ويرسل إلي من السماء تحية مباركة تكاد تنسيني الوجود وتغرقني في بحار الآمال، وتقتادني إلى لذيذ الأحلام.
قرأت في بسماته الفتانة أنه يناجيني: إنني أكلؤك بعين عنايتي وأبشرك بمستقبل باسم ينيلك آمالك، ويسكن آلامك، وينسيك مصائبك التي لولاها لم تعرف لذة العيش ولا هناءة النعيم.
استمر كوكبي العزيز يؤرجحني بنجائه الفتان، والنسيم يسكرني بعبيره الأريج، حتى تخدرت أعصابي فأغفيت.
فارقت هذه النشوة وهذا النعيم الذي أعده فخما ويراه غيري حقيرا وانتقلت إلى عالم الأحلام، فتمثلت لي مسارح شقائي وصنوف أتراحي وعنائي؛ فتبدل فرحي كربا ونعيمي بؤسا، وبلغت الروح التراقي، فقيض الله لي بعوضة لسعتني؛ فاستيقظت وأنا خافق القلب زائد الحرارة أتصبب عرقا.
وجهت طرفي إلى نجمي وقد خالجني الشك وساورني الارتياب قائلا: أيها النجم الزاهر! يا من هو مثال الحسن الساحر! حاشاك أن تغر منكودا أضناه زمانه وخذله قومه وإخوانه فلم يجد راحما في الغبراء، أو مسليا في الضراء!
أجلك وأنت في عالمك العلوي الطاهر أن تخدع ذلك الكائن الواهي فيسترسل في أمانيه، ويغتر بأضغاث أحلامه وسخيف أوهامه.
أنبئني بمصيري أيها النجم الخالد، فلست ممن يضيع عندهم السر، أو يأسفون على حياة تعسة محوطة بضروب البلاء.
أرح فؤادي من شك يكاد ينهشه وقلق أليم يساوره ويضايقه، وإن كنت تعلم أنه قد حم القضاء وجف القلم فلا تغيير ولا تبديل، فمن علي بضجعة لا يقظة بعدها تريح جسما واهيا، وتغيث قلبا داميا. (10) أيها البدر
هاجت الرياح وثارت السافيات مقلة سحبا مكفهرة من العجاج حجبت الشمس فاغبر وجه الأرض، واستتر جمال الطبيعة ونورها، وغطت زمجرة الرياح على ألحان العنادل والشحارير، وهدير الحمام، وغناء القمري، وحفيف الأشجار داعبتها الصبا، واستكنت الأوانس والأطفال في مغانيها، وانكمشت الأنعام في حظائرها، وأقفرت الرياض والخلوات، ولبس الجو ثوب حداد قاتم.
اعتكفت في داري ولم أتمتع بنصف هذا اليوم الذي أستريح فيه من عناء الأعمال، وطفقت أرقب هذا الجو الأغبر من وراء زجاج الكوى وهو يعبث بأزهار حديقتي ويلوثها بأدرانه، فساورني الضيق والسأم كالسجين المحزون.
ما لبثت السماء أن جادت بغيث هتان بدد الغبار، وغسل الأشجار، وأرجع إلى الأزهار نضارتها وزهاءها، فابتسم وجه الأرض، وصفا الجو، وعاد الطير إلى غنائه متنقلا على الغصون الميادة.
خرجت من سجن الحجر قبيل العشاء وكان الهواء ساكنا هادئا كليالي الربيع؛ فجلست في طنفي وقد أشرق البدر بسناه الناصع المتلألئ كأنه درة وهاجة فوق بساط من إبريسم لازوردي.
كشف البدر ما ستره الغبار، وأظهر جمال الطبيعة وبهاء الزهر الذي نشر عبيره الشذي فأنعشني بسرور وبشر لا يوصفان، ورمى علي أشعته الوضاءة فكساني بطيلسان فضي.
فتنني القمر بجماله الساحر، وخدر حواسي المضطربة من الحبس والضيق، وخيل إلي أن ضوءه الذي جللني يد حسناء فتانة تشفي جريحا ببسمات تخجل وميض البروق، وتمسحه بيدها الملطفة المسكنة.
لم أجد جليسا يؤنسني خيرا من البدر، فأطلت النظر إليه وناجيته بهذا النجاء: أيها البدر المختال بشبابه الغض وفتوته المتجددة! ليت شعري كيف يتمادى الجاحدون في طغيانهم وينكرون آيتك البينة! أمهلتهم من شهر إلى شهر حتى كرت الحقب وهم في غيهم يعمهون.
أيها القمر الجائل! يقولون إن الكواكب هي التي تسير العالم وتتصرف فيه، فسلط زحل على من يجأرون بجحود ران على قلوبهم ليخرس ألسنتهم، ويسلب عقولهم، ويتركهم يتخبطون في البؤس والشقاء.
أيها البدر! سلط سحبك المعتمة لتكون حائلا بينك وبين من أنعم الله عليهم فكفروا بأنعمه وأنكروه.
أيها القمر! حرض كواكبك لتسقط عليهم شهبا ثاقبة تطهر منهم الأرض؛ لئلا تنتشر عدواهم إلى الصالحين.
أيها البدر! أصبح هؤلاء الزنادقة كالجيف تنبعث منها الروائح المنتنة فتسمم الهواء والماء، فأرسل إليهم ريحا صرصرا عاتية تحملهم إلى أعماق الدأماء فلا تذر منهم باقية.
أيها البدر! أشهدك يوم الدين أنني بريء من هؤلاء الشياطين، ولو استطعت أن أجازيهم بما تمنيت لهم لما أحجمت، فأكتفي بصب اللعنات على رءوسهم الممقوتة إلى أن يبطش بهم الجبار، ويساقوا إلى النار، وبئس المثوى والقرار. (11) النور
سلام أيها المثل الأعلى، تحية طيبة يا من هو زين الكائنات، أدامك الله للنفوس بهجة، وللقلوب ملذة، وللعيون مسرة.
سلام وإجلال لمثال البهاء والجمال، سلام يا فخر الكمال، وعنوان العظمة والجلال.
أنت مسير الأكوان، أنت ميزان الزمان، أنت المطلب الأسمى للإنسان، أنت أعظم أمنية للنبات والحيوان، أنت مفرج الكروب ومبدد الأحزان.
تهابك الأشرار، ويمقتك الفجار، وتنفر منك السباع العاتية، والهوام المؤذية.
كثيرا ما تساورني الأحزان، وتطاردني بجيوشها الأشجان، فتبعد النوم عن الأجفان، ويتجافى جنبي عن الوساد، وأقضي ليلي حليف ألم وسهاد، أنشد مفرجا لكربي، ومنجيا من ألمي ووصبي.
ما أطول الليل علي ما لم أنم! إذ لا تعرض علي في ظلمات الليل إلا مناظر الهموم المروعة، ومسارح الآلام الفاجعة، فأظن أن ليلي أطول من دهر، ولا ينفك اليأس يصارع مني الصبر، حتى يصيح الديك بنشيده الفخم، وهو سلوان المكروب، وعزاء المغلوب، والمبشر باقتراب الصباح، وانتهاء نضال الأتراح.
مر هزيع آخر من الليل ولما ألمح تباشير السحر، فعاودني اليأس وقلت: لعن الله الكذب وما أشنعه إذ تسربت جراثيم دائه إلى الطير وأصبح بعض الديكة يؤذن قبل الفجر.
سمعت بعد هدء من الليل مؤذنا رخيم الصوت ينادي: حي على الفلاح، فقلت: أفلح من صدق ولا فض فوك، ولا زال يردد في الليل البهيم صدى ألحانه التي تخفف عن القلوب أثقالها، وتسكن أوصابها وآلامها، وحمدا لله على قرب انتهاء العذاب، وترنمت بقول القائل:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
وما لبث أن بزغ الصباح وأنقذني من عذابي المستمر، فهرولت إلى الكوة ورفعت عنها الأستار وفتحتها وناديت نداء المتهلل الظافر: سلام يا مفرج الكروب، سلام أيها المخلص من الآلام الثقال، سلام يا روح الجمال، سلام يا سر الجلال، سلام أيها النور، ألف تحية طيبة مخضلة ببليل نداك، معطرة بعرف أزهارك، تحملها الآرام الرشيقة السارحة، وتبلغكها العنادل الصادحة.
إنك تتجلى فوق الأشياء فتظهر جمالها الخفي وقبحها المستور المزيف، وتبين خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فبارك الله فيك أيها النور! وخلدك مدى الأزمان والدهور!
أنت الذي تمنح النبات خضرته الزاهية، والأزهار ألوانها البديعة المونقة، وتطلق الطير والحيوان من سجن الليل فتنطلق وقت تبلجك من أوكارها وحظائرها متهللة صادحة باغمة: بوركت أيها النور البار.
تسل صارم سطوتك في وجوه الأشرار، فلا يظهرون وقت تجليك، وتسدد نظراتك الرائعة في وجوه الفجار، فيركنون إلى الفرار؛ خشية الفضيحة والعار.
تتجنبك السباع واثقة من أنك ترشد إليها كل قناص وصياد، وتحذر الأيائل والمها من وثبات الضراري وتمنحها حدة في أبصارها، تكفيها غائلتها وشرورها، وتخاف بطشك الهوام والجراثيم فتستكن في جحورها، وتنكمش في بؤرها.
أنت الذي تنفذ إلى العقول حينما تستغيث بك لحل المعميات فتفيض عليها من النفحات العلوية، والفيوض الربانية، ما يحل عويصها، ويظهر مكنوناتها.
أنت الذي تتجلى على الفكر فتنفحه برائع الخيال، وساحر الشعر، وبليغ القول، وجليل الحكم، فتنطلق الألسنة قائلة : سلام أيها النور، سلام يا مسير الأكوان، سلام يا ميزان الزمان. (12) الظلام
تبت يداك أيها الكافر الباغي! ثكلتك أمك أيها الظالم الطاغي! توالت عليك اللعنات! وصبت فوق رأسك المحن والآفات!
تنقض على الأبرار بدياجيرك المروعة وآلامك ومصائبك الفاجعة، فتعمي منهم الأبصار، وتسد عليهم المسالك ليكفوك شدة المطاردة، ويقفوا بين يديك حيارى أذلاء كسخال وديعة ترتعد أمام ذئب ضار، ثم انقض عليها يبقر بطن هذه ويشق ظهر تلك.
فمثلك كمثل الصائد الظالم يحرض بازيه على ظبية الكناس فيفقأ عينيها دون رحمة، ولو كان له قلب لما استطاع أن يثبت أمام ما تسدده إليه من نبال عينيها الدعجاوين أو يسلم من سحر جفونها الوطفاء؛ فتتخبط المسكينة تخبط من مسه الشيطان وعيناها غارقتان في دمائهما تنشدان دون جدوى نورا يهديها إلى كناسها ويريها جمال آرامها.
ترمي شباكك السوداء على العالم وهو مطمئن فتخرجه من نهر الهناءة إلى لظى العذاب والشقاء، ترسل أعوانك الأشرار إلى الطيبين الأبرار؛ فيسلبونهم نعيمهم، ويحرمونهم هناءتهم، ويعكرون صفوهم.
ما عهدت أعوانك إلا كالخفافيش والبوم ينامون النهار ويقومون الليل، فترشدهم لاختلاس الأموال، وقطع الطرق، وإزهاق النفوس، وهتك الأعراض.
تسلط علينا الشرور كحجر ألقي وسط خميلة أوت إليها الأفاعي فهاجها من منامها، وخرجت غضابا فاغرات أفواهها تنهش كل من تصادفه.
اخترت لك الأشرار والفجار حاشية، والسباع الضارية جندا، والهوام المؤذية تبعا، والجراثيم الفتاكة خولا؛ فتهدم ما بناه النور، وتفسد ما يصلحه.
قاتلك الله أيها الإنسان ما أظلمك! لو آنس منك ربك إنصافا لما أوجد الظلام، عرف منك الجشع والعتو فأرسل إليك الظلام لتسكن فيه وتعطي لبدنك وعقلك نصيبا من الراحة يؤهلهما لمواصلة العمل ومداومة التفكير.
تسدل أيها الظلام وشاحك الأسود على الطبيعة الجميلة المشرقة الحية الناطقة؛ فتستر جمالها، وتطفئ أنوارها، وتقف حركتها، وتلجم أفواهها، وتقطع ألحانها، وتهيج أشجانها، وتثير آلامها.
حنانك اللهم ورحماك! فقد صبرنا على جميع فاجعات الظلام، وتسلط على أموالنا وأرواحنا وأعراضنا وآمالنا، فلا تدعه يتسرب إلى عقولنا التي بقيت لنا من حطام الدنيا فنصبح كالأنعام أو أضل سبيلا ، وإن سبقت به مشيئتك فأمتنا ولا تترك هذا الكافر يشوه خلقك الكريم، يا نعم المولى ونعم الرحيم.
الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
(1) الموسيقى والفلسفة (1-1) مقدمة
نشأت وشبت معي عاطفة تجذبني نحو الكمال والجمال، وما فتئت هذه النفحة العلوية والجذوة الربانية تتوقد في فؤادي ويثور ثائرها كلما تجلى لها الكمال والجمال بأبهى مظاهرهما ومعانيهما في أي كائن كان من صنع الخالق، أو من مبتدعات فنون الإنسان.
أنارت هذه الشعلة بصيرتي وباصرتي، فأصبحت العين تنفذ في أعماق ما يفتنها فترى فيها جمالا ربما كان خفيا لا يدرك معناه كل من رآه، كما أنها لا تعزب عنها عيوب استترت تحت جمال كاذب يغر كثيرا من الجهلاء السذج.
شغفت بالموسيقى وحلت من فؤادي المحل الأرفع، فأصبحت لي في الداء شفاء، وفي الحزن سلوانا، وفي البؤس سعادة ترتاح إليها نفسي وينعم بها روحي.
رويدك أيها القارئ فلا تتهمني بالشطط والمغالاة؛ فإنك لا تلبث أن تسلم بما قلت حينما أرفع لك الأستار وأكشف الحجب عن محاسن تفتن القلوب، وجمال يسلب النهى، وقدرة عظيمة وأسرار مدهشة حجبها جهل فظيع ذهبت غشاوته بالأبصار، وانتقلت أعراضه إلى الآذان فأصمتها، وإلي القلوب فأعمتها، وأصبح الفن عندنا كالحسناء فتك بها الداء الدفين والفقر المدقع، فظلت هائمة على وجهها متسربلة بأطمار بالية سترت ما بقي فيها من آثار الجمال، فنفر منها مريدوها وهجرها محبوها.
اختلجت منذ سنين في صدري فكرة إظهار آيات جمال الموسيقى الخفية وأسرارها العلوية، فوجدتني عيا لا أستطيع أن أجهر بوجدان أشعر به غير كاف للتعبير، فهو وإن كان جله صادقا فإنه يعوزه الدليل القاطع والحجج الدامغة.
أردت أن أستعين بالمؤلفات الإفرنجية فنقبت طويلا فلم أعثر على ضالتي المنشودة؛ لأن هذا البحث لم يطرق إلا حديثا، فصبرت ردحا من الزمن إلى أن وفقني الله للعثور على بعض المؤلفات الجليلة التي تبحث في الموسيقى والفلسفة وكلها لأفاضل المعاصرين، فعمدت إلى دراستها جميعها لإنماء هذا الشعور وتهذيبه، وسأوافي القراء بصفوة ما أحرزته بعد تبويبها حسبما يلائم مشربنا متوخيا أسلوبا جليا واضحا تفهمه العامة قبل الخاصة، لعلي أكون بذلك قد أديت بعضا مما يفرضه علي الواجب الاجتماعي.
ليس المقام مقام بحث في الفلسفة وتعريفها وتقسيمها، ولا مقاما يتناول الموسيقى من الوجهة الفنية والعملية، بل مداره إظهار فضل الموسيقى وأسرارها وعلاقاتها بالفلسفة والشعر، وتأثيرها في الأخلاق والعادات، ونفوذها وقوتها في السحر وتأثيرها في الحيوان.
الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة، بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولا للأذهان، الفكرة الموسيقية مظهر لإلهام عام عميق غامض ولكنه مفهوم لدى العالم الإنساني، الموسيقى هي لغة النفس التي تنعم بصفائها وسعادتها ومقرها أرقى من الحياة الحقيقية، وقد قال «لوتير»: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى وأمنحها الشرف الثاني.» وزاد عليه «بيتهوفن» نابغة الموسيقيين، إذ قال: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة، إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى، عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»
الموسيقى هي التي تترجم وتنشئ الحالات النفسانية العميقة، بل هي ألطف ما انبعث من العقول، الموسيقى قوة رقيقة لطيفة للحياة الأدبية، إن هي إلا شعور وفكر في آن واحد، الموسيقى هي لغة الحب للأفئدة، بل حلية الخيال وزينة التصور.
الموسيقى لغة غزيرة المعاني خفية الأسرار، توقظ التقوى وتخاطب الشعور مباشرة بغير واسطة، وقال «فاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: القلب هو الصوت وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.
وقد أظهر الموسيقي الفرنسي الشهير «بيرليوز» قدرة الموسيقى على التعبير عن الأحوال النفسانية، ومعظم الجزء الخاص بالانتقاد في كتابه يدور على صدق التعبير في الموسيقى، فتراه بمهارته المعروفة قد ازدرى وسخر من توقيع الآلات الموسيقية في الأزمان الغابرة حيث وجد جانبا منها تكملة للعدد تسد فراغا لا معنى له أو تضاعف صوتا تحدثه آلة أخرى، فقال: «إن هذه الموسيقى لا تصلح إلا لترقيص القردة في الأسواق وإسناد الحواة والبهالين وبالعي السيوف والثعابين في أقذر الطرق.»
الموسيقى هي الفن المتداول الذي يستقي مادته من الحياة الاجتماعية، كالنبات يمتص غذاءه من المكان الذي تخترقه جذوره، لا التصوير ولا الحفر متداولان كما أن فن زخرفة البناء في غاية التعقيد ومفعم بالمعلومات الفنية والأثرية وخاضع للاشتغال بالزخرفة أو ضروريات أعمال خاصة ليصبح عملا وقتيا جامعا لعدة أشياء، فهذا الامتياز إذن خاص بالموسيقى وأخيها الشعر.
الموسيقى لها معنيان مختلفان متحدان في شكل واحد كالروح والجسد؛ أحدهما في غاية من السهولة والوضوح، والثاني يفر من الباحث فيه، فهو في الوقت نفسه تقليد لحياة الحب أو الأشياء الظاهرة، ولغة ذات فكرة خاصة بها تهيمن على جميع الأشياء، فهي تشمل في هذا التعبير المزدوج العبارة الشعرية التي تعززها بالحقائق الوافرة، وتكمل الفكرة البليغة بنقلها إلى مستوى أرقى خيالا، وهذا مما يدل على وجود التفاوت التام بين الموسيقى والشعر ... ليس الفرق بين الشاعر والموسيقار قاصرا على أنهما لا يتكلمان بلغة واحدة ولا يخضعان لقانون واحد؛ بل لأنهما لا يفكران بمقدرة واحدة، وهذا التضاد هو الذي يدفع الواحد نحو الآخر ليتمما بعضهما ببعض، وحينما يجتمعان يعضدان اللغة الأصلية ويمنحان أصولها منتهى القدرة فيتغلبان على عواطفنا السامية، ويتمكنان من أن يبثا فينا أقوى وأشرف عواطف التكافل الاجتماعي.
لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية، وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب»، وجدت في بلاد الكلدانيين وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تلو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات، وقد قدر تاريخها أفاضل العلماء مثل «بواتييه» بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا مشاحة في أن الموسيقى أقدم من الشعر وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.
ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبيعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها وكشفا لنا فيها عالما مفعما بالعجائب، وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرا رفيعا غريبا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.
الموسيقى الشاملة لجميع ما سردناه من المزايا تحدث في النفوس جرحا من الملذات، وتترك فيه مثل رءوس الإبر فلا تنسى هذه الآلام اللذيذة الحلوة.
أجد من العبث أن أسرد عيوب الموسيقى الشرقية وما وصلت إليه من الانحطاط، كما أنه لا فائدة من وصف العلاج الناجع؛ إذ قد بينا أن الموسيقى فن متداول من لوازم الهيئة الاجتماعية، وأنها ترجمان الأخلاق والعادات، فهي مرتبطة بدرجة مدنية الأمة وتسير معها خطوة بخطوة، إما إلى الأمام وإما إلى الوراء، فإن حاولنا أن نرقيها وحدها فمثلنا كمثل طبيب جاهل يريد أن يعالج مريضا فسد دمه وانتشرت على جسده الثآليل باقتصاره على الدهان، فجهل العلة وأراد أن يداوي العرض، وهيهات أن يبرأ عليله وتتحقق أمانيه، هذا والله أسأل أن ينهض بالشرق إلى أعلى الدرجات حتى يبلغ من المجد والكمال غاية الغايات. (1-2) الأصوات والكلام الإلهامي للانفعال النفساني
الصوت الإنساني الذي هو مصدر الكلام الشعري والموسيقى يحرز ثلاث قوى للتعبير، إذ لا يتسنى له أن يكون بالتتابع أو في الوقت نفسه تمثيلا للشعور، أو تمثيلا للأشياء المادية والخارجية، أو تمثيلا للفكرة.
ففي الحالة الأولى يتركب شكله من الصياح وجميع أنواعه، وفي الثانية من التمثيل بالأصوات ودرجته في الإتقان، وفي الثالثة من الكلام الأصلي الذي تنقله الكتابة.
تتميز هذه القوى الثلاث من مصدرها، ودرجتها في المفهومية والإلهام هو مصدرها المشترك، ولكن الأولين يمكن أن يكونا من عمل الإلهام المحض، وأما الأخير فيعتمد معظمه على الاتفاق والاصطلاح، وحينما يكون الصوت الإنساني نتيجة وقتية للانفعال أو صدى لأصوات الأشياء الخارجية يؤثر مباشرة في الإحساس الطبيعي للسامع، وتكون طرق تعبيره مفهومة لدى جميع الناس لمكانتها من الحقيقة الصريحة.
ووقتما يكون الصوت الإنساني علامة للفكرة فإنه يخاطب العقل وله معنى عظيم كامل، ولطرق تعبيره مفهومية محصورة؛ لأن صفاتها اتفاقية عرفية، فلننظر الآن في الحالتين الأوليين؛ أي الكلام الطبيعي الإلهامي المحض وقدرته على الترجمة عن الشعور.
كيف تتأتى هذه الترجمة إذن؟ إن بين الحياة الروحية والحياة الجثمانية مهوى عميق لا تدركه البراهين الفلسفية، ولكن الطريق سهل ممهد بين هاتين الحياتين وبين الطبيعة، والتجارب العامة هي التي تيسر لنا معاينة هذه العجيبة المدهشة والعادية في آن واحد؛ إذ يجعل الصوت الانفعال محسوسا وللآذان مثل ما يصيره النظر مرئيا للعيون.
يهتز الفؤاد من صدمة الآلام كما ترتجف أوتار الكنارة تحت أنامل الموسيقار، ويتبع تنوعات الشعور الدقيقة بسهولة لا يتأتى تحديدها.
يمكننا أن نميز العناصر الآتية في الأصوات التي يتركب منها الصوت الإنساني؛ قوتها وعلوها، ومدتها ورنينها وحركة تتابعها، وسنبين درجة تعبير هذه الصفات المختلفة للكلام الطبيعي، وأنها ما فتئت مستعملة في الغناء وهو الحجر الأول للموسيقى الآلية.
للأصوات المستعملة في الموسيقى تشابه مع الصياح وتنوعات الكلام الطبيعي، وقد قال «ليسينج» الكاتب الألماني الشهير: «ليست الأصوات الموسيقية علامة لشيء ما لأنها لا تعبر مطلقا، بل تتابع الأصوات وحده هو الذي يعبر أو يوقظ الأهواء.»
وهذه الفكرة تبين لنا أن الصوت يشبه النقطة الهندسية التي لا تفيد شيئا وحدها، لكنها إذا انضمت إليها نقط أخرى أنشأت خطا.
وقال «داروين»: «جميع أصوات الطبيعة من طنين الحشرة إلى قصف الرعد وصوت الإنسان ترتبط بنصر أو هزيمة في معترك الحياة.»
وتنطوي خلال هذا الجملة فكرة عظيمة فخمة لا حاجة لنا الآن لخوض عبابها، بل يكفينا أن نقول: إن الأصوات الموسيقية لها صفات تشبه مثيلاتها في الصوت الإنساني، فهي إذن عناصر التعبير.
قوة الأصوات؛ أي درجتها في الحدة أو الضخامة، تكون مناسبة لقوة الشعور المعبر عنه، فإن كان الإنسان لم يحدث له انفعال فإنه لا يفكر تقريبا في الكلام، كما أن البلادة يصحبها عادة الصمت، وعدم تأثر أصحاب الوساوس والشكوك يجعلهم يتكلمون بصوت منخفض، وكذلك الذين يراعون آداب المعاشرة، أما الانفعال فإنه يوقد الفؤاد والصوت، والألم يوجب الصياح.
علو الأصوات محدود بأسباب قوتها؛ إذ يرتفع الصوت بدرجة الانفعال فترى الآلام إذا تتابعت مع ازدياد تتابع الصياح متنقلا في الزيادة من درجة إلى أخرى أحد منها، وفي الموسيقى كلما ارتفع الصوت واشتد كان أكثر تعبيرا.
للأبعاد الموجودة بين الأصوات دور مهم في اللغات فإنها هي التي تمنحها أشكالها وحياتها؛ لأنها تمثل درجة الانفعال، فترى السذج ذوي التأثر البطيء لا يستعملونها إلا قليلا، وبالعكس يكثر استعمالها أصحاب الشعور الراقي السريعو التأثر.
الأبعاد إما أن تكون صاعدة أو هابطة فيختلف اتجاهها حسب المقام، فإن كان الشعور في نمو وتحقق علا الصوت، وإن خمد الشعور هبط الصوت، ويلاحظ عادة أن الجمل تنتهي بأبعاد هابطة.
الأصوات من وجهة طولها أو اتصالها إما أن تكون متقطعة أو متصلة، وذلك مرتبط بكيان الشعور الذي ينتجها، فالضحك يعبر عنه في الكلام الاعتيادي بحلقات من أصوات متقطعة، وبالعكس يعبر عن الأنين بأصوات متصلة، فالتعبير بهذا الشكل موجود أيضا في الموسيقى.
ولرنين الأصوات أهمية عظمى في الكلام، فيختلف بالنسبة إلى المناخ والجنس والعمر والذكورة والأنوثة، وصفات العواطف وطبائعها ودرجتها، وحالة الإنسان النفسانية التي كان عليها وقتما انبعث منه الصوت.
أظهر البحث في رنين الصوت عنصرين؛ أحدهما نتيجة للتركيب الطبيعي ثابت لا يتغير، والثاني نشأ من الظروف ويتأتى تغييره لدرجة غير محدودة، فيشمل الرنين في الوقت نفسه الجزء الدائم الثابت والجزء المتحول من حياتنا الطبيعية والأدبية، فهو للكلام بمثابة اللون للوجه.
إذا سمعنا شخصا يتكلم دون أن نراه فإننا نستطيع أن نحرز غالبا من لون كلامه إن كان ذكرا أو أنثى، ونقدر عمره بالتقريب وعواطفه الحالية وشيئا من أخلاقه.
إن الملاحظات التي تبديها دراسة تنوع رنين الكلام وعلاقته برنين العواطف قد أسعدت الروائيين والممثلين بنفحات عظيمة، وجعلت الروايات الصغيرة التي يمثلها شخصان أو ثلاثة سارة جذابة؛ إذ تستطيع فيها فتاة لا تجاوب على كل ما تسأل عنه إلا بكلمة واحدة «يا سيدي»، ولكنها متنوعة الرنين حسبما توحيه العواطف فتدل على الاحتشام والدهش والحسرة والخوف والسرور والحب وغير ذلك.
وللكلام حركة تنشئها درجة الانفعال أو طبيعته أو أسباب خارجية، فنرى أن المحادثة مع شخص عديم المبالاة والاهتمام لا يشغل باله شيء تطول إلى أن تصير غير محتملة، ومخاطبة الذين يختالون في برود شبابهم وهناءتهم تكون أكثر احتدادا، ولهجة الذين تملكتهم العواطف الهائجة تكون محتدمة سريعة.
نستنتج مما سبق أن جميع أشكال الكلام الإلهامي توجد في الكلام الفني وهو أساس فن الموسيقى.
سلمنا مبدئيا بالتعبير الموسيقي، فما هو إذن مبلغه من الصحة؟
الأصوات الموسيقية كمثيلاتها في الكلام الطبيعي صحيحة التعبير، وهما في التشابه كالألوان الصناعية التي يستعملها المصور وألوان الطبيعة، وهذا المثال في غاية الموافقة لسهولته، وهو الوحيد المعقول الصريح.
ليست الألحان والأوزان بالطرق الوحيدة للتعبير، بل توجد وسائل أخرى وهي قوة الأصوات ورنينها ولهما أهمية عظمى؛ إذ بواسطتهما يحصل التنويع دون تغيير شيء في الجمل الموسيقية التي تتركب منها القطعة، فالمغني يجب عليه استعمالها، كما يلزم المنتقد أن يدقق فيها النظر.
نشاهد في رواية «فيديليو» من مؤلفات «بيتهوفن» في فصلها الأول أن لحنا واحدا يغنيه بالتتابع «مارسولين» و«لييونور» و«روكو» و«جاكوينو»، فهل يتصور إذن أن «بيتهوفن» يطلب من أربعة أشخاص تعبيرا واحدا؟
إننا نعلم أن الكلام الطبيعي الذي هو أساس الكلام الموسيقي له معنى، ولكنه أقل وضوحا من كلام الفكر - أي الكتابة.
يجوز أن يعبر الصياح نفسه عن الخوف والغضب والدهش واليأس والحقد ... وأن يعبر الأنين عينه عن بائس ظفر به الألم، أو شهواني منغمس في ملذاته.
يصادف أحيانا هذا الغموض في التصوير والحفر، ولنضرب مثلا المرأة التي لدغها الثعبان للمصور الفرنسي الشهير «كليزينجيه»، فقد لاحظ فيها «تييوفيل جوتييه» الشاعر الفرنسي المعروف أن تعبير الألم فيها أشبه بالملذات حينما تبلغ منتهاها من الشدة، وأن شرذمة الجند التي تمثل العسس لنابغة المصورين «رامبران» اختلفت فيها الآراء حتى ظنها بعضهم أنها مارة بالنهار لا بالليل، ويوجد بمتحف التماثيل والحفر بمدينة «مونيخ» تمثال عظيم كبير القامة اختلفت فيه علماء الآثار؛ فظنه البعض رجلا، وظنه الآخرون امرأة، فهل لهذه الأسباب يستنتج أن التصوير والحفر لا يحرزان صحة التعبير؟
إن كان نفس هذا الغموض غير محدود في بعض أقسام الحياة الأدبية نفسها، فكيف نتطلب من الفن أن يكون أوضح من الطبيعة وأصدق من الحقيقة؟ هل جميع عواطفنا تتميز من بعضها البعض؟ أليس الحب إن بلغ منتهاه من الشغف صار أشبه بالبغض؟
وباختبارنا للاعتراضين الآتيين للمسيو «هنزليك» يتسنى لنا أن نبين قدرة التعبير بطريقة أدق وأوضح: (1) «ليست العواطف منعزلة بل تابعة لحالات فيزيولوجية وهي والعقل شيء واحد، فلا يتأتى أن يعبر عنها بفن لا يستطيع فيه التمثيل أن يمثل جميع الحركات البسيكولوجية.» يمكننا أن نجاوبه بالاستعانة بالتجارب قائلين له: إنني أشعر حق الشعور بفرحي وحزني وألمي ... دون أن يعتريني أقل شك في حالاتها الفيزيولوجية.
والدليل القاطع أنني إذا أصغيت إلى أجنبي يتحدث بلغة أجهلها فإني لا أفهم شيئا من كلامه، ولكنني أستطيع أن أعرف على الأقل إن كان المتكلم مسرورا أو غضبان مهددا أو حسن المقابلة جامدا أو متحمسا ... وقد تكون العواطف والفكر متضادة؛ إذ يخالف أحيانا مدلول نغمة الكلام المعنى الحرفي للقول. (2) «حينما يتسنى للعواطف أن تبين بطريقة واضحة فذلك راجع إلى الأشياء التي تنطبق عليها وتسببها، فالأمل مرتبط تمام الارتباط بصورة الشيء المحبوب الذي يرجى حصوله والذي هو مخالف للحالي: فلولا «مرجريت» و«ديسديمون» ما حدث الحب، فالموسيقى إذن لا تستطيع أن تعرفنا «ديسديمون» ولا «مرجريت»، فإذا حذفت هذه الصورة المحسوسة التي هي سبب الحب لم تبق إلا حركة غير محدودة وبالأكثر العاطفة العامة للهناءة والمرض، ثم نقول: إن الموسيقى تعبر عن عواطف غير محدودة فهذا لا يفيد شيئا، إذن ما هي العواطف التي لا مضمون ولا محتوى لها؟ هذا شيء لا معنى له ولا يمكن أن يكون موضوعا لعمل فني.»
أرتنا التجارب أن معرفة الشعور لا تحتاج دائما إلى معرفة موضوعه، وإذا سمعت صياحا شديدا فلا حاجة لي بمعرفة سببه لأعلم منه تعبير الألم لكي أشعر بالعطف على الصائح، أما تمتلئ قلوبنا بالرحمة والشفقة على «فيدر» وهي في المسرح قبل أن تذكر «أونون» اسم «إيبوليت»؟ هلا نقول: إن «ألفريد دوموسيه» يحتاج إلى سرد أسماء حبيباته ليحدث في نفوسنا تأثيره المعروف؟ هل الحفار الذي عمل «نيوبيه» والمصور الذي صور «مينيون» في حاجة لإخبارنا بحديثهما لنشعر بآلام الأولى وحزن الثانية؟
ليست جميع العواطف واضحة أو متساوية في درجة الوضوح، مثل ذلك أنه توجد فوق رغبة الحصول على نمرة رابحة بمائة ألف فرانك رغبة الغنى غير المحدودة وفوق حب المال المحدود الطمع والسعي وراء العظمة بشكل ما، ويوجد ميل آخر يفوق جميع هذه الرغائب بل يشملها وهو حب السعادة، يمكننا إذن أن نميز نوعين من العواطف مرتبطين ببعض فروق خفيفة متوسطة بينها؛ إحداهما مصحوبة بفكرة واضحة محدودة، والثانية لا ترتبط بحكم ما من أحكام العقل وهي التي تمثل العواطف البحتة، فالأولى لا تستطيع الموسيقى ولا الكلام أن يعبرا عنها تعبيرا تاما، وأما الأخرى فالموسيقى يتسنى لها أن تمثلها تمثيلا تاما، بل تتخذ منها كالشعر موضوعاتها الشائقة المفضلة. (1-3) الصور في اللغة الموسيقية
إننا في حاجة لاستعارة صور من عالم المرئيات لنستعين بها على التعبير عن الخفي.
أرسطو
العلامات المعبرة التي سبق التنويه عنها هي علامات طبيعية؛ إذ تنبعث من تلقاء نفسها عقب العواطف والإدراك، وتوجد خلافها تعرف بالصور تحدث هي أيضا الإلهام والملاحظات، ولكن إلهامها مثقف وملاحظاتها دقيقة معززة بالمقارنات، فليست إذن بتقليد رأسي أو وقتي للطبيعة؛ إذ يهيمن عليها فن تتحكم فيه غالبا الأهواء، وقد تكون أحيانا من نتائج التصور المحض ولا يرجع سبب وجودها إلا لاستعمال اصطلاحي.
وبدراستها نهجر منطقة الفيزيولوجيا مع ظواهرها ونواميسها لندقق النظر في قوة نفسانية يصعب إظهار طريقة عملها لتغير نتائجها؛ ألا وهي ارتباط الفكر، وسيعيننا في هذا المقام الكلام البليغ على فهم اللغة الموسيقية.
إننا لا نعرف الشعور والفكرة إلا بطريقتين: دراسة تعبيرهما الفيزيولوجي ومعرفة الوجدان، ولكن التعبير الفيزيولوجي ما هو إلا نتيجة الانفعال وليس بالانفعال نفسه، والوجدان عمل بسيط وحيد لا يستطاع تمثيله أو تقليده.
إذن ما هي الفكرة والشعور باعتبارهما الذاتي؟ إننا لا نستطيع أن نعبر عن حقيقتهما وكل بيان لهما نراه مناقضا للآخر؛ لأنها أشياء غير مادية.
يأتي التصور لإغاثتنا في حالة عجزنا هذه بأن يجعلنا نسند إلى العواطف والفكر أشكال الأشياء المادية، وهذا الإسناد الإلهامي يحدث في الكلام الاعتيادي عدة صيغ تضطر في الازدياد والتكاثر لدرجة لا نهاية لها في الكلام الفني - الموسيقى.
ربما استغرب القارئ أو استهجن الأوصاف الآتية التي يسندها علماء البسيكولوجيا إلى الفكرة، ولكن الغاية تبرر الواسطة، وما هي إلا وسائل يستعان بها على فهم الفكر، فتراهم يعيرون الفكرة وزنا فيقولون: فكرة ثقيلة وخفيفة، ويعيرونها لونا فيقولون: فكرة قاتمة وسوداء وصافية، ويعيرونها أبعادا فيقولون: فكرة عريضة وضيقة ومرتفعة وعميقة وسميكة ... ويعيرونها خاصية المتانة فيقولون: فكرة متينة، وينسبون إليها مذاقا فيقولون: فكرة حلوة ومرة وتافهة، ويعيرون الشعور حرارة فيقولون: قلب بارد وحار.
وهذا الاتفاق الإلهامي ذو التأثير العظيم في لغات الأمم هو منبع الإنشاء الشعري، ولولاه لاقتصر الشعراء على تبيان أسباب العواطف ونتائجها، وأحجموا عن تصوير العواطف نفسها.
يستطيع «راسين» أن يظهر لنا نتائج حب «فيدر» وجميع الحوادث التي سببها، ولكنه حينما يريد أن يكشف الغطاء ويزيل الخفاء عن شعورها يستعمل هذه الصيغة: «أشعل الله في أحشائي نارا لا تبقي ولا تذر.» (راجع سيرة فيدر في بلاغة الغرب).
وإن تعدد الرموز المتناهي المستعملة في تمثيل الحب تكاد تضحكنا؛ إذ تظهر عجز الكتاب عن تعيين شيء غير مادي مثل قول «تييوفيل جوتييه» عن المراهقين بأن «نفوسهم كلون اللبن»، ولكن ذلك العجز ولو أنه لا يضر بالعمل الفني فإنه يوجد صعوبة ما يمكن للناظر أن يرى فيها أصل الأسلوب الشعري وحالته، ومن هنا تظهر خصيصة الكلام الذي يخاطبنا به وفضله في الابتداع وأهميته.
وحينما يجد الشاعر نفسه غير قادر على إظهار النفس يضطر لأن يبحث عن طرق غير رأسية وتشبيهات ليكشف عنها الحجب، فالصور هي سر الكلام وروحه.
فلنقارن بين شاعرين مثل «شكسبير» و«راسين» دون أن نرجع إلى البراهين النظرية، فكلا الشاعرين يعرف قلب الإنسان، ألم يك «شكسبير» أكثر شاعرية بالنسبة لغزارة الصيغ الطلية التي وجدها للتعبير عن عالم الخيال؟ وإن نزعنا الصور من «هوميروس» و«بيندار» و«إيشيل» فماذا يبقى؟ لا يبقى إلا رواة وأخلاقيون لا شعراء.
فالموسيقي يسير غالبا على النهج الذي يتبعه أهل الأدب، ولا يجري على أثره لينشئ استعارة ما وينمقها كما يقع ذلك لبعض المصورين الذين لا يجيدون، وإنه ليخضع لنفس ميول التصور ونزعاته في عمل مستقل في نفسه، ولو أن بينه وبين غيره صفات مشتركة به فهو أيضا يريد أن يعبر عن النفس لا عن ظواهرها الخارجية كالحفار والمصور والممثل بالإشارات والراقص بل عن النفس ذاتها، وحينما لا يستطيع التعبير عن شيء خفي غير مادي ولا محسوس لا صوت له ولا لون يعمد إلى معادلات اصطلاحية وتشبيهات ينشئها الإلهام بين الأشياء الحقيقية والفكرة، وفي بعض الأحيان لا يجد له مناصا من ذلك.
مثال ذلك: أنه إذا أراد أن يعبر عن عواطف بدلا من أن تكون ظاهرة وممثلة بالصوت والإشارة فإنها بالعكس لا نتيجة لها إلا السكوت والسكون وتأملات الفكر، فيجد الفتى نفسه مضطرا لأن يعير الطبيعة حركة وقت سكونها ولهجة عند بكمها، ووقتما تعوزه ملاحظات الكلام الطبيعي يركن إلى تصوره، ويفرض أن الحياة العقلية المبعدة في أعماق النفس تجسمت في أشكال محسوسة، وينشئ من موضوع بسيكولوجي محض موضوعا وصفيا يشمل الصور والألوان، والرموز التي تنتج هي من أهم المناظر التي لم تبين تماما في اللغة الموسيقية.
نريد الآن أن نأتي ببعض أمثلة للصور في الشعر وأخرى في الموسيقى لنعرف وجه تشابههما في التصوير.
نشاهد في رواية «فوست» أن عواطف الدكتور فوست وهو في غرفة عمله من هموم وأحزان وضعف عزيمة وشقاء نفس وآلام أدبية قد مثلت بصورة مستعارة من الألوان، إذ يقال عن شخص حل به السأم وزهد في الحياة: «ساورته فكر مظلمة.» كما قال «راسين» في رواية «بريتانيكوس»: «حزن مظلم.» وقال «شكسبير» عن لسان «كلوديوس» عم «هملت» حينما رآه كئيبا فريسة لآلام أذهلته: «ما لي أرى هذه السحب ما فتئت تحيط بك يا هملت.» وهذه الكلمة استعملها «بوسويه» في حديث فخم يخاطب به قبر «كونديه»: «هلموا سراعا يا عظماء الرجال، وأقبلي اليوم يا أنوار العالم وأنت متسربلة بآلامك كأنك مشتملة بالسحب.»
وقد قارن «ألفريد دوموسيه» في قصيدته «ليلة من تشرين الأول» ألما خفيفا بالضباب حيث قال:
أصبحت - والحمد لله - لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.
أصبحت - والحمد لله - لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.
ولكنه حينما يتملكه الشك وتتقاسمه الآلام العنيفة يصيح قائلا:
إنني أقعد وحيدا في ظلام فؤادي.
لنرجع الآن إلى الموسيقى فنتساءل: ماذا يصنع الموسيقيون حينما يريدون أن يعبروا عن عواطف السأم وضعف العزيمة؟
يستعملون الصور كالشعراء ويخصصون آلة «الكونترباس» أو «الفيولونسيل» للأنغام الضخمة، ففي «قصاص فوست الأخروي» تأليف الموسيقي «بيرليوز» نسمع الجملة المشهورة: «فوست في غرفة عمله» بأصوات مختنقة عميقة تعتبر كأنها صورة مماثلة للتعبير الشعري الذي ذكرناه في موضعه، ولا فرق بينهما إلا أن هذه الصورة الموسيقية أصبحت محققة بعد أن كانت خيالية في الشعر، فطريقة الموسيقي هي عين طريقة الشاعر، فيخاطب هذا الأخير العقل ولكن الموسيقي يمس الآذان، وصورة الشاعر ليست إلا إدراكا، وأما صورة الموسيقي فإنها إدراك محقق، فأحدهما يمنحنا فكرة الإحساس والآخر يعطينا الإحساس نفسه، فمبلغ القول إذن أن اللغة الموسيقية حقيقية ولغة أهل الأدب خيالية.
الموسيقى والحب
وضع «داروين» الحب قبل ظهور الإنسان وقال: إنه معروف من القدم بين الكائنات الحية التي نشأ وارتقى منها الإنسان؛ فتراه قد توخى الصدق والإخلاص وعدم التحيز والتبصر في التأكيد مما جعل كتابه منبع علم يستقي منه كل طالب، وكان هذا المؤرخ الطبيعي الإنجليزي رقيق الشعور بالنسبة إلى الفن يريد أن يحل هذه المعميات:
لم أحرزت الموسيقى قوة عظيمة في التأثير تثير ما كمن من العواطف؟ من أين أتت فضيلة هذه اللغة التي نشعر بتأثيرها الفتان دون أن نستطيع إدراك كنهها؟
يعتمد «داروين» في الجواب على هذه الأسئلة على القضايا الثلاثة الآتية: (1)
للموسيقى قوة في التعبير (وهذه الكلمة مستعملة في هذا الموضوع بمعناها العامي المتداول) محدودة؛ إذ لا تستطيع أن تعبر عن الخوف والبغض والذعر والغضب الحاد، ولكنها بالعكس تجيد في التعبير عن الحب وفرح الانتصار والظفر. (2)
يشاهد في فصل الإنتاج أن الحيوانات يسمع لها أصوات وغناء. (3)
يوجد بين الحيوان والإنسان انتقال وراثي.
هذه القضايا الثلاثة من طبيعتها أن تنير علم الجمال، فلو سلمنا أن الحيوانات في زمن النزوان تكون منقادة بعامل الحب والغيرة والتنافس والنصر، وأن السلف الغابر قبل تمدينه استعمل الأصوات والأوزان الموسيقية، وأن خاصية التأثير في الموسيقى الذي ينفذ إلى أعماق القلوب يكون مفهوما عند حد معلوم، فتكون الموسيقى بناء على مبدأ الارتباط الوراثي تجدد عندنا بطريقة مبهمة غير واضحة الانفعالات الشديدة التي كانت في العصور الخالية.
إذن كل ذلك يقرب من الحقيقة الغرض القائل بأن مظاهر أصوات الحيوانات التي سبقتنا لم تكن لغطا يبح الصوت، بل كانت نوعا من التخاطب مرتبطة بعواطف حب الغير وطريقة فتانة خلابة للشعور، إننا لا ننكر أن استعمال هذه الطريقة كان ولم يزل نتيجة مقبولة، ولكن في الحقيقة أننا إذا لم نسلم بأن الإناث لا تحفل بهذه الوسيلة ولا تنقاد للافتتان بالذكور لوجب علينا أن نعترف بأن الأعضاء المتعددة التي يحرزها الذكر غالبا ليصغى إليه لا فائدة فيها مطلقا، وهذا شيء مستحيل.
إن «داروين» يعترف بأن الذكور لا تترك وسيلة لمظاهر الزينة إلا استباحتها، فلا تقتصر على نشر ريشها المفوف المزدان بأبهى النقوش مثل الطير المسمى «باراديزييه» المعروف بطير الجنة والطاووس وغيره، بل يمنحها إلهام التناسل فنا فتغني.
يغرد العندليب بنغمات ملؤها الفن ليظفر بأليفته، ويعمد الطير المسمى «تيترا» - وهو نوع من الديوك البرية ضخم جدا يسكن غابات أوروبا - إلى إشارات أشبه «بالبانطوميم» مختلطة بغناء، إذ يقف على غصن واطئ، وينشر ريش عنقه الطويل، ويخفض جناحيه، وينكت الغصن برجليه، ويردد عينيه بشكل مضحك، ثم يصيح صياحا حادا أصم الصوت متقطعا بطيئا، فيزيد شيئا فشيئا في القوة والتنويع والسرعة حتى تصبح أصواتا تنبو عنها الأسماع وموسيقية في الوقت نفسه، ثم ينتهي بإقفال عينيه كثمل من الملذات.
فالحيوان الذي يظفر بأقرانه المنافسين يصبح مؤسسا لخلف أرقى وأعظم؛ لأنه بانتصاره قد أعدم من الوجود أفرادا دونه في المزايا والصفات، وحيث إن هذا الخلف خاضع لنفس هذا القتال والانتقاء، ثم يتحول بدوره شيئا فشيئا، وبمرور الزمن تنتج أنواع جديدة بهذه الوسيلة.
كم من معان متضمنة في غناء الطير! إذ جميع أمانيه ومستقبله طي أغانيه وصوته، فإن حرم من ورود حياض الهناءة والتمتع بأليفة يسكن إليها فذلك راجع إلى حرمانه من موهبة حسن الصوت وإتقان الغناء! فالإنسان أتى متمما لأعمال الحيوان الموسيقية وغيرها.
الألحان المشجية الفتانة التي جادت بها قرائح عظماء الموسيقيين ليست إلا إطالة في أحسن مظاهرها وتحقيقا لخيال عمل شخصي مرتبط بأقوى العواطف وأرقها في الهيئة الاجتماعية، فيفنى الإنسان وتحيا بعده عواطفه ممثلة على صفحات الأوراق، وبهذه الصفة تفسر أسرار الموسيقى وعواملها المؤثرة، فهي أسرار؛ لأنها مجردة اليوم من وظيفتها الأصلية، وأنها تمس أشياء اختارتها الزخارف ولغة خصصت من منشئها من قديم الأزل للحب، وأنها تؤثر في أعماق النفوس؛ لأنها تمس منا الإلهام الحيوي إلهام التكاثر والترقي، وتجدد فينا دون أن نشعر وبطريقة مبهمة خفية ارتباط الفكر بوراثة طويلة لا تحددها الأجيال.
إننا نستحسن من «داروين» فكرة اتحاد الحب والترقي وأنهما أمر واحد، فالفردان اللذان يبحثان عن بعضهما لا يكتفيان بالتكاثر واستمرار الحياة، بل يريدان أن يرقيا إلى ذروة الأماني والآمال، إذن لو وجد الترقي في الحقيقة وأنه سنة وناموس لوجب أن يرتبط بأصل الخليقة ومبدأ أولي يرتب تطورات الكائنات، فنرجع إذن بالتعبير الموسيقي إلى دور عظيم فخم! (1-4) ملاحظات على فكرة «داروين»
إن كان يزعم «داروين» أنه أتانا بنظرية عامة تامة للموسيقى فإننا نعارضه بجملة اعتراضات، إذ يستحق أن يؤاخذ بأنه أفرط في تسهيل مسألة هي في الحقيقة عقدة العقد حتى عدها في غاية البساطة.
إننا نرد عليه بأن غناء الطير ليس في الحقيقة موسيقيا ودليله أن كتابة غنائه من أصعب الصعوبات، ولا ننكر أنه إذا اجتمعت طيور مختلفة وغنت مع بعضها في آن واحد فإن أصواتها لا تمجها الآذان، ولكن الأصوات الإنسانية الصادرة في وقت واحد ولم ترتب باتفاق سابق تنبو عنها الآذان وتنفر منها، ويلزم الإنسان إذا كان يريد أن يميز لحنا في مظاهر أصوات بعض الحيوانات أن يكون موسيقيا ماهرا.
فلو سلمنا بالغرض الذي ينسب للغناء هذا التأثير، فلم انحرف الانتقال الوراثي وغير خطة سيره حتى أصبحنا نرى أن النساء أكثر استعدادا للغناء من الرجال، وهن اللاتي تحل أصواتهن محل الإعجاب لدى الرجال.
ولكن «داروين» لشدة تبصره وحكمته نسي حقيقة طبائع الأشياء التي تكلم عنها إذ أراد أن يضم الموسيقى إلى التاريخ الطبيعي، فتكلم عنها بإهمال وإجمال في فقرة من بعض كتبه، إذ أراد أن يفسر تأثير التخاطب بالأصوات، فلذلك يظهر أن جميع أفكاره اتجهت إلى البحث في الموسيقى من الوجهة الاجتماعية.
إننا لا ننكر على الطير صناعة الغناء بعدما ذكرها الشعراء القدماء، وقد قال الشاعر اللاتيني القديم «لوكريس»: «إن الإنسان كان يقلد الطيور قبل أن يتعلم الكلام.»
إن لأهل «كامتشاتكا» - وهي شبه جزيرة في سيبريا الشرقية على نهر يهرنج - لحنا يسمى «أناجيتش»، ومصدر اسمه وأصله راجع إلى اسم طير يسمى «أناس جلاسيالس» يظهر أسرابا أسرابا في بلدهم في زمن معلوم.
وقد كتب الموسيقي الفرنسي أو البلجيكي «كليمان جانوكان» من القرن السادس عشر قطعة موسيقية وصفية سماها «صوت الطير»، وقلد «هايدن» قوقأة الدجاج في الرباعية العشرين من قطعه الموسيقية، كما عمل مثله «موزار» و«روسيني»، ولم يستنكف «بيتهوفن» أن يقلد صوت الطير المسمى «كوكو» في قطعته المسماة «السانفوني الخلوية».
إننا أثبتنا أمرا أوليا اجتماعيا وهو التقليد المستعمل من نشأة الموسيقى، فهل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هذا التقليد سببه وأساسه عاطفة لا تغلب ولا تقاوم ألا وهي حب الغير؟ نعم، ولكنه بتغيير قليل ندخله في فكرة «داروين». (1)
لو كان الغناء وسيلة للظفر ويتسنى بها من هذه الوجهة ترقي الجنس لوجب أن توجد موافقة وتوازن بين ترقي الغناء وترتيب درجات الكائنات الحية، فلم لا يكون القرد أمهر في الموسيقى من العندليب، ونشاهد أن مظاهر أصوات فصيلة البهائم ذات الأثداء ليست إلا لغطا ينشأ من ظاهرتين بسيطتين وهما: الشهيق والزفير، فلا يكفي القرد أن يبعث صياحا شديدا ليقال إنه موسيقي. (2)
ولو كانت لغة للحب انتقلت بالوراثة والتطور وأنشأت الموسيقى لوجب على الأمم الأولى أن تعترف باستمرار الارتقاء وكنا نعلم ذلك من صفات فنهم، ووجب أن توجد بينهم موسيقى تمليها العواطف والتعبير والرقة قريبة من الطبيعة وخاضعة مباشرة للوراثة، ولكنها ليست كما نظن ونفرض.
وقد روى المسيو «جروس» مشاهدة عيان رآها البرنس «دوفييد»، إذ قال عن «البوتوكودو» وهي أمة من متوحشي أمريكا الجنوبية منتشرة في غابات البريزيل: «إن غناء الرجال أشبه بصياح غير مميز يهتز بين صوتين أو ثلاثة ويكون آونة مرتفعا وأخرى عميقا، ويتنفسون بقوة، ويضعون ذراعهم اليسرى على رأسهم، وأحيانا يضعون أصابعهم في آذانهم لا سيما إذا كان عندهم ناس، ويفتحون فمهم إلى آخره الذي شوهه «البوتوك» - وهي قطعة مستديرة من الخشب يركبونها فوق شفتهم السفلى بعد ثقبها، وتعد عندهم من أعظم الحلي والزينة - ولا نظن أن شخصا ما يرى عند هذه الأمة شيئا يعجبه أو يفتنه من الفن!
إن المتوحشين لا يعرفون غير التناسل، وقد قال المسيو «لوبوك»: «إن هنود أمريكا الشمالية الذين يتكلمون لغة «التينيه» لا توجد في لغتهم كلمة تعبر عن لفظ «عزيز أو محبوب»، كما أنه لا توجد في لغة «الألجونكان» - وهم من هنود أمريكا وقاطنون على مقربة من بحيرة ميشيجان - كلمة تفيد «الحب».»
نعم، إن أغاني المتوحشين تدور عادة حول الصيد والحرب والنساء، ولكن يندر جدا أن يسند إليهم غناء الحب.
ولا يوجد عند «الأوزاج» - هنود أواسط الولايات المتحدة - حتى عند «الشيروكيس» - وهي أمة من هنود الولايات المتحدة مشهورة بالذكاء حتى أصبحت اليوم في غاية من المدنية - تعبير واحد موسيقي أو شعري مبني على عاطفة حنو بين الجنسين، ولم تسمع منهم أغان للحب.»
وكذلك لا يوجد لحن واحد للحب عند المتوحشين من «الأوستراليين» و«المينكوبيس» - وهي أمة من السود منتشرة في جزيرة أندمان بأرخبيل بنغال.
وقال المسيو «رينك»: إن أمة «الإسكيمو» - الذين يسكنون حول القطب الشمالي - يكادون لا يعرفون عاطفة الحب. (3)
إذا كان منشأ الموسيقى صادرا من الإلهام التناسلي فلم نرى أن من الوظائف الأولية التي لها السبق في الموسيقى عند جميع الأمم تنحصر في الدينية منها؟ من أين أتت الأغاني الحربية وهي مضادة للحب؟ كيف يتأتى أن «الأوستراليين» وكثير غيرهم يغنون في معظم الأحيان حينما يكونون منفردين.
وحيث إن الإلهام التناسلي عام فلم نشاهد أن بعض الأمم «كالألمان» أمهر في الموسيقى من أمم أخرى من عنصرهم وأقربائهم «كالإنكليز»؟
يعتبر الألمان ملوكا للموسيقى حيث أنتجوا فحولها مثل: باخ وهندل وبيتهوفن وفيبر وموزار وشومان وغيرهم.
يصعب علينا أن نقبل نظرية «داروين» كما هي على علاتها، فإن هذا المؤرخ الطبيعي العظيم يريد أن يوجد سلسلة مستمرة تربط موسيقى الأناسي المتمدينين بمظاهر الغريزة التناسلية عند الحيوانات الدنيئة، ولكن توجد كما رأينا عدة حلقات تنقص هذه السلسلة وتظهر باختيارنا ما سبق عن الأمم المتوحشة، وبتغيير خفيف لا يزيد عن تأخير حد يكفي لأن يصير هذا المذهب مقبولا.
ومبلغ القول أن «داروين» لا يبتعد كثيرا عن علماء ما وراء المادة الألمانيين الذين يسندون إلى الموسيقى امتياز التعبير الأساسي عن أعماق نفوسنا، وما أساس كياننا غير الحياة والرغبة في إطالتها وتخليدها وإبلاغها إلى منتهى الكمال والسعادة.
تكلم المسيو «كلوديوس مادورول» في كتابه «سياحة في غينا» عن الزنوج وشدة شغفهم بالملذات والشهوات التي يؤسسون عليها موسيقاهم ورقصهم، فقال:
لا تلبث الشمس أن تغيب عن العيون إلا وترى أفريقية بأجمعها قد تحولت إلى أعياد تنطلق في أرجائها أصوات الطبول.
وهذا أشبه بالحفلات الموسيقية ذات الأوزان الغريبة التي تصدع الرءوس، وتنبعث في المساء عقب قيظ شديد من أنعام مختلفة سائمة في الحقول، وهذه الموسيقى الفخمة الوحشية لها معنى عظيم؛ إذ بالإصغاء إليها يفهم الإنسان شيئا من روح الطبيعة.
حينما يخيم الظلام ترى الناس غير قادرين على مغالبة رغبتهم في منح الحياة أبهى مظاهرها وإعادتها في أشكال جديدة أعظم وأجمل من سابقها، وما هذه الرغبة إلا الحب؛ إذ منه ينبعث هذا الصوت الفخم الجهوري الرنان صوت الكائنات الحية التي تريد الرقي وتدعوه.
موسيقانا أشبه بموسيقى الزنوج ولا مشاحة في أنها أعظم رقيا وتهذيبا، ولكنها تعبر بصيغ واضحة جلية عن ملذاتنا المتأصلة في أعماق نفوسنا، إنها تجمع وتطهر وترفع دعوة الجنسين لبعضهما، فتراهم في ليالي الصيف منتشرين في الخلوات كنسيج من الفتن والملذات، فيجد الحب بينهم مقاما أرفع منه في الشعر الخيالي.
وعلى هذا النمط سار نوابغ الموسيقيين؛ إذ كانوا مولعين بالحب، ومعظم تأثرات وانفعالات السامعين كانت من أصداء عواطفهم الأخيرة. (1-5) الموسيقى والسحر
السحر هو مجموع تمرينات يعتقد الإنسان أنه بواسطتها يجعل الطبيعة والأرواح التي تعمرها خاضعة لإرادته، يعترف الدين والسحر بالأرواح، ولكن علاقة الإنسان بالأرواح ليست واحدة في الدين والسحر؛ ففي الدين يبتهل الإنسان إلى رب قادر ويسأله بخشوع وتوسل عنايته الربانية ورحمته التي وسعت كل شيء، ولكنها تختلف في السحر؛ لأن الساحر لا يضرع ولا يرجو بل يأمر وينهى، إذن فالأعمال الدينية تستقي نفوذها الفعال من العواطف والنيات وهما شعار الدين، وفي السحر يعمل الساحر حسب مقتضيات قوانين مخصوصة دون أن تكون لعواطفه ونياته تأثير في أعماله، وهذه القوانين لا يستطيع الإنسان أن يقاومها أو يبطل مفعولها إلا إذا كان ساحرا.
وقد وصف الشاعر اليوناني القديم «أوريبيد» في إحدى رواياته المحزنة الفن الذي يجعل الآلهة تتكلم رغما عنها بواسطة عزائم معينة، وهو عبارة عن السحر في الأزمان التي وجدت فيها الآلهة الميتولوجية، وهذا الفن كان يقهر هذه الآلهة حينما يكون مضادا لإرادتهم الدينية.
نرى أن كتاب النصرانية يميزون بين المعجزات الحقيقية التي تحدث بفضل الدين وبين مثيلاتها التي تنال بالتعزيم، ولو أنهم يحرمون الأخيرة لكنهم يعتقدون بجواز حصولها.
وللسحر مذهبان: أحدهما يدوي يتركب من أشكال هندسية وصور وإحراق أشياء مختلفة كالبخور وغيره، والثاني شفهي.
يستدعي المذهب اليدوي الصناعة، فهو إذن متأخر عن الشفهي؛ لأن الصوت آلة جعلتها الطبيعية طوع الإنسان، ولا يستلزم استخدامها شيئا سوى الغريزة، وهذا مما يثبت أن المذهب الشفهي أقدم من اليدوي.
ابتدءوا في السحر الشفهي بالغناء ومرت صيغه بوجوه التطورات الآتية: لحنوها ثم رووها ثم كتبوها وحملوها في بعض الأحوال كالتمائم.
وقد اعتبر الصوت أشد تأثيرا ونفوذا من أشربة العشق حتى في الزمن الذي انتشر وتقدم فيه السحر اليدوي، وقد عرف الناس واشتهر بينهم أن المذهب اليدوي كان دائما في حاجة للاستعانة بالصيغ الشفهية.
الغناء السحري
يوصف الغناء السحري عند القدماء بالمسائل الآتية: (1)
نظامه الذاتي: فهو متقدم عن كل القوانين الموسيقية المنتظمة، وخاضع لقوانين عامة هامة في مادة السحر ألا وهي التقليد، والغناء السحري بعيد عن أن يطرق فن الجمال؛ لأنه لم يعمل للسماع، بل هو موجه لفرد واحد غير مرئي، يتأثر لأقل شيء من الأعمال السحرية، ويغني الساحر للروح وحده الذي يريد أن يهيمن عليه.
لا نجد في الغناء السحري ما نسميه بالنظريات الموسيقية، ولكنه مزود بجميع ما يلزمه وينشئ كيانه من أصول فن السحر. (2)
من وجهة ارتباطه بأقوال تكون عادة غير مفهومة لدينا ولا يفهمها المغنون أنفسهم. (3)
عمله ودائرته التي تتناولها أبحاثه، وهو قديم في تاريخ المدنية الإنسانية، وله أهمية عظمى؛ لأنه كان أمرا عاما يظهر في أغلب الأوقات في أدوار الحياة العملية. (4)
من الوجهة الاجتماعية، نرى للغناء السحري ارتباطا معينا بالحياة الاجتماعية عند القدماء، والمثال الآتي يوضح لنا ذلك جليا.
إن قبائل «أوماها» قوم من هنود الولايات المتحدة يسكنون مقاطعة نبراسكا، وكانوا في الزمن الغابر مشهورين بالصيد ولكنهم أصبحوا في حالة طيبة من المدنية، وتركوا عاداتهم وعقائدهم القديمة حتى صاروا الآن من أعظم العاملين في الزراعة، يكثر في بلادهم الجاموس، وصيد هذا الجنس خاضع لوقائع مختلفة ويمكث زمنا طويلا، وهو مرتب باستعمالات محدودة وإلزامية لكل فرد، وكل مخالفة تصدر منهم تدخل تحت طائلة العقاب الشديد، تخرج القبيلة من قريتها بقيادة رئيس ينتخب في حفلة عظيمة، وهذا الرئيس في الوقت نفسه صياد ماهر وكاهن مغن وساحر عظيم، يحمل كل تبعة؛ إذ هو المنوط بإدارة حركة الصيد واختيار أعظم الأمكنة التي يعسكر فيها جنده، والتنبؤ بمكان الصيد وإحضار الطعام، ويجيب عن كل ما سيحصل من تقلبات الأيام وهجوم الأعداء والمشاجرات وغيرها. (1-6) المطر وصفاء الجو «الغناء السحري عند المكسيكيين»
تهطل في هذه البلاد الحارة ذات الشمس المحرقة الأمطار الغزيرة؛ لأن جبالها «سييرا مادرا الغربية» تبلغ 2069 مترا فوق سطح الماء، والتبخر عندهم سريع، كما أن الأرض متخلخلة لا تحفظ الماء طويلا؛ فلذلك تراهم مهددين بالجدب إذا أمسك عنهم الغيث في المدة المنحصرة بين شهري يونيه وأكتوبر.
غذاء هذه الأمة مترتب على نجاح زراعتها، فهم يفضلون ماء السماء على الذهب والفضة، يعتقدون أن المتصرف في المطر إله يكون تارة جوادا وطورا بخيلا، ولا وسيلة لهم لقهر هذا الإله إلا بالغناء السحري.
انتشر في المكسيك في الجهات الممتدة بين حوض «لاكوستر» الذي توجد في وسطه «مكسيكو» وفي الوجهة الشرقية على مقربة من البحر، والقبلية بالقرب من برزخ «تهويانتيبيك» المذهب القائل بوجود آلهة المطر المسماة «تلالوك»؛ أي آلهة الظواهر الجوية الذين يجودون بالغيث، ويوجد في الحدود الشرقية قبيلة منهم تسمى «نونوالكاس» وهو اسم من أسماء آلهة المطر القدماء «نونوالكالت».
وقد عثر على صورة تمثل «تلالوك» وهو قابض على صولجان من الخشب به السحب، وعلى صدره إناء يعتبر أنه يحوي المطر، وهو مصور باللون الأخضر وله أخت أو زوجة «تسمى الإزار الزمردي».
الاستغاثة بآلهة الأمطار بواسطة الغناء السحري متقدم على الضحايا الفاجعة التي كانت تقترف عدة مرات في السنة؛ إذ كانوا يذبحون عددا عظيما من الأطفال في جهات مختلفة على قمم الجبال تشريفا لإله المطر ليمنحهم وابلا مدرارا، كان الذين تدور عليهم الدائرة ويخونهم الحظ المنكود من هؤلاء الأطفال الأبرياء يزينون بفاخر الثياب ويحملون على الأكتاف في أسرة محلاة بأبهى الريش وأجمل الأزهار، يتقدمهم موكب عظيم جمع بين الغناء والرقص والعزف بالآلات الموسيقية.
ولقبائل «الزونيس» رقص عظيم للمطر يعتبرونه من أقدم عقائدهم وعاداتهم، وهو متدوال بين كافة طبقاتهم ومصحوب بغناء يحدث في حفلة شائقة تقام بكل اعتناء لنوال الأمطار، وهاك ترتيب القسم الموسيقي للحفلة:
تضرم أولا النيران على الصخور وذرى الآكام المجاورة، ويستمر إشعالها إلى أن تتقبل صلاتهم، ودليل ذلك نزول وابل هتان، وللمطر كاهن يخاطبه بخشب خاص يحدث عند إحراقه دخانا كثيفا يحلق في السماء كالسحب.
ثم يرتل العزائم والأغاني السحرية الفتيان الشجعان والعذارى اللاتي يلبين دعوة الكهان وينشدن بحمية وحماسة، وهن لابسات حللا بيضاء حاملات ألواحا نقشت عليها من جهة سحب مربدة، ومن الأخرى صورة البرق.
يستمر الرقص والغناء ليلا ونهارا بصبر لا يستطيع العقل تصوره، والجميع مرتسم على وجوههم الوثوق بنجاح أعمالهم، وتتركب الحفلة الموسيقية من الأقسام الآتية: (1)
طبول تؤذن برقص المطر. (2)
يأمر كاهن المطر الفتيات بافتتاح الرقص (غناء). (3)
يدعو الجميع المطر (لحن). (4)
إشارة بالسكوت. (5)
يضرب على صفائح رنانة تمثل صوت الرعد. (6)
غناء العذارى للاستغاثة بإله المطر. (7)
نشيد الحمد والثناء عقب سقوط المطر. (1-7) الاستسقاء عند الفراعنة
اشتهرت بلاد الفراعنة من غابر الأزمان بخصبها وتقدمها في الزراعة، وكان الملك مسئولا عن فصول السنة، ويعتقدون أنه قادر على منح المطر ومنعه؛ لأنه كان في الوقت نفسه كاهنا وهب قوة الصوت ونفوذه السحري.
وأقدم دليل على ذلك نشيد النيل وهو أشبه بغناء سحري للاستسقاء، وقد لاحظ الناس الذين ابتدءوا بعمار هذا القطر عدة ظواهر للنيل، إذ يرون أمامهم نهرا يجهلون منبعه ويظنون أنه يخرج من حفرتين لا يعلم لهما قرار بين جزيرتي «الفيلة وإيليفانتين»، يتغير لون هذا النهر عدة مرات في السنة، فحينما تحترق الزروع من الرياح الحارة برمال الصحاري في شهر يونيه يكون لونه أزرق رائقا، ووقتما يزيد ويحمل بقايا النباتات المتخلفة من مستنقعات بحر الغزال يخضر لونه، «ويعتقدون أن هذا الماء الأخضر هو عبرات المعبودة إيزيس تبكي قرينها»، ثم يستمر في الزيادة ويتلون ماؤه بالحمرة كأنه دم قانئ فيغمر الشواطئ، ويترك فيها قبل أن يبارحها مقدارا عظيما من الطمي يخصبها ويجدد قواها.
تدل ترجمة المسيو «ماسبيرو » لنشيد النيل أن هذا النشيد مثال من النظم الشائق المختلط بالعزائم السحرية، ونذكر فقرته العاشرة لنقف على نموذج من أغانيهم:
الفقرة العاشرة لنشيد النيل: «يرتفع لأجلك نشيد الأعياد موقعا على «الهارب» ومسندا بالأيدي، يحبذك فتيانك وأطفالك، يعدون لك صفوف أولادهم الطويلة، أنت أفخم زينة للأرض، اجعل سفينتك تتقدم أمام أعين الناس، امنح الحبالى قوة عظيمة، أحبب نمو قطعان أنعامك.» (1-8) الأغاني السحرية والحب
كان للفتنة فن شهي يعد من العلوم القديمة، وهو مؤسس على أصول وقواعد واضحة قبل أن يصبح أمرا متداولا لأهواء زينة الحياة والابتداع الإنساني.
لم يكن هذا العلم مستعملا لمحض الزينة، بل كان يرمي لغرض حقيقي، وهو على نوعين؛ أحدهما موسيقى، والثاني كلام موزون، ولكن هذا الشكل الأخير صادر من الأول، وما الشعر في الحقيقة إلا موسيقى يعوزها جزء من أصولها.
وقد ترجم المسيو «ماسبيرو» أغاني للحب وجدت في البردي المحفوظ في «تورينو» بإيطاليا و«هاريس» بإنجلترا، وهي أشبه بنشيد الإنشاد - باب في التوراة - والبعض منها أشبه بعزائم سحرية، والمثال الآتي يدلنا عل شكلها: «أيها الحبيب الجميل! مناي أن أهيمن على محاسنك وشيمك بما لي من نفوذ الحليلة بأن نتريض سويا كما تريد وتهوى وأنت ممسك بذراعي، لأذكر وقتئذ توسلاتي لفؤادي الذي أصبح مندمجا في أحشائك، إن غاب عني حبيبي طول ليلي ولم يأت أكون بمثابة من ووريت في لحدها! ألم تكن أنت الصحة والحياة؟ أنت الذي تنعش بالصحة والمسرات فؤادي الذي ينشدك؟» - كثيرا ما يصادف المسيو ماسبيرو عقبات في الترجمة ككلمات باللسان الهيراطيقي المكتوب بعضه بأحرف يونانية قديمة أو محو في الكتابة أو تمزيق في البردي يذهب ببعض الكلمات، وغير ذلك، مما يجعل الترجمة في بعض الأحيان غامضة. (1-9) أغاني الحب عند هنود أمريكا
يشعر هنود أمريكا المتوحشون بنفس عواطف المتمدينين، فيعبرون عنها تعبيرا ناقصا لكنه مناسب قليلا، وإنا ذاكرون بعضا منها لقبائل «أوماها».
يقتصر الهندي على مقابلة أقارب أمه وأبيه ونفر قليل غيرهم، وحيث إن زواج أقارب الأبوين محرم عندهم فالبنت لا يسعدها الحظ بالعثور على زوج ممن حولها، فيلزم إذن أن ترتبط علاقات الحب سرا بطرق غريبة خارجة عن دائرة الأسرة.
وحينما يصادف الشاب الفتاة وهي ذاهبة لطلب الماء يراقب رجوعها ليعرف خيمتها، ويتربص في مكان غير بعيد ليتسنى للفتاة أن تسمع غناءه ليلفتها إليه ويحوز إعجابها.
تسمع الفتاة الصوت دون أن ترى المغني، وتجهد نفسها في معرفة صاحبه وتقول: «من المغني؟» وهذا السؤال هو نتيجة اللحن وفائدته، يعقب ذلك مناجاة الحبيبين مدة ليست بالقصيرة، وينتهي الأمر باختطاف أو زواج أو مغازلة طويلة.
وتدل بعض أغانيهم على شكوى الفتاة من بعد حبيبها الذي لا تفكر إلا فيه وتود أن يكون قريبا منها.
والغناء الآتي الصادر من هندي أميركي إلى حبيبته يدل على النفوذ السحري للصوت متحدا مع تأثير سحري لشيء مادي: «اصغي إلى صوت مزماري يا عين الحمامة (اسم الفتاة)، اصغي إلى ألحاني فهذا صوتي، لا تدعي للاحمرار إليك سبيلا فإني عالم بأفكارك، إنني أحمل مجني السحري فلا تستطيعين الفرار، إنني أجذب فؤادك إلي ولو كنت في جزيرة بعيدة عما وراء البحيرات العظيمة ... لا تهربي مني فأذهب في طلبك ولو إلى السحاب، معالجتي عظيمة وهي طوع بناني، إذ بها أجذب النماء سواء أكان في الأرض أو في السماء، الروح الأعظم خاضع لأمري يا خطيبتي.» (1-10) لم وجدت العزائم السحرية للحب؟
نريد أن نبين بعض مسائل عامة تساعدنا على فهم استعمال آخر للعزائم السحرية في أعمال العواطف.
اعتاد القدماء أن يعتقدوا أن جميع الظاهرات والحوادث مهما كان نوعها من أعمال أرواح خفية، والحب معدود أيضا ضمن دائرة نفوذ هذه الأرواح، وكان الذين يصبحون هدفا لسهام الحب يشعرون بتأثر قوي أو عنيف يداهمهم على حين غفلة ويغير حالتهم الخلقية، فالإنسان الذي يحس لأول وهلة بهذا التحول المبهم الذي يحدث له اضطرابا ويعكر صفوه يظن نفسه مملوكا لغيره، وأنه أصبح تحت مشيئة روح استحوذ عليه.
كانت العواطف التي يشعر بها هؤلاء المحبون شديدة معروفة بين الناس، وقد بلغ منهم أن صوروا هذه الأرواح وجعلوا منها آلهة شديدي الحول والقوة يخشى جانبهم، وأنشئوا لهم القصص الخرافية، وجعلوا لها مكانا رفيعا في «الميتولوجيا».
كانوا يعدون الحب قوة لا تغالب تسيطر على الإنسان وجميع الكائنات الحية، سواء أكانت في البر أو في البحر فتقربها وتجمع بينها، وقد فخم الفلاسفة والشعراء الأقدمون الحب وأظهروا قوته التي لا تقهر مثل: أفلاطون و«أوريبيد».
قد علمنا أن العزائم السحرية لها نفوذ عظيم على القوى غير المرئية المختفية حول الإنسان والمستترة في الظاهرات الطبيعية، وحيث يوجد روح للحب صار بعد إلها، فللعزائم والصلوات المرتلة والشعر المعبر عن العواطف دور مهم في علاقات الإنسان مع هذا الروح أو الإله القوي.
وقد عد القدماء الحب المبرح من الآلام وحينما تكون العواطف شديدة غير منتظمة ولا خاضعة لمراقبة العقل أو الضمير يحدث في الحياة الباطنة اضطراب أشبه بعواصف الحياة الظاهرة، وينتج عوارض مرضية تختص دراستها بالأطباء؛ كاضطراب التنفس والدورة الدموية، واختلال نظام الأعضاء.
وكان عندهم عزائم خاصة بشفاء الأمراض وتسكين غضب أرواح الحب، وأعظم دليل لإثبات ما ذكرناه فقرتان من صفوة ما تركه لنا الأقدمون من رائع البلاغة وساحر البيان؛ ألا وهي رواية «إيبوليت» التي رفعت شأن مؤلفها الشاعر اليوناني القديم «أوريبيد».
نشيد: فنيت «فيدر» على فراش الآلام، واعتكفت في قصرها مختمرة بخمار شفوف يستر منها رأسا ازدان بشعرها العسجدي، مر عليها ثلاثة أيام لم تذق فيها طعاما، أصيبت بألم خفي فأرادت أن تجعل لحظها المنكود حدا.
أيتها المرأة الرافلة في برد شبابها! إن أحد الآلهة يطاردك وربما كان «بان أو هيكات أو كوربيانت أو سيبيل» الضال في الجبال وهو غائب الرشد.
ليت شعري هل أصابك ما أصابك من جراء إهانتك لأرطميس «إلهة الصيد»، أو خطأ ارتكبته في إتمام شعائر القربان؟ إنها تطوف بأطراف الأرض وتخوض البحار فلا يفلت أحد من ملكها.
نشيد آخر: أمور يا إله الحب! أنت الذي يسكب من عينيه سم الرغائب والملذات في القلوب التي تطاردها، لا تكن لي معاديا ولا تجعلني هدفا لسهام غضبك، ليست النيران الملتهمة ولا الحراب التي ترميها الكواكب بأشد هولا وإزعاجا من حراب الزهرة «ربة الحب» التي تقذفها أيدي «أمور» ابن «جوبيتير».
عبثا يضحي اليونان مئات الثيران «لجوبيتير» على شواطئ «الفيه» و«لابلون» في محارب دلف.
إن كنا نهمل عبادة «أمور» الظالم الغشوم حارس ملذات «الزهرة» والمتسبب في فناء من كتب عليهم الموت فليهو بهم حينما ينقض عليهم إلى دركات المصائب والإحن. (2) الأغاني السحرية والطب (2-1) مداواة لدغ الثعابين بواسطتها
إن أقدم أثر يعتمد عليه تاريخ الموسيقى هو الكتابات المنقوشة على هرم مصري بسقارة أنشئ قبل الميلاد بآلاف من السنين.
يحتوي هذا الهرم على رمس الملك «أوناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة، وقد اكتشفه المسيو «ماسبيرو» في شهر فبراير سنة 1881.
إن الغرفة المودع بها تابوت هذا الملك مغطاة حيطانها بصيغ معظمها سحرية والبعض منها دينية، بفضلها يكون الميت آمنا مطمئنا، ويستطيع أن يتم ما قدر له من الحياة الجديدة.
يرى المتأمل في هذه الكتابات أنها بليغة وأسلوبها أشبه بالقصائد، ولكنها لم تعمل للسماع ولا للجمهور، بل هي مركبة من صيغ تعمل وحدها من نفسها بما لها من الخواص والتأثيرات.
لننظر في قطعة من هذه الصيغ دون أن نشتغل بالآثار الموسيقية التي يتسنى لنا استنباطها منها، وهي تدل على ما يتمنونه وينتظرونه للملك «أوناس» ومضمونها أنه لم يمت، إذ يقرأ منها هذه الجملة: أيها الملك أوناس! يد شخصك الثاني أمامك، يد شخصك الثاني خلفك، رجل شخصك الثاني أمامك، رجل شخصك الثاني خلفك ... إنك موجود، صولجانك «آب» بيدك، إنك تصدر أوامرك للأحياء، ومن تواروا في مساكنهم الخفية ... إنك تطهر بماء الكواكب الزلال ثم تنزل على حبال من حديد ... تحبذك الأرواح النورانية ... إلخ. ثم يمر ذكر عدة آلهة ويقول لكل منهم: إذا كان وجودك حقا ليس بوهم فكذلك وجود «أوناس» أمر حقيقي، إذا كان ابنك «هور» حيا «فأوناس» مثله ... إلخ. تفتح أبواب الأفق وتهشم مزاليجها، ها هو مقبل نحوك يا «نيت» قد أمك يا «نوازيريت» ... إلخ.
تجد من مميزات هذه العزائم أنها أشبه بدفاع للموت والفناء تلبسه روح بليغة من الشعر، ولكنها في الحقيقة مخالفة للشعر من بعض الوجوه؛ لأنها لم تعمل لتلفت إليها أحدا حتى الميت نفسه، إذ تخاطب بها بعض الأحيان الآلهة وهي مختفية طي حصن حصين، ولا قيمة لها إلا أنها ظاهرة يعتبر مفعولها غير خاضع لأي إرادة إنسانية، وهذا هو خاصية السحر.
وقد بين المسيو «ماسبيرو» أن هذه الكتابات مركبة من آيات، وكل جملة منها تشمل الأنواع الآتية: (1) دعاء. (2) صيغة تسد مسد عمل حقيقي. (3) تتمة لهذه الصيغة.
لم يقتصر الملك (أوناس) بعد موته على أن أصبح متمتعا بحياة جديدة بل صار إلها، ولذلك وجب أن يزود وتقدم له الهدايا، والكتابة تدل دلالة صريحة على كيفية تقديم الهدايا من فطير ولبن وزبد وجعة سوداء مصحوبة بالعزائم التي كانت تعمل معها، وكذلك العطور والبخور الذي يحرق عند الحاجة مع بيان الإشارات التي كانت تعمل وقتئذ.
وأهم ملاحظة تلفت النظر في غرفة الملك «أوناس» هي السطور المنقوشة فوق تابوته، وهي حاوية لصيغ سحرية تصلح لوقاية الميت من لدغ الثعابين التي تعترضه في رحلته إلى الإله «أوزيريس» حامي الموتى.
يعتقد قدماء المصريين أن الحياة الآخرة أشبه بالحياة الدنيا معمورة بنفس حيواناتها وهوامها، فيستعملون للموتى ذات الصيغ التي كانوا يستعملونها لوقاية أحيائهم من لدغ الثعابين وينقشونها فوق توابيتهم. (2-2) الأمراض عند العائشين على الفطرة
زار سائح في أوائل القرن التاسع عشر جزائر المحيط الأعظم فقال عنهم: «إنهم يعتقدون أن الموت هو الذي يحصل من إصابة تسبب الوفاة كموت الحروب.»
ليست الفكرة القائلة بأن الموت من قوانين الحياة معروفة عند القدماء؛ لأن الإنسان حسب عقيدتهم لو مزقته الضواري إربا إربا أو اخترقت جسمه السهام فلا يكون ذلك شيئا غريبا أو خفيا؛ لأن سببه ظاهر للعيان، ولكنهم يعدون الموت من العلل والآفات أمرا من خوارق العادات ويعزونه إلى الأرواح الشريرة، فإن شكا أحد من صداع أو مرض في الأمعاء أو غيره قالوا: قد لبسه جني، فمداواة هؤلاء المرضى ليست إلا طرد هذه الأرواح المتسلطة عليهم.
يبدءون بمداواة مرضاهم بالعزائم السحرية ثم يصحبونها بالعمليات الجراحية والمعالجات الطبية الأولية، وهم معتقدون أن الفضل في تأثيرها راجع إلى الأغاني السحرية.
حينما يدعى الكاهن الوثني في الكونغو لطرد روح خبيث استحوذ على زنجي يقيم للمريض حفلة غناء ورقص أمام كوخه، وتمكث يومين فيهرع إليها الناس من كل فج عميق ليشاهدوا الساحر الذي يسمونه بلغتهم «ماكنجا»، يعزف العازفون بآلاتهم الموسيقية ويغني الحاضرون أناشيد تصحب الموسيقى ولا يترنم الساحر إلا بمطلع النشيد، ويستمر كل دور نحو ساعتين فلا ينتهي إلا حينما تنفد قوى الراقص الذي يمثل في رقصه الحروب، فتراه محمر العينين كأنه ثمل من شدة الوغى، بيده رمح يمثل به هجوم ودفاع خصمين، وينتهي الأمر بأن يتخيل أنه ظفر بعدوه فينشد أناشيد النصر، وتكون الموسيقى وقت هذه الحرب التمثيلية بطيئة أو سريعة على نغمة واحدة أو متنوعة، وذلك وفق حركات الراقص الممثل.
والطريقة المتبعة لغاية يومنا هذا عند الإسكيمو هي المعالجة بالعزائم السحرية. (2-3) الأغاني السحرية والطب عند الهنود
أنشأ أحد الهنود الرحالين المسمى «هوفمان» رحلة يدور بحثه فيها على غرائب قبيلة «أوجيباوا» وهي من أشهر القبائل الهندية المنتشرة بين مقاطعتي «أونتاريووريد ريفيراوف ذي نورث»، وقد صور صورة تمثل رجلا من الذين يعالجون بواسطة الأعشاب، متربعا في كوخه يجهز خليطا من الأعشاب يحركه بيمناه في مرجل واليسرى ممسكة شيئا أشبه باللعبة التي تحدث صوتا من لسانها المعترض أمام أسنان ترسها.
يغني هذا الرجل وهو يحضر دواءه معتقدا أن الغناء يصير طعم هذه العقاقير رديئا فيستبشعه الشيطان المستحوذ على المريض.
بين هؤلاء الهنود جماعة تسمى «مديووبن» - ولعلها محرفة من كلمة مداوين جمع مداو - ويسميهم السياح «الجماعة الكبرى الطبية»، تتركب هذه الفئة من «الشامنس» وهم في الوقت نفسه أطباء يعالجون بالسحر وكهنة وعرافون وأنبياء وأساتذة للموسيقى.
وهذه الجماعة مجهولة الأصل وهي في حماية الآلهة ورعايتهم، ولا تعهد الأسرار للمريد الحديث إلا شيئا فشيئا.
ليس الهندي المعدود عندهم كفؤا لشفاء المريض قاصرا على مهنة المعالجة بالأعشاب؛ بل هو مغن ذو صوت حائز لنفوذ عظيم، أقر بأذنيه تابع لموسيقاه، بل يستخرج خواصه الفعالة من الموسيقى.
وحينما يتعلم التلميذ الجديد التعاليم الأولية يلقنه أستاذه بعض أغان وأناشيد تكون لتجارته أول مورد للارتزاق، وهذه الأغاني مؤثرة لحد معلوم، ولا يقتصر التلميذ على بعض أغان محفوظة بل يتدرب على إنشاء أناشيده الخاصة.
وقد ذكرت ميس «فليتشر» في أبحاثها في موسيقى قبيلة «أوماها» الأغاني الطبية، وجعلت لها قسما خاصا فقالت: «الأغاني الخاصة بمعرفة استعمال بعض الجذور أو الأعشاب الطبية تنشد عند البحث عنها وجمعها وتحضيرها، ويباح لجميع الناس سمعها ولكن لا يستطيع أحد أن يستعملها غير صاحبها؛ لأنها ملك وحق خاص يحترمه الكبار والصغار، وهو بمثابة الصيادلة في عصرنا هذا كل منهم يملك مخترعاته ولا يجوز لغيرهم تقليدها. (2-4) تأثير الموسيقى في الحيوان
للموسيقى تأثير عظيم في الحيوان، فتراها تارة تشجعه كالإبل إن أعياها السير من التعب أو القيظ أو الجوع حداها السائق بشجي الحداء فتطرب وتنسى النصب وتداوم سيرها بنشاط وحمية، والحداء أمر معروف بين العرب لا يخلو منه قول شاعر.
ونشاهد أن بعض الحيوانات كالخيل والحمير والإبل تكون بعض الأحيان مستنفرة غير مطمئنة حينما ترد الماء، فلا يهدأ روعها وتطمئن حتى يصفر لها راعيها فتشرب وهي آمنة.
وأغرب من هذا وذاك تأثير الموسيقى في الثعابين والأفاعي، هذه الهوام الخبيثة التي جبلت على الشر والأذى، والمثال الآتي يرينا أن للموسيقى وحدها دون أن تستعين بالسحر نفوذا عظيما على هذه الهوام، نرى الهندي يعزف بألحان خاصة فتهرع إليه الثعابين من جحورها وتقف بين يديه ذليلة صاغرة وديعة متجردة من ميولها الخبيثة، فيأخذها الطرب وتلعب وترقص على نغمة مزماره.
روى الرحالة «روسليه» ما شاهده في الهند من استحضار الثعابين وترقصيها فقال: حينما كنا في الهند دعانا اثنان من السحرة المشتغلين باستخراج الثعابين والاتجار بها، وقدما لنا بعضا منها ومن أندرها نوع يسمى «جولابي» أو ثعبان الورد؛ لأن ثوبه منقوش باللون المرجاني، ونوعا آخر يشبه رأسه ذنبه حتى يصعب التمييز بينهما، رددت ناظري في الثعابين فلم أجد بينهما النوع المسمى «كوبرا كابللو» فقلت لهما: «ما الفائدة من جميع هذه الأنواع إذا لم يكن فيها «الكوبرا» الذي نريده ؟» فأجابا: «إن هذا النوع نجده بسهولة، بل نستطيع أن نعثر عليه في فناء داركم.»
أخذني العجب ولم أصدق أنهما يعثران عليه في وقت قصير، فقام أحدهما وتجرد من ثيابه ولم يترك إلا سرواله وأخذ المزمار المعروف عندهم باسم «تومريل» وهو خاص بالثعابين ودعاني لاقتفائه، فذهبنا خلف البيت إلى خلاء مغطى بالحجارة والعوسج، وأخذ يعزف بمزماره فينبعث منه أصوات حادة يتخللها تنويعات في الصوت ألطف من التي ابتدأ بها، وما هي إلا هنيهة حتى أشار إلي أن أنظر إلى نقطة عينها فرأيت ثعبانا مطلا برأسه من جحره أسفل حجر، فرمى الرجل مزماره وانقض عليه كالبرق وقذف به في الهواء ثم أمسك بذنبه حينما وقع على الأرض، وبعد فحصه وجده حية غير سامة فعاد إلى عزفه، وما هي إلا لحظة كلمح البصر حتى شاهدنا ثعبانا يثب في الهواء ثم وقع على الأرض فهجم عليه الرجل وأمسك به فإذا هو من النوع الذي أنشده أسود هائل يربو طوله على متر، طفق الثعبان يختبط ويحاول الإفلات، فأسرع الرجل وأمسك به من خلف رأسه وفتح فمه وأرانا أنيابا حدادا يقطر منها الموت الزؤام؛ فتحققنا صدق عمله؛ لأن معظم هذه الفئة يستخدمون الثعابين بعد تجريدها من أنيابها، وعندما يكلفهم أحد باستخراج ثعبان يطلق أحدها خفية ويوهم الناس أنه استخرجه من المكان المرغوب، ثم أخذ الرجل يخلع أنياب الثعبان ليمنعه من الأذى، وقد فاجأه أثناء عمله بلدغة في إصبعه فسال الدم منه وأسرع يمتصه بفمه بقوة ثم وضع عليه حجرا صغير أسود مخرما، وقدمه لي أخيرا قائلا: إنه دواء ناجع للدغ «الكوبرا» فاشتريته منه، وبعد تحليله وجدته قطعة من العظم مكلسة رقيقة الأنسجة.
وبعد هذا الصيد أنشأ الهنديان يريانا من أنواع ألعاب الثعابين ما أدهشنا، فنفحناهما برنيتين بعدما قضينا أكثر من ساعتين في الصيد والألعاب، فكان هذا العطاء الحقير أجرا عظيما لهما وخرجا لاهجين بالشكر والثناء. (2-5) الموسيقى والتربية
إذا كان الغناء كفؤا للتسلط على الجن وتسكين غضبها وطرد الشياطين والتنبؤ بالمصائب أو منعها، فيكون من باب أولى أهلا لأن يؤثر في قلوب الناس ويهيمن نفوذه النافع على عقول الأمة أو شبانها، ومبلغ القول أنه يكون خير وسيلة يستعملها الحاكم أو المهذب للتربية.
وقد قال الكتاب القدماء: إن العادة التي كانت متبعة عند الفرس أن يعهد بالأمراء وهم في الرابعة عشرة إلى أساتذة أكفاء، ويختص بكل واحد منهم ثلاثة مهذبين ممن كملت أخلاقهم وآدابهم، ويكون أحدهم قاصرا على تعليم سحر «زورواستر»، فهل كان هذا السحر موسيقيا؟ إننا لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالضبط، ولكننا نقدر أن نصل بالاستدلال إلى ما يقربنا من الحقيقة.
وقد روى المؤرخ الصيني الشهير «سيماتسبين»: «أن ملوك الصين الأقدمين حينما سنوا قوانينهم الخاصة بالسحر والموسيقى لم يقصدوا منها تشنيف الأسماع ومسرة العيون، بل أرادوا أن يعلموا الشعب أن يكون عادلا في حبه وبغضه وأن يهدوه إلى الصراط المستقيم، ولما رتبوا الموسيقى جعلوا ضمن مبادئها تلطيف الأخلاق الإنسانية.» فمن الموسيقى ما يريح النفوس، ومنها ما يحثها على الخير، وترى في الحفلات الموسيقية سواء أكانت عامة أو خاصة أن الموسيقى تحدث في القلوب احتراما وطاعة وحبا؛ إذ تصير الناس طائعين لشجي الألحان والأنغام.
تجد في الكتاب الصيني القديم المسمى «يوكي» ترجمة المسيو «شافان» العبارة الآتية:
ولما كانت الموسيقى تؤثر في أعماق النفوس، وتحدث تغيرا في الطباع، وتحولا في العادات؛ فلذلك اتخذها الملوك الأقدمون وسيلة للتربية.
وقد رأى جميع المفكرين حتى من عهد فيثاغورس أن الموسيقى من أنجع الطرق للتربية، وقال أفلاطون: «إن أعظم فن مهذب هو الذي ينفذ إلى النفوس بواسطة الأنغام فيهيئها للفضيلة، وقد أطلق عليه اسم الموسيقى.» وقال أيضا: «جميع حياتنا محتاجة إلى النظام والانسجام.» ومن هذا نعلم التأثير الطيب النافع للموسيقى، وقال «أريستوكسين» الفيلسوف والموسيقي اليوناني القديم: «لقد أصاب قدماء اليونان في كونهم أعاروا كل اهتمامهم للتهذيب بالموسيقى؛ لأنهم استحسنوا أن يهذبوا نفوس الأطفال بواسطة الموسيقى لتنقاد إلى الجمال والشرف.»
إن هذه الفكر لا تستغرب؛ لأنها نتيجة طبيعية معقولة للاعتقاد بأن الموسيقى قوة فتانة ساحرة، وإذا كان الغناء يؤثر في آلهتهم فكيف لا يؤثر في نفوس الأطفال؟
يسمح لنا السحر أن نفسر مسألة غريبة تمس ما كانوا يسمونه في مادة التربية التهذيب الراقي، وفيه الكفاية لإقناعنا بأننا نكون مخطئين إن ظننا أن الفن كان في منشأ أمره من دواعي الزينة.
يدهش كل من كان مولعا بالموسيقى مداوما على سماعها حينما يعلم أنها كانت معدودة ضمن العلوم الأربعة العالية عند القدماء، وهي: الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، فماذا كان يعمل هذا الفن الرقيق الذي ملئ بالمحاسن والحرية وسط هذه العلوم؟ يخيل إلى العصري أن هذا التوفيق به تناقض وتنافر عظيم.
ما كان الساحر القديم الفطري ليعمل في أركان بيته بل كان يعمل في الخلاء أمام الطبيعة، ويستعين بالعالم المادي وجميع الكائنات الحية والكواكب، فكان في الوقت نفسه طبيعيا كيماويا فلكيا.
أختم الآن بهذا الباب حلقة أبحاثي مؤقتا وربما عدت إليها فيما بعد إن صادفت أبحاثا جديدة يكتشفها أحد العلماء الغربيين المعاصرين، ولدي الآن شيء كبير مما يتعلق بالموسيقى من الوجهة الفلسفية ولكنه مشحون بالمواد الفنية مما يجعله غير مفهوم بالمرة إلا لمن له إلمام بفن الموسيقى الغربية، ويسمع شيئا كثيرا من مختلف المؤلفات القديمة والحديثة ليفهم ما يسرد منها للاستشهاد، وقد توخيت في عملي أن لا أنشر إلا الأبواب التي لا يشوبها شيء من المواد الفنية؛ لتكون سهلة التناول والإدراك لكل قارئ، سواء كان مشتغلا بالفن أو غير مشتغل به لتكون الفائدة أجزل وأعم. (3) الشرف
لو أنعمنا النظر في جميع مكارم الأخلاق لوجدنا الشرف أفضلها بل جماعها، ولا نكون مغالين إن قلنا: إنه هو السبيل الوحيد لسعادة الدارين، فلو كنا جميعا شرفاء بالمعنى الصحيح لأصبحنا في مصاف الملائكة الأبرار، نرتع في جنة أرضية لا نعرف للشقاء معنى ولا للشرور لفظا.
الشرف هو شعور تحدثه عزة النفس والرغبة في اعتبار الغير، وهو الذي يحرضنا على القيام بأشرف الأعمال وأصدقها.
وللشرف ثلاثة فروض؛ يقضي الأول منها بحفظ كرامة المرء وعزة نفسه، والثاني بأن يحب للغير ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، والثالث بطاعة الخالق وأداء فروض العبودية.
وقصارى القول أننا لو بحثنا في معجم الشرف لوجدنا أنه هو والعدل والخير والمروءة والكرم والإخلاص والتقوى مترادفات.
وإن وجدت تلك الشروط جمعاء في فلاح حافي القدمين مرتد جلبابا أزرق فهو أشرف ممن جمع الأموال والألقاب وتجرد من معنى الشرف، ولعمري إن من يحتقر الأول ويحترم الثاني لأحط من الحيوان الضار.
لم يحرم الله علينا السعي وراء المنافع والملذات، ولكن هناك غرض أرقى وهو الخير أو العدل أو الشرف.
خلق الإنسان من نفس وجسم، فالأولى عالية رفيعة، والثاني سافل منحط.
وللجسم عوامل محرضة على التدهور إلى مصاف العجماوات كالحواس والشهوات والإلهام، فإن لم تتغلب النفس على هذه العوامل كان الإنسان في عداد الأنعام وفقد كل معنى للشرف.
وقد عبر أفلاطون عن هذه الفكرة أحسن تعبير، إذ قال في «فيدر»: «نفس الإنسان أشبه بجوادين يجران عجلة حوذيها العقل؛ أحدهما من كرام الخيل والآخر نقيضه، وقد تجمعت فيه العيوب والنقائص؛ فترى الأول جميل المنظر متناسب الأعضاء مرتفع الرأس بعرنينه انحناء قليل، أبيض اللون أسود العينين، يحب المجد برزانة واعتدال، ويلبي نداء حوذيه وإشارته دون أن يضرب.
والثاني غليظ الأعضاء معوجها كبير الرأس، قصير العنق أفطس الأنف، أسود اللون أخضر العينين مشربهما بالحمرة، ولا يميل لغير الإعجاب والنفور والهياج، أذناه مغطيتان بشعر كثيف لا تسمعان نداء السائق، ولا يطيع هذا الصعب إلا إذا ألهبه السوط ووخزته الإبر.
وهذا الجواد الرديء هو صورة للجزء الأول من النفس؛ أي أصل الإحساس والرغبة والخوف والغضب الأعمى والحب الدنيء السافل الذي يجرؤ على كل شيء ويفسد كل من صادفه.
والجواد الآخر هو الشجاعة؛ أي أصل الغضب الشريف والعواطف النبيلة والحب الطاهر والحماسة.
وأما السائق فهو العقل، وهو القوة المميزة التي نعرف بها من الأشياء ما كان حقا خالصا دائما، وهو يصعد إلى الخالق نفسه؛ أي علة العلل.»
إن الإنسانية لأشبه بجمع عظيم من المجرمين، وكل من يلقي نظرة إلى ما يظهر منهم يهلع فؤاده ويتقهقر من الفزع، إذ كلما عرف الإنسان الإنسان كلما كبرت الهاوية في عينيه ولا يشاهد المرء إلا منظرا رهيبا حيثما ردد طرفه؛ لأن الإنسان أينما سار يترك أثره، ويا له من أثر مزعج مرعب.
انقاد الإنسان لأمارته بالسوء، واستبشع الحلال وهو هنيء، واستمرأ الحرام وهو غاص قاتل، واستحل الشرور إرضاء لرغائبه وشهواته حتى أصبح كالنمر يلهو بسفك الدماء فيفترس ولو كان بشما، وباع شرفه وقدره واعتباره فأصبح ممقوتا كالوحش الضاري.
إن الأنفة هي مدار الشرف فإن أعوزت الإنسان أعوزه الشرف مهما حاول، فلنبثها في عقول أطفالنا حتى تنمو معهم وتجري في عروقهم، ولنعدل فكرة الإرهاب أو الترغيب في الجزاء حينما يبلغون السادسة؛ فإنها عقيمة ضارة لا تهذب النفوس ولا تقوم الأخلاق. (4) أين السعادة؟
السعادة عقدة العقد وكبرى المعضلات التي ضل في تيهها الفلاسفة والحكماء والشعراء؛ فتشعبت فيها أفكارهم، وتضاربت آراؤهم.
لا تخش أيها القارئ أن أضايقك بسرد أقوال أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة اليونان الأقدمين وشرحها وتحليلها، أو البحث في آراء المتأخرين من حكماء الغربيين.
دعنا من الفلسفة ونظرياتها والمنطق وقضاياه واصبر إلى النهاية ولا تسأم حتى أسمعك ما علمتنيه الأيام والليالي، فلربما كان أصدق من خواطر الخيال، وأقرب منالا وأسهل تحققا.
ظن البعض أن السعادة في كثرة الأموال والأولاد والحرث والقصور الشامخات والخيل المطهمة والجواري والغلمان؛ فتكالبوا على جمع المال ولو بأخس الطرق وأدنى الوسائل؛ فأمات حب المال ضمائرهم وجعلهم غلاظ القلوب والأكباد، فلم يجدوا لهم ضميرا يحاسبهم، أو وازعا من الدين يزجرهم، حتى أصبحوا مكروهين ممقوتين عند الله والناس.
نرى كثيرا من الناس لا يعرفون معنى الحياة وكيف يقضونها، حتى بلغ من شدة عجزهم وضعف إرادتهم وسفاهة رأيهم أنهم ينتحرون خوفا من الكد في سبيل الحياة، فهم في الحقيقة أحط من أحقر الحشرات، إذ نرى النمال متحدة متضامنة مجتهدة في الحصول على أقواتها بهمة لا تعرف الملل، فتقضي الربيع والصيف والخريف في ادخار القوت لتستريح في الشتاء وتستكن في مساكنها، ومن نباهة النمال أنها تقرض طرفي الحبة من القمح أو الشعير لئلا تنبت من رطوبة الأرض.
لج القصور الشائقة واختبر أهلها تجد فيها ألوفا من مصائب متوارية وكروب خفية وآلام نفسانية ومتاعب جثمانية، ترى رب القصر وقد أوقعه التفاخر بمظاهر الغنى ومنافسته لجيرانه الأغنياء في هاوية الخراب والدمار، وهذه عقيلته التي لم يحسن اختيارها تريه كل يوم من صنوف الرزايا والخراب ما يثقل كاهله، وهؤلاء أولاده الأشقياء الذين لم يحسن تربيتهم يزيدون في آلامه ومتاعبه، يكاد يقطع هذا المنكود سبابته من الحسرة والندامة قائلا: لو اقتنعت بما لدي من المال وأحسنت اختيار عقيلتي وربيت أولادي تربية طيبة لكنت الآن ناعم البال مرتاح الضمير.
كل من في الوجود من إنسان وحيوان يكد ويعمل طلبا للسعادة، ترى الحيوان حينما تكمل قوته يصبو إلى أليفة يسكن إليها فتراه ينسى الجوع والظمأ، ويداوم البحث عنها، وكثيرا ما يصادفه مزاحم عنيد فيشهر عليه حربا عوانا ربما كانت عليه القاضية.
نريد أن نستدل على طريق السعادة وحينما نجتازه نصل إليها ونعرفها حق المعرفة، وهذه السبيل لها أربعة أبواب والسعادة وراء الباب الرابع، فمفتاح الأول بيد الأقدار وهو أن تولد سليما عن العاهات والآفات، فربما كان أبواك سليمين قويين ويعاندك القضاء، والثاني بيد أبيك الذي بذر بذارك، فإن كان البذر جيدا والتربة خصبة سليمة نما غرسك وأينع ثمرك، والثالث بيد أبيك أيضا وهو التربية الصحيحة الراقية بجميع فروعها العلمية والدينية والأخلاقية والبدنية، والرابع الحكمة ومفتاحها بيدك.
أتدري ما هي السعادة الحقيقة التي ضلت في مفاوزها العقول؟ إنها لا توجد في وسط القصور الفخمة والجنان الفيحاء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والكواعب الحسان، ولا تألف هذا الوسط المضطرب، وإنما هي منزوية في أعماق فؤادك.
السعادة أن تكون صحيح الجسم والعقل، مهذبا عالما متحليا بمكارم الأخلاق، نقيا طيبا قانعا بما أوتيت، صبورا على الملمات، مؤديا ما يفرضه عليك الواجب نحو ربك ونفسك وأهلك ووطنك، محبوبا عند الله والناس، تحاسب ضميرك قبل نومك فتجد نفسك لا عليك ولا لك.
آتاك الله ووالداك هذه السعادة، والواجب يقضي أن تكلأها بعين عنايتك وتورثها لأبنائك، وتعاهدهم على أن يحذوا حذوك ويحافظوا عليها حتى يتوارثها عقبهم أبد الآباد، ويرشدوا الناس إلى منهاجها القويم.
خير لشقي تعس منكود جنى على نفسه أو جنى عليه أبوه بمرض عضال ورثه منه أو أهمل تربيته حتى أصبح عالة على أمته أن لا ينقل شقاءه إلى غيره، ويتزوج ويجني هذا الإثم العظيم، فإن امتنع فتلك مروءة نادرة وطيبة عظيمة.
أيها الشقي المسكين الذي جنى عليه أبوه وسدت في وجهه أبواب السعادة، وحرمه طالعه المنكود من راحة الجسم وهناءة البال؛ تدرع بصبر أيوب، وفرج كروبك وبدد همومك بمواساة البائسين وإغاثة الملهوفين وعيادة المرضى وبرهم بقدر ما تستطيع ولو بكلمة حلوة، فإن ذلك سعادة عظمى لا يفهمها إلا الكيس الحكيم، وتعز في وحدتك بقول أبي العلاء:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
باب النقد
(1) الأدب في القرن التاسع عشر
فشا بيننا معشر المصريين داء عضال لم يجد أمامه من الأساة من يقاومه ويستأصل شأفته، حتى طال به العهد وأصبح كأنه غريزة في النفوس، اعتدنا أن نعتقد العجز في أنفسنا مهما بلغت قدرتنا وكفاءتنا فلا نحكم عقولنا في أي أمر مهما كان سهلا لا يستدعي للحكم عليه إجهاد الفكر أو الاستعانة بأولي النظر؛ ظانين أن هذا من التواضع والنفور من الغرور، لعمرك ما هذا إلا الضعف والخذلان والجمود وقتل النبوغ حينما تبدو بوادره، والحيلولة دون الترقي والفلاح، فترانا إن اختلفنا في قيمة عمل ما لم نجد أمامنا حكما غير الرأي العام الذي نجله ونمجده وننصاع إليه، كلنا نعلم أن العامة مهما فاقوا الخاصة في العدد أضعافا مضاعفة لا يعتد برأيهم ذوو الرأي الثاقب؛ لتجردهم من المقدرة التي تؤهلهم للحكم.
لست بذلك أبغي من كل فرد أن يسلك سبيل الغرور ويركب متن الشطط فيضل في بيداء أوهامه، ويحكم نفسه في كل شيء سواء كان من ميسوره أو فوق مقدوره، بل ينبغي له أن يعرف قدره وفضله ويضع نفسه بعدل في موضعها اللائق بها، فلا يتناول حكمه أمرا لا يستطيع القضاء عليه، فبذلك يستمر في رقيه لبعده عن الغرور ويكون عادلا في قضائه.
ومن الناس من يستعين في حكمه بمعلوماته ومحفوظاته دون أن يكون له رأي ذاتي ويظن أنه هو الذي أصدر هذا الحكم، كلا فإنه واهم؛ إذ الحقيقة أنه صادر من فئة من العلماء الذين حفظ أقوالهم وآراءهم، فيجب عليه إذن أن يتجرد من معلوماته ومحفوظاته عند الحكم لئلا تؤثر في فكره ويستملي عقله وشعوره ليصل إلى الحقيقة، ولا مانع من الرجوع إلى المعلومات بعد إصدار الحكم علنا نجد فيها ما يعزز رأينا ويؤيد حكمنا.
ومن أدوائنا القتالة حب الشهرة التي لا تتفق مع الرقي؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان، وللمتفانين في حب الشهرة الكاذبة أساليب متنوعة؛ فمنهم من يستعين بأقلام غيره، ومنهم من يسرق خطبة من الكتب المتفرقة، ويا ليته عرف كيف يجمعها ويجعلها موضوعا مفهوما، أو يترجم قطعة ينتحلها لنفسه ثم يذهب إلى المدارس الساقطة ويلقيها بتشدق عجيب وإشارات ملؤها الخيلاء على مجمع من تلاميذ المدرسة وخليط من عامة جيرانها فيصفقون له التصفيق الحاد، فيتمايل حضرة الخطيب المصقع تيها وإعجابا، ومنهم من يستأجر الكتاب لتحرير مجلة أو جريدة ينسبها لنفسه ويستمر في إصدارها ولو كانت سائرة في سبيل الخراب، وكفاه فوزا بأمنيته أن يلقبه صغار التلاميذ بالكاتب الفاضل صاحب جريدة أو مجلة كذا ومنشئها، ومنهم من يسعى في تأليف ما يسمونه بالجمعيات الأدبية وينفق عليها من ماله الخاص تسهيلا لتأسيسها؛ ليكون لها رئيسا وخطيبا وينقش على بطاقة زيارته اسمه بخط الثلث ويزيله برئيس جمعية كذا، ومنهم من يريد أن يمهر ابنته فضلا إن أعوزها المال والجمال وأصبحت عانسا فيستأجر من يكتب لها كل أسبوع مقالا يملأ بها أعمدة الجرائد، وقد فاته أن المال أعظم شفيع للجهل والدمامة وسوء الخلق والسمعة، وأن شبابنا لا يهمهم أن تكون لهم عروس أديبة فاضلة كريمة الأخلاق ... حياة الشهرة الكاذبة قصيرة؛ إذ لا تلبث أن تبددها شمس الحقيقة ويعقبها السقوط الأبدي والافتضاح والحسرة على ضياع عمر طويل جريا وراءها، وكان الأجدر به أن يصرفه في الرقي حتى يصل لدرجة تؤهله لإخراج ما ينفع الناس من جليل الأعمال، وما يكسبه شهرة صحيحة يتناقلها الخلف عن السلف.
ليس من الحزم أن نجاري السلف في أحكامهم ونطبقها على عصرنا دون إعادة النظر فيها وتمحيصها؛ لأن الأزمان تختلف في درجات مدنيتها ومعارفها، ولقد تمادينا في تمجيد الشهرة القديمة حتى كادت تغطي على نوابغ العصر، وما فتئ كثير منا ينقب على مؤلفاتهم ويشتريها بأثمان باهظة ويدخرها كأنفس الأعلاق أو المخلفات المقدسة.
ابتدأت اللغة في عهد محمد علي باشا وخلفائه أن تدب فيها الحياة بعد موتها، فنبغ في مصر فئة كانوا نجوم عصرهم فاهتدت بهم الأمة في ديجور الجهل، وكانت لهم اليد الطولى في تلك النهضة العلمية، مثل: «عبد الله باشا فكري، وقدري باشا، ورفاعة بك رافع، وعبد الله أفندي أبي السعود، ومحمد أفندي عبد الرازق، ومحمد بك عثمان جلال، وعبد الله أفندي نديم، ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ علي أبي النصر، والشيخ أحمد عبد الرحيم»، فمنهم من خدم الشعر والنثر، ومنهم من عني بالتعريب، ومنهم من اختص بالصحافة، ومنهم من نفع القضاء، ونريد الآن أن ننظر في أعمالهم ونختبرها لا قصد الازدراء؛ بل لنعلم إن كانت تنفعنا في عصرنا أم لا، فننشرها من رموسها أو ندعها نائمة مطمئنة محترمين رفاتها كأنها آثار تاريخية نستعين بها على درس أطوار اللغة والأدب في مصر. (1-1) عبد الله باشا فكري
نبدأ بأميرهم في الصناعتين ألا وهو الشاعر الناثر عبد الله باشا فكري ناظر المعارف، من كانت قدمه راسخة في العلوم العربية رقيقا في النثر والنظم، ولئن جارى زمنه في التسجيع فإن سجعه كان مقبولا سلسلا متينا تزينه سلامة الذوق قليل التكلف، ومن أرق ما كتبه نثرا رسالته التي كتبها لأحد أصدقائه يصف بها الأزهريين في ذاك الزمان، وقد حوت من رقيق الفكاهات ودقيق الوصف ومزايا العربية وفضلها وطباع أهل الأزهر وأخلاقهم، وأولها:
كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر.
ومن جيد شعره قصيدته الرائية التي نظمها عقب الإفراج عنه بعد اتهامه إبان الثورة العرابية، وقد توجه إلى سراي عابدين فأعرض عنه الخديو توفيق باشا ولم يسمح له بمقابلته، وأولها:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى
وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
ومنها:
أيجمل في دين المروءة أنني
أكابد في أيامك البؤس والعسرا
وأحرم من تقبيل كفك بعدما
ترامت بي الآمال مستأنسا برا
ولي فيك آمال ضميني بنجحها
وفاؤك لا أرجو سواك لها ذخرا
وقد مر لي فوق الثلاثين حجة
بخدمة هذا الملك لم آلها صبرا
أرى الصدق فرضا والعفاف عزيمة
ونصح الورى دينا وغشهم كفرا
وجاوزتها لا لي عقار يفيدني
كفافا ولا في الكف قد أبتغي وفرا
ولو شئت كانت لي زروع وأنعم
ومال به الآمال أقتادها قسرا
ولكنها نفس فدتك أبية
تعاف الدنايا أن تمر بها مرا
وقد كانت هذه القصيدة أعظم شفيع له، فسمح له الخديو بالمثول بين يديه وحظي بصفوه ورضاه وأعيد إليه معاشه، فقال في هذا المقام قصيدته المشهورة ومطلعها:
لي الله من عاني الفؤاد متيم
ولوع بمغرى بالدلال منعم
ومن أحاسن شعره قصيدته التي هنأ بها توفيق باشا حينما جلس على عرش الأريكة الخديوية، وأولها:
اليوم يستقبل الآمال راجيها
وينجلي عن سماء العز داجيها
نشأ عبد الله باشا فكري في أواخر حكم محمد علي باشا يتيما فتكفله بعض أقاربه، ولم يعن بإدخاله إحدى المدارس بل اقتصر على تعليمه القرآن، ثم أرسله إلى الأزهر فأتقن العلوم العربية المتداولة فيه واللغة التركية، ولو كان يعرف الفرنسية لكان أطول باعا وأعظم شأنا. (1-2) محمد قدري باشا
كان عالما فاضلا، متبحرا في العربية والفرنسية، بارعا في فقه أبي حنفية، شاعرا رقيقا، ذا إلمام تام بالجغرافية والتاريخ، يحسن التركية والفارسية، ومن مآثره «كتاب الأحوال الشخصية» وبعض كتب مدرسية، وكان أعظم العاملين في ترجمة قانون المحاكم، وله كتاب جغرافية باللغة الفرنسية طبع في النمسا، ومن رقيق نظمه قصيدته التي مدح بها الخديو إسماعيل باشا ومطلعها:
حيا الصفا مصر مسرورا بواديها
وزارها الغيث فاخضلت بواديها
ومنها:
وتيمتهم بها سكرا وما عرفوا
السكر من راحها أم من لمى فيها
ووجها البدر قد تمت محاسنه
أستغفر الله ما أنصفت تشبيها
فالشمس منها استعارت نور طلعتها
والبدر أدنى فكيف البدر يحكيها
ومنها:
ورحلتي عن دياري أمرها عجب
لولا الإطالة كنت الآن أحكيها
كانت حدائق بالعرفان يانعة
كما هي الآن يا محيي معاليها
وكعبة لبني الآمال يقصدها
للفضل والأنبيا كانت توافيها «سولون» «أودوكس» «أفلاطون» قد درسوا
في «عين شمس» وكانوا من مواليها
ومنها:
وفضل مصر عظيم الشأن قد شهدت
به الممالك قاصيها ودانيها
لكنها أصبحت من بعد عاطلة
من العلوم التي كانت تحليها
أسباب ذلك لا تخفى على فطن
له وقوف على أحوال ماضيها
إن الممالك كالأفراد في شبه
فالجهل يخفضها والعلم يعليها
وأنت أدرى بذا مني ومطلع
على التواريخ لا تحتاج تنبيها «لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها»
وله من قصيدة أخرى:
رجوت علاه أن يشنف مسمعي
فغنى من الفتيان دورا وقسما
أغن إذا ما جس أوتار عوده
يكاد حنين العود أن يتكلما
ومنها:
ويا كفه هل أنت أو غيث ديمة
أجبني فإني خلته لك توأما
رضيعا لبان أنتما لكما الوفا
ويكفيكما فخرا رضا مصر عنكما
وكان أخوك الغيث لا يعرف الندا
وعلمته أنت الندا فتعلما (1-3) رفاعة بك
لا نبالغ إن قلنا: إن هذا الرجل أعظم من نفع البلاد، وهو الذي أسس مدرسة الألسن وعين ناظرا لها، وقد هذب مئات من خيرة الرجال، وكانت عزيمته لا تعرف الملل، يقطع نهاره في التدريس ويحيي ليله في ترجمة الكتب النافعة، وقد ألف وترجم وحده عدة كتب، هذا بخلاف ما ترجمه قلم الترجمة بمراقبته، مثل: «كتاب لمونتسكيو» لم أتحقق من اسمه، «ووقائع تليماك»، وثلاثة أجزاء من «جغرافية مالت برون»، ونبذة من «تاريخ الإسكندر»، و«أصول المعادن»، و«تقويم سنة 1244»، و«مقدمة جغرافية طبيعية»، وثلاث مقالات في «الهندسة»، ونبذة في علم «الهيئة»، وقطعة من «علميات رؤساء ضباط العسكرية»، و«أصول الحقوق الطبيعية»، ونبذة في «الميتولوجيا»، ونبذة في «علم سياسات الصحة» (تقويم الصحة)، ومما ألفه «أنوار توفيق الجليل في تاريخ مصر وتوثيق بني إسماعيل»، و«نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وكتاب «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين»، وكتاب «مناهج الألباب»، وكتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، ورحلته المسماة «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وغيرها، وله قصائد عديدة مدح بها سعيد باشا وإسماعيل وغيرها قالها في مناسبات مختلفة وأعظمها التي نظمها وهو في السودان، وقد عين هناك ناظرا لمدرسة الخرطوم فأرسل هذه القصيدة إلى حسن باشا كتخدا مصر متوسلا إليه أن ينتشله من السودان بعد أن مات نصف من بصحبته من الأساتذة، والقصيدة تشير إلى أحوال السودان وعوائد أهلها، ويشكو فيها ما ناله من الظلم إثر سعاية أهل الفساد، فسمحوا له بالعودة إلى مصر بعد أن مكث هناك أربع سنين، ومطلع القصيدة:
ألا فادع الذي ترجو وناد
يجبك وإن تكن في أي ناد
ومنها:
رعى الحنان عهد زمان مصر
وأمطر ريعها صوب العهاد
رحلت بصفقة المغبون عنها
وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي
ولا سلماي فيه ولا سعادي
بها ريح السموم يشم منها
زفير لظى فلا يطفيه وادي
عواصفها صباحا أو مساء
دواما في اضطراب واضطراد
ونصف القوم أكثره وحوش
وبعض القوم أشبه بالجماد
ومنها:
خدمت بموطني زمنا طويلا
ولي وصف الوفاء والاعتماد
فكنت بمنحة الإكرام أولى
بقدر للتعيش مستفاد
وغاية مطلبي عودي لأهلي
ولو من دون راحلة وزاد
وله تخميس لقصيدة من نظم الشيخ عبد الرحيم البرعي وهي متوسطة في الجودة وهو معذور؛ لأن الأصل من شعر الفقهاء، ومطلعها:
تبدي الغرام وأهل العشق تكتمه
وتدعيه جدالا من يسلمه
ما هكذا العشق يا من ليس يفهمه
خل الغرام لصب دمعه دمه
حيران توجده الذكرى وتعدمه
نريد أن نلقي نظرة عامة على نثره، فلذلك نورد طرفا من رحلته إلى باريس قال في أول مقدمته: الباب الأول في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتحالنا إلى هذه البلاد التي هي دار كفر وعناد (كذا) وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف لشدة غلو الأسعار غاية الاشتداد، ومنها: «ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقة (كذا) والشلبنة (كذا) لا من الفسق، فلذلك كان دائما غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهيج (كذا) الشهوات، وأما في باريس فإنه نط (كذا) مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدا، وكل إنسان يغرم امرأة (كذا) يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها (كذا) آخر للرقصة الثانية ...» إلى أن قال: «وبالجملة؛ فمس المرأة أيا ما كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى (كذا)، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عد هذا من الأدب.» ومنها: «وقرأت كثيرا في كازيطات العلوم اليومية والشهرية التي تصل كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة البوليتيقية، وكنت متولعا بها غاية التولع (كذا)، وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية، وربما كنت أترجم منها مسائل علمية وسياسية خصوصا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة المسقوبية.» (وقد تكررت لفظة حرابة بعد هذه الجملة مرارا في الصحيفة التي تليها.)
ولنذكر شيئا من «وقائع تليماك» وهي من أشهر ما ترجمه، فمنها:
وقد استقام برهة من الزمان يقاوم الأعداء المتكاثرة، ويصادم بشجاعته وصموله (كذا) جموعهم الوافرة، ثم انتهى به الحال أن تثاقلت عليه الأحمال فكنت شاهد هلاكه ومشاهد استهلاكه، وذلك أن أحد عساكر صور طعنه برمح في صدره فأصاب أشد الصدور، فانفلت زمام مطيته من كفه، ووقع تحت أرجل الخيل يهوي إلى حتفه، فبادر نفر من العساكر القبرصية فجر ناصيته الدنية بعد أن كانت قصية وقبضها (كذا) من شعورها المرخية لتتفرج عليها البرية، ولتكون علامة على النصرة الذهبية البهية.
ومنها قوله في أول المقالة الرابعة:
والى هذا الوقت كالبسة باهتة متحيرة ممتلئة من الحظ والسرور من هذه القصة المبينة حال تليماك وعن صفاته مخبرة، فقطعت بكلامها كلامه الفصيح حتى إنه من التعب يستريح قائلة له: قد حان لك أن تتمتع بلذيذ المنام بعد النصب الكامل من حكاية هذا الكلام، لا خوف عليك هنا بل كل شيء يلائم مزاجك، فأطلق عنان هواك في ميدان الهنا ، وذق طعم الراحة فالدهر لك مسالم، وكل الخيرات المخلوقة تفيض عليك من عندنا فاغتنمها فأنت أسلم غانم وأغنم سالم.
يتبين للقارئ من أول وهلة أن هذا النثر لا يليق إلا بالأطفال، ولولا هذا السجع السمج المرذول لاستقام إنشاؤه وانتظم، وما السجع إلا عقبات وقيود تضل الكاتب وتجعله يترك الخيال والفكر وينصرف إلى البحث عن ألفاظ يحشرها تذهب بطلاوة كلامه وتكون لغوا باطلا وتنميقا ممقوتا عاطلا من المعاني وآيات البلاغة، وهو الذي هوى بالسلف إلى دركات الانحطاط في الإنشاء، بل سرى داؤه إلى الشعراء فأصبحوا لا يعتنون إلا بالألفاظ وتزيينها بالمحسنات البديعية، ويظن الشاعر منهم أنه إن نظم بيتا موزونا وزخرفه بنوع أو أكثر من البديع ملك أعنة الشعر وهرولت إليه البلاغة طائعة خاضعة، ولو كان كلامه ألفاظا مرصوصة وتركيبه خاليا من المعاني.
كان رفاعة بك ينقصه الذوق السليم وهو روح الإنشاء وملاك البيان، وكثيرا ما يلحن في تصريف الأفعال أو يأتي بألفاظ عامية أو يكرر اللفظ مرارا دون أن يغيره بمرادف ويتصرف في ترجمته، وقد انتقده «البارون سيلفسز دوساسي» المستشرق الفرنسي الشهير الذي ترجم المقامات الحريرية وكليلة ودمنة إلى الفرنسية، إذ قال في خطاب أرسله إلى المسيو جومار في شهر فبراير سنة 1831:
ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية.
وأظن أنه يشير بذلك إلى ألفاظ التعصب الديني الذميم المودعة في رحلته إلى باريس، إذ ليس من الأدب واللياقة أن يستضيف قوما يأخذ عنهم العلم ويسبهم في رحلته التي قدمها إلى مشاهير مستشرقيهم ملتمسا منهم إبداء رأيهم فيها.
وقال في نقده أيضا: «وليست عبارته دائما صحيحة بالنسبة لقواعد العربية، ولعل سبب ذلك أنه استعجل في تسويده وأنه سيصلحه عند تبييضه، وفي التكلم على علم الشعر ذكر استطراد بعض أشعار عربية تخرج عن موضوع الكتاب، وربما أعجب ذلك إخوانه من أهل بلاده.»
وتكلمت بعض الجرائد أو المجلات عن نتيجة امتحان الإرسالية المصرية، فقالت عن رفاعة بك:
وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم وعنه، وأنه ربما كرر وربما ترجم الجملة بجمل والكلمة بجملة.
وقد ترقى في نثره قليلا في كتبه: مناهج الألباب، وأنوار توفيق الجليل، والإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، ولا سيما حينما يترك التسجيع في عرض كلامه. (1-4) عبد الله أفندي أبو السعود
نابغة من نوابغ عصره، نشأ بناحية دهشور وحفظ القرآن ثم انتقل إلى مدرسة البدرشين، وكان أبوه ناظرها، ثم انتخبه رفاعة بك فيمن انتخب لمدرسة الألسن فالتحق بها وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، فبرع على أمثاله سيما في اللغة العربية، ثم درس العربية بدلا من أستاذه الشيخ حسين القمري، ودرس لإخوانه «كتاب مغني اللبيب»، ثم عهد إليه تدريس الفرنسية وتصحيح تراجم الكتب الرياضية بالمهندسخانة، وكان متضلعا في الفقه، إذ حضر «ملتقى الأبحر» بمدرسة الألسن على الشيخ خليل الرشيدي المفتي، ومع قيامه بوظيفة التدريس كان مواظبا على الحضور بالأزهر فقرأ به عدة كتب نفيسة منها «الدر المختار»، وتنقل في عدة وظائف أخرى منها تدريس الجغرافية والتاريخ بمدرسة دار العلوم، ورياسة قلم الترجمة إلى أن عين في أواخر أيامه عضوا في مجلس الاستئناف، وله عدة مؤلفات منها: «تاريخ مصر» وجانب من «التاريخ العام»، وقد ترجم «نظم اللآلئ في السلوك فيمن تولى فرنسا ومصر من الملوك»، و«قانون المرافعات المدنية والتجارية»، وكتاب «تاريخ مصر القديم» وكتاب «الأنتيكخانة الخديوية»، و«تاريخ محمد علي»، وكتاب في «علم الجغرافية»، وآخر في «الكيمياء الزراعية»، وطرفا من رواية «جيلبلاس»، وقد اشتغل بالشعر أيضا وله بعض قصائد لم أعثر إلا على ثلاثة أبيات من ضمن قصيدة طويلة له:
ومن قال إن الدولة اليوم وحدها
تصفق منها الكف كي يصلح الأمر
وماذا عسى يجدي اجتهاد لدولة
وليس من الآحاد شد لها أزر
أما يقتضي أن نبذل الجهد كي يرى
لها الشطر في إصلاحنا ولنا شطر
وهو الذي أنشأ صحيفة «وادي النيل» سنة 1284، ثم أنشأ نجله محمد أنسي بك جريدة «روضة الأخبار» فكان هو محررها. (1-5) محمد أفندي عبد الرازق
كان من أقران أبي السعود أفندي، تعلم في مدرسة الألسن وبرع في العربية والفرنسية، وكان أعظم العاملين في قلم الترجمة، يضارع في قوته أبا السعود، ولم أر أحدا من أقرانه وأساتذته بلغ مبلغه في النثر المتين البليغ الذي لا يفترق عن كتابة العصر الحاضر، وله قاموس في المواليد الثلاثة بالفرنسية والعربية محفوظ بالكتبخانة ولم يطبع وينقصه بعض حروف، ومما ترجمه «خلاصة تاريخ العرب لسيدبو» وقد مات قبل إتمام ترجمته، فكلف علي باشا مبارك من أتم الجزء الصغير الذي كان باقيا منه وطبعه.
وإني لمورد طرفا من كتابته في هذه الترجمة ليقف القراء على متانة أسلوبه العربي وذوقه السليم في التعبير، قال في أول المبحث التاسع:
كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم بمكة واتحادهم في الأخلاق والعادات، وإن سائرهم تمسك بأوهام العبادة الوثنية والعادات الجاهلية؛ كمعاملة النساء معاملة الرقيق، ووأد البنات مع التكبر الوحشي وحب الانتقام والمقاصة، وإجازة النهب بعد الانتصار، وإقامة القوة مقام الحق، وقرى الضيف مع حرمان النفس تشوقا إلى السمعة بين القبائل، وحب شرف النفس الموجب للبسالة والحماسة والمحاماة عن المظلوم، وتقديم الوفاء بالوعد على الحياة، ونزيد على ذلك شهواتهم النفسية فإنها أكبر تلك الخصال غلبة وظهورا، ومن ذلك يعلم أنه متى اتجهت عقولهم الهائجة المخاطرة إلى شيء وثبوا إليه وثبة واحدة وذلك يوجب الوحدة في اللغة المتيسر بعضها بواسطة اختلاف القبائل. (1-6) عبد الله أفندي نديم
صحافي شهير وكاتب أخلاقي اجتماعي طويل الباع في الخطابة، وكان إذا اقترح عليه أي موضوع في محفل من المحافل قام بين الناس خطيبا مرتجلا، طلق اللسان، فصيح الإلقاء، سريع الخاطر، مستمرا في خطابته ساعتين أو ثلاثة دون أن يتلعثم لسانه، وهو الذي أنشأ مجلة «الأستاذ» و«الطائف» و«التنكيت والتبكيت»، وفضلا عن نبوغه في النثر فإنه مهر في المجون والأزجال والمواليات، وصحيفته الأخيرة حافلة بهذا النوع، وكان يعقب الموضوع الهزلي بالتبكيت والموعظة الحسنة.
ومن جيد مقالاته التي أمكنني العثور عليها: «بمن أقتدي إذا اختلفت الآراء؟» و«هذه يدي في يد من أضعها؟» و«حرب الأقلام بجيوش الأوهام»، ولنذكر قطعة من مقالته الأولى لنقف على أسلوبه:
اقتد بمن إذا أسبغت عليكم النعم كان مهنئا معك، وإذا نزلت بك مصيبة كان لك معزيا، فإن إخلاص النصح من غيره لا يتأتى إلا إذا عاد لبطن أمه وولد مرة ثانية في أرض مس ترابها جسمك وليدا، وخدمت في إصلاحها شابا، ودبرت شأنها شيخا، وكيف يقتدي العاقل بنازح عن دياره وقد لطفت هواء وعذبت ماء وطابت مقرا وكثرت خصبا؛ فلم يرض بما رضي به آباؤه، واستهجن ما استحسنه أجداده، وقطع رحما يجب صلتها عليه.
وله رسالة ضمن غالبها بالآيات القرآنية أولها:
لا حول ولا قوة إلا بالله، اشتبه المراقب باللاه، واستبدل الحلو بالمر، وبيع الدر بالخزف، والخز بالخسف، وأظهر كل لئيم كبره، إن في ذلك لعبرة. (1-7) محمود أفندي صفوت الساعاتي
ولد هذا الشاعر المجيد بالقاهرة سنة 1241 وانتقل إلى الإسكندرية مع أبيه وهو في الثانية عشرة، ثم عن له حينما بلغ العشرين أن يحج البيت الحرام، وهناك التحق بأمير مكة الشريف محمد بن عون فكان له سميرا وشاعرا لا يفارقه في حله وترحاله وغزواته، ولما عزل الشريف هاجر معه إلى مصر ثم سافر إلى الآستانة بمعيته، وفي عام 1268 آب إلى القاهرة وانتظم في سلك المعية الكتخدائية زمنا ما، ثم تعين بمعية الخديو سعيد باشا، ثم تقلب في عدة وظائف إلى أن عين أخيرا عضوا في مجلس أحكام الجيزة والقليوبية، وتوفي سنة 1298.
كان من فحول الشعراء المطبوعين، رقيقا حسن الذوق، غزير المادة، متوقد الذكاء، نبغ في عصر كاد الشعر فيه يندرس فهذبه وأعلى شأنه في مصر والحجاز، وبزغ في سماء القريض شمسا مشرقة استنار بها كل من عالج هذه الصناعة من مواطنيه.
ومن آيات بلاغته قصيدته الهمزية وبها نفحات عظيمة في الفخر، وأولها:
رقت لرقة حالتي الأهواء
وحنت علي البانة الهيفاء
وبكى الغمام علي من أسف وقد
كادت تمزق طوقها الورقاء
ماذا تريد الحادثات من امرئ
من جنده الشعراء والأمراء
دعها تمد كما تريد شباكها
فلربما علقت بها العنقاء
أنا ذلك الصل الذي عن نابه
تلوي المنون وتلتوي الرقطاء
وفمي هو القوس الأرن ومقولي ال
وتر الشديد وأسهمي الإنشاء
فكر ينظم في البديع فرائدا
من دونها ما تلفظ الدأماء
وله من قصيدة دالية مطلعها:
دعيني فما في الأمر غير التوعد
فحتى متى إدمان هذا التهدد
ومنها:
ألا في سبيل المجد نفس عزيزة
يعز عليها أن تذل لمعتد
فما لك لا تأوين لي من صبابة
رويدك إن الحسن غير مخلد
فكوني كما شاء الوشاة وصدقي
زخارفهم واصغي لقول المفند
فليست يد الهجران قاتلة امرئ
يهز من السلوان كل مجرد
ومنها:
فلا فضحت نظم الجمان قصائدي
ولا بلغت بي رقتي كل مقصدي
إذا لم أطوق مجده بقلائد
بغير حلاها الدهر لم يتقلد
فرائد مدح في سلوك مناقب
لمنفرد بالمكرمات مسود
وإن لم أسير بالقوافي ركائبا
فلا قيدت شعري محابر منشد (1-8) محمد بك عثمان جلال
كان مولعا بالآداب العربية والإفرنجية، وقد تقلب في عدة وظائف إلى أن عين قاضيا بمحكمة مصر المختلطة، وترجم في أوائل أيامه حينما كان بنظارة الحربية بعض كتب عسكرية كما أشار بذلك قدري باشا في تقريظه كتاب «الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة»، ثم عكف على تعريب طائفة من مؤلفات بعض من مشاهير الشعراء والكتاب الفرنسيين، فمما ترجمه عن «كورنيي» رواية «أوراس» لم تطبع وهي محفوظة عند ورثته، ومما عربه عن «راسين» رواية «أتالي» ولم تطبع أيضا، ورواية «أستير، وإيفيجيني، وإسكندر الأكبر» وهذه الروايات الثلاثة مطبوعة في مجموعة واحدة باسم «الروايات المفيدة في علم التراجيده»، ومما ترجمه عن «موليير» رواية «ترتوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء» وهي مطبوعة في مجموعة سماها «الأربع روايات في فن التياترات»، وعرب «بول وفرجيني» للكاتب الفرنسي الشهير «بيرناردان دوسان بيير»، وأغلب حكايات «لافونتين» وسماها «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ»، وقد امتاز في الأزجال هو وعبد الله أفندي نديم والشيخ محمد النجار، وكانت له ملكة راقية فيها تزينها فكاهات لطيفة ونكات ظريفة وبها كتب معظم معرباته، وله عدة أزجال متفرقة منها: «رواية المخدمين» وهي من وضعه، ونبذة في «تاريخ ولاة مصر» ابتداء من عهد محمد علي باشا إلى عصرنا هذا، وآخر في «المأكولات» وغيره في «الأزهار»، وقبل أن نفحص هذه التراجم نورد كلمة نعرف بها مزايا «راسين» و«موليير» ولو أنها لا تخفى على معظم القراء.
كان «راسين» من فحول الشعر الكلاسيك المحزن، وتختلف رواياته المحزنة «تراجيدي» عن روايات «كورنيي» برقتها وقربها من الحقيقة، مع سهولة مبنى الموضوع وبعده عن تعقد الحوادث، ويزين شعره فن رقيق وذوق سليم وروح مؤثرة تأخذ بمجامع القلوب، وغير خاف أن الشعر الكلاسيك عند الغربيين هو بمثابة الشعر الجاهلي عندنا، فاتت المعرب جميع هذه المزايا فلذلك عمد إلى تعريبه باللغة العامية مع تصرف عظيم، فجعله زجلا مضحكا ملؤه النكات والفكاهات المصرية المتداولة بين العامة.
أصبحت الترجمة لا تنفع مريد التمثيل، ولا محب الأدب، ولا كلفا بالحوادث والوقائع، ولا مغرما بالأزجال؛ لأنه خلط بين الجد والهزل والحزن والمزاح حتى صارت عاطلة من مزاياها الأدبية والنظمية والتمثيلية، ومن فكاهاته في رواية «إيفيجيني»:
لو كنت يوم دافعت عنها بهمتك
ماكنتش انذليت وصغرت عمتك
لا أب فيك رحمة ولا جوز تنشكر
إلا أنت واحد بربري مخك عكر
ويعد «موليير» أول من رقي التمثيل المضحك في فرنسا، ولم يباره في هذا الفن مبار لغاية عصرنا هذا، ولم تزل رواياته خالدة على جميع المسارح الأجنبية، كان يمثل الطباع والسجايا والعادات تمثيلا لا يفترق عن الحقيقة بشكل وحيد في بابه، تزين إنشاءه بلاغة نادرة وذوق رفيع، وقد أسعد اللغة العالية والمتداولة الاستعمال بأشعار وكلمات واصطلاحات ذهبت مذهب الأمثال.
فإن بحثنا عن شيء واحد من هذه المحاسن طي ترجمته لم نجده، وحاشا أن نعتبر أن هذه الأزجال تمثل لنا آيات «موليير» الباهرة، بل هو بريء منها؛ إذ في نسبتها إليه حطة وازدراء.
كلنا نعلم أن رواية «تارتوف» هي صفوة ما ألفه «موليير»، بل أحسن رواية مضحكة في جميع التمثيل الفرنسي، فمسخها المترجم وقلب موضوعها وسماها «الشيخ متلوف» ونقل الحادثة إلى مصر بين هذا الفقيه وكعب الخير وأم النيل وبهانه وغيرها، فإن اعتبرناها زجلا من أزجاله يقطع به العامي وقته وجدناها أضعف من أزجاله الأخرى، وإني مورد طرفا منها لنقارنه بغيره.
الفصل الأول
أم النيل :
يا الله بنا نروح قوام يا كعب خير
دولا جماعه الكل مافيهمش خير
كعب خير :
هو جرى حاجه هنا يا ستنا
حتى نروح برا ونترك بيتنا
أم النيل :
كتر الكلام مالوش نفع يا الله بنا
راح اقعد اتلفت هناك والا هنا
كعب خير :
بس الخروج دا ليه وانا شايفه الجميع
من تحت أمرك كلهم سميع ومطيع
والكل تحت اليد فللي تأمريه
تقدمي اللي تقدميه وتأخريه
وقال في رواية المخدمين:
وتغسل الحوض الكبير وتبخره
وفي الكنيف الإبريق دائما تحضره
وعندنا القربه وعندنا الحمير
تملا لنا القربه من البحر الكبير
وتروح للجامع تجيب ستين رغيف
لكن تنقيهم من العيش النضيف
وكل يوم تبيع لنا العيش القديم
ويكون معك في السوق عبد الشيخ سليم
وكل شيء تسلمه لي بالعدد
أوعى يغشك حد في السوق يا ولد
طهق من الخدمة وكتر المرمطه
والشيخ دا لاخر يحب المظرطه
قوم يا ولد هات الجرايه وعدها
ونضف البغلة قوام وشدها
ويطخخه مشوار لتمن السيده
من شان عزومه وكل يوم على كده
حتى انبرى عظمه وجسمه انتحل
كأنه اتولد لا شك في طالع زحل
ترى الفرق شاسعا بين الاثنين وأن السهولة والانسجام يطاوعانه في الأخير، ليت شعري ما الذي حداه إلى تعريب هذه الروايات التمثيلية؟ أيريد أن يقدم بها التمثيل في عصره، أم ينفح القراء بمعجزات «راسين وموليير»، أم يهدي إليهم من الحوادث والوقائع ما يتفكهون به في أوقات فراغهم؟ وايم الحق إنها لا تصلح لهذا ولا لذاك، حتى إن اعتبرناها الاعتبار الأخير سئم منها القارئ وفضل عليها «روكامبول» و«اللص الشريف» وأمثالهما من الروايات المحشوة بالحوادث الغريبة والوقائع المدهشة.
تطاول قلم المعرب أيضا إلى الروايات القصصية التي تعد من أمهات كتب النثر الفرنسي فترجم رواية «بول وفرجيني» وسماها «الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة»، وكلنا نعلم أن هذه الرواية تعد في نوعها درة يتيمة لم يوفق أحد قبل مؤلفها ولا بعده أن يأتي بمثالها أو ينسج على منوالها، فكأنه دخل في قلب هذين الطفلين البائسين وقرأ ما خط فيهما من آيات الهوى العذري الطاهر وأخرجه للناس في قالب رقيق ساحر كأنه أنغام شجية تستهوي الأفئدة رقة وعذوبة.
عمد المترجم في تعريبه إلى السجع فمسخ هذه الآيات البينات وأقبر محاسنها وكساها ثوبا من الركاكة تنفر منه القلوب قبل الأسماع، وإني لمورد منها بعض جمل ليحكم القراء عليها، قال في أول الكتاب: قال الناقل لهذا الخبر الصحيح والقول الفصيح: بينما أنا في سياحتي على كفي تعبي وراحتي وإذا بجزيرة من جزر بحار أفريقية، فنزلت فيها على الجهة الشرقية، فرأيت تحت سفح الجبل من هذا المحل بمينا يقال لها: مينا الواس أرضا أفلحت لبعض الناس، ورأيت بها أثر عشتين صغيرتين في وسط حوض كائنتين.
ومنها: إني لا أطمع في هذا الفخر إلا لأنشره على ورد جنة، وأجعل ذكرها به يرن أعظم رنة، حتى تسير بذكرها الركبان وتصير به سيدة البنات والنسوان، وأنت يا أبتي، بالله عليك وحق خضوعي بين يديك إن كنت تعلم طرفا من الغيوب وأنه سيجتمع المحب بالمحبوب، فحدثني بالخبر الصحيح، وأدخل علي التفريح.
وقبل التكلم على «العيون اليواقظ» نذكر كلمة على «لافونتين» لنعرف درجته في الفضل.
اشتهر هذا الشاعر الفرنسي بقصصه وحكاياته التي ذاع صيتها في الآفاق وترجمت إلى جميع اللغات، ولم ير في جميع الأمم شاعر تفنن مثله في أسلوبه الذي جمع بين شائق القريض وبدائع التعريب وسلاسة التركيب ورائق الوصف ولذيذ الفكاهات وطلى الملح.
كان قادرا على تصوير النبات والجماد والحيوان قدرته على تمثيل أشخاصه تمثيلا لا يشوبه التقصير ولا المغالاة، حتى أصبحت حكاياته نافعة لتهذيب الفتيان قبل الصبيان، ومهما كنت قادرا لا أستطيع أن أوفي هذا النابغة حقه في المجد الأثيل والفضل الجزيل، وما على القارئ إلا أن يرجع إلى الأصل الفرنسي ويتمعن فيه ليتجلى له خفي معانيه ودقائق مبانيه .
سلك المعرب سبيل التصرف المخل، وكان مسوقا إليه لركونه إلى النظم في التعريب؛ إذ لا يتيسر لأشعر الشعراء أن ينقل إلى الشعر شيئا دون تصرف، حتى المترجمين من الإفرنج لا يترجمون النظم إلا نثرا، ولو كانت الترجمة والأصل من لغتين مصدرهما لاتيني؛ ليحافظوا على روح الشاعر وأسلوبه ومعانيه الدقيقة، حتى يكون الأصل والترجمة صنوين أو توأمين.
توخى المعرب في كتابته الأزجال والأدوار والأراجيز وشيئا قليلا يعد على أصابع اليد من بحور العروض، وغير خاف أن الرجز ممقوت ولا يعتد به الشعراء؛ لأنه من خصائص «الفقهاء»، إذ ينظمون به متونهم، وعبر عنه بعض الفضلاء بحمار الشعراء.
فبعمله هذا ذهب بطلاوة هذا النظم البديع والمحاسن الرائقة، وضاعت الفكرة المنشودة، وأصبحت الترجمة لا تليق أن تعزى بشكلها هذا إلى عطارد الزمان في القصص والحكايات ... ومن أنعم النظر في قريضه بهذا الكتاب وجده لا يفترق تقريبا عن نثره الذي أوردنا طرفا منه، وما على القارئ إلا أن يراجعه ليتبين صدق ما قلناه. (1-9) الشيخ أحمد عبد الرحيم
ولد بطهطا عام 1233، وتلقى العلوم العقلية والنقلية بالأزهر، ثم عين مدرسا للنحو والصرف بمدرسة التجهيزية فالمهندسخانة فالحربية، ثم أسندت إليه أخيرا رئاسة تحرير الوقائع المصرية، اشتغل بالآداب والنظم والنثر، وله مؤلفات منها: «منظومة في الصرف»، و«نهاية القصد والتوسل في فهم قولة الدور والتسلسل»، ورسالة في «علمي العروض والقوافي»، وجملة رسائل نحوية أحضرها «النقطة الذهبية في علم العربية»، وديوان مدائح نبوية لم يطبع مرتب على حروف المعجم سماه «در الشرف المنظم في مدح النبي الأعظم» وكل قصيدة منه زهاء خمسين بيتا، وقصائد ومقطعات عديدة جيدة منه ما كتبه لأحمد أفندي فارس صاحب الجوائب بالآستانة في ذيل رسالة:
يا أيها البحر قد أهديتني دررا
فليت شعري ماذا اليوم أهديكا
أخلاقك الغر مثل الشمس ظاهرة
فأنت في غنية عن وصف مطريكا
أجمال مدحك لا أرضى به وإذا
فصلت أخشى قصورا ليس يرضيكا
فإنما هو راح لست آمن من
إكثاره نشوة تنسي معاليكا
أنت الخضم لعلم لا مراء به
فكنه للحلم وامنحني تغاضيكا
وقال: يقول محرر الوقائع: لما رأيت اللآلئ من البحر وقلادتها لا تليق إلا بذلك النحر زاوجت قصيدة مؤلف الجوائب فيه محافظا فيها على غر قوافيه، فانصرف معناها إليه وصار مقصورا عليه، فحق لها أن تختال به في حليتها ولو كانت بنت ليلتها تجد إليه السرى وهذا كما ترى:
علم الهوى لم يبق في بقية
فأرادني بأبي وقال هدية
أهدي إلى عبد الرحيم تحية
غراء يصحبها الثناء الطيب
كم لي تقول امدحه مدحا باهرا
وارصد لحلبته النجوم مساهرا
هبني أجيد المدح لكن زاهرا
ت صفاته كالزهر ليست تحسب
والقصيدة تبلغ ثمانية وثلاثين بيتا. (1-10) الشيخ علي أبو النصر
كان حبرا فاضلا في الكتاب والسنة، متضلعا في العلوم العربية، أديبا شاعرا ناثرا، لطيف المعاشرة، متقربا من الملوك والأمراء، طيب المنادمة والمفاكهة، حاد الذهن لا يغالب في المناظرة، وله مواليات وأزجال لطيفة عبثت بها يد الإهمال والشتات فلم يعثر عليها وقت طبع ديوانه، وقد سافر مرتين إلى الآستانة؛ الأولى في زمن عزيز مصر علي باشا حينما احتفل السلطان عبد المجيد بختان أنجاله، طلب من الخديو أن يبعث إلى الآستانة بعض العلماء والأمراء من مصر لحضورهم الوليمة الملوكية، فانتخب من العلماء الشيخ التميمي مفتي الديار المصرية والمترجم له، والثانية كانت مع الخديو إسماعيل باشا في زمن السلطان عبد العزيز. هذا جل ما عثرت عليه من ترجمته في رثاء أحمد خيري باشا ناظر المعارف له، ومن لطيف شعره قصيدته التي قالها وهو في الآستانة يمدح بها سلطان باشا، ومطلعها:
حيي وفي كفه كأس الطلا فبدت
في خده من شعاع الكأس هالات
ظبي من الترك ما أحلى شمائله
شقائق الورد في خديه شامات
وقصيدته الدالية ومطلعها:
كتب المشيب بأبيض في أسود
صحفا أشار بها لقرب الموعد
وروى بها عني حديثا يقتضي
بفضاء ما بيني وبين الخرد
وقصيدته الغزلية وأولها:
زارت معطرة الإزار
من بعد ما شط المزار
هيفاء تفعل بالنهى
ألحاظها فعل العقار
وقصيدته التي قالها في ليلة أصابه توعك أقلقه:
خيالات يصورها الغرور
وأوهام يضل بها الغرور
وأوقات زخارفها زيوف
وديدنها التصرم والمرور
وقصيدته الحكمية ومطلعها:
إلام تصوب الأوهام غيا
وتنشر ما طواه الرشد طيا
وفيم تقودنا الأطماع طوعا
إلى ما يغضب الحر الأبيا
وقصيدته التي يمدح بها الخديو إسماعيل باشا ومطلعها:
سفرت فكاد البدر أن يتلثما
ورأى الشقيق خدودها فتبسما
وخمريته المشهورة وأولها:
بنت كرم دونها بنت الكرام
وهي بكر زفها ساقي المدام
ومنها:
آنس الندمان نارا إذ بدت
فأتوها لاقتباس واقتسام
فرأوها محض نور تزدري
بالنجوم الزهر في وقت الظلام
إن في هذه العجالة لكفاية للقارئ؛ إذ بها يستطيع أن يقف على ما كانت عليه اللغة في عصرهم، ويستنتج مما قدمناه أن عيوب ذاك الزمن تنحصر في السجع والاعتناء بالألفاظ والمحسنات البديعية دون المعاني والخيال، وعدم توفر سلامة الذوق عندهم وهي ملاك البيان، كما أنهم لا يتوخون في ترجمتهم مراعاة الأصل ويتصرفون تصرفا مخلا، غير بعيدي النظر حتى إنهم كثيرا ما تفوتهم في الترجمة المعاني الدقيقة، وكان أغلب شعرائهم ينسجون على منوال بعض القدماء الذين لا يعدون من الشعراء ويأتون بنفس معانيهم مع تغيير طفيف في الألفاظ والوزن دون أن يعبروا عن وجدانهم وشعورهم، وقد لاحظت أن كثيرا منهم يتوخى في مقدمات قصائده معنى من الغزل أو الوصف أو المدح يكاد لا يغيره في أغلب شعره، فإن تغزل لا يتعدى ذكر الأيك وغصون البان والحمام ينشد إلفه وبكاء الغمام والفتيان وعذارهم والفتيات ورضابهن المعسول وقامتهن الهيفاء، وإن مدح لم يتجاوز البشرى من إقبال العز واستنارة الأكوان بطلعة الممدوح المشرقة، وموافاة المجد والفخار والعلو إلى السماك وغير ذلك، هذا وإني أكرر القول بأن هؤلاء مهما وصموا بالعيوب فإننا نجلهم ونمجدهم؛ إذ كانوا زعماء تلك النهضة العلمية في عصر كادت تنطمس فيه معالم اللغة والأدب، ولولاهم لقضي عليهما القضاء الأخير. (2) منصور
تاريخ فتى من أبناء مصر «كتبه بالفرنسية الدكتور أحمد ضيف والمسيو بونجان»
عثرت منذ ثلاثة شهور تقريبا على هذا الكتاب بمكتبة «الأجانس» فقرأت منه باشتياق، ثم حالت أعمالي دون الاستمرار فيه فطويته في ركن إلى أن سنحت لي الفرص بالعودة إليه فأتممته بين لذة وإعجاب.
رأيت أن الواجب يقضي علي ألا أغفل هذا العمل الجليل الذي حاز الإعجاب في فرنسا وباريس؛ بدليل أن الطبعة التي وقعت في يدي هي الرابعة ولم يمض على ظهور الكتاب أكثر من سنة أو أقل.
ليس الدكتور ضيف محتاجا لتعريف بيد أنه من الأفراد القلائل الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة، والذين تملصوا من جمود التربية الأزهرية وأخذوا يخطون صوب الرقي خطوات واسعات تتناسب مع المدنية العالمية.
عرفت الدكتور مذ كان طالبا بمدرسة دار العلوم، فكان يؤم متنزه الجزيرة بجوار الكوبري في بعض الأحيان وقت الأصيل، وصادف أنه جلس بجانبي فحصل التعارف.
وجدته وقتئذ رقيقا تواقا لمعرفة كل نافع، سليم الذوق، دقيق الملاحظة، صائب الأفكار، ولقد قلت في نفسي: سيأتي يوم يغبطه الناس فيه على فضله.
فرقت بيننا الأيام وسافر في العام التالي مع بعثة الجامعة، ولما آب من سفره انتظم في سلك أساتذتها وأنشأ يكتب في مجلة السفور قطعا باهرة، أذكر منها رواية بعنوان «هي» كتب منها نحو سبع قطع ولم يتمها، كان فيها الوصف بالغا حده من الدقة وحسن التصوير، والعواطف تلتهب التهابا بأسلوب ظريف لا يشوبه تكلف، تزينه رشاقة جذابة ورقة فتانة.
أما المسيو بونجان فكان أحد الأساتذة الفرنسيين بوزارة المعارف، وكان درس آداب اللغة والإنشاء بمدرسة المعلمين العليا، وقد أخذ مكافأته وسافر في العام الماضي، ويعد أعظم كاتب فرنسي بين أساتذة الوزارة، وله مؤلف آخر كتبه وحده بعنوان: «أخبار الساعة الثانية عشرة»، وقد كتب مقدمته الكاتب الذائع الصيت رومان رولان وهو الآن رئيس تحرير مجلة «لانوفيل ليتيرير»، وهي من المجلات الأدبية الشهيرة.
يضطرنا البحث لمعرفة نصيب كل من الكاتبين في هذا العمل لنسند إلى كليهما ما يستحقه من الملاحظات والنقد، ومن البديهي أن المسيو بونجان لا يدري أسرار الطبائع والعادات المصرية بالتفصيل، ولا يعرف تلك الحوادث، فتكون إذن مهمته في هذا العمل تنقيح الإنشاء والترتيب الفني لسرد الحديث، ويكون الدكتور ضيف هو صاحب الفكرة ومؤلف الكتاب.
الكتاب يشمل تاريخ حياة «منصور»، وهو ابن طالب بمعاهد الإسكندرية الدينية، وشيخ طريقة يعرف بالشيخ الصغير، وجده شيخ طريقة أيضا ويعرف بالشيخ الكبير، وهذا الأخير كان أعظم نفوذا واعتبارا واحتراما.
أمضى أهل منصور شطرا من حياتهم بالقاهرة حدثنا في خلالها منصور عن حضرات الذكر وشعوذة المشعوذين من أرباب الطرق وحفلات المحمل والموالد والزار، وصور لنا طبائع وعادات كثير من أقاربه ومريدي والده وجده، وسرد لنا كثيرا من الخرافات السائدة بين العوام والتي كان يسمعها من أفواه أهله ومعارفهم، ومن ألطف ما صوره لنا صورة الكتاب بمصر وفقيهه، وهي من ألذ الفكاهات الواقعية التي تمثل بؤس هؤلاء الصبية وما يقاسونه من شظف العيش وسوء الحال، وإني أترجمها للقراء بنصها وفصها:
كان والدي يعرف الشيخ الذي يدير كتاب حينا، وأوصاه علي، فكان يأتي كل يوم لمنزلنا بعد طلوع الشمس بقليل زميل أكبر مني سنا ليصطحبني إلى الكتاب، وكنت أسمعه يناديني في السلم: يا منصور! يا منصور.
كانت رنة هذا النداء تزعجني، وكثر ما هونت علي أمي وطأة الهم بإعطائي مليما، وفي بعض الأحيان قطعة جبن أو كعك فأضعها في مخلاتي التي تشمل عادة رغيفا ملفوفا بمنديل وبعض أوراق من المصحف واللوح.
ولقد أوقظت في الصباح على غير ما يرام فكنت كئيبا ولم أهتم بشيء في طريقي، وحينما قاربنا المسجد سمعت دوي الأصوات فزاد انقباضي، ثم صعدت الدرجات الثلاث وبلمحة عين ألفيت ما كنت أمقته، إذ شاهدت سرب الزملاء متربعين يحفظون دروسهم بأصوات عالية في ألواحهم وقد أمسكوا بها باليدين، وكان اهتزازهم المستمر يطبع على ظهورهم حركة الوزن الموسيقي، وفي هذه الجلبة التي تصم الآذان ووسط هذا الاضطراب تربع سيدنا على جلد شاة وهو ثابت في مكانه دون حراك، فتوجهت إليه وقبلت يده. - اجلس هناك، وأشار إلى قطعة من حصير بال.
أمعنت النظر في هذا الكتاب فإذا هو بهو كبير مرتفع السقف مزخرفه، له ثلاثة جدران عاطلة، وبمكان الرابع مدخل واسع تمر منه الشمس فتملأ المكان رغم الستار المسدل، وفي أحد الأركان زير قذر وكوب علاه الصدأ، وقد ركب على أحد الجدران رفان أو ثلاثة ليضع عليها التلاميذ مخاليهم وخبزهم.
ورغما من كون سيدنا من أصدقاء والدي وقد تعطف علي وجعلني أجلس على كثب منه ما كنت لأميل إليه، وكل ما كان يصدر منه يظهر لي قاسيا وظالما، وكنت أشعر في حضرته بتضاؤلي وقد ضل فكري حتى أصبحت لا أكيف وجودي وعملي وكأنني ضللت بين الجموع، وكنت أجد هناك شيئا جديدا لا أحتمله.
كنت أشعر وأنا في الطريق أو بجانب والدي أو عمي مصطفى أنني أمتاز عن باقي الصبيان، وكأنني قبلة أنظار إخواننا في الطريقة، إذ تتجه إلي أبصار تشف عن الحنان والعطف.
ما كنت أستطيع أن أوجه طرفي لغير المعلم، وما كنت أرى غير لحيته التي أشعلها الشيب وهيئته التي تدل على عدم الاكتراث، وكانت له وسادتان إحداهما يضعها تحت جلد الشاة والثانية خلف ظهره، وكان يرى طابع ظهره فوق الحائط.
تربع على تلك الحال أمامنا بين مقرعته الطويلة وصندوقه الصغير الذي يضم أقلامه؛ حتى أضحى يخيل إلي أنه هو وقاعة الكتاب المرتفعة العارية الكئيبة وحدة لا تتجزأ، حتى إن ضوء الشمس الذي كان يفترش الجدار أمام المدخل ظهر لي كأنه يخالف مثيله في الطريق، وقد ساد الانسجام بين هذه الشمس الباردة المحزنة المحدودة الشكل والتي لا يتأتى تجنبها وبين شخص سيدنا.
بلغ عدد الصبيان الأربعين على الأقل، وكل منا يحفظ درسا مخالفا للآخر، وكنت لا أفهم شيئا من السور المقدسة تقريبا، وفي ظرف ساعة كان سيدنا يدعونا مشيرا إلينا بطرف مقرعته لنسمع دروسنا، وكنا نذهب إليه كل بدوره ولوحه تحت إبطه، فمن حفظ درسه أمره سيدنا بمحوه وكتابة درس جديد غيره، ومن لم يحفظه عاد إلى مذاكرته ويفوته الدرس.
وكان يعهد بصغار الصبية إلى من هو أكبر منهم سنا ليراقب نسخ القرآن في الألواح، وكان هذا العمل يشغل التلاميذ لغاية الظهر.
وكان أغلب التلاميذ لا يتناولون غذاءهم في بيوتهم، وكنا نأكل خبزنا وجبننا على درجات سلم المسجد، وكانت بائعة عجوز تبيع لنا قصب السكر والفجل والحمص الأخضر «الملانة»، وكانت رائحة الطعمية فوق المقلاة تعم الطريق وتحرض شهوة الطعام، كان من المتيسر شراء أنواع الفطائر والكعك والحلوى الملونة بمختلف الألوان، ولكن الغلمان فقراء، إذ كانوا يؤمون الكتاب حفاة ممزقي الثياب وعلى رءوسهم قلانس قذرة، وكثير منهم يقنع بخبزه بغير إدام.
كانت فكرة العود إلى الكتاب كافية لتنغيص ساعة الحرية هذه، فكنت أنظر بحزن إلى الموضع الصغير الذي كانت تهب فيه الرياح السافيات، وكان الجزء الذي كسته الشمس لا يمر به إلا ظل الحدأ المتقطع والتي كانت تحلق في الجو فوق رءوسنا.
وفي بعض الأيام كان القيظ يلفح وجوهنا كالنيران، فكنت أشعر أنني في حاجة إلى السكوت والسكون وتبديل مكاني كل خمس دقائق، وكان يخيل إلي أن النهار شديد أبيض يعمي الأبصار؛ لأن الحرارة كانت عمودية شديدة كأنها القضاء الساحق، وكانت الغرفة بشكل واحد لا يتغير تنقبض منه النفوس والأبدان.
عدنا إلى الكتاب ملبين نداء العريف، وأول تأثير يجول بخاطري ما أجده في الكتاب من الظل والنسيم البارد المحبوب، ولكن سرعان ما يتبدل؛ إذ كنت بعد خمس دقائق آسف على الهواء المحرق الخارجي.
صاح سيدنا قائلا: أحذركم من القراءة بأصوات منخفضة.
فلا تلبث الظهور أن تعود إلى حركتها من الاهتزاز وتعود الحياة إلى الكتاب فيضحي كأنه آلة عظيمة الجلبة، وكانت تميز وسط هذا اللغط المزعج أصوات متباينة.
ولما يجد سيدنا أن الحركة الميكانيكية تحسنت وانتظمت ليتغذى بدوره ويشرب الحساء في طبق يضعه أمامه على الأرض، ولقد شاهدت خيوط الملوخية يكثر عددها شيئا فشيئا وهي معلقة بين لحيته وطبقه، ثم يأخذ القلة ويجرع منها بهذا الشكل.
كنا نرصد حركاته واثقين من أنه سينام بعد الطعام، وحينما نرزح تحت وطأة الحر ينتهي الأمر بأن ننام أيضا، وكان العرق يتصبب من جباهنا ويسيل فوق ألواحنا فيلوث وجوهنا، وكان الزير دوما محاصرا بسرب من الصبيان ينتظر كل منهم الكوب بدوره، خفتت الأصوات شيئا فشيئا فاستيقظ سيدنا صائحا: إياكم والقراءة بأصوات خافتة! هاج الكتاب وماج كآلة بخارية ضخمة، ونام سيدنا ثانية إلى قبيل تسميع درس بعد الظهر، وكنا في الساعة التي يقيل فيها كل أهل المدينة نستمر دون انقطاع في القراءة بصوت عال.
وأخيرا حوالي الساعة الرابعة يرن صوت المؤذن لصلاة العصر، وكان هذا الأذان علامة الانصراف التي لاحظتها من زمن، فنستعد للرواح ويرفع سيدنا مقرعته مؤذنا بالسكوت، ثم ننشد بصوت عال:
اللهم يا سميع، يا من لا ييأس من عونك السائلون، انصر مولانا السلطان على الكافرين، ربنا تقبل دعاءنا يا من هو قادر على كل شيء.
ثم ألثم يد الشيخ وأرجع إلى البيت مع دليلي وأنا مهموم في الرواح كهمي في الغدو، وما فتئ لغط الكتاب يدوي في أذني فيغطي صوت نفسي، كنت أعلم أنه ينبغي علي أن أقضي عامة النهار من طلوع الشمس إلى غروبها وأنا سجين هذا الفقيه البارد المتعنت، وكانت الساعات والأيام حتى التلامذة في نظره كالبسلة في سلة، وقد سئمت نفسي من وطأة حياة كريهة على وتيرة واحدة، وكنت أشعر أنني كضغث من العشب الأخضر وقع من حمل بعير فتلوث بالأوحال وداسته الأقدام.
وفي صبيحة يوم أردت أن يبري العريف قلمي فلكمني بقبضة يده، وكان سيدنا مستاء من سلوك هذا التلميذ فأشار إلى عريفين بأن يقبضا عليه، ثم نزع بنفسه الفلقة المعلقة بالحائط وأمسك العريفان كل منهما برجل ليتمكن الشيخ من وضعهما في الفلقة، ثم ألهب سيدنا رجلي هذا المسكين بجريدة رفيعة، فصاح هذا التعس: عفوا! عفوا! بحياة النبي! بربك!
كنت أرتعد وأقشعر عند كل ضربة، وكان صياحه يخترق جسمي، ولقد ظهر لي سيدنا كالوحش الضاري وطفقت أتنفس بألم وأمقت الكتاب والدنيا والحياة.
ثم رحل أهل منصور إلى الإسكندرية وأدخلوا منصورا في كتاب الشيخ خضر، وكان أرقى كتاب في الثغر، ولكن هذا الشيخ كان مثالا للقسوة البربرية والوحشية، وكانت خاتمته سيئة؛ إذ اتهم بتزوير عقد، ولما عرف أنه سيقبض عليه فضل الانتحار وألقى بنفسه في ترعة المحمودية فغرق.
سئم منصور من الكتاتيب، فأشار على والده أحد أصدقائه من الموظفين بأن يأخذه إلى باشكاتب إحدى محاكم الإسكندرية الموظف بها وأوصاه به خيرا، فقبله ليقضي زمن التمرين إلى أن تتاح له الفرص ويعينه كاتبا، ومن ألطف الفكاهات أنهم ألزموا منصورا بأن يحضر معه كرسيا من بيته ليجلس عليه، فركب منصور حمارا وحمل له الحمار الكرسي وسار وراءه بعدما رفض في أول الأمر حمله، وقال له: ضعه أمامك على الحمار، ثم وعده بزيادة درهم على أجره فقبل في نهاية الأمر ... شاهد منصور صورة جهنمية في قلم المحضرين، إذ رأى نساء مولولات من المساكين يستغثن بالمحضرين الذين حجزوا على ما بقي لهن من حطام الدنيا وبجانبهن العقبان والرخم، وهم كتبة العرائض يسدون على المتقاضين المسالك ليمتصوا ما بقي من دمائهم ويسلبوا درهمهم الأخير، وبجانبهم باعة الأطعمة الحقيرة كالطعمية والخبز والسلطة والباذنجان يبيعون بضاعتهم للمتاقضين والموظفين، والكل في هرج ومرج أشبه بأسواق الريف.
قضى منصور بضعة أيام والقلق يساوره والكرب يغالبه، فتوسل إلى والده لينتشله من هذه البؤرة الممقوتة، وفضل أن يلتحق في سلك طلبة المعاهد الدينية ليصبح أديبا شاعرا.
ولما أصبح الصباح لبس منصور العمامة من جديد وارتدى جبته وقفطانه وطرح البذلة جانبا، وأخذه والده إلى الشيخ يوسف إمام مسجد حيهم وأوصاه به خيرا، وطلب منه أن يصطحبه إلى مسجد أبي العباس المرسي ويقدمه إلى أساتذته.
كان الشيخ يوسف ضريرا، ركب فيه اللؤم والخسة، يتشدق في مجالس العامة ليوهم أنه من كبار العلماء والشعراء المفلقين، وكانت العامة تؤمه لينظم لهم تاريخ ميلاد أو تهنئة بزفاف أو غيرها وينقدونه بضعة دراهم، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز العشرين، وكان يتعرف بالأسر ويتشدق عندهم بفكاهات محفوظة معدودة ليحظى بالغداء أو العشاء، وكان يفضل أن يسامر نساء من يتعرف بهم ثم يسلقهم بألسنة حداد، وقع منصور في مخالب هذا الذئب، فأراد أن يستغل سذاجته فأوهمه بأنه سيعلمه النحو والصرف وعلوم البلاغة والعروض، فيصبح بعد قليل من الزمن أديبا شاعرا، وأنه سيسحب ذيل النسيان على زملائه من الطلبة. صدق منصور هذه الأوهام واستمثل له، فجعل يسخره ليل نهار في شراء الجبن والفجل والفول المدمس، ولم يكتف بذلك بل أرجعه إلى السوق في يوم مطير ليزيد له البائع ما باعه من الطعام، وكان يقوده من المسجد إلى البيت والسوق.
تعرف منصور في حلقة الدرس بشاب يدعى إبراهيم، فقال له: إنك مغرور بهذا الشيخ وهو من الأبالسة، ولقد تعرف بنا وأضفناه وأكرمنا وفادته ولكنه أساءنا، وسأريك ما أنا فاعل به.
وبعد صلاة العصر نادى إبراهيم: لا تبرحوا مكانكم أيها المؤمنون، أيليق بالإمام أن يذكر أحاديث الفسق والفجور أمام السيدات والبنات، فاحمر الشيخ يوسف خجلا وثار قائلا: أخرجوا هذا الحشاش من المسجد.
كان منصور تحدثه نفسه أن التعليم في معاهد الإسكندرية ليس راقيا كالأزهر، فطمحت نفسه إلى الالتحاق به وحدث والده بذلك، وصادف في هذه الأنباء ورود خطاب من عمه مصطفى إلى أبيه ينبئه بأن ابنه هرب إلى الأزهر والتحق به، ويعرض على منصور أن يذهب إلى الأزهر على نفقته ليراقب ابن عمه، وإلى هنا انتهى الشطر الأول من حياة منصور وتعليمه الأولي، وللكتاب جزء ثان تحت الطبع وسنعود إليه عند ظهوره ونخصص له بحثا آخر.
الكتاب صورة ناطقة للطبقة السفلى، لم يترك كبيرة ولا صغيرة من طباعهم وعوائدهم وعاداتهم إلا حللها تحليلا دقيقا بسيكولوجيا، ولقد كتب بأسلوب رشيق لا يشوبه تكليف، تزينه النكات والفكاهات، وحوى من الوصف الدقيق ما يكاد يجسم لك الحوادث والعادات والأشخاص ليسيرها أمام القارئ صورا حية متحركة، فهو في مجموعه عمل عظيم جليل بليغ، وما هو في الحقيقة إلا تاريخ حياة الدكتور ضيف ومذكرات له عن صباه وأدوار تربيته وما مر عليها من التقلبات.
لقد سطت على هذا الجمال النادر ثآليل شوهته ونفرت منه النفوس، تعرض الأستاذ للدين في كثير من المواضع بمناسبة وبغير مناسبة، وطفق يتهكم على الشعائر الدينية.
وإن كانت الشعائر عند الأستاذ بدعة من البدع أو خرافة من الخرافات، فلم لم يكتب لنا بحثا عربيا يدون فيه نقده وملاحظاته على الدين وينشره بين قومه الذين انتقدهم؟ ما الفائدة العائدة من نشر هذا التهكم وتلك السخرية على الدين الإسلامي عند الفرنسيين؟ وأظن القارئ إن فكر معي قليلا في هذه المعميات والطلاسم عرف أن الذي حدا الأستاذ إلى هذا السلوك الشائن ليس إلا فكرة ترويج الكتاب بنشر هذه الأسرار الدينية التي يتطلع إليها الأجانب وخصوصا الفرنسيين ليتخذوها ملحا وفكاهات يهزءون بها في مجالسهم، وإني أحكم القراء بيني وبينه وأسرد لهم بعض جمل من الكتاب بكل أمانة دون أن أغير شيئا في التعريب.
قال في صفحة 16:
ها هو الحاج قد نزل عن مقعده الخشبي «الدكة» وذهب ليأخذ حصيره المطوي بجوار الحائط، وكان باليا تخرم في مواضع القدمين والكعبين والجبهة، فرشه في اتجاه القبلة بجانب البئر ثم نزع جلبابه واحتذى نعله الخشبي «القبقاب»، فأصبح عاري الجذع والساقين ولم تستره غير سراويله، ثم ذهب إلى البئر وملأ منها الدلو ووضعه على الأرض، وطفق يغترف الماء بيديه ليتوضأ ويغسل وجهه وذراعيه وقدميه، ثم يقف على حصيره والماء يقطر من أعضائه ويرفع يديه إلى رأسه وهو ناظر أمامه دون انحراف كأنه ينظر شيئا وراء الجدران التي تحد نظري، وسمعته يقول: الله أكبر! الله أكبر!
ثم يضع ذراعيه إلى الأمام ويده فوق الأخرى، ويخفض رأسه غاضا الطرف ويتمتم بكلمات لا تفهم ويعمل حركات أخرى اعتدت عليها؛ لأن هذا المنظر يتكرر خمس مرات في اليوم، فيركع تارة ممسكا بركبتيه، ويسجد طورا مستندا إلى يديه بينا يمس جبينه المتجعد الحصير، وإني أعلم أنه في هذه الآونة لا يتأتى لفت نظره إلى شيء ما، إذ يصبح ما حوله كأنه لا وجود له، ولا يتسنى لأحد مقاطعته سواء أكان من أقاربه أو زائريه، بل كان الكل ينتظرونه وهم سكوت بعيدون عنه إلى أن يجلس على ركبتيه جلسته الأخيرة ويلتفت إلى كتفيه اليمنى واليسرى مسلما على الملكين الحارسين.
وأظن أنه لو كان أحد الأجانب الذين يدينون بغير الإسلام أراد أن يعتنق هذا الدين وقرأ صورة هذا المصلي لعافت نفسه هذا الدين، ونفر من هذا الرجل المضحك القذر الذي يصلي وهو عريان لا تستره غير سراويله كأنه «علي كاكا » يمثل فصوله المضحكة في أقذر أركان سوق العصر.
وقال في صفحة 66:
ولقد مرت في مخيلتي بعض أخبار أبي كما يجري الدم في شراييني، فتذكرت سيدنا جبريل الذي أملى القرآن على محمد
صلى الله عليه وسلم ، والذي اصطحبه في ليلة المعراج حينما اخترق النبي
صلى الله عليه وسلم
السموات حتى اقترب من القلم واللوح المحفوظ، الذي أعلم أن حظي أنا الغلام الصغير مخطوط فيه كجميع من يحيطون بي، وكان يخيل إلي أني أرى الملك ميكائيل الذي يرفرف بجناحيه حينما يأمر السحب والرياح بأن تبرق وترعد، والملك إسرافيل وهو واقف بالمرصاد أمام صوره وهو متهيئ لينفخ فيه يوم القيامة ليقوض أركان العالم.
ولقد طردت من خيالي بسرعة الصورة البشعة للملك الرابع من الملائكة المقربين وهو عزرائيل ملك الموت بأن حدقت إلى المركب الصغير المحفوف بالأسرار (هو المعلق على قبة الإمام الشافعي؛ لأنه كان هناك وقتئذ) فتذكرت سفينة نوح وهي ماخرة تقل جميع الحياة فوق ماء هاجه غضب الخالق.
وقال في صفحة 144:
وحينما تتلقى ملائكة السماء السابعة أوامر الله يبلغونها لجميع الملائكة في جميع السموات إلى أن تصل لسماء الأرض فتتحدث الملائكة بما علموه، فتظن الجن أن إرادة جديدة صدرت فيتسلقون فوق بعضهم إلى أن يبلغوا السماء ليسترقوا السمع من الملائكة، ثم يهبطون إلى الأرض ويذهبون إلى السحرة ليفشوا لهم أسرار الخالق؛ ولهذا السبب يعلم السحرة أسرار المستقبل، ولمنعهم وردعهم عن هذه الأعمال سلط الله عليهم الشهب الثواقب تحرقهم وتهلكهم.
وقال في صفحة 231:
ها هو أستاذك في فقه أبي حنيفة قال ذلك همسا في أذني، فأسرع إذن لسماع درسه.
ظهر لي الشيخ لأول لمحة ثقيلا؛ إذ كان هرما، وكانت فكرتي الثابتة أن أتلقى علومي على أساتذة من الشبان وسأجلس مع المستمعين وكتابي بين يدي دون أن أنبس ببنت شفة، نظرت إلى عينيه الكبيرتين اللتين لا تتحركان ولا تعبران عن شيء، ولحيته الطويلة البيضاء، وشاربيه المستأصلين، وأنفه الكبير القذر، وعلبة سعوطه وهي في حجره فوق منديل مثقوب ... وهذا هو النموذج الذي كنت أخشاه، وكان يتكلم وهو يهتز وكان شرحه ميكانيكيا، وفي كل ثلاث أو أربع دقائق يحشو أنفه بسعوطه ويمخط بجلبة قوية ... وفي آخر الدرس أردت أن أسلم عليه فدلت هيئته على أنه لا يراني، ثم همس في أذني طالب إنه ضرير.
إن هذا المنكود ليستحق الرحمة والحنان لسوء حظه وفقد بصره، والإعجاب لانقطاعه لتلقي العلوم، ونيله شهادة العالمية، والقيام بمهمة التدريس، فلم يسخر منه الأستاذ ويعيره بفقد بصره وضخامة أنفه وسعوطه، والعاهات الطبيعية لا يتأتى تجنبها؟ كما أن السعوط ليس مزريا لهذا الحد، فقد كان الإمبراطور نابوليون بونابرت وهو أبعد عظماء الرجال صيتا لا يفارقه سعوطه، وما فتئ منتشرا في أركان المعمورة لا سيما أوروبا، لنكتف بهذا القدر من أمثلة الكتاب ولو أن به كثيرا من هذا النوع، ولنلق نظرة إلى وضع الكتاب.
تورط الكاتبان في وضع الكتاب وجعلاه على شكل أخبار متسلسلة بطلها منصور، وطفق يحدثنا مذ كان صبيا إلى أن ترعرع وأصبح فتى، وجدناه وهو صبي يحلل الأشخاص تحليلا بسيكولوجيا، ويلاحظ ملاحظات دقيقة لا يراها إلا الحكماء، ويصور تصويرا يقف دونه كبار المصورين من الكتاب.
ولو كان عند أحدهما فكرة الوضع الروائي لما وقع الاثنان في هذه الورطة، وكان للكاتبين الحرية التامة في تحليل الأشخاص وسرد الملاحظات والحكم وغيرها على لسان الكاتب مهما اختلفت أعمارهم.
ومن المستغرب أيضا أنه قال في وسط حديثه وهو يصف كتاب الشيخ خضر حينما أدخلوا فيه أمين أفندي لتعليم الحساب:
وا أسفاه على الشيخ عبد اللطيف، فإني رأيت بعد خمس عشرة سنة من هذا التاريخ رجلا يقترب مني في الطريق ثم قال لي: يا بك! رعاك الله! انظر إلي بعين الرحمة وأعطني ثمن رغيف!
نظرت إلى هذا الشحاذ فإذ هو أستاذي «في كتاب الشيخ خضر»، فما الذي اضطره ليحدث عن شيء قبل أن يحصل بخمسة عشر عاما؟ ولم لم ينتظر حتى يأتي زمنه وموضعه من الحديث فيسرده؟
ومن الأحاديث التي تفوق في الغرابة قصص ألف ليلة خبر إحدى أميرات الإسكندرية التي اشترت فتاة تركية من الآستانة وكانت آية في الجمال، وعند قدومها اصطف الخصيان والجواري السود على جانب السلم واصطفت في الجهة الأخرى الجركسيات إلى آخر درجات السلم، ولما مرت بينهم نثروا عليها الذهب، ثم قادتها زينب هانم إلى غرفتها وكانت من الحرير الوردي وسريرها من الفضة المموهة بالذهب، وقد خصص لها معلمان أحدهما للفرنسية والثاني للموسيقى حتى فاقت سيدتها الأميرة.
ومن المستغربات أيضا أن إبراهيم الذي تعرف به منصور في المسجد دعاه إلى منزله لأول مرة، وحينما دخلاه نادى إبراهيم أخته زكية وكانت في سن الزواج وعرفها بصديقه، وقال: هيئي له القهوة ثم الغداء، وفي الزورة الثانية لم يجد إبراهيم وفتحت له زكية الباب، وبمجرد دخوله احتضنته وقالت له: قبلني، فخجل وقال لها: دعيني، فقالت له: لا تخف فنحن وحدنا، فعانقها منصور وقبل خديها، وقالت له: إنني أحبك وأريد أن أتزوج منك.
وبعد حين سافر منصور إلى مصر، وبعد خمس سنين ذهب منصور إلى الإسكندرية وزار صديقه إبراهيم وزكية وكانت وحدها في البيت فعانقته كعادتها وجلست على ركبتيه، وأخبرته أنها تزوجت من رجل وما لبثت معه إلا قليلا وطلقت، فسألها عن السبب، فأجابت: إني رأيته أجمل مني ولا أرغب أن أعيش مع امرأة، وإني ما زلت أحبك وأريد أن أتزوج منك، فقال لها: إني طالب فقير، فقالت له: خذ هذه الخمسين دينارا وقدمها إلى أخي مهرا، وبعد قليل أقبل أخوها وتردد منصور في الطلب، وأشارت إليه زكية خفية من الغرفة الأخرى ليخطبها من أخيها، فتردد وانصرف دون أن يفاتحه، وانتهى الجزء الأول على هذا.
هذا الخبر من أوله إلى آخره خيالي لا يقبله العقل؛ إذ كيف يعقل أن فتاة بكرا تهجم على فتى وتنهشه عناقا وتقبيلا بمجرد المقابلة الثانية، مع أن الخليلة بها بعض من الحياء يجعلها متهيبة من عشيقها الجديد زمنا ما إلى أن تتواتر المعاشرة، ومن وجهة أخرى ترى منصورا شديد السمرة فقيرا لا يملك شيئا مع أن زكية تملك بيتا كبيرا وحقولا، كما أن سبب الطلاق غير معقول، وإذا كان لكونه أجمل منها فلماذا قبلته زوجا؟ وأنها لا بد أن رأته مرة أو مرات ولو من خلال النافذة حينما كان يزور أخاها وربما جالسته كما جالست منصور قبله.
وإن هذا الموقف الذي ختم به الجزء الأول لشائن مزر؛ لأنه قبض المهر من الفتاة وانصرف دون أن يفاتح أخاها، وكان من حسن الذوق أن يفاتحه قبل انصرافه حتى لا يثير الظنون ضد منصور بهذا الموقف الرديء، وسنعود - إن شاء الله - لإتمام البحث عندما يظهر الجزء الثاني. (3) كيف تصورنا شاعرة فرنسية؟
قد تحتمل النفوس ما ينفثه الجاهلون من سم التعصب الذميم، وما توحيه إليهم عقولهم الصغيرة من تهكم قارس وبذاءة جارحة؛ فتمر عليها مر الكرام، ونناجي أنفسنا بكلمة واحدة لا يلبث أن يفوه بها اللسان بنغمة إشفاق على هؤلاء المساكين وهي «شفاهم الله».
ولكننا نحار في مفاوز التيه حينما نرى تلكم السخافات والترهات صادرة من إحدى الشهيرات من كاتبات وشاعرات فرنسا؛ ألا وهي «مدام لوسي دولارو ماردروس»، والأدهى من ذلك أنها ألقت محاضرتها التي تسخر فيها من المصريين بل من جميع أهل الشرق في 17 مارس الماضي، ونشرت بمجلة محاضرات جامعة «ليزانال» في أول أغسطس سنة 1923، وهذه الجامعة خاصة بالبنات بباريس، وتلقي فيها محاضرات من آن لآخر يحضرها كثير من الكتاب والشعراء وأعضاء المجمع العلمي وغيرهم من أهل الأدب ومريديه، وكان التصفيق والضحك يدويان في أركان المكان عقب كل جملة مما يدل على الإعجاب بهذا الخلط الممقوت والتعصب الفاضح، لم يكفها ذلك بل انتقلت إلى اللغة العربية وقالت بأنها نشأت من تقليد الإبل والخيل والضأن والكلاب والأسود.
والأعجب من هذا أن زوجها المصري مولدا والمعجب بآداب العربية والذي ساح في أغلب البلاد الشرقية التي تنطق بالضاد، وعرج على الهند لجمع نفائس من الكتب القديمة المخطوطة، ومن ترجم ألف ليلة وليلة والقرآن وملكة سبأ ترجمة سحبت ذيل النسيان على جميع التراجم قديمها وحديثها، لم يراجع زوجه في شيء من هذه الخرافات، فكأن مصر الذي ولد وتربى فيها هو وأبوه وعمه وباقي أسرته التي قضت قرنا تقريبا في مصر وما فتئوا ينعمون بنيلها العذب وشمسها المتألقة وبركاتها الوافرة لم يكن لها عنده ذمام ولا عهد ولا واجب ولا وفاء ولا حب لوطن، ولا للغة فتن بها وقضى عمره في ترجمة شيء عظيم من معجزاتها إلى الفرنسية.
إنني كنت أعجب بهذه الشاعرة هي وزوجها وقد قرأت مقتطفات من شعرها وإحدى رواياتها القصصية المسماة
rex-Voto
أي: «النذر»، وهي من أبدع ما كتب في نوعها؛ إذ تمثل حياة أهل «هونفلور» مسقط رأس شاعرتنا، وهي واقعة في مصب نهر السين وغالب أهلها صيادو أسماك تمثيلا شائقا، وبطلة الرواية تدعى «لوديفين بوكاي» وهي ابنة صياد سكير عربيد لا يقوم بحاجيات بيته، فكانت هذه الفتاة التي مضت طفولتها في التشرد في الطرق أو الهرولة وراء طير أو لتسلق الأسوار لسرقة فاكهة دانية أعظم مؤدب لوالدها السكير، بل لجميع أهل البيت الذي أصبحت مديرته، وقد لعبت أدوارها الشيطانية حينما أجبرها أبوها بأن تتزوج من رجل غني صاحب قهوة وسفن؛ لأنه كان ينفق على أسرتها بكرم حاتمي، وكانوا في فقر مدقع، فأظهرت القبول وأصرت أن تتخلص منه ولو قبل الزفاف؛ لأنها كانت تحب فتى يتيما تربى معها في بيت أبيها ولم تظهر له قط الحب، بل كانت دائما تتهكم عليه بقارس النكات ولا تخاطبه إلا بلهجة الآمر الناهي، وكانت مسيطرة عليه كباقي أفراد الأسرة، وانتهى الأمر بأن تزوجت منه وتخلصت من الأول قبيل الزفاف. وإنها لرواية ذات مغزى عظيم تمثل قوة الإرادة والذكاء وحسن التدبير لفتاة تربت في الطرق ولم تتعلم إلا شيئا يسيرا في طفولتها الأولى، وكان مهذبها الفقر وسوء الحال أو بعبارة أخرى: «الزمن».
ولشاعرتنا سبعة دواوين بأسماء مختلفة وسبع عشرة رواية قصصية، وقد ظهر أول ديوان لها سنة 1901 بعنوان «الغرب»، وكانت حينذاك في ربيعها العشرين؛ لأنها ولدت سنة 1881.
أما زوجها فهو أرمني الجنس واستوطن أسلافه في حلب حتى نسوا لغتهم الأصلية وأصبحوا لا يتكلمون إلا العربية والفرنسية التي تعلموها في المدارس، وانتقل والده إلى مصر هو وأخوه منذ قرن تقريبا، وكان والده وكيلا لشريف مكة السابق عون الرفيق بمصر، ورزق ثلاثا من الأولاد الذكور، أكبرهم زميلنا وصديقنا جان أفندي ماردروس الذي كان مترجما بمحكمة مصر المختلطة، وأحيل إلى المعاش منذ ثمانية أعوام، وهو لطيف المعشر متواضع، والثاني زوج الشاعرة، والثالث طبيب ببورسعيد، وقد ولد الأديب بمصر سنة 1868 ثم سافر إلى باريس لدراسة الطب ونال لقب «دكتور» بعد أن قدم رسالة بعنوان: «بحث في ضيق مجرى البول» سنة 1894، ومن هذا الحين انقطع إلى الأدب وساح في أغلب بلاد الشرق، ومن غريب أطواره أنه قاطع أخاه الأكبر منذ عشرين سنة أو أكثر؛ لأنه اعترض على تغيير لقبه وحذف حرف ال
O
من
Mardrous .
ذهب إعجابي واحترامي لهذين الزوجين حينما قرأت هذه المحاضرة التي يغر عنوانها وهو «الموسيقى الشرقية»، والحقيقة أنها لا تنطوي إلا على سخافات ممقوتة وتعصب مرذول، وليس فيها شيء عن الموسيقى، وها هي بنصها وفصها:
الموسيقى الشرقية
سيداتي وآنساتي وسادتي
ها أنا ذي أقف أمامكم لأحدثكم عن الموسيقى الشرقية وسأتكلم عنها حالا. أما الشرق الذي أعرفه فهي البلاد الشرقية التي يحتضنها البحر الأبيض المتوسط، وهي الجزائر وتونس ومراكش ومصر والشام وفلسطين وتركية أوروبا والأناضول، وسأترك الكلام عن اللغة التركية المدهشة وما هي إلا أنغام موسيقية لا سيما حين تسمعونها من أفواه النساء.
إني افتتحت قولي بأن العربي موسيقي؛ لأني أفكر في الوزن، وهو نصف الموسيقى على ما أظن.
إن الذين سمعوا المراكشيين أو الجزائريين وهم يتكلمون ليقولون لك وهم يأسفون: إن لغتهم قبل كل شيء حلقية ولهم الحق في ذلك، وإن كلامهم لا يخلو من الوزن الذي هو روح الشرق.
وسأحدثكم عن منشأ اللغة العربية تخمينا واحتمالا، ولكني أبتدئ القول بأن العربية التي تظهر للآذان أنها تختلف حسب البلاد ما هي إلا واحدة في الكتابة.
إن النطق العربي لأقرب إلى الوحشية والرطانة، فالمصري لا يفهم النطق المراكشي ولكن لا يصدق العكس، فإن المراكشي يفهم النطق المصري من أول وهلة بل ويعجب به، وكلما اتجه الإنسان إلى الغرب؛ أي كلما ابتعد عن مكة لاحظ أن العربية تفقد نقاءها وذلك راجع إلى طرق النطق، وفي مراكش أو بلاد الغرب تجد أن اللغة عندهم كلها سواكن بدون متحركات، وبالعكس في بلاد العرب فإنها تقرب من اللغة الفصحى التي تنتهي بمقاطعها الغنائية، والقرآن هو أعظم مثال لها.
ولا مراء في أن البلاد التي يسود فيها الغناء في كلامها هي مصر وأهلها كسالى، فتراهم بعكس المراكشيين يحذفون السواكن الجامدة ليطيلوا مد المتحركات.
أما أصل العربية فهو على ما أظن - ولا أقول ذلك بقصد أن أضحككم - ناشئ عن تقليد الإبل والخيل والشاء والكلاب والأسود، فنرى زئير الأسد ظاهرا في غضب العربي، ويعرف ذلك الذين سمعوا العرب وهم يتشاتمون.
وحرف العين واضح في هدير البعير وهو صعب النطق على الحلق الإفرنجي، وحرف القاف يمثل سعال الخيل ولا يتسنى للأوروبيين أن يلفظوه.
والصاد والضاد كثغاء النعاج، والواو في نباح الكلاب، أما الحاء والخاء فيمثلان تنخم السباع الهائجة في الصحراء (ضحك وتصفيق).
لقد حدثتكم بأن مصر أكثر البلاد غناء في كلامها؛ لأن المصريين استطاعوا أن يجعلوا من هذه اللغة الخشنة كلاما تسود عليه نغمة الحزن والشكوى متقطعا بسبب الإغراق في إطالة المتحركات وحذف بعض الحروف الجامدة، ولذلك استبدلوا حرف القاف المزعجة بسكون، وهذا السكون هو الذي يكسب غناء ضفاف النيل شكلا ممتازا، وفي مصر لا يقولون «قلبي» بل «ألبي»، ولا يقولون «قومي» بل «أومي»، ولا يقولون «القمر» بل «الأمر»، أما المتحركات فيحسن أن تصغوا إلى النساء وهن يتحدثن في خدورهن بمصر:
بتعمل إيه، تعالي هنا يا بت، أنا حبيبك يا عيني.
أما الغضب الذي حدثتكم عنه فأؤكد لكم أن اللغة العربية وحدها بما لها من الوزن والموسيقى قادرة على تلطيفه، وتيقنوا أن الإنسان يهدأ ثائره حينما يقول للآخر: «ينعل دينك يا معرص يا عكروت، وينعل أبوك وأمك وأختك يا ابن تلتمية وخمسين خنزير، وانشالله تموت بالموت الأحمر ضحك.»
وأؤمل أن تكونوا سمعتم الوزن في هذه الجمل الهادئة أو القوية، وقد نوهت لكم أن الوزن هو الأصل المشترك في الموسيقى والشعر، وأكرر لكم أن كل الشرق وزن، ولا حاجة بنا لأن نشط كثيرا يا آنساتي فإن عندكن فكرة ضئيلة من «الجازبند» وهي من اختراع الزنوج، والتي ترقصن على نغماتها هذه «الهامبولا» التي تسمى هنا «فوكس ثروت» و«شمي» وغيرها، وأظنكم لا تشكون قط في أنكم مهما حاولتم ومهما تلقيتم من دروس الدنيا فإنكم لا تستطيعون أن تقلدوا ولو عن بعد الرشاقة الوحشية في أنواع هذا الرقص الإفريقي.
إن الشرقيين لا يعدون خطواتهم ولكنكم تعدونها أيها السادة الراقصون والراقصات، ومهما حاولتم فإنكم لا تصلون أن تكونوا زنوجا (ضحك عام).
ولنعد إلى العرب فنقول: إن الوزن عندهم من الضروريات كالتنفس، والمرأة التي تندب ولدها تبكيه بأوزان وأنغام كما حققته في رحلي وأسفاري.
وأظن أنه قد سبق لي أن حدثتكم في نفس هذا المكان عن البدوية التي صادفتها في طريق قفر في «خروميري» ولم تدر أني أنظر إليها وهي مارة، وكانت تتقدم في رياح الخريف بين أوراق الخريف المتناثرة وعصاها بيدها، وهي تقطع ألحان الشكوى التي كانت تبتكرها وهي سائرة يخنقها البكاء والتنهدات، وحينما استعلمت عنها قيل لي: إنها تقطع وحدها أوزان الآلام؛ لأنها شاهدت المحضر الإفرنجي وهو يبيع أمتعتها الحقيرة.
وقد رأيت في مصر نساء مسلمات مستخدمات في محلات إفرنجية يسرن في الطريق حاملات آلات خياطة؛ ليمشين بين قطارات الترام والسيارات والسابلة من الإفرنج، ولا ينقلن قدما أمام الأخرى دون أن يغنين لحنا يساعدهن على نفض كسلهن الطبيعي.
وقد تحققت عندما كنت بالأقصر اضطرار المصريين إلى إسناد أعمالهم إلى الأغاني المقطعة، إذ رأيت رجالا وغلمانا يرفعون الأحجار عن هياكل أسلافهم ولا يجودون بأي مجهود إلا إذا أسندوه إلى لحن يغنونه جميعا.
وقد فاجأت في مقبرة إسلامية بالصعيد جمعا محتشدا من العمال المسافرين إلى السودان ينشدون ويرقصون بنظام كالرقص الروسي ليتشجعوا على ملاقاة النفي البعيد.
وكان يتشجع مثل هؤلاء العمال الموكلين بوضع قضبان الترام في القاهرة، إذ كانوا يرفعون معاولهم مع بعضهم ويتركونها تهوي مع بعضها إلى الأرض لتضرب نقرة واحدة تسير مع وزن اللحن المنشود من الجميع ، وليس المسلمون وحدهم هم الذين يعملون هذه الأعمال، وقد شاهدت منظرا مماثلا بمقبرة المسيحين في الإسكندرية في عيد الأموات.
رأيت سيدة مصرية عجوزا مرتدية ملابس تماثل أزياء عجائزنا من قماش أسود دقيق من نوع «الكابوت»، وكانت تتعهد نباتات زرعت حول قبر ابنتها، ولما نظمت المكان نشرت مظلتها؛ لأن شمس مصر قوية حتى في شهر نوفمبر، ثم جلست بجانب القبر وأخذت تنتحب وتعوي كذئبة تبكي ابنتها بوزن موسيقي أوحاه إليها إلهامها.
ويوجد بمصر خلاف هذه المظاهرات الشخصية حفلة دينية تسمى الذكر، وهو يتم بأنواع الاجتماعات تشريفا للموتى أو الأولياء أو لتمجيد الله، وهو يختلف على حسب الطرق، ويتكون من ترتيل يزداد شيئا فشيئا إلى أن يبلغ الصراخ، ويرقصون سويا في بعض الأحيان، والذكر يكون مزعجا حينما تشتد وتعلو أصوات الذاكرين.
وأظنكم سمعتم أخبار «العيسويين» (نسبة إلى محمد بن عيسى وهو مرابط مراكشي أسس هذه الطريقة بمكناس، وقد مضى عليه ثلاثة قرون وانتشرت طريقته في جميع بلاد الغرب)، وهم يدعون أن الأفاعي والسلاح والمسامير والزجاج لا تؤثر في أجسامهم، وهم يماثلون المشعوذين المصريين المعروفين بالرفاعية في أفريقية الشمالية الذين يسمرون المسامير في خدودهم وقت بحرانهم، ويقلعون أعينهم من محاجرهم ويطرحونها أرضا حتى يسمع صوت وقعها، وفي الصباح لا يرى أي أثر من ذلك في وجوههم، وقد شاهدت ما يماثل ذلك في الغرابة بمصر بلد الاعتدال الباسم.
ولقد حضرت الستة عشر يوما بأجمعها التي يقام فيها مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
بسراي السيد توفيق البكري نقيب الأشراف، وشاهدت المرتلين الرافضين والذاكرين في ضوء المشاعل تخفق فوق رءوسهم أعلام موشاة بأبدع الألوان.
وأذكر خاصة حزب الزنوج ذي الجلابيب والعمم الزرقاء الفيروزية يذكرون ويرقصون وهم مصطفون حتى يهيجوا وتعلو أصواتهم لحد الجنون المزبد، وكان هناك حزب آخر من الشبان المصريين الشاحبي اللون يرمون بأنفسهم في النار على صوت الدفوف ويأكلون القبس، ثم يتمرغون على الصعيد بحالة صرع فيحنو عليهم رفاقهم ويواسونهم بأقوال حكيمة، وبعد قليل يأتي دور الآخرين من اشتداد قرع الدفوف ويرتمون مثلهم في النار، ثم يصرعون ويتخبطون على الأرض ورؤالتهم تسيل من أفواههم وهم حمر العيون.
وقد تبعت العجم في عيدهم المسمى عاشوراء، وقد مر موكبهم في طرق القاهرة ليلا وهم لابسون أثوابا بيضاء ووراءهم سيدات يبكين، وكان وزنهم الوحشي مسندا إلى ضربات السيوف ذات الحدين في رءوسهم، وكل منشد منهم يضرب نفسه ليظهر الوحدة الموسيقية.
وكانت أصوات هذه الجموع تولول صائحة حسين! ... علي! ... ولكل اسم من هذين الاسمين المقدسين تقطع السيوف في جماجمهم الدامية.
وقد تمكنت بفضل زوجي الذي يملك المفتاح الذهبي للأسرار الشرقية أن أتسلل وراء هؤلاء المتعصبين وأتبعهم إلى مسجدهم الصغير الذي يتممون فيه حفلتهم، والذي لم تطأه قط أقدام الإفرنج.
اصطف هؤلاء المنشدون الجرحى حول شيخهم، وهو مرتد طيلسانا أبيض فضفاضا شعره مسترسل على كتفيه برأس يشبه رأس المسيح، أسمر الوجه، تدور عيناه في أم رأسه وهو يرتل لهم بصوت جهوري، وليسند إلى كل جملة كان أتباعه ذوو الرءوس الدامية عارين إلى أوساطهم وبأيديهم سلاسل يضربون بها ظهورهم، متبعين في ضرباتهم الوزن الموسيقي.
ولقد دفعنا تطلعنا إلى زيارة بعض هؤلاء المتعصبين المرعبين؛ فذهبنا إليهم في الغد إلى سوق العجم «خان الخليل» فوجدتهم من صغار التجار الذين يبيعون نعال المنازل والبضائع الحقيرة، وهم جالسون بكل لطف في حوانيتهم يعرضون سلعهم بصوت هادئ.
فسألناهم عما فعلوا أمس، فكشفوا رءوسهم المغطاة بقلانس (استراخان) وأرونا جراحهم المكمدة بتفل القهوة، وقالوا لنا وهم يأسفون: ستزول هذه الأثار غدا، ولم يبق عندهم شيء من المس الشيطاني الذي أصابهم أمس، وغاية الأمر أنهم يعرفون أنهم يصابون في كل عام في نفس هذا التاريخ بتلك النوبة التي تملكهم دون أن يستطيعوا الفرار منها.
النوبة العصبية هي الكلمة الملائمة، وكل شيء في الشرق نوبة عصبية صاعقة لا يمكن التنبؤ بما سيحصل قبلها ولا كشف أسرار ما سيقع بعدها.
وكل ما سردناه في الحقيقة هو من تأثير الوزن (تصفيق).
ولا أريد أن أتوغل في الجنون الديني الذي حدثتكم عنه، بل أكتفي بسرد الحادثة الآتية التي شاهدتها في تونس وهي غريبة في نوعها:
كانت طفلة زنجية تسمى «زهرة» لم تبلغ بعد السادسة وقد ذاع صيتها في حيها لمهارتها في رقص البطن، فقلت لمن حولها من شبان العرب: ادعوها للرقص، فلم تقبل الرجاء، وطفقت تقضم في قطعة من الخبز محشوة بالحلوى الطحينية وتتفرس في بعين بيضاء ملئت خبثا، ولن أنسى شكلها وهي مرتدية سروالها الضيق الطويل و«الفوطة» المخططة التي اتزرت بها ورأسها المربوط بمنديلها المفوف.
رجوا منها أن ترقص فعاندت، فقعد الجميع القرفصاء وضربوا بدرائرة حولها وجعلوا ينقرون دفوفهم ويغنون لها. سجنت زهرة وسط الحلقة فبكت من الغيظ وأخذت ترقص رغما عنها وبدون إرادة منها، كانت تقضم الخبز من الحرد وترويها بدمعها، وطفق روقاها الصغيران يتموجان من تأثير الموسيقى.
وما تلك بحالة خاصة فإننا إذا ولجنا الدائرة الصوفية المحضة «للمولوية» فإنني أقص عليكم بأنني رأيت الشيخ «صلاح الدين دده» يرقص ويدور؛ لأنه سمع أحد الجالسين معه في بهو إسلامي يعزف على «الفيولونسيل».
وقد قال هؤلاء الدراويش: «كل من لا يرقص فهو مجرد من الروح.» ولهم الحق فإن رقصهم الذي يشبه دوران الكواكب لهو أكمل مظهر للنشوة الدينية التي تليق مشاهدتها، والموسيقى التي تحمسهم مركبة من نايات وطبول صغيرة وعيدان، ويخيل إلى سامعها أنها آتية من وراء البحار.
وإن أردنا أن نتكلم على الموسيقى الحقيقية فأحدثكم عن المغنين والمغنيات و«تختهم» الذي يشمل الناي والطار والدربكة والعود والكمنجة والقانون.
وسأجرب أن أقفكم على فكرة ضئيلة من الأوزان النائمة في هذا الجلد المشدود «للطار» وقد أحضرت واحدا لهذا السبب، وستطلعون على السلم الموسيقى الحقيقي لهذه الآلة، وهذه التي تشاهدونها جلبتها من دمشق (ثم أنشأت مدام ماردروس تنقر أوزانا مختلفة شائقة على الطار فصفق لها الحاضرون تصفيقا شديدا).
ولقد حدثتكم كثيرا عن الست وسيلة (وهي العوادة الشهيرة التي كانت عند المرحومة الأميرة نازلي فاضل، ثم انتقلت بعد وفاتها إلى سراي المرحوم السلطان حسين كامل)، والست بمبه (هي بمبه كشر العالمة الشهيرة)، وهما المفضلتان في مقاصير الخدور الكبيرة بالقاهرة وتونس، وإني أقص عليكم الأهواء الغريبة للمغنيين العرب:
إن الشيخ يوسف - الذي توفي الآن ومن تعرفت به بمصر - رجي منه مرة أن يغني في احتفال عند كبير من الأمراء، وإن كلمة رجاء منه لمخففة؛ لأنه نقد مقدما أجره الذي يقدر بآلاف من الفرنكات، وفي أعظم وقت الاحتفال اختفى الشيخ يوسف، فأخذوا يبحثون عنه، فعلموا أنه قد غادر القصر وكان له عدة بيوت، فأرسلوا إليه من يبحثون عنه فلم يعثروا عليه، ومضى وقت طويل والأمير ومدعووه ينتظرون، وانتهت الليلة باكتشافه في إحدى الطرق الصغيرة في مصر القديمة يسير وحده بغير قصد في ضوء القمر، فأجاب الرسول بأنه لا يستطيع العودة إلى القصر؛ لأنه لا ميل له الليلة للغناء ولا للموسيقى، فخضعوا لرغبته، وإن كبار المغنين في بلادنا لا يجرءون أن يعملوا مثله.
وفي حفلة زفاف ابن أحد التجار - وكانت الحفلة في الطريق كما جرت العادة في القاهرة - رأيت عبد الحي المغني الآخر الشهير وقد أخذ مبلغا ضخما، وكان تحت قدميه ثلاثمائة مستمع تقريبا ينتظرونه من ساعات، وكان جالسا على مقعد عال وبيده عود وقد وقع نحو عشرين مرة فاتحة موسيقية ثم وضعه بجانبه ولم يغن كلمة واحدة، ولم أر في حياتي مثل هذه الألاعيب المماثلة لسنور يعذب فأرة قبل افتراسها (ضحك).
ومن أغرب الأمور التي نفاجأ بها أن في البلاد العربية كل الناس بدون استثناء مفتونون بالموسيقى، وهي عند العرب قوة قاهرة، ويمكن سوقهم إلى الحرب المقدسة بعود ورق وصوت جميل، وإني أريد أن أقص عليكم المشاهدة الآتية:
توجد بمصر شركة من السوريين المسيحيين تمثل بالعربية وبأزياء إفرنجية روايات أوروبية أمام جمهور عربي صميم، وبعض هذه الروايات من مؤلفات «شكسبير»، ولقد حضرت منها تمثيل «روميو وجولييت»، وكانت الطرابيش والعمم تشغل المقاعد كلها والألواج، ولا تظنوا أن هذا الجمهور من المسلمين كانوا ينظرون إلى المسرح، بل كانوا يدخنون ويشربون والجميع ناظر إلى السقف أو إلى أرجلهم، أو ينظرون وراءهم بأعين كبيرة وهم يفكرون في أمور أخرى.
وفي وقت من الأوقات أراد الراهب أن يغمد خنجر «روميو » في قرابه؛ لأنه كان يريد أن ينتحر، فوقع من يده الخنجر فرفعه الراهب، فوقع ثانية فرفعه روميو.
وقد حاول الاثنان أن يغمداه في قرابه فلم يستطيعا، وبعد عشر دقائق خرجت بغتة من وراء المسرح عجوز لا شأن لها في الرواية، وطفقت تعالج الخنجر بصبر ولسانها متدل حتى وفقت أخيرا ووضعته في منطقة «روميو»، ثم خرجت بكل سكون كما دخلت، وعادوا إلى التمثيل بعدما قطع، فأغرقت في القهقهة وحدي دون أن يشاركني أحد من هذه الجموع.
وعندما جاء منظر القبر انطلق الضحك من الجميع ليحيوا أنين «جولييت». وفي مواقف الحب كان المثل السوري يستبدل شعر «شكسبير» الوجداني بالغناء العربي وقد هاج الجمهور من التحمس والفرح، إذ عرفوا منها روح جنسهم فوجدوا أنفسهم سعداء (نريد الحب العذري عند العرب).
كل شرقي يحب الموسيقى حتى خيلهم، وقد شاهدت في «خرومري» برذونا بلغ من الكبر عتيا يجر عربة وهو كئيب كأنه محتضر، وكان في زمن فتوته من خيول البرجاس المشهورة، وبمجرد ما يسمع أحدا يصفر له لحنا يرقص طربا.
كل شيء في الشرق موسيقي من نداء الباعة إلى أذان الصلاة، يسمع المؤذن من أعلى منارته خمس مرات كل يوم فينطلق غناؤه بدلا من نواقيسنا، وسأجتهد أن أسمعكم غناء المؤذن (ثم أخذت مدام ماردروس تغني غناء المؤذن فاحتد التصفيق وعلا الصياح: أعيدي أعيدي).
أراكم تستغربون هذا مع أن غناءنا نشأ من الغناء العربي السوري، وها كم الكلمات الأولى من القرآن كما يرتلونها هناك، وأظنكم تلاحظون فيها نغمة صلواتنا الكاثوليكية (ثم طفقت تغني: بسم الله الرحمن الرحيم).
إننا في الوقت الحاضر لا نكتفي بأن نفكر في أن غناء أسلافنا أتى من الشرق البعيد، إن موسيقانا العصرية بدافع التأثر الذي حصل «لكلود دوبوسي» قد سارت إلى آسيا لتبحث عن نغمات جديدة.
ولقد قال لي «دوبوسي» بأنه فضلا عن التأثير المباشر الذي نفحته به الروس أبناء المغول، فإنه وجد في الموسيقى التي كانت ترقص عليها الفتيات الجاويات في معرض 1889 كنزا مدهشا من النفحات الجديدة. (3-1) كلمتنا على المحاضرة
تنحصر محاضرة الكاتبة في التهكم اللاذع على أهل مصر والشرق وبعض افتراءات سندحضها بالدليل القاطع والتشنيع باللغة العربية وأنها لغة غنائية، وفي تصوير بعض البدع المرذولة المتفشية بين بعض العوام وسلوك مغنينا.
عيرت الأمة المصرية جمعاء بعادات شاذة لا تتعدى فئة صغيرة من الطبقات السفلى والغوغاء السوقة، وضل طرفها عن المدنية المصرية وأخلاق المصريين وكرمهم وتسامحهم ونهضتهم الأدبية والسياسية التي أسمعت الخافقين ودوت بين المشرقين.
أمت هذه الكاتبة ديارنا منذ 22 سنة تقريبا ومن خجلها لم تذكر في أي موضع من محاضراتها تاريخ رحلتها؛ لأنه من المضحكات أن يحدث المحاضر عن قوم شاهدهم قبل 22 سنة، ولقد دققت البحث عن هذا التاريخ حتى عثرت عليه من عدة مصادر، ومما يؤيد ذلك أن السيد توفيق البكري الذي شاهدت عنده مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
مضى عليه نحو 20 سنة وهو مريض ومقيم في الشام.
تعرفت بكثير من الأمراء والأعيان مثل ساكنة الجنان الأميرة نازلي فاضل والسيد توفيق البكري وكثير غيرهما، فأكرموا وفادتها فلم تنظر عند هذه الطبقة الراقية حسنة واحدة أو مثالا للنهضة والرقي.
وأول ما رمتنا به أننا قوم كسالى، وهذا وهم أو افتراء؛ لأن الكسلان لا يستطيع أن يعيش أو يكسب قوته، ولا ننكر أن عندنا بعض شواذ كباقي الأمم، وإن نظرنا إلى الطبقة السفلى عندنا والعمال رأيناهم متقنين لصناعاتهم من نجارة وحدادة ونقش وحياكة وغيرها، وقد استعانت فرنسا نفسها بآلاف من عمالنا وأعجبت بمهارتهم، وغالب العمال في بحبوحة من العيش يلبسون الجلاليب الحرير والمعاطف والأحذية والطرابيش الجميلة، وكثير منهم يعرف مبادئ القراءة والكتابة، وبعضهم من الذين يشتغلون مع رئيس أجنبي يتكلمون بلغة رئيسهم بعد سنة واحدة.
قضت الكاتبة ردحا من الزمن بين تونس والجزائر ومراكش، وتعودت لهجة المغاربة الذين يسكنون كل حرف ويحذفون كل متحرك؛ فظهر لها أن المصريين في لهجتهم يطيلون مد المتحركات حتى أصبح كلامهم غناء.
ثم انتقلت إلى اللغة دون أن تدري منها شيئا أو تطالع ما كتبه المستشرقون عنها من غالب الإفرنج وأولهم الفرنسيون مثل: «رينان وسيلفستر دوساسي وهويار» وغيرهم من الإعجاب بالعربية وفصاحتها وبلاغتها، ولا شك أنها لم تدر من ذلك شيئا حتى قالت: إنها تقليد للإبل والخيل والشاء والكلاب والأسود. وهذا الكلام أشبه ببحران محموم أو خلط مصروع، ومن الغريب أنها قالت: إن الصاد والضاد موجودتان في ثغاء النعاج، والحال أن الطفل عندنا حينما يبلغ الثالثة يقلد أصوات الحيوانات ويقول: «ماء» حاكيا صوت الشاة، وليس في هذا الصوت صاد ولا ضاد، فالكاتبة إذن أقل من الطفل فهما.
وقالت: إن القاف المزعجة التي تشبه سعال الخيل لا يتأتى للحلق الإفرنجي أن ينطق بها، وهذا افتراء أيضا؛ لأن مالطة التي هي جزيرة إفرنجية يتكلم أهلها بقاف أضخم من قافنا، وعندهم العين والحاء والخاء التي قالت عن أولاها أنها مأخوذة من هدير البعير، وعن الأخيرتين أنهما من تنخم السباع الهائجة في الصحراء، والخاء أيضا موجودة في اللغات الألمانية والنمسوية والإسبانية.
بنت الكاتبة على توهمها أن المصريين يطيلون من المتحركات أنهم يتكلمون بالغناء، وأن كلامهم موزون ملحن، وعلى هذا الوهم أنشأت محاضرتها واستنتجت أن جميع الشرق وزن، وأن هذا الوزن يضطرهم كالقضاء المحتوم إلى اقتراف أعمال التوحش من أكل النار والزجاج والوقوف على اللهيب عند المصريين، وضرب الجباه بالسيوف والظهور بالسلاسل عند العجم.
رأت خادمة أو فقيرة تحمل على رأسها آلة خياطة لتصلحها أو توصلها إلى منزلها فتوهمت أنها مستخدمة ككثير من أمثالها في المحلات الإفرنجية، وموكلة بتوزيع هذه الآلات، وهذا لا وجود له عندنا بالمرة.
وقالت: إنها رأت في مقبرة المسيحيين بالإسكندرية عجوزا مصرية في زي العجائز في بلادها وبرأسها قبعة من نوع «الكابوت» وهذا وهم فاسد؛ لأنه لا توجد بمصر مسيحيات مصريات غير الأقباط، وهن لا يلبسن القبعات ويستثنى عندهن التلميذات، فلا بد أن تكون هذه السيدة سورية مسيحية، ومن آداب الكاتبة أنها شبهت هذه السيدة التي تبكي ابنتها بالذئاب العاوية.
ثم انتقلت إلى الذكر وقالت عنه إنه مزعج، وفي الحقيقة إنه يزعجنا أكثر منها، وما هو إلا بدعة دينية لا تتعدى الرعاع والبسطاء من القرويين، وإن الدين ليبرأ من هذه العادات الممقوتة التي ابتدعها هؤلاء الرعاع.
أما الشعوذة التي يعملونها في الذكر فما هي إلا أعمال سيماوية ويازرجية يتعلمها بعضهم عن بعض ليراءوا بها، ويظهروا بمظهر التقوى والكرامات؛ فتقبل أيديهم، وتنهال عليهم من أمثالهم صنوف البر والخير، ويعدونهم من الأولياء أصحاب الكرامات.
كما أن حفلة عاشوراء بدعة من عوام العجم، وقد حققت ذلك الكاتبة حينما زارتهم في صباح الحفلة بخان الخليلي فوجدتهم من فقراء التجار الذين يتجرون بالسلع الحقيرة.
ثم قالت الكاتبة: «النوبة العصبية هي الكلمة الملائمة، وكل شيء في الشرق نوبة عصبية صاعقة لا يمكن التنبؤ بما سيحصل قبلها ولا كشف أسرار ما سيقع بعدها.» فلو كان عند الكاتبة شيء من التفكير والتروي وصدق الحكم لما حكمت على جميع الشرقيين بهذا الحكم القاسي المضحك، وهل تؤخذ أمم عديدة بجريرة شاذة يقترفها بعض السفلة؟!
ثم سردت لنا نادرة للشيخ يوسف المنيلاوي تماثل نوادر عبد الحي، مع أننا لم نسمع في حياتنا أنه أخلف وعده واستخف بالجموع التي تنتظره.
ومن تعصبها الجسيم الملموس حادثة المسرح الذي شاهدت فيه تمثيل روميو وجولييت وقالت: إنه لشركة سورية مسيحية، وإن الذي كان يغني وله الدور المهم سوري مسيحي، وإن اثنين من الممثلين قطعا التمثيل نحو عشر دقائق ليحاولا أن يغمدا الخنجر فلم يفلحا، ثم خرجت عجوز من المسرح وبعد اللتيا والتي وقفت لإغماده، وإن كل المشاهدين كانوا ينظرون إلى السقف أو إلى أرجلهم أو وراءهم بأعين كبيرة لأغراض أخرى، وإن الحاضرين كانوا يحيون أنين «جولييت» بالضحك؛ كل هذا الهراء ملفق؛ لأن هذه الرواية كانت تمثل قديما عند الشيخ سلامة حجازي ثم انتقلت بعد موته إلى مسرح عكاشة.
ومعروف أن الشيخ سلامة ترك شركة إسكندر فرح وإخوته من ثلاثين سنة تقريبا؛ أي قبل مجيء الكاتبة إلى مصر بثمان سنوات، وفي عهد زيارتها لمصر كان الشيخ سلامة وحده صاحب المسرح، فأين إذن هذه الشركة السورية المسيحية الموهومة والممثل السوري الأول؟ وهل يعقل الصبيان أن كل هذه الجموع لم يوجد فيها فرد ينظر إلى المسرح، فلم إذن جشموا أنفسهم السهر والانتقال من أنحاء القاهرة وضواحيها البعيدة وأنفقوا ثمن التذاكر وأجر الانتقال؟
ولنفرض جدلا أن في هذا الافتراء أثر من الحقيقة يصدق على بعض أفراد يعدون على أصابع اليد، فهل هذا خير أم ما يقترفه الباريسيون في أكبر التياترات، والذي وصفه «فكتور مارجيريت» في رواية «المتفتية
la Garconne » أو «الغلامية» إن أردت مما أخجل أن أذكره للقراء.
نسائل أنفسنا: ما الذي استفاده هذا الجمع المحتشد من هذه المحاضرة السخيفة؟ وما الذي استفادته الكاتبة من هذه السياحات والرحل في بلاد الشرق؟ وهل أنفقت الآن الدنانير لتشتري بها بعض الفكاهات، وتنظر إلى عادات العامة من السوقة لتسجل عليهم بعض نكات تضحك منها من يستمعونها؟ إنها إذن لصفقة خاسرة.
لقد كانت هذه المحاضرة البذيئة كمبرد سطا على شهرة هذه الكاتبة المموهة بالعسجد الخلاب، فقضى على هذه القشرة وأظهر للعقلاء ما اختبأ تحتها من حديد أسود، وهذا شأن المرأة في العالم لا تنبغ في شيء، وإن حصلت على بعض شيء من الفضل بالممارسة وطول المزاولة، فلا يزال عقلها ضيقا لا يتعدى الدائرة التي اشتغلت بها.
ولو كان عندها شيء من الكياسة وحسن التفكير لشغلتها عيوب أمتها عن عيوب غيرها من الأمم، وإن هذا الشرق الذي تعيره بالكسل والنوبة العصبية والوحشية وغيرها لأرقى أخلاقا وأشرف عواطف، كما أنه يبرأ من المدنية الأوروبية المزيفة!
هل جهلت أن أمتها فاقت في الشهوات والملذات الحيوانية والتفنن في الموبقات عهد الرومان؟ أما قرأت ما كتبه «إيميل زولا» و«بربو» و«فكتور مارجريت» والدكتور «بلز» في المجلد الثالث من كتاب المعالجة الطبيعية صحيفة 752 مما تقشعر له أبدان الشياطين؟
أتناست أن لغتنا العامية التي حكمت عليها حكمين متناقضين في وقت واحد من أنها وحشية وموسيقية أرق وأفصح من لغات أمتها العامية مثل: «الشارابيا» و«الجاسكون» و«البروفنسال» وغيرها، مما لو قورنت برطانة زنوج أفريقيا وحمر أمريكا لفضلنا هذه الأخيرة وعددناها أرقى وألطف منها؟ أتجاهلت أهل بريطانيا الفرنسية المتاخمة لبلدها «هونفلور» وما هم عليه من الخرافات والسذاجة التي لم تفارقهم إلى الآن ولا تتفق مع القرن العشرين؟
أضحكت الكاتبة علينا سامعيها بنكاتها السمجة التي لفقتها، ولكني سأضحك القراء بحادثة حقيقية حصلت بباريس تدلنا على ما بها من الآلاف المؤلفة من السخفاء والأغبياء، وذلك بين طبقات الفنيين أنفسهم، وهي من الحوادث التي سجلت عليهم العار والخزي.
نشرت مجلة «الألوستراسيون» الفرنسية في سنة 1910 مقالة ضافية بقلم الكاتب الكبير «هنري لافدان» أحد أعضاء المجمع العلمي، وصف فيها معرض الصور الذي أقامه المصورون «الأحرار» فقال:
شاهدت فيه ثمانين ألف قيأة لا صورة، وحاولت أن أفهم منها شيئا فما استطعت، شاهدتها من الجهة اليمنى واليسرى فلم أفقه لها معنى، فسولت لي نفسي أن أشاهدها من بين ساقي لأرى الصور معكوسة، وبهذه الطريقة فهمت بعضا من معانيها التافهة.
حرض هذا القول بعضا من محرري مجلة «فانتازيو» الباريسية فتفننوا في إلقاء درس زاجر فاضح لهؤلاء المغرورين.
رأى أحد هؤلاء المحررين جحشا لصاحب فندق حقير يحب السكر، فاذا أكله حرك ذيله طربا وفرحا، فاستصحب هو ورفاقه محضرا من محكمة «السين» وذهبوا إلى الفندق ومعهم لوحة من نسيج التصوير وأصباغ وريشة كبيرة وطلبوا من المحضر أن يدون بمحضره ما سيعاينه، ثم علقوا اللوحة البيضاء في الحائط على ارتفاع يماثل قامة جحشنا، وربطوا الريشة بذيله وكلفوا أحدهم بغمسها في الأصباغ كلما جفت، ثم أنشأ الآخر يلقم الجحش قطع السكر، وطفق ذلك المصور الماهر ينقش صورته بذيله، وكلما أتم قطعة من اللوحة حركوها فصور بحرا خضما تغرب فيه الشمس، وكتبوا عنوان الصورة «اضطجعت الشمس على الأدرياتيك» وبقيت إمضاء المصور فاختاروا لها مرادفها الأدبي «اليبورون» فقسموه شطرين، وقدموا الشطر الأخير فصار «بورونالي» ثم أرسلوا الصورة إلى المعرض، وقالوا للقائمين بأمره: إنها لأحد الأحرار، فأعجبوا بها أيما إعجاب، ووضعوها في أرفع مكان بصدر المعرض.
وبعد يومين من عرض الصورة فاجأتهم مجلة «الألوستراسيون» بمقالة شرحت فيها كيفية تصوير هذه الصورة، وشفعتها بصورتين فوتوغرافيتين؛ إحداهما لمصورنا الفني حينما كان مشتغلا بتصويرها، وأخرى لمحضر المعاينة الرسمي حتى لا يخالج القارئ شك في حقيقتها؛ فكان هذا الدرس داعية لإقفال معرضهم وهربهم من الخزي والعار. (4) رقص الأموات
عنوان لكتاب ظهر حديثا في عالم الأدب نمقته باللغة الفرنسية يراعة الكاتبة الفاضلة إنشراح هانم شوقي، ولقد ابتهجت أفئدتنا أن رأينا كاتبة ثالثة تحسن الإنشاء الفرنسي، فأصبحت تفتخر بها البلاد هي والسيدتان حرم محمد عارف باشا وأحمد خلوصي بك.
وقبل أن نخوض في تحليل هذا الكتاب يحسن بنا أن نسرد كلمة عن منشأ رقص الأموات.
ابتدأت الفكرة الخرافية لرقص الأموات في القرن الرابع عشر، وانتشرت في جميع بلاد أوروبا تقريبا، إذ يعتقدون أن جميع الأموات ملك وصعلوك وشيخ وطفل وكاعب وحيزبون يشتركون في رقص يرأسه الموت وبيده كنارة «كمنجة» من هيكل عظمي وقوسها قطعة من العظام، ومغزاه أن القضاء يحتم الفناء على جميع الأحياء.
وتوجد أعظم الصور التي تمثل رقص الأموات بمدينة «بال» وهي من رسم «هولبن»، ومن الصور المشهورة أيضا صورة «سان ماكلو».
وقد نظم كثير من الشعراء عدة قصائد لرقص الأموات، ووضع له مشاهير الموسيقيين ألحانا عديدة أحسنها الذي ألفه «كاميل سان صانس» الموسيقي الفرنسي الذائع الصيت، ولحن به قصيدة الشاعر الفرنسي «هنري كازاليس»، وإني أترجم منها فقرة توضح لنا فكرة رقص الأموات:
زيجه زيجه زيج، الموت يرقص ضاربا بعقبه رمسا، يوقع المنون على كنارته في منتصف الليل لحن رقص، زيجه زيجه زاج، تزمجر ريح الشتاء والليل معتم والزيزفون يئن، وقد انتشرت خلال الظلام الهياكل العظمية البيضاء، تعدو وتقفز تحت أكفانها الكبيرة، زيجه زيجه زيج، كل مضطرب هائج، إذ تسمع طقطقة عظام الراقصين، ولكن انفض الراقصون على حين غفلة وركنوا إلى الفرار، يدفع بعضهم بعضا حينما سمعوا صياح الديك.
يتركب كتاب رقص الأموات من مقدمة وخمسة أقسام ونتيجة؛ فالأول لقدماء المصريين، والثاني لليونان، والثالث للرومان، والرابع للعرب، والخامس للمعاصرين والحديثين.
نرى أن مقدمة الكتاب لا يمكننا أن نعتبرها مقدمة بمعنى الكلمة؛ لأنها لا تبلغ صحيفة واحدة قالت فيها:
ليت شعري إلى أين تقودنا المدنية الحديثة؟
هذا هو الغرض من ذلك الكتاب الأدبي والذي وضحناه في القسم الخامس حيث تحتد فيه المناقشات بين خيالات المعاصرين والحديثين للوصول إلى المطلب الأسمى للإنسانية، وأنها تأمل أن هذا الكتاب الوحيد في بابه الشامل لصفحات من الفلسفة والتاريخ يصادف قبولا حسنا لدى الجمهور، وأنها تلتمس المعذرة لطائفة من أفكارها الشخصية.
بينت لنا الكاتبة الفاضلة أن كتابها أدبي فلسفي تاريخي، ولكننا نعترف للكتاب بقيمته الأدبية الثمينة، وننكر عليه الفلسفة والتاريخ.
تنم سطور الكتاب على أدب وافر، وبيان ساحر، وعواطف متأججة وخيالات راقية، وشعور شريف حي يئن ويرثي لآلام ترزح تحتها الإنسانية، وسهام طائشة تخرج من كنانة القضاء فتصيب الكرام وتنبو عن اللئام.
إن ذاك الإنشاء ليس إلا شعرا منثورا من الشعر الوجداني الذي يمثل فيه الشاعر شعوره وعواطفه، وهو من نوع القريض «رومانتيك» ومصداقا لقولنا نترجم للقراء جزءا من نتيجة الكتاب:
أيها النيل المحبوب! يا من هو سميري في آلامي، وسلواني في وحدتي، إنني أجد صدى روحي حينما أنصت إلى صوتك، تنفحني أحيانا نغمات لججك الشجية بالسعادة والأمل، ويخيل إلي وقت اضطراب أمواجك الهائجة المزبدة وتكسرها على الشواطئ أنها تبكي ماضيا لن يعود إلى الأبد، أو أنها تحتج على مظالم الناس واستبدادهم.
ليت شعري! أتنسب هذه المظالم إلى الإنسان أم إلى الحروب؟
إلى أي حظ تقودنا؟ ترى تلك الأيام حدادا دائما؟
أو أنك لتنتقم من هذه الأعوام القاسية تريد أن نحقق صورته التي تموج في فكرنا؟
إذا نظرنا إلى شكل الكتاب وموضوعه وجدناه مجردا من الصبغة التاريخية؛ لأنه عبارة عن سرد جمل صغيرة من معلومات تاريخية عامة حوت الغث والثمين والأوهام.
نرى المؤلفة تبكي على البرامكة وتستهجن عمل الرشيد، ولو أنعمت النظر في تاريخهم ودرسته درسا دقيقا لعكست فكرتها، ولقد فاتها أن يحيى بن خالد البرمكي وولديه جعفرا والفضل كانت بأيديهم جميع سلطة الخلافة وصيروا البلاد الإسلامية أشبه بمستعمرة فارسية، واستولى البرامكة على جميع وظائف الخلافة الكبيرة وتملكوا أغلب أراضيها وضياعها وقصورها، وامتصوا كنوز البلاد، ولو طال لهم الوقت بضع سنين لاغتصبوا الملك من الدولة العباسية، كانوا يغدقون جزيل العطاء على الشعراء ليخفوا أعمالهم الشيطانية ويترنموا بمديحهم ذرا للرماد في عيون السذج.
نجدها تمجد معاوية ولو عرفت حقيقته لصبت عليه أسوأ اللعنات، غرتها فتوحاته وما درت أنه ما فتحها إلا جشعا وحرصا على الملذات والشهوات وحبا في الملك، كان واليا بسيطا فاختلس الملك من الإمام علي وهو أقرب الناس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأعظم المسلمين علما ودينا وورعا وزهدا، اتهمه بأنه قتل سيدنا عثمان بن عفان، وأشعل نار الفتنة، وخرج يحارب جيوش الإمام علي وطفق المسلمون يتقاتلون ومات منهم الألوف، وكان معاوية يتنعم في القصور الشامخة ويأكل الأطعمة الفاخرة ويلبس الديباج الموشى، والإمام علي يلبس المسوح البالية ويأكل خبز الشعير من غير إدام.
ولقد صادفت أغلاطا عديدة في الأسماء العربية مثل: المعاوية، والجفر، والمهاوندي، وأمية بن أبي الصلت بفتح الهمزة وكسر الميم، وأسحاق بفتح الهمزة، والبرمكي بفتح الراء، ومالك بن أنس بضم الهمزة وسكون النون، والموطاي بدلا من الموطأ وهو كتاب الإمام مالك، وابن بحذف الهمزة وكسر الباء كما يلفظها المغاربة، وغير ذلك.
وإذا بحثنا في الكتاب من الوجهة الفلسفية كما تدعي الكاتبة وجدناه عاطلا عنها مطلقا؛ لأن سرد أعمال العظماء من الرجال على لسان الموتى لا يعد من الفلسفة.
ترى أن النتيجة التي ترجمنا للقراء نصفها لا ترتبط بالكتاب ولا يستنتج منها شيء يدل على مرمى الكتاب، بل هي في حد نفسها قطعة شعرية بديعة منثورة، وكذلك اسم رقص الأموات لا ينطبق على الكتاب، ويستنتج مما سردناه أن الكتاب أدبي محض، سلس العبارة، مكتوب بذوق سليم يشهد ببراعة الكاتبة، وللكاتبة عدة مؤلفات غيره لم تطبع وهي: أولا: روح الإنسان هي مقدار من كهرباء ومغناطيس الطبيعة المكتشفة. ثانيا: وحدة الدين واللغة والمنشأ. ثالثا: تولد المركبات من الاختلاط أو النمو التدريجي للطبيعة. رابعا: مدة وجود روح الإنسان، أو تأثير استدعاء الأرواح والتنويم المغناطيسي. (5) كيف ننهض بالبيان؟
قرأت منذ أيام بجريدة السياسة الغراء ما دار من المناقشات حول «أسلوب في العتب» و«الجمال والحب»، ومقارنة الأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين بين الرسالتين ، وما سرده من طلي التحليل وصريح الحكم دون محاباة وخدمة للأدب، وقد ختم الموضوع بنداء للكتاب لإبداء آرائهم في علاج ما انتاب أساليبنا الإنشائية من الأدواء، فلبيت نداءه مبديا رأيي الضعيف فلربما صادف قليلا من الفائدة المنشودة.
يحسن بنا قبل وصف الدواء أن نشرح الداء ونستعرض بعضا من أنواع الكتابة الممقوتة في وقتنا الحاضر، وهي تشمل نوعين: أحدهما للجامدين المحافظين على القديم، والثاني للحديثين المحمومين.
دار الفلك آلافا من دوراته وتغير وجه الأرض وما تقله من كائنات ومعالم وآثار سائرة كل يوم في سبيل الاستحالة والتجدد والارتقاء إلا الجامدون لم يتزعزعوا عن عقيدتهم.
درس هؤلاء على أساتذة من شاكلتهم؛ فسمموا عقولهم بحب القديم، وقتلوا خيالهم وعواطفهم، وأرشدوهم إلى الكتب القديمة التي تماثل مشاربهم، فأغرقوا لهم في مدحها، وصحبوهم إلى مجالس الجامدين من أمثالهم فاتخذوهم أصدقاء، وظلوا يأتمرون ليل نهار إلى عبادة القديم والاستهزاء بكل حديث، وسرى هذا الداء في دمهم فلا سبيل إلى شفائهم وانتشالهم من الضلال.
نلاحظ في الجامدين أنهم إذا أرادوا أن يكتبوا شيئا استملوا محفوظاتهم من الرسائل والمقامات والأشعار السخيفة التي حفظوها عن ظهر قلب، أو قلدوها بتغيير طفيف دون أن يعرفوا لهم خيالا يناجونه، أو وجدانا ينصتون إليه.
ومن هؤلاء فئة حفظوا كثيرا من السجعات الموسيقية التركيب الخالية من المعنى والمبنى، مثل: «نسيم الصبا»، و«لوعة الشاكي ودمعة الباكي» وما شاكلهما، فيرتبونها بشيء من الحذق، وهؤلاء لا يخدعون إلا السذج من الجامدين، وما فتئوا معروفين بجمودهم عند الأفاضل من الكتاب.
أما الفريق الثاني وهم الحديثون المحمومون فكثير منهم يرصون الجملة فوق الجملة وكل منها في سطر على نمط الشعر، وهي على انفرادها أو في مجموعها كأنها بحران مصروع أو هذيان محموم.
ابتدأ ظهور هذا النوع منذ بضع سنين في مجلة السفور، ثم انتشرت جراثيمه وانتقلت إلى بعض المجلات الأخرى انتشار الطاعون، ويا ليته اقتصر على الصحافة بل طبعت منه كتب وأهدي إلي اثنان منها على كره.
ومن هذا الهذيان نوع آخر لا يتعدى الحب والألم والفراق والروض والندى والشفق يتخلله شيء من المداعبة الباردة والفكاهات السمجة، وإن فتشت فيه لم تجد جملتين مرتبطتين بعضهما ببعض، أو معنى مسلسلا، أو خيالا مفهوما.
تلك أمثلة عرفنا بها أدواء بياننا القتالة، ولا أرى سبيلا لاستئصال شأفتها إلا إذا راعينا الأمور الآتية:
إتقان اللغة العربية وإحراز جميع ما يحتاجه الكاتب من الألفاظ التي تفي في التعبير عن كل معنى يريده، مع تجنب المتنافر منها ونبذ المبتذل المتداول عند العامة؛ بشرط معرفة مدلول كل لفظ بالضبط والفروق بين المترادفات، وبذلك تضع كل كلمة في الموضع اللائق بها.
وإني أرى رأي الدكتور طه حسين في التوسط بين القديم والحديث حتى تحيا لغتنا، وبذلك نلم بطرفيها ولا نبتعد عن أحدهما، ويسهل علينا فهم أسرارهما.
والاعتناء بصوغ التراكيب صوغا عربيا متينا، وخير الأساليب القرآن والحديث والشعر في الجاهلية وصدر الإسلام.
ومراعاة الدقة في الموضوع فلا يكون الكلام إلا بمقدار؛ لأن الثرثرة واللغط والحشو الذي لا معنى له، كل ذلك من الأمور التي تهوش على القارئ وتبعده عن فهم الموضوع، وتكون كضباب كثيف أمام النواظر يحول بينها وبين حقيقة المرئيات.
وتجنب المحسنات البديعة؛ إذ هي تزويق للألفاظ، وتشويه للمعاني، وتقيد للفكر والخيال.
والابتعاد عن السجع إلا ما جاء عفوا دون تكلف في بعض الأحيان، ومراعاة انسجام الجمل ووزنها الموسيقي ليلذ وقعها للآذان.
وإن أحرز الكاتب جميع ما سردناه ولم يوهب ذوقا سليما وحسا مرهفا وعقلا كيسا يراقب شعوره ويراجعه ويرشده إلى السداد والصدق؛ لا يوفق إلى إجادة البيان.
والذوق الوهبي وحده لا يبلغ أوج الرفعة إلا إذا ضم إليه الذوق الكسبي، وهذا الأخير يكتسب بإحراز نصيب يفي بالحاجة من كل علم، وكذلك فهم أسرار الفنون الجميلة من كثرة الاطلاع على منشآتها، وقراءة ما كتب فيها من التحاليل والنقد، ولا ننسى أن علم النفس هو من ألزم العلوم للكاتب.
إن طيف الشعر ينفر من الجلبة والجماعات والهموم والتعب وانحراف الصحة وامتلاء البطن، فإن أردت مناجاته فلتكن في البكور قبل استيقاظ من حولك وأنت منتعش ناس كل شيء من أعمالك، ولتتفرغ عن كل حائل يحول بينك وبين نفسك، وعندها امتشق يراعك وتجرد من محفوظاتك ومعلوماتك واستمل خيالك وناج وجدانك، ودون ما يوحيانه إليك دون أن تفكر في إتقان إنشائك حتى تنتهي من موضوعك، ثم راجع ما كتبته لتنقح كلمة أو تقدم أو تؤخر غيرها، وتيقن أن ما أوحي إليك في المرة الأولى خير مما تتكلفه في الثانية.
ومن أهم أركان الإنشاء دقة الملاحظة والاستنتاج، وبهما يصل الكاتب إلى إتقان الوصف وتصوير الأشياء للقارئ تصويرا يقربها من ذهنه كأنه يراها رأي العين، كما أنه يتوصل بهما وبمعلوماته البسيكولوجية إلى فهم طباع الإنسان وأخلاقه وذوقه ومعلوماته بملاحظة أي شيء من آثاره ككتابته وتصويره ونحته ومقتنياته وأحاديثه ومعاملاته.
ويجب على الكاتب أن يرتب الفكرة ويوضح المغزى الذي يرمي إليه، وأن يكون الموضوع متماسك الأطراف، متصل الفكرة، يسود الانسجام على جميع أجزائه.
هذا ما عن لي من الملاحظات، وحبذا لو عالج الكتاب هذه الأدواء وحاربوا تلك البدع السخيفة حتى ترتقي عندنا ملكة البيان ونحيي لغتنا ونرجع إليها مجدها القديم. (6) بين القديم والحديث «جواب على استفتاء الكاتب الكبير الأستاذ عبد العزيز البشري»
مضى ردح من الزمن لم نتمتع فيه بمطالعة درر أستاذنا الأعظم الذي كان ينشرها في السياسة الأسبوعية بعنوان «في المرآة»، ولقد نغصني ما قرأته من شكواه من مرض انتابه، وإني أدعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية واطمئنان البال والرفاهية؛ ليزيد في إنتاجه ويستمر في السلسلة الظريفة الرشيقة التي طالما شنفت أسماعنا ورنحت أعطافنا من الإعجاب والطرب؛ لدعابتها اللذيذة وفكاهاتها الممتعة، ورشاقة أسلوبها الموسيقي الساحر.
تساءل الأستاذ في مقاله الذي نشره في ملحق السياسة الأخير عن ماهية القديم والحديث ومميزاتهما وفوارقهما، ولا أشك في أن ذلك من تجاهل العارف، وتحريض ظاهر لمعركة قلمية يثيرها الكتاب ثم يبسم لهم الأستاذ من بعيد بسمة حافلة بمختلف المعاني.
ولربما انعكست الآية واستفز الأستاذ رد لم يرق له، واحتدم الجدال فكتب بدل الرد ردودا، فهي إذن مباركة من الوجهتين ومفيدة في الفرضين.
ليت شعري! هل أنا أول من دفعه لجاجه واستحثه تطلعه حتى استهدف لنكتة لاذعة أو لتهكم قارس؟ وقد يكون الدافع لي استدراج الأستاذ إلى الخروج إلى الميدان بعد عزلته الطويلة وحرماننا من شيق درره وظريف عباراته ورشيق إشاراته.
ولا يخفى على سيدي العزيز أن الحديث الشائع في الشرق كله مستمد من الأدب الغربي الحديث، ولكن هناك فريقا أساء استعماله لضعفه في العربية وركاكة تعبيره وسوء تراكيبه، وإنتاج هؤلاء هجين أقرب في الشكل والهيئة إلى الأسلوب الإفرنجي.
وأما الفريق الآخر ذو القدم الراسخة في العربية والذوق السليم فإنه استعان بطرق التفكير الحديث فقط، ولكنه ما فتئ محافظا على أسلوبه العربي المتين الصميم، فترى تعبيره حديثا في التفكير قديما في الصوغ ومتانة التراكيب، وإني لا أغلو إن قلت: إن الدكتور هيكل بك هو حامل لواء الإنشاء الحديث في القطر المصري؛ بل في جميع الأقطار الناطقة بالضاد.
بقي علينا أن نقول كلمة في طريقة التفكير في الأدب الحديث وقانون الكتابة الذي يجب أن تراعى حرمته بكل دقة حتى لا يشط الإنسان ويخرج من منطقته أو يغير طابعه الذي وسم به.
يجب على الكاتب قبل كل شيء أن يعلم أن الإنشاء لا بد أن يكون في الوقت نفسه واصفا معبرا؛ بمعنى أنه يكون دقيق الوصف صادقه ومعبرا عن جميع أنواع الشعور التي يظهر أثرها في نفس الكاتب حينما يطرق موضوعه، كما يصور المصور الماهر صورة جميلة لشخص دقيقة الشبه صادقة الملامح تقرأ على محياها جميع العواطف التي كانت بادية عليه وقت التصوير.
ويلزم الكاتب مراعاة الحقيقة والابتعاد عن الغلو، وأن يكون دقيق الملاحظة ليتمكن من إصدار حكم صادق، ويجب عليه أن لا يعرقله في إنشائه تقيده بتنميق لفظ أو افتتانه بشيء من المحسنات البديعية السخيفة أو السجع المرذول واستملاء الذاكرة لتقليد شيء من محفوظاته التافهة.
وهذه القوانين التي سردناها يراعيها الموسيقيون والمصورون والمثالون؛ لأنهم كلهم فنانون ويسعون لغاية واحدة ولو اختلفت طرق التعبير عند كل منهم، فذاك يعبر بنثره وقريضه، والآخر يعبر بريشته وأصباغه، وغيره بنغمه وألحانه ، والمثال بأزميله ومطرقته.
نرى بيتهوفن عطارد الموسيقى يدوس على بعض القواعد إن كانت في طريقه حجر عثرة أو نبا ذوقه عنها، فهو يستمر في تعبيره القوي ووصفه الشائق دون أن يتقيد بتنميق سخيف؛ فلذلك نرى موسيقاه تصل إلى الأفئدة قبل غيرها وتذكي ما خمد من عواطفها الهاجعة.
ونشاهد في تصوير رمبران نفس هذه المحاسن؛ لأننا حينما نلقي نظرة على صورة «درس التشريح» مثلا نرى أستاذ التشريح وأمامه ميت شق ذراعه ثم ابتدأ يحاضر الأطباء ويشرح لهم دقائق العلم، فكأنك تسمع نبرات صوته وترى إشارته والكل مرتسم على وجهه الإصغاء التام، وهذه الصورة من أفخم الصور الناطقة.
أما القديم فلا يراعي شيئا مما سردناه، بل يستعين بالذاكرة فيستعرض ما قاله الكتاب في الموضوع، وينتخب منه شيئا يحوره بعض التحوير، ثم يزوقه بشيء من المحسنات البديعية الممقوتة أو يقفيه بسجعات مرذولة، ونراه يغلو في تشبيهه غلوا سخيفا، ويقول: إنه علا السماك، وإن لمس الحرير يدمي بنان محبوبه، وخطرات النسيم تجرح خديه، أو يدخل في قافية الهندسة، ويقول: هب أنك مركز الدائرة أو ضلع المثلث، ثم ينتقل من هاته القافية إلى غيرها من قوافي العلوم والفنون كما ينتقل الحاج سيد قشطة من قافية الترامواي إلى قافية الوابور، وزعيم القديم معروف وأخلاقه معروفة ومسجلة في بطون الصحف فلذلك لا أذكر اسمه، ومن نوادره الغريبة أنه كتب إلي فيما مضى خطابا كله بذاءة وسوء أدب بإمضاء يوسف قندلفت طالب بالمدارس الثانوية.
هذا رأيي القاصر، وعسى أن يتفضل الأستاذ ويكون قد خرج من صمته الطويل، وأن يمن عليه الله بالعافية ليمتعنا بلآلئه الفريدة وأسلوبه الموسيقي الفتان. (6-1) رد الأستاذ البشري
اطلع الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري على هذا المقال فبعث إلى الأستاذ حجاج بالرد الآتي:
حلمية الزيتون في 22 نوفمبر سنة 1933
سيدي الأستاذ الأديب العظيم
أحمد الله تعالى إليك، ولقد وفد علي كتابك الكريم، وأنا في بعض الصحوة من الحمى التي تغشاني من بضعة أيام، فاهتبلت هذه الفرصة وتلوت مقالك تلاوة إمعان وجد فكر، ووالذي بيده نفسي، ما عدوت في هذا الباب ما في نفسي، وإن كنت أنت أنور بيانا، وأدق في الفروق تعبيرا، فنحن إذن يا سيدي متفقان حق الاتفاق، ولعل سيدي يذكر أنني قلت في ملحق السياسة ما معناه: «إن الأدب الذي لا يترجم عن البيئة التي يخرج فيها ليس أدبا، وإن الأديب الذي لا يؤدي ما يختلج في نفسه هو وما يتنزى عن عواطفه هو ليس أديبا.»
بقي أن ألقي على سيدي الأستاذ هذا السؤال: هل بقي في مصر ممن يقدر الناس لهم في الأدب قدرا من يفكر ويصور على ذلك الأسلوب الذي عابه الأستاذ وهجنه بحق؟
أبقي من مشيخة أهل الأدب من لا ينظر إلى الحياة إلا بعيني بدوي، ومن لا يفكر إلا برأس أموي، ومن يعمى عن كل ما يحيط به من أسباب الحياة؟
هل بقي في مصر من تزدهيه طائفة من الجمل وشتى الأسجاع فيجعل كل همه في تلفيقها من هنا وهناك ويستكرهها كلها في سلك واحد وتخرج موضوعا والسلام؟ لا أظن يا سيدي، فإن وجد فرد أو أفراد فهم على شرف الفناء.
وإني يا سيدي أشكرك أجل الشكر على ما نحلتنيه من فضل لا أعرفه لشخصي، وأسامحك على ما قدرت في من إيجاع وإقذاع، والسلام عليك ورحمة الله.
المخلص
عبد العزيز البشري (7) تطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم «ملاحظات وآراء»
لقد شاقني المقال القيم الذي ألقاه صديقنا وأستاذنا الكبير الشيخ عبد العزيز البشري على زملائه حضرات أعضاء «نادي القلم المصري»، ولقد سرد لنا في لمحته تطور الأدب في مصر في مختلف العصور، ووصف سيره وخطاه، وكيف تدرج إلى الرقي، ولا يسعنا إلى أن أسدي إليه آيات الشكر والثناء على اهتمامه بالأدب وما يبذله من العناية في تشخيص أدوائه ووصف العلاج الناجع لشفائه، غير أنني لاحظت عليه بعض أحكام قاسية ينقضها في نفس المقال، وإني أذكر تلك المواضع بنصها لنشرك القراء معنا في الرأي:
أدركت مصر في عصر إسماعيل حظا محمودا من الحضارة؛ فشاعت فيها العلوم، واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد الغرب التي كثر روادها من المصريين، وانحدر العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومتوطنين، كما نزحت إليها طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين.
لهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف بقدر إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم تصبح مما يستغرق هم القائم، بل لقد انبسط منه فضل كثير للآداب والفنون، وكان أول ما انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل.
اعترف أستاذنا في هذه الجملة اعترافا صريحا لا يخالجه أدنى شك بأن الفضل في نهضة الأدب راجع إلى اختلاط المصريين بالغربيين والاستنارة بحضارتهم وآدابهم وفنونهم وعلومهم، فما باله في موضع آخر لا يعترف لشعراء الغرب بفضل، وأخذ يقدح فيما عرب من الأدب الغربي بلا استثناء، إذ قال: «وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شبابنا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قاله شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه؛ فخرج لنا من ألوان التعبير ما لا يؤاتي الذوق الشرقي ولا يستريح إليه الطبع العربي، وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب يعالجون في العربية إصابة المعاني الظريفة التي لامسها حسهم وهدتهم إليها أسباب تفكيرهم فعجزت اللغة، أو على الصحيح عجز علمهم باللغة عن حق أدائها؛ فخرج لهم الكلام إما غامضا مبهما وإما عاميا أو ما يدنو إلى العامي.» هل فاتك يا أستاذي العزيز أنك قد خانتك الذاكرة وكتبت مطلع مقالك على النمط الفرنسي، إذ قلت:
وأخيرا فهذا نادي القلم.
أنسيت أن مقالاتك الشائقة «في المرآة» ليست إلا نوعا من الأدب الأوروبي المسمى
Humoristique ، وهو نوع من الإنشاء الفكاهي الكاريكاتوري الذي يفيض بالتهكم الظريف والسخرية اللطيفة، ألا يتملك شعورك وينسيك آلامك الدكتور هيكل بك حينما تقرأ تعريبه «للبوذية » للكاتب والفيلسوف الفرنسي إيبوليت تين؟ ألا تتهلل بنشوة الإعجاب وتنتقل إلى عالم الخيال والأحلام حينما تقرأ القضاء والقدر وروايات شكسبير لشاعر القطرين خليل بك مطران أو البؤساء لحافظ بك إبراهيم؟
وأظنك لا تجهل أن المرحوم شوقي بك درس الآداب الفرنسية في باريس ولولاها لم يتوج في دولة القريض، ألا تهتز طربا واستحسانا حينما تقرأ مذكرات مسافر للأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق؟ وهو الرقة المجسمة ومثال الرشاقة والظرف، وهو مدين بمواهبه هذه إلى اللغة الفرنسية والأعوام التي قضاها بين أبنائها ورحله العديدة بعد أوبته.
إنني أشد منك تعصبا للعرب والعربية ولكنني لا أجرؤ أن أقول: إن الأدب العربي يفوق الأوروبي، وإن في شعراء العرب من يفضل على جوت وشلروهين ولا مارتين وهوجو ودوفني وشكسبير وملتون ولييوباردي وتاسو وغيرهم.
لا أنكر أن شعرنا العربي يفوق شكلا ووزنا الأوروبي ببحوره الموسيقية الوزن وقافيته المتحدة في القصيدة من أولها لآخرها، أما الأوروبي فلا يقيد بوزن موسيقي بل بعدد المقاطع واتحاد القافية في كل شطرين.
لقد لمح سيدي الفاضل بأن النهضة الأدبية ابتدأت في عصر خديو مصر إسماعيل باشا، ولكنها في الحقيقة ابتدأت قبله بزمن بعيد في عصر المماليك لظهور السيد إسماعيل الخشاب والشيخ حسن العطار، وكان أولهما لا يقل عن شعراء الطبقة الأولى من عصرنا، وقد ظهر في عهد محمد علي باشا الشيخ شهاب الشاعر الموسيقي صاحب السفينة وله ديوان كبير، والسيد علي أفندي الدرويش، وظهر في عهد الخديو سعيد باشا الشاعر العبقري محمود أفندي صفوت الساعاتي، وكل من ذكرناهم يعدون طلائع النهضة الأدبية في مصر، ويحق لهم كل فخار وكل مجد لكونهم وجدوا في زمان مظلم حالك ساد فيه الجهل وسوء الخلق.
ولقد وجه أستاذنا الكبير نداء إلى الأمة لتستخلص لها أدبا خاصا عليه طابعه المصري، أو توجد له أسلوبا يميزه عن غيره من آداب الأمم الناطقة بالضاد، ولكنني أرى صعابا جمة تعترض أمانيه.
إن الحضارة الأوروبية قد اكتسح تيارها العالم حتى انضوى تحت لوائها طائعا مختارا حينما تذوق مناهل علومها وآدابها وفنونها وصناعاتها، وتحقق أنه في حاجة ماسة إليها وعليها قوام حياته الراقية، درس كثير من شبابنا في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمريكا، وتشبع كل فريق بآداب اللغة التي درسها، وأصبح تفكيره وليد تربيته فلا يستطيع أن يحيد عما نشأ عليه، فإن أهمل لغته العربية ولم يحرز منها نصيبا وافرا كان أجنبي التفكير أجنبي الأسلوب، وهناك الطامة الكبرى.
إن طريقة تعليم اللغة العربية في مدارسنا غير مجدية وينقصها أشياء كثيرة، ولو أجاد الطالب دراسة لغته لما تورط في الأسلوب الإفرنجي ولما عرب الآداب الأوروبية كلمة كلمة حتى يشوهها بتراكيب غثة ركيكة، ولو صرف الطلبة قليلا من أوقات فراغهم في مطالعة كتب الأدب القيمة وتفهم ما يستعصي عليهم فهمه بدلا من مطالعة الروايات السخيفة الركيكة والمجلات التجارية المنحطة لما تدهور مستوى ثقافتهم اللغوية إلى هذا الدرك المخجل.
وعسى أن يحقق الله آمال أستاذنا في الأدب المصري حتى يرقى ويطوف بالبلاد الأجنبية بعد ترجمته كما ترجم شعر تاجور إلى أغلب اللغات الأجنبية وطبع نحو العشرين، وكان له المحل الأرفع في كل مجتمع وناد، وكما سبقه إلى ذلك شعراء الفرس مثل: حافظ والفردوسي وابن الخيام. (7-1) رد الأستاذ البشري
تعقبني صديقي الأستاذ الجليل القدير محمد كامل حجاج في الخطاب الذي ألقيته في أول اجتماع «لنادي القلم»، فأخذني أولا بالتناقض بين قولي في بعض هذا الخطاب:
أدركت مصر في عهد إسماعيل حظا محمودا من الحضارة فشاعت فيها العلوم، واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد الغرب التي كثر روادها من المصريين، وانحدر العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومستوطنين، كما نزحت إليها طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين. «بهذا وبهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف بقدر إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم تصبح مما يستغرق هم القائل، بل لقد انبسط منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول ما انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل.»
ثم قولي في مقام آخر من الخطاب:
وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شبابنا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه، فخرج لنا من ألوان التعابير ما لا يؤاتي الذوق الشرقي، ولا يستريح إليه الطبع الغربي.
ووجه التناقض بين هذين الكلامين عند صديقي الأستاذ حجاج أنني اعترفت في الأول اعترافا صريحا لا يخالطه شك بأن الفضل في نهضة الأدب - في العصر الحديث طبعا - راجع إلى اختلاط المصريين بالغربيين والاستنارة بحضارتهم وأدبهم وفنونهم وعلومهم، بينا أنا في الكلام الآخر لا أعترف لشعراء الغرب بفضل واحد ... إلخ.
وبعد فما بي إلا أن أرجو صديقي الأستاذ حجاجا أن يعيد النظر ويثبت التفكير في كلامي ليخرج له - إن شاء الله - متسقا متواردا لا أثر فيه لتناقض ولا لتهافت ولا لاختلاف، ذلك بأنني لم أعرض البتة لشعر الغرب ولا لشعرائه حتى أشيد بذكرهم أو أنتقص أقدارهم، غير أنني زعمت أن دخول الحضارة الحديثة وشيوع أسبابها في عصر إسماعيل، كان لذلك أثره في تهذيب الأقلام والالتفات إلى المعاني الحديثة التي تلابس حاجات العصر ... إلخ.
أما أن يفهم صديقي الأستاذ أنني أغض من شعراء الغرب، وأنتقص من قدر شعرائه لمجرد عرضي لطور من الأطوار التي جاز بها تاريخ الأدب في العصر الحديث، فذلك من التعسف الذي لا أرتضيه لمن كان له مثل فضل الأستاذ حجاج، وكان له في الأدب خطره.
يا لله! ما ذنب شعراء الغرب إذا تهالك على أشعارهم في فترة من الزمن فأدوا إلينا من معانيهم في صور لا ترضي الذوق الغربي ولا يستريح إليها الطبع الشرقي؟
وإنني أؤكد لك يا سيدي، وأنت سيد العارفين، أن ابن المقفع لو كان ترجم حقيقة كليلة ودمنة عن إحدى اللغات الهندية ثم ترجمها على هذا النحو الذي هتفت به في خطابي؛ أي إنه ترجم لفظا بلفظ، وفسر عصي المعاني الهندية على عصي الألفاظ العربية لما أدرك شأو هذا الكتاب في سخفه وإسفافه كتاب آخر!
وأخيرا، فلقد أحسن إلي الأستاذ حجاج، إذ هيأ لي الفرصة لأقرر أنه كان من النواظير الأوائل الذين جلوا على أبناء العربية صدرا جليلا من بلاغات الغرب في يسر وفي إحسان.
بقي أن صديقي الأستاذ حجاج يخالفني في أن نهضة الأدب في العصر الحديث إنما ابتدأت من أواسط عصر إسماعيل، ويحاجني بأسماء شعراء وكتاب نجبوا من عهد الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، وإني ما برحت مصرا على رأيي من أن من ذكر وغيرهم إنما كانوا خاتمة للعصر التركي لا طلائع للعصر الجديد.
وما كنت بهذا لأغمطهم فضلا ولا لأترهم حقا، فحسبهم أنهم أدوا رسالة الأدب وأحسنوا بقدر ما يتهيأ الإحسان لمن عاش في عصرهم، وليس يطلب منهم أكثر من ذلك، ومن العسف الشديد أن نقارنهم بأمثال صبري وشوقي وحافظ والمطران وغيرهم ممن أدركوا هذه الحضارة الواسعة التي ألهمتهم ما كتمته عمن تقدمهم من الغابرين.
أسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب ويهدينا جميعا سواء السبيل.
عبد العزيز البشري (8) رواية عائدة
السبب في وضعها، واضع الملخص ومنشئ الموضوع وناظمه بالإيطالية وملحنها، أول مسرح مثلت فيه، موضوع الرواية، موسيقاها، احتفاء إيطاليا وفرنسا وغيرهما بملحنها، إساءة مريت باشا إلى مصر وتحقيره المصريين أمام ملوك أوروبا.
شاع خطأ بين الناس أنه لما أتم خديو مصر إسماعيل باشا حفر قناة السويس دعا ملوك أوروبا وملكاتها وأمراءها لحضور الاحتفال الفخم بافتتاح القناة، وأراد إتماما لمظاهر الإجلال وأسباب السرور أن يفتح الأوبرا الخديوية التي كانت وقتئذ تامة البناء والأثاث والمعدات ليزيد مدعويه سرورا وإعجابا، وكان ذلك في 17 نوفمبر سنة 1869.
والحقيقة الخالصة أن الأوبيرا التي مثلت في حفلات افتتاح القناة هي ريجوليتو، وأما عائدة فقد مثلت بعد هذا الاحتفال؛ أي في 24 ديسمبر سنة 1871.
فأشار على مريت باشا مدير الآثار المصرية بإنشاء موضوع مصري فأنشأ له موضوعا خياليا ملخصا، وأرسله إلى «فيردي» الموسيقي الإيطالي الشهير، فطلب من الخديو مائة ألف فرنك فنقدها.
وكان بالمصادفة المسيو «كاميل دولوكل» مدير مسرح الأوبرا كوميك سابقا في مدينة «بوسينو» التي كان فيها وقتئذ «فيردي»، فكلفه هذا الموسيقي الشهير بأن يكتب له الموضوع طبقا لملخص مريت باشا فكتبه نثرا، ثم عهد بترجمته ونظمه إلى الإيطالية إلى المسيو «جيسلانسوني» ثم لحنها فيردي، وقد ترجمت إلى الفرنسية حينما مثلت بباريس.
مثلت هذه الرواية لأول مرة بمسرح الأوبرا الخديوية في 24 ديسمبر سنة 1871، ويعد النقاد هذه الأوبيرا هي وريجوليتو وفلستاف أعظم ما كتبه المؤلف، وقد حازت هذه الرواية ليلتئذ إعجابا عظيما وحماسة شديدة، وأجاد تمثيلها وغناءها نخبة من الممثلين مثل: ستيلير وكرستا وميديني ومونجيني وشهيرات الممثلات مثل: بوتسوني أناستازي وجروسي.
وحينما ابتدئ بتمثيلها في ميلانو بإيطاليا بمسرح «لاسكالا» في 7 فبراير سنة 1872 صادفت نجاحا عظيما وإقبالا باهرا، واستدعى الحضور فيردي على المسرح اثنين وثلاثين مرة، وقدمت الأسر الميلانية هدية شائقة لفيردي وهي صولجان من العاج ووسام على شكل نجمي من الماس وبوسطه اسم عائدة بالياقوت وفيردي بالأحجار الكريمة.
وقد ابتدئ بتمثيلها بباريس في المسرح الإيطالي باللغة الإيطالية في 22 أبريل سنة 1776، وأول تمثيل لها باللغة الفرنسية كان في هذا المسرح في أول أغسطس سنة 1878، وابتدءوا بتمثيلها في أوبرا باريس في 22 مارس سنة 1880، وقد دعي «فيردي» ليقود بنفسه الموسيقى فلبى الدعوة بارتياح، ولم ينقطع تمثيل هذه الرواية من أوبرا باريس لغاية يومنا هذا.
نذكر كلمة موجزة عن الموضوع ليكون القارئ على بينة مما سنورده من الأبحاث.
كانت الحرب قائمة بين فرعون مصر وأمونصرو ملك الحبشة، وقد وقعت ابنته عائدة في أسر المصريين وألحقت بحاشية «أمنيريس» ابنة الملك، وكانت الفتاتان تحترقان بشعلة حب واحدة وتهيمان براداميس رئيس الحرس، وفي ذات يوم جاء رمفيس رئيس الكهنة وأنبأ الملك بتقدم الأحباش، فعين الملك راداميس قائدا للجيوش المسافرة لرد الأعداء وهو لا يدري أنه سيحارب والد عائدة التي شغفته حبا.
ثم تقام الصلاة بمعبد فتاح وتنشد فيه الراهبات الأناشيد الدينية ويرقصون الرقص المقدس لينصرهم ربهم في هذه الحرب.
احتالت يوما «أمنيريس» على عائدة حتى عرفت سرها، وتحققت أنها تحب راداميس حبا جما، أبغضتها ابنة الملك حينما برح الخفاء وعلمت أنها تزاحمها في حب راداميس، ولم تستطع تلك الأميرة أن تنزع البغض من فؤاد أميرتها.
رجع راداميس ظافرا منصورا واحتفل بمقدمه احتفال فخم شائق، وقد أحضر معه ضمن الأسرى أمونصرو أبا عائدة، فسمح الملك لراداميس بزواج ابنته جزاء لأعماله المجيدة وما أحرزه من النصر العظيم.
عرض أمونصرو على ابنته أن تسأل راداميس عن أسرار التجهيزات الحربية والمعدات التي يعدونها ليقضوا بها القضاء الأخير على الأحباش، فأبت الفتاة فنهرها وثار عليها ودفعها دفعة طرحتها أرضا وقال لها: إني أتبرأ منك ولست ابنتي، فرأت أن لا مناص لها من الرضوخ لإرادته، وكانت أماني أبيها حائمة حول استرجاع بلاده وتخليص ابنته من هذا الأسر الممقوت وتزويجها لراداميس.
أقبل بعد هنيهة راداميس وأخذ يسامر حبيبته بين خمائل أشجار الحديقة وهو مفتون بحديثها الحلو، ثم سألته عن أسرار الحملة التي يعدونها لمواصلة الحرب ووسائل الهجوم وغيرها فأبى، فألحت عليه فباح لها بكل شيء، وكان أمونصرو كامنا وراء الأشجار على مقربة منهم وسمع الحديث كلمة كلمة، ثم ظهر أمام راداميس بهيئة الظافر الشامت فدهش وقال: ما أصابني؛ أجنون أم ذهول؟ أنت على مسمع مني يا أمونصرو؟ ماذا دهاني؟
وكانت أمنيريس ساهرة في هذه الساعة المتأخرة فباغتت راداميس وسمعت ما فاه به، فقبض عليه الكهنة واقتفى الحرس آثار عائدة وأبيها حتى لحق بهما، زج الجميع في غياهب السجن ريثما يحاكمون.
دخلت ابنة الملك السجن على راداميس وعرضت عليه النجاة إن أحبها وقبل أن يقترن بها فأبى، فخرجت يائسة خائبة الرجاء، وقد أظلمت الدنيا وضاقت في وجهها.
قضي على المجرمين بدفنهم أحياء، فتسربت عائدة وذهبت إلى سجن حبيبها ولبثت معه حتى وافاهما الأجل المحتوم.
اتبع «فيردي» في تلحين موسيقى عائدة النسق الحديث الراقي، وكتبها مترجما عما نفحه به خياله وشعوره دون أن يقلد أحدا، وهي من أعظم ما كتب في الموسيقى الحديثة الجدية، وتعد هي وريجوليتو (الملك يلهو) صفوة مؤلفات فيردي ، وقد جمعت بين فخم الحماسة ورقيق العواطف وشائق الوصف وظريف الرقص وغريبه، ومطرب الأناشيد وساحر الغرام وشجي الألحان ومذيب القلوب من الشكوى، وإني أكتفى بهذه الكلمة القصيرة في وصف موسيقاها؛ تجنبا لتفصيل يستلزم سرد اصطلاحات كثيرة فنية لا يعرفها إلا المشتغلون بالموسيقى الإفرنجية، أو المواظبون على سماعها وفهم أنواعها.
ليت شعري ما الذي حدا مريت باشا أن يسند إلى قواد الجيوش المصرية مثل هذه الفضائح، ويصور المصري أمام ملوك أوروبا على أشنع صورة، إذ جعله مثالا لضعف الإرادة وخور العزيمة والخيانة ببيع وطنه لأجل حب أسيرة حبشية، ويرفض لأجلها زواج ابنة الملك، ثم أبى بعد إجرامه وسجنه أن يجيب طلبها حينما وافته في السجن ووعدته بالخلاص إن قبل زواجها، فأصر على عناده إلى أن مات في رمسه الذي أعد له تحت أطباق الثرى؟
إذا التمسنا له عذرا لجهله اللغة الهيروغليفية واستعانته بالمسيو «ماسبيرو» وكان وقتئذ مدرسا في كلية فرنسا بباريس في ترجمة ما كان يصادفه من الأساطير البربائية والهيروغليفية المنقوشة على الآثار، فلا يعدم أن يتخيل خيالا شريفا أو يستعين بالملخصات التي وضعها بعض المؤرخين في ذاك الوقت، مثل شامبوليون فيجاك وأخيه شامبوليون الصغير، وهو أول من فك رموز اللغة الهيروغليفية.
إن فكرنا في عمله هذا عزوناه إلى أحد أمرين؛ إما سوء القصد، وإما الغفلة المتناهية وغلظة الذوق، وكلاهما لا يغتفران لرجل مثل هذا أسندت إليه وظيفة فخمة فنية ومنح أسمى الألقاب والمرتبات.
ولا ينسى المصريون بل العالم المتمدين أجمع هذه النقطة السوداء التي شابت تاريخ هذا الرجل بل سودته؛ لأن شهرة موسيقى الرواية تضمن لها البقاء أبد الآباد، ولا يزال هذا التذكار الممقوت خالدا خلال الدهور يمثل المصري القديم أقبح تمثيل ظلما وعدوانا، وهو مثال الشرف والشمم ومكارم الأخلاق، وأول من تمدين على ظهر الأرض، ومن استنار بنور عرفانه المشرقان، وهذه آثاره باقية ناطقة بجليل أعماله ومجيد فعاله.
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار (9) كيف نكتب؟
نهضت أمتنا نهضة تحمد عليها في اللغة، وابتدأت شبيبتنا أن تأنس في دراستها لذة وإعجابا وسبيلا حسنة للمفاخرة بلغة كانت سببا في مجد أسلافهم وعلو شأنهم وبعد صيتهم، وتبارى من شبابنا مئات في النثر والنظم والتأليف والترجمة.
ولكننا لو بحثنا في هذا الجم الغفير عن المجيدين منهم لم نجد إلا عددا قليلا في كل فن من الفنون السالفة، ولو قارنا بينهم وبين أواسط الأمم الراقية لرجحت كفة الآخرين.
ضلت ناشئتنا في ديجور الجهل باللغة، وظلت تنشد نورا ينتشلها من تيهها فلم تجد غير نور ضئيل يحمله أستاذ المدرسة، فانبعثت في قلوبهم روح الأمل، ولكن خاب ظنهم إذ رأوا أن هذا النبراس الضعيف لا يكشف أمامهم الظلام، ولا يهديهم محجة الصواب. إن أستاذهم نفسه لفي حاجة إلى مرشد، وإنا نلتمس لتلاميذه العذر ما داموا تحت سيطرته، ولكنا نطالبهم بعد إتمام دراستهم أن يتفرغوا للغة بنظام وترتيب مفيد؛ حتى يحرزوا قسطا وافرا منها يرفع قدرهم وتعود آثاره على بلادهم بالفائدة الجزيلة. إن الأمم لا تحيا إلا بلغتها، والتاريخ أعظم شاهد؛ فقد تشتتت أمم عديدة فرطت في لغتها وفقدت شخصيتها وتفرقت كلمتها، ثم تمزقت كل ممزق واحتست كئوس الذل والهوان.
إننا لا نكاد نجد في شعرائنا وكتابنا من بلغ الإجادة وخلا من العيوب وداء حب الشهرة الكاذبة. استفحل هذا الداء بالأخص في الأدعياء والمتوسطين في العلم، وأصبح الفرد منهم يقرأ فاضح نقده ويعلم أنه مضغة في الأفواه وأضحوكة في كل ناد ومثال للسخرية في كل مجلس ولا يقلع عن غيه أو يحمر وجهه خجلا. يطبع البعض منهم كل بضعة شهور كتابا وينفق عليه بسخاء، حتى أصبح بعد للبعض عشرات من المؤلفات، وضايقوا أرباب المكاتب؛ إذ لم يتركوا فيها فراغا لجليل الكتب، ولم ينتفع منها مؤلفوها ولا بائعوها، ولله در المؤلف؛ فإنه لم يشعر بسأم الكتب، ولم يحزن على ماله الضائع، ولم يشعر بما سببه له مؤلفه من السخرية والذم، وبلغ من الأدعياء والمخادعين أن يطبع أحدهم ألفا من كتابه، ويعمل لكل مائة نسخة غلافا، فيكتب على المائة الأولى الطبعة الأولى وهكذا إلى المائة العاشرة ، فيكتب عليها الطبعة العاشرة ليغرر بصغار التلاميذ الذين هم تحت هيمنته ومن اشتروا كتابه خشية غضبه، ولقد تمثل بسخافته أحد الأدباء في مقالة «خداع العناوين»، وإني أسرد للقراء نادرة حقيقية لذاك العلامة مؤلف هذا الكتاب تنعشهم وتذهب ما يصيبهم من الملل من قراءة هذا الموضوع الطويل. كتب هذا النابغة تقريظا لنفسه، وجعله بشكل خطاب مرسل إليه، ولم يدع معنى في المديح ولا لفظا للتقريظ حتى أودعه فيه، وكال لنفسه من ضخم الألقاب ما سولت له به نفسه، ثم أمضى الرسالة باسم مستعار، وهرول إلى إحدى الجرائد التي احتجبت لتنشر له هذا التقريظ، فتقاسم الموظف المنوط بالإعلانات عاملان: شرف الضمير، والخوف من إفلات أجر عظيم، وصمم نابغتنا على نشر تقريظه بشكله دون أقل تغيير، فأقسم له حتى اطمأن فؤاده، ونقده الأجر. وبر مأمور الجريدة بقسمه، وأراح ضميره من التبكيت والوخز، ونشر الرسالة حرفا حرفا، ووضع لها عنوانا شائقا بليغا لا يزيد على كلمتين أظهرتا خباياها وهما: «إعلان مأجور».
إن أنعمنا النظر في قريض شعرائنا وجدنا فيه عيوبا كثيرة، ولم نر غير أبيات قليلة في القصيدة تعد من الشعر الجيد. نرى التكلف والصناعة ظاهرين مجسمين، والصوغ ضعيفا والتركيب غير متين، يكاد شعرهم يكون خلوا من جليل الابتكار، يسطون على المعاني القديمة من أطرافها، أو يجعلون عاليها سافلها، لا يستملون خيالهم وشعورهم ولا يعرفون أن يصوروا ما يقع تحت أعينهم تصويرا متقنا، فإن عبروا عن معنى لا يحتاج إلى أكثر من شطر نظموه في بيتين أو أكثر، ولو وفقوا لكتابته في أقل من بيت أضافوا جملة لإتمام البيت والقافية بمثابة لفظ لا معنى له. نرى القصيدة مفككة السياق غير مرتبة المعاني، كأنها ثوب خلق مرقع بمختلف الألوان، وإن بحثنا عن سبب وقوعهم في هذا العيب الشائن وجدناه راجعا إلى كونهم ينظمون القصيدة دون ترتيب كحاطب ليل، ويضعون أمامهم قصيدة قديمة من البحر والقافية التي يريدونهما، وكلما نظموا بيتا وفقوا له قافية من قوافي هاته القصيدة، وبعد إتمام العدد المرغوب يرتبون القصيدة، ويا لها من قصيدة كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وكيف ينتظرون من قريض مثل هذا أن يكون فيه خيال وشعور وفكرة مفصلة مرتبة وصوغ متين؟
نرى الشباب منا حينما يميل إلى الشعر ويبتدئ في معالجته يقرأ دواوين البهاء زهير وابن معتوق والخفاجي والشبراوي وابن الفارض وأمثالهم، وهم أبعد عن الشعر بعد الأرض عن السماء، ليسوا إلا وزانين. يتركون الشعر الجاهلي وفيه آيات البلاغة البينات الساحرات، وعنوان الفصاحة، ونموذج القريض، والتراكيب العربية الصحيحة، ولا تشوبه كلفة، ولا تظهر عليه صناعة، ومثال لجوامع الكلم كان حروفه من نار وكلماته من سحر تستفز الهمم الخامدة، وتحمس القلوب الجامدة، وترقق الأكباد الغليظة، وقد مني نثرنا العصري بأدواء تفوق أدواء الشعر، وأصبح الكاتب يحشو الصحيفة تلو الصحيفة بلغط باطل مزوق بسجعات باردة سخيفة، ويحليه بسجوف من المحسنات البديعية تواري عجره وبجره في أعين السذج، يضيع الكاتب من هؤلاء وقته الثمين ويقطع متواصل فكره في البحث والتنقيب عن سجعات تافهة يغل نفسه بقيودها ويسد بها المسالك أمام نفحات خياله، يطارد السجع في بلدنا هذا الإنسان من المهد إلى اللحد، فكانت مرضعه تنومه وتداعبه بالسجعات قائلة له: «يا بت ياللي فوق السطوح قولي لي أجي ولا أروح، ياللي ما راح باسوس وبو الغيط يا حلاوه على السقيط.» يسمع الراقي يسجع ولا سجع الكهان قائلا: «يا ملح يا مليح، يا جوهر يا فصيح، بخور الفراخ يمنع الدواخ، وبخور الجاموس يمنع الكابوس.» يسمع الأطفال أقرانه مغنين في رمضان بمختلف الأغاني المسجعة كقولهم: «احدفوا العاده لبه وقلاده ... إلخ.» فلا ينقطع عن أذنيه رنين السجعات أنى سار، ويجد في نفسه منذ صغره ميلا شديدا إلى التسجيع يشب معه ويسري في دمه وعروقه.
إن ألقينا نظرة في إنشاء أعظم كتابنا وجدنا أنه لا يستطيع تجنب اللغط والثرثرة، ويرتب فكرته ويتخيل الخيال الفخم الراقي، ويصوغ القول صوغا عربيا بليغا، ويراعي انسجام الجمل ووزنها، ويحسن اختيار الألفاظ ويترك السجع إلا ما جاء عفوا، ويستملي شعوره وخياله، ويعود نفسه دقة الملاحظة، إذ عليها المعول في تصوير الأشياء تصويرا دقيقا، وبها يكون الاستدلال والحكم صادقين، وأن يضرب في اللغة العربية بسهم وافر ملما بطرف صغير من كل علم، مطلعا على نظم العرب ونثرهم.
ينقصنا معشر المصريين الذوق السليم وهو ملاك الإنشاء وروح البيان، ولا يتأتى نيله إلا بالتهذيب الصحيح وترقية الفكر بالعلوم الفلسفية، كما أن للفنون الجميلة نصيبا وافرا في تقويم الأذواق، فإن هذبت الموسيقى أسماعنا عرفنا الشعر المكسور دون أن نعلم شيئا من العروض، وميزنا رنة القافية وانتقينا أجمل الأبحر وزنا، وإن أحرزنا قسطا وافرا من التصوير فهمنا معنى الجمال في كل شيء، ولم يخطئ تصويرنا الفكري، وقويت فينا الملاحظة الدقيقة، وصدق استدلالنا وحكمنا.
إننا نسأم من قراءة الأبحاث العقلية والفلسفية، ولا نود أن نجهد فكرنا أقل إجهاد، وبينا نرى الكتب الفلسفية في كساد نرى الروايات العديمة الفائدة في رواج، ولا تتعدى مطالعتنا الكتب الأدبية السهلة. سرحت ناظري يمنة ويسرة علي أجد ثانيا لذاك الأستاذ النابغة الذي تفتخر به البلاد في الكتابة فلم أعثر على أحد يماثله في فخامة الموضوع، وحسن الصوغ، وجمال التصوير، وشدة التأثير، وغزارة المعاني مع قلة الألفاظ، يكتب جملة قصيرة ويضمنها من الاجتماعيات أحسنها، ومن الحكم أفخمها، ومن العواطف أشرفها، ومن الخيال رائعه، ومن الشعر المنثور بدائعه، يكتب والصدق رائده، والإخلاص مذهبه، والتواضع والنفور من حيث الشهرة دينه، ولولا وثوقي من ذلك لنشرت اسمه.
إنني أحب الصراحة وأقول الحق ولو كان مرا عند من تكتنفه العزة أو الشهرة الكاذبة، وأنصح لأكبر كاتب أن ينحو نحوه ويتوخى أسلوبه الذي جمع كل المحاسن التي سردناها، وكان لا يزال يمضي بحرف واحد «م» لشدة تواضعه.
إن القارئ ليسلم معي بأنه لا يوجد في الدنيا من هو أضعف عقلا من عجوز شمطاء منفردة في بادية قفراء، فكيف يظن الفرد أنه أكتب قومه إذا كان دون هذه العجوز مقدرة في التعبير؟!
مر النبي
صلى الله عليه وسلم
هو وأصحابه بالبادية فأصابهم الظمأ، فلم يجدوا غير بيت حقير من الشعر به عجوز تسمى أم معبد، فاستقوها فلم يجدوا عندها ماء، وطلبوا أن تسمح لهم بحلب عنزها، فقالت: دونكم العنز فاحلبوها إن كان بها لبن، وقد جف لبنها من الكبر، فمسح النبي
صلى الله عليه وسلم
ضرعها بيده فدر لبنها وشرب هو وأصحابه، فتفرست فيه العجوز ووصفته وصفا دقيقا بليغا، إذ قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه تجلة،
1
ولم تزر به صقلة،
2
وسيما قسيما في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل،
3
وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أحور أكحل أزج
4
أفرن، إن ضحك فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خريزات نظم يتحدرن، وربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود
5
محشود
6
لا عابس ولا مفند.
7
ولو تمعنا في هذه الجملة لوجدناها آية في البلاغة وحسن الصوغ وجزالة المعاني ورقة الوصف وقد جمعت ثماني وثلاثين صفة؛ منها خمس وعشرون لوجهه وقامته والباقي لشمائله.
وأختم قولي بإبداء شعوري وإعجابي نحو فئة عظيمة من إخواننا الأقباط تتبارى في المنظوم والمنثور يزيد عددهم يوما فيوما، وإني أشكر لسعادة الأستاذ وهبي بك الذي بث فيهم الروح وأحسن تهذيبهم، وعرفهم بأن لغتهم هي التي يتخاطبون بها، فتنافسوا في تحصيلها تنافسا يغبطون عليه ويعود عليهم بالثناء الجميل. (10) تصوير العواطف والوجدان
ما فتئ كثير من الكتاب والشعراء يعنون بالأسلوب واختيار الألفاظ وسرد المترادفات دون أن يهتموا بالتعبير عما يجول في نفوسهم، فتراهم لا يستطيعون أن يصوروا حالاتهم النفسية تصويرا صادقا يجسم لك ما تضطرب به عواطفهم، ويجيش في نفوسهم من عنيف العواطف التي تتملك شعور القارئ وتهز أعصابه حتى لا يحس بما حوله.
مثل الإنشاء الوجداني كمثل غانية فتانة كفاها جمالها مؤنة الحلي والحلل والتزويق، وإن أعوزته متانة الأسلوب وحسن اختيار الألفاظ فهو بحالته هذه أفضل من غيره المنمق الأجوف.
ولقد حداني إلى الخوض في هذا الموضوع قطعتان تعدان بحق باكورة المثل العليا وبشائر النهضة المباركة والقدوة الحسنة التي يسترشد بها للوصول إلى الكمال؛ أولاهما: «بيت الإبرة» للأستاذ الجليل والكاتب الوجداني القدير الدكتور عبد الوهاب عزام، والثانية: «قصة في رسالة» للكاتبة الفاضلة «فتاة الفرات».
أخذ كاتبنا المفضال مجلسه في مكتبه في إحدى الليالي المباركة، وقد أسدل الليل سكونه وحلق طيف الشعر في غرفته وتجلت له البصيرة؛ فهبت نفسه ثائرة تملي عليه ما خط في أعماق فؤاده بلسان فصيح فتن به طيفه المحلق فوق رأسه، ثم زاغ بصره فيما حوله عله يجد موضوعا يطرز عليه تلك النفحات النادرة فوقع على بيت الإبرة، فأعجب بإخلاصه وشدة أمانته للشمال رغم توالي القرون والدهور لا يحيد عنه ولا يتزعزع، ولو وجهته بعنف وجهة أخرى، وما فتئت تلك الإبرة المباركة مرشدة للإنسان في البر والبحر والهواء، ثم عطف على إبرة مماثلة بين جوانح الإنسان ترشده إذا ضل، وتهديه إذا غوى، اللهم إذا استثنينا من في قلوبهم مرض وعلى أبصارهم غشاوة، فقد حاولت أن تهديهم فما وجدت لهم إلى الهدى سبيلا.
ولا تأخذنكم العزة أو تعروكم غضاضة أن تأخذوا أدبكم من فتاة، فإن كاتب هذه السطور الضعيف يعترف أول الناس بأنه لا يستطيع أن يدرك شأوها في هذا المضمار، ولو أسعدتني يوما تلك النفحات لما استطعت أن أكبح جماح الزهو والخيلاء.
ولقد خالجني الشك بعد قراءة هذه الرسالة في الإمضاء، فإن عبارتها تنم عن لهجة فتاة النيل لا فتاة الفرات، ويظهر أنها أمضت هذه الإمضاء تغاليا في الاختفاء وتضليلا للقارئ، قصت علينا الكاتبة حادثتها بأسلوب فني لا يجاريها فيها مجار، وصورت حالاتها النفسية وعواطف جارها الملتهبة تصويرا دقيقا صادقا، والفضل في ذلك لجرأتها البريئة وصراحتها الساذجة، فأخذت ترخي لنفسها العنان وتستسلم لأهوائها فتتبع خطواتها الضمير الحي، وأخذ يناضل مع هذه النزعات الثائرة حتى تغلب عليها وانتصر سلطان العقل الراجح والضمير الحي على الأمارة بالسوء، ثم هدت جارها إلى الصراط السوي وردته إلى عشه حيث تنتظره السعادة، وشفت فؤاده من مرض النفور من أولاده وعدم الاهتمام بزوجه الوديعة الصابرة، وانتهت القصة بدرس قيم في الأخلاق سادت فيه الفضيلة على الرذيلة. (11) ألف ليلة وليلة «بحث تاريخي ونقد وتحليل»
لا جدال في أن هذا الكتاب يعد أول وأعظم سفر حوى القصص والحكايات الفنية في الشرق والغرب، ولقد عني به الغربيون وترجموه إلى أغلب لغاتهم، وما فتئوا يعتبرونه كنزا عظيما يستنبطون منه روايات قصصية وتمثيلية وغنائية وسينماتوغرافية.
لم يظهر لغاية عصرنا هذا مؤلف هذا الكتاب ولا تاريخ وضعه بالضبط، ولم يحاول العلماء المستشرقون البحث عن منشئه إلا في القرن التاسع عشر، وأول من طرق هذا البحث المستشرق الفرنسي الشهير «سلفستر دوساسي» في «مجال العلماء» سنة 1817، ثم أعقبه ببحث آخر سنة 1829، ثم ثالث سنة 1833.
ولم يكتف بإنكار العناصر الهندية والفارسية فيه، بل تغالى في غلوائه حتى عد خبر ألف ليلة الوارد في مروج الذهب للمسعودي من الأخبار المشكوك فيها.
قال المسعودي في صفحة 90 جزء رابع طبعة المطبعة الأميرية بباريس:
مثل كتاب: هزار افسانه، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية: ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها: افسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها وهما شهرزادر ودينارزاد، ومثل كتاب فرزه وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها.
وقد خالف المسيو هامر بورجستال المسيو سلفستر دوساسي وأكد صحة قول المسعودي ونشر بحثا مستفيضا في «المجلة الآسيوية» سنة 1918.
ولقد ظن المستر «ويليام لين» الذي ترجم قسما من ألف ليلة أن الكتاب كله تأليف شخص واحد، ومنشؤه في المدة الواقعة بين سنة 1475 وسنة 1525، وذكر هذه الفكرة في المقدمة التي وضعها لترجمته سنة 1839-1847.
وفي سنة 1886 عاد المستشرق الألماني «جوبي» إلى هذا البحث مستشهدا بما جاء في كتاب فهرست ابن النديم الذي فصل الخبر تفصيلا لا يجعل للشك مجالا.
قال محمد بن إسحاق: «أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان؛ الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشفانية وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنعوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب هزار افسانه ومعناه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها: شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل مما يحمل الملك على استبقائها ويسألها في الليلة الثانية من تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدا أظهرته وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها: دينارزاد فكانت موافقة لها على ذلك، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لجماني ابنة بهمن وجاءوا فيه بخبر غير هذا.»
قال محمد بن إسحاق: «والصحيح - إن شاء الله - أن أول من سمر باليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب هزار فسانه ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حدث به عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد الحديث.»
قال محمد بن إسحاق: «ابتدأ عبد الله محمد بن عيسى الجهشياري صاحب كتاب الوزراء بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، وكل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه وكان فاضلا، فاجتمع له أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تنميقه ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي، وكان قبل ذلك ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم، جماعة منهم عبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم.»
وقد قرأت في آخر كتاب ابن النديم أنه فرغ من كتابته في شعبان سنة 377، وهذا مما يدلنا على أن ألف ليلة كان معروفا قبل ألف سنة، ولو كان المسيو سلفستر دوساسي ممن يقدرون قيمة الكتب لما فاته الاطلاع على هذا الكتاب الجليل، ولما تورط في هذا الشك المخجل.
ثم جارى «مولر» المسيو «جوبي» في هذه الفكرة، وكتب بدوره بحثا طليا عن ألف ليلة.
مخطوطات ألف ليلة الموجودة الآن، كما حققها الأستاذ «بروكلمان» ثلاثة أنواع؛ أحدها آسيوي وهو أقدمها وناقص، ويشمل الجزء الأول من المجموعة، والاثنان الآخران مصريان تامان، ولكن تاريخهما أحدث من الأول، والبون شاسع بين الآسيوية والمصريتين.
ومصر، لسوء حظها، مجردة من مخطوطات ألف ليلة، ولا يوجد شيء منها في دار الكتب، ومن أغرب الغرائب أن النسخة المخطوطة التي طبعت منها الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية سنة 1250 لا يوجد لها أثر.
طبع ألف ليلة عدة طبعات في مصر وأوروبا والهند، وأهم الطبعات المصرية الطبعة الأولى الأميرية سنة 1250 هجرية في عهد الخديو محمد علي باشا في مجلدين من القطع الكبير، ثم أعيد طبعه في نفس المطبعة في أربعة مجلدات، والطبعتان متفقتان بالحرف الواحد، وقد طبع طبعة أزهرية بالمطبعة العثمانية عدة طبعات وكلها منقولة عن الطبعة الأميرية ومطابقة لها.
والطبعة الهندية مطبوعة سنة 1839 وتولى طبعها وتصحيحها المستر «وليم مكناتن» سكرتير إنجلترا في الهند، وهي منقولة من نسخة مخطوطة كتبت بمصر أحضرها الميجر «تورنر مكان» وهو الذي طبع الشاهنامة للشاعر الفارسي الشهير الفردوسي، وهذه النسخة مطابقة تقريبا للطبعات المصرية ولا تختلف إلا في بعض نقط في الإنشاء، وهي في أربعة مجلدات.
والطبعة الألمانية مضى عليها أكثر من قرن، إذ طبعت في سنة 1825 ببرسلاو، وتولى طبعها وتصحيحها «مكسيميليان هابخت» مدرس اللغة العربية بالمدرسة الملكية ببرسلاو، وهي في اثني عشر جزءا ومغايرة للطبعات المصرية والهندية، وفيها نحو الثلث من قصص ألف ليلة، والثلثان الباقيان قصص غريبة لا توجد في الطبعات الأخرى.
وهذه الطبعة منقولة عن نسخة مخطوطة في عشرة أجزاء مؤرخة سنة 1731، وأحضرها للطابع أحد أهالي تونس المسمى م نجار، وقد سبق أن تقابلا في باريس فأوصاه على نسخة من مخطوطات ألف ليلة فعثر على تلك النسخة حين عودته إلى تونس.
ومن النسخ المغايرة النسخة التي ترجم عنها إلى الفرنسية «جلان» وهي تخالف الجميع ولا سيما الجزء الثالث وهو الأخير به قصص غريبة لا وجود لها في الطبعات الأخرى، نذكر منها علاء الدين والمصباح المسحور، وقصة علي بابا والأربعين لصا، وقد رآهما أغلب القراء في السينماتوغراف.
ولقد أجمع أغلب المستشرقين على أن طبعة بولاق هي أصح وأدق من كل ما سردناه.
وأشهر التراجم ثلاث: ترجمة «جلان» سنة 1715، وقد مضى عليها أكثر من قرنين، وهي رشيقة الإنشاء ولكنها لم يراع فيها المترجم الدقة والأمانة وتصرف فيها بكل حرية.
وقد افتتح المسيو «سلفستر دوساسي» هذه الترجمة بمقدمة عن ألف ليلة ومنشئه، ولكنه لم يخبرنا هو ولا المترجم عن منشأ المخطوط الذي ترجم عنه.
وترجمة «الكابتن بورتون» الإنجليزية وهي مثال للدقة والتحقيق، ولجهلي اللغة الإنجليزية لم أكلف نفسي البحث عن نسخة منها لأقارن بينها وبين النسخ الأخرى، ولا أدري إن كان أصلها مماثلا للأصل الذي ترجم منه «جلان» أم لا؟
ولقد ترجم الدكتور ماردروس المصري مولدا ونشأة والمستوطن بباريس كتاب ألف ليلة ترجمة جمعت بين دفتيها الدقة والبلاغة سنة 1900، وهي تقع في ستة عشر مجلدا، ثم طبعت طبعة ثانية في ثمانية مجلدات كبيرة مجلدة تجليدا فنيا ومحلاة بصور ملونة تمثل الصور المزدان بها بعض المخطوطات الهندية والفارسية الشهيرة، وقد اشترك في هاتين الطبعتين مكتبتا «لوفاسور» و«فاسكيل» بباريس.
ولقد ترجم المسيو ماردروس أغلب سور القرآن ترجمة سحبت ذيل النسيان على جميع التراجم القديمة، وطبعتها مكتبة «فاسكيل» السالفة.
ولقد نقل المسيو ماردروس ترجمته عن طبعة بولاق وقال بدوره: إنها أضبط ما وجد من نسخ ألف ليلة.
نريد أن ننتقل بالقارئ إلى نظرة نحلل فيها ألف ليلة علنا نستنبط من بين سطوره شيئا يفيدنا في هذا البحث العويص، وسيكون مدار تحليلنا الموضوع من الوجهة الفنية والإنشاء ونفسية الكاتب وجنسيته، وهل هو فرد أو أفراد، والعصر الذي وضعت فيه الترجمة التي بين أيدينا اليوم.
لا مراء في أن الكاتب كان خصب الخيال غزير المادة، ولقد أجاد في وضع الأساس على شكل فني ظريف وهو خبر شهرزاد مع شهريار وتفننها في سرد لذيذ القصص والحكايات، ووقوفها كل ليلة عند نقطة من الحديث هامة حتى استبقاها الملك، وقد سبق ذكر ذلك في موضعه.
فالمجموع عظيم ولكن التفاصيل فيها عيوب جمة؛ منها الإسراف والمغالاة في المبالغة كقوله: إن الرخ يحجب الشمس حينما يطير وبيضته أعظم من القبة، وقوله عن أغلب أبناء الملوك: فما أتم حوله الخامس عشر حتى صار فارسا صنديدا لا يلبث أمامه الفرسان الأشداء، وكوصفه لقصور الجن بأنها من الذهب والفضة والياقوت والزمرد، وكزواج أشخاصه ببنات الجن وظهورهن بين الناس، وكقوله: إن سيف الملوك لما سافر أخذ معه أربعين مركبا وعشرين ألف مملوك، إذ لا يعقل أن أربعين مركبا في العصور القديمة تكفي لحمل الأمتعة والمئونة وعشرين ألف مملوك، ولا يعقل وجود جيش جرار من المماليك في أي بلاط! وسرد هذا الخبر في حد نفسه لا يبهر القارئ ولا يدهشه بل يضحكه سخرية.
ويلاحظ القارئ أن طريقته في سرد الحوادث مفككة الأوصال لا يربطها ترتيب في الزمان ولا في المكان، فتراه في قصة الملك شهرمان وولده قمر الزمان وحفيديه الأسعد والأمجد، أن هذين الغلامين لما أمر والدهما وزيره بقتلهما عقب اتهام والدة كل منهما لابن ضرتها بأنه راودها، ورفض الوزير قتلهما وتركهما ليهربا، وسفرهما من بلد لآخر دون أن يعلم أبوهما وجدهما من أمرهما شيئا.
ولما أراد أن يختم هذه القصة الطويلة حضر قمر الزمان وعسكره، وبعد لحظة حضرت الملكة مرجانة وجيشها، وبعد آونة حضر الملك الغيور صهره وجنوده ثم تلاه الملك شهرمان وعساكره.
حضر الجميع في وقت واحد من أقطار مختلفة متنائية عن بعضها ومن غير سابقة علم بهذا المكان.
ومن الحوادث المنكرة التي لا يقبلها العقل هيام حياة النفوس وبدور بابني زوجهما، ولو اقتصر على واحدة لقلنا: شذوذ محتمل الوقوع، وهذا مما يدل على تجرده من كل ذوق سليم.
ومما ينتقد عليه تشابه بعض القصص ببعضها وتكرار الحوادث فيها مثل: قصص حسن البصري وسيف الملوك وحاسب كريم الدين، إذ نرى في كل منها أن بطل القصة لم يسمع النصح وفتح باب القصر الذي حذر من فتحه، ثم رأى البستان الجميل وبركة الماء والطيور التي حطت في البستان وخلعت ريشها، وظهرت منه فتيات فاتنات وهيام كل بطل بأجمل الفتيات، وهن من بنات ملوك الجن ومواطنهن وراء جبال قاف، ومجازفة المحبين باقتحام الأهوال والسير بين طوائف الجن المختلفة، وخبر اليهودي الذي كان يضع الحسن البصري وسيف الملوك في جلد بغل ويخيط عليه، ثم يأتي الرخ فيحمله ويضعه في قمة جبل الماس، ثم يشق الجلد بسكين ويخرج منه ويقذف الماس لليهودي، وغير ذلك مما هو مكرر بنصه في القصص الثلاث.
ومن هناته ومستهجناته وصفه دخول أبطال قصصه بزوجاتهم بشكل فاحش مخجل كهراء الحشاشين في أقذر المواخير.
ومن أقبح وأبرد حكاياته اثنتان بجانب بعضهما؛ إحداهما امرأة ولعت بقرد والثانية أحبت دبا، وهما من الخيال السمج الوقح، ولولا ضيق المقام لأتينا بشيء كثير من هذه الملاحظات التي لا تخفى على كل من له شيء من الذوق في الفن القصصي.
إنشاء ألف ليلة غث حقير، وفيه جانب عظيم من التعبيرات والألفاظ العامية والسجعات الباردة التي يرصها رصا في كل موضع بالحرف الواحد، وهي تكاد تماثل سجعات «صندوق الدنيا»، وكذلك شعره فإن أغلبه من الشعر الموزون الخلي من المعنى والجمال، وسنعود إليه حينما نصور نفسية الكاتب وشخصيته.
إن ألف ليلة أصله فارسي، وكان صغير الحجم لا يشمل غير القسم الفارسي والهندي والصيني؛ لأن الأقسام الأخرى العربية والمصرية وغيرها أصيفت متأخرة، وهذا رأي كثير من المستشرقين ويثبته تاريخ الحوادث.
ولقد ورد في القسم المصري ذكر الفرمان السلطاني وأبي طبق والجامكية ومصر القديمة وبولاق وباب الشعرية وباب الخرق - الذي أبدل الآن بالخلق - وباب الفتوح، وهذا مما يدل على أن القسم المصري حديث لا يتعدى زمن المماليك.
سلمنا بأن واضع هذا الكتاب أفراد، وأن القسم الأول وضع قبل ألف سنة بكثير؛ لأن ابن النديم حينما تكلم عنه منذ ألف سنة لم يقف على اسم واضعه ولا على التاريخ الذي كتب فيه، وهذا مما يدل أيضا على أنه كتب قبل زمن ابن النديم بزمن بعيد، فالقارئ يدهش حينما يرى أن الكتاب من دفته إلى دفته مكتوب بقلم واحد وأسلوب واحد، وأن القسم القديم نفسه محشو بشعر سخيف حديث العهد.
ولكنني أرجح أن الترجمة وضعت في زمن المماليك، واشترك فيها اثنان: تركي يجيد الفارسية وضعيف في العربية وكانت مهمته الترجمة، والثاني مصري فقيه ومهمته التنميق والتزويق بتلك السجعات السخيفة والأشعار المرذولة وتصنيف القسم العربي الشامل لأخبار الرشيد وغيره والقسم المصري.
وغير خاف أن عصر المماليك كانت تتخبط فيه مصر في دياجير الجهل والانحطاط وفساد الأخلاق، وربما كان إنشاء ألف ليلة يعد في زمانه من رائع بيان العصر، ولا يبعد أيضا أن واضعه كان يعتبره قومه من الذين يشار إليهم بالبنان في ميدان النظيم والنثير.
ويظهر أن هذا الفقيه درس في الأزهر بضع سنين ثم انقطع للأدب وتفرغ للكتابة والشعر، وقرأ بعض الكتب الغثة المسجعة والدواوين السخيفة كالبهاء زهير والوأواء الدمشقي وابن سهل ومن شاكلهم، وحفظ العروض لتعليم الوزن، وقرأ جانبا من الكتب الخرافية المرذولة مثل خريدة العجائب وبدائع الزهور، وعددا من كتب المواعظ والحكم الدينية السخيفة التي يبرأ منها الدين والتي يحفظها الشباحون والطفيليون ليتشدقوا بها في مجالس العامة.
وقد استدللت على أنه فقيه بل من فقهاء المقابر من محاوراته العلمية في قصة تودد الجارية وهي من أرذل ما سمع.
سألها العلماء: ما ربك؟ وما نبيك؟ وما إمامك؟ وما قبلتك؟ فأجابت: الله ربي، ومحمد
صلى الله عليه وسلم
نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي ... إلخ، ولا يخفى على القارئ أن هذا القول يلقنه فقهاء المقابر للأموات وقت دفنهم، وفي قصص أخرى يقول: صلى ركعتي الاستخارة، وفي قصة علاء الدين أبي الشامات يقول: إنهم اتخذوه مستحلا لبنت أحد الأغنياء.
ومن بروده وسماجته سؤال العلماء لتودد الجارية وهم في حضرة الرشيد أسئلة تماثل ما جاء في رجوع الشيخ إلى صباه!
وتلك الكلمة فيها الكفاية للاطلاع على مبلغ معلومات منمق ألف ليلة، وقد بقي علينا أن نأتي بصورة تمثل نفسيته:
هذا الرجل على شاكلة «تارتوف» أو الشيخ متلوف على رأي عثمان بك جلال، شيخ معربد فاجر مستهتر، مجرد من الذوق والأدب ومكارم الأخلاق، وهو من الفئة الذين يهرولون وراء فتوى كاذبة لرجل طلق امرأته ستين مرة، أو عقد زواج جديد مع وجود المرأة على ذمة الزوج الأول، والذين يتطفلون في المآتم والأفراح فيكون واعظا إن كان المجلس يبحث في الوعظ، وشاعرا في الأفراح يرص القصيدة ويخطب الخطبة لتهنئة العروسين، وتارة في مواخير الحشيش، وطورا في الحانات ينادم ويضحك الشبان المعربدين الوارثين، وترى جيوبه محشوة بأحقاق العنبر والمنزول يبيعها للمعربدين بعدما يسهب في منافعها وخواصها.
كل هذه الصفات تقرأها طي ألف ليلة، حتى نسخ المنزول تراها في الصحيفة الأولى من قصة علاء الدين أبى الشامات، وقبل تركيبها ببضعة سطور تجد حوارا بين والد علاء الدين وزوجه من أقبح ما سمع، وفيه من أخبار النساء والولدان ما يدل دلالة صريحة على أن هذا الرجل كان حشاشا كبيرا.
ولولا الإطالة لسردت شيئا كثيرا من المواقف التي تصور هذا الكاتب، وما على المستزيد إلا أن يطالع الكتاب كله ليرى فيه أضعاف أضعاف ما ذكرناه، وأظن أن النسخ الآسيوية القديمة ليست بهذه القحة ولا هذا البرود وتلك السماجة.
هذا ما وصل إليه جهد استطاعتي، وعسى أن لا يضن الأستاذان الكبيران صاحبا السعادة أحمد زكي باشا وأحمد تيمور باشا بموافاة القراء بمعلوماتهما عن هذا الكتاب توصلا للحقيقة وخدمة للعلم. (12) رابند رافات تاجور
حاولت أن أجد بين الأحياء صورة تماثل هذا الفيلسوف العظيم والشاعر العبقري فلم أوفق، فشحذت الذاكرة وأرهفت اليراع واستنجدت بطيف الشعر، فهمس بعد قليل في أذني: عبثا تؤمل أن تظفر بأمنيتك بين الأحياء ودونك صورة صادقة خلدها الفن؛ وهي تمثال موسى عليه السلام من صنع المثال العظيم ميكيل أنج.
إن كانت عندك أيها القارئ هذه الصورة في دائرة معارف أو كتاب في الفن، فافتح كتابك وتأمل معي فيها وانظر إلى الهيبة والعظمة اللتين يملكان عليك مشاعرك، والعين البراقة والنظرة الحادة المهيبة التي تملي عليك إرادتها دون أن تمتعض أو تستنكف أو يأخذك الزهو والكبرياء، وشعره المتدلي على أكتافه ولحيته البيضاء المسترسلة إلى صدره كلبد الضياغم.
شاهدته حينما زار مصر بالمصادفة في الطريق وهو راكب عربة، وقد وقع نظره علي دون قصد، فراعتني تلك الطلعة المهيبة والجلال النادر وتلك النظرات الحادة، وقد خيل إلي أنها اخترمت أحشائي ووصلت إلى سويداء قلبي، فقرأت ما خط فيه من سر مكنون، وقد تضاءلت أمامي وقتئذ جميع الشخصيات البارزة، وأيقنت بعدما قرأت نحو خمسة عشر مجلدا من مؤلفاته التي ترجمت إلى الفرنسية أنه عطارد الشعر الذي لا يدرك له غبار، ولا يجاريه فيه مجار.
ومن مزاياه النادرة التي لم يبلغ شأوها غيره من الشعراء الأقدمين والمعاصرين: الرقة الفتانة، والرشاقة النادرة الساحرة، وسلامة الذوق المتناهية، والعواطف المتأججة، والمعاني العظيمة العميقة التي جمعت بين الشعر والفلسفة فزادت قوة على قوة، وقريضه الخالي من التكلف والذي لا يشاهد فيه أثر للصناعة والإجهاد.
وحينما ترجم ديوانه «بستاني الحب» إلى الفرنسية وظهر في عالم المطبوعات أخذت منه نسخة ولم أتمكن من قراءتها في أول يوم، وفي الغد انتابني مغص الكليتين واشتد علي حتى جعلني أئن وأتلوى كالطير المذبوح، ولما سكنت قليلا شدة الألم أخذت هذا الديوان وأنا راقد، ولم آت على آخر القصيدة الثانية حتى انتقلت إلى عالم آخر ونسيت الألم وتفتحت عيناي واشتدت عضلات جفوني بعد ارتخائها، وتنبهت أعصابي بعد خمودها، ولهوت عن كل شيء، ولم أقطع هذه اللذة النادرة التي سكنت آلامي بشيء آخر من طعام أو شراب أو دواء، وما غربت الشمس حتى أتممت قراءة ما بين دفتي الديوان وأنا مدثر في فراشي.
إذا أمعنا النظر في شعر كبير وهو أحد زعماء الصوفية في الهند في القرن الخامس عشر وجدنا بينه وبين شعر تاجور شبها كبيرا؛ إذ كلاهما يبحث عن الخالق ويتغزل فيه، وهذا ما يدلنا على تأثر تاجور من كبير، ولكن الفرق بينهما أن تاجور أرقى بكثير من كبير، وقصائده أطول، ومعانيه أعمق وأفخم، وإتماما للفائدة نسرد كلمة عن كبير وبعض مقطوعات من نظمه لنقارن بينها وبين شعر تاجور.
وقد نقل تاجور شعر كبير من البنغالية إلى الإنجليزية بنفسه، وهذا مما يدل على ولعه بقريض هذا الشاعر وإعجابه به.
ولد كبير من أبوين مسلمين بمدينة بيناريس حوالي سنة 1440، وانضم منذ صغره إلى تلاميذ الناسك الهندوكي الشهير رامانندا، وكان هذا الأخير متبحرا في العلوم الدينية وعاش في عصر تأثر فيه الشعر الوجداني والفلسفة العميقة بكبار الصوفية من الفرس تأثرا عظيما في الفكرة الدينية بالهند، وقد أمل أن يوفق بين التصوف الإسلامي والبرهمي المتواتر.
ويعد كبير من عظماء المصلحين الدينيين، وله حزب باق إلى الآن يبلغ المليون، وفضلا عن ذلك فقد بلغ في القريض مكانة لم يسبقه إليها غيره من أسلافه، وشعره حافل بجميع أنواع العواطف من أدقها إلى أشدها، وتعد معانيه من السهل الممتنع الخالي من التعقيد والتكلف.
نراه في نظمه لم يفرق بين العقائد البرهمية والدين الإسلامي، بل كان قريضه يتناول الاثنين، وكان فضلا عن تصوفه وشهرته في القريض موسيقيا ماهرا.
لم ينقطع للتنسك وإماتة الجسم والعزلة والتأملات؛ بل كان حائكا يعيش من صناعته، والغريب أن جميع الأساطير أجمعت على أنه كان أميا رغما مما بلغه من أعلى شأو في القريض، وكان متزوجا ورزق بأولاد، وكان يحتقر التنسك والعزلة والزهد والتقشف وتجنب الحب والابتعاد عن السرور والجمال المنتشر في العالم من الوحدة اللانهائية.
أما من جهة العقيدة فلا نستطيع أن نعتبره مسلما ولا هندوكيا؛ لأنه كان ملحدا، وكان يمقت العقائد الدينية، وجميع الأوساط الدينية كانت تعده رجلا خطيرا، والإله الذي كان يبحث عنه لم يكن في الهياكل ولا في المساجد ، وكان يعتقد أنه موجود بجانب كل من ينشده.
كان نفوذ الكهان والبراهمة عظيما في بيناريس فاضطهدوا كبيرا، وقيل إنهم أرادوا إغواءه فأرسلوا إليه بغيا حسناء فلم تنل منه نيلا، بل هداها حتى تابت وأصبحت طاهرة صالحة.
أتى عليه عام 1518 وهو هرم سقيم ضعيف الذراعين، فتوفي في هذا التاريخ بمدينة مجهر على مقربة من جور أكنور.
ومن الأساطير اللذيذة التي قيلت عن وفاته أنه لما مات تخاصم تلاميذه المسلمون والهندوكيون على جثته، فأراد الأولون أن يدفنوه، وأراد الآخرون أن يحرقوه، فظهر لهم كبير وقال: «انزعوا الأكفان وانظروا إلى ما تحتها.» فأطاعوا ووجدوا تحتها باقة من الأزهار النضرة، فاقتسموها بينهم، ودفن المسلمون نصيبهم في مجهر، وأخذ الهندوكيون نصيبهم وأحرقوه في بيناريس.
وهاكم خمس مقطوعات من شعر كبير:
1
أين تبحث عني يا خادمي؟ انظر ترني على كثب منك! لست في الهيكل ولا في المسجد ولا في محراب الحرم المكي ولا في مقام آلهة الهند، ما أنا في المذاهب ولا في الحفلات الدينية ولا في التنسك وتقشفه وزهده.
إن كنت تبحث عني حقا فستراني قريبا، وستأتي الساعة التي تحظى فيها بمقابلتي.
ويقول كبير: «أيها الولي، إن الله هو نفس كل من يتنفس من الأحياء.»
11
كنت فيما مضى ألعب مع رفاقي ليل نهار ولكن الخوف يساورني الآن.
قصر سيدي شاهق يناطح السحاب وقلبي يخفق من الهلع، إن حاولت الصعود إليه بيد أنه لا ينبغي لي أن أكون هيابا، إن أردت التمتع بحبه يجب أن يرتبط قلبي بأعز حبيب، وأن أزيح نقابي وأجمع بين كياني وذاته، وستكون عيناي مقرا لمصابيح الحب.
ويقول كبير: «سماع أيتها الحبيبة، إنه يفهم من يحبه، فإن لم يضنك حب المحبوب فلا فائدة من تزيين جسمك وتجميل أجفانك بالكحل.»
12
خبريني أيتها البجعة عن تاريخك القديم، ومن أي البلاد أتيت؟ لأي شاطئ تطيرين؟ أين تستريحين أيتها البجعة وعم تبحثين؟ استيقظي أيتها البجعة في هذا الصباح وانهضي لتتبعيني، إنها لبلاد لا يدخلها الشك ولا الحزن والكآبة، ولا يتسرب إليها الخوف من المنون، هناك ترى الغاب، وقد جلله الربيع بأزهاره، ويقول عرفه الشذي: «أنا هو.» وتحمله ريح الصبا.
وهناك تغوص نحلة القلب في قاع الزهرة ولا تريد غير هذه المسرة.
27
إن رحمة سيدي الحق هي التي علمتني ما خفي، ولقد تعلمت منه أن أسير بغير قدمين، وأن أنظر بلا عينين، وأن أسمع من غير أذنين، وأن أشرب بدون شفتين، وأن أطير بغير جناحين.
وفي البلاد التي لا تنعم بشمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، قد أحببت وتأملت، لقد تذوقت حلاوة الرحيق دون أكل، وقد ارتويت بغير ماء.
إن السرور المتقاسم لهو أعظم المسرات.
أمام من نستطيع أن نعبر عنه؟
ويقول كبير: «سيدي أعظم من العوالم، وما أعظم ثروة تلميذه.»
30
في هذه الشجرة طير يرقص في فرح الحياة، ولا يستطيع أحد أن يعرف مقره أو يعيد مرد أغنيته.
هل رأيت موضع الظل الكثيف الذي يسقط من فروع الشجر المتكاثفة، فهناك عشه، إذ يجيء في المساء ويطير في الصباح، وإني لا أعرف له كنها، ولا يتيسر لأحد أن ينبئني عن هذا الطائر الذي يغرد في نفسي، وما ريشه بملون ولا غير ملون، وليس له شكل ولا حد، وهو يستقر في ظلال الحب.
إنه ينام في باطن من لا يدركه العقل الدائم الذي لا نهاية له، ولا يعلم أحد متى يطير ولا متى يعود، ويقول كبير: «أيها الأخ الصالح الورع! إن هذا السر عميق فدع الحكماء يبحثون عن مقر هذا الطائر.»
لنعد بالقراء إلى تاجور والحديث ذو شجون، ولد المترجم في عام 1860 بكلكتا، وقد منحه مجمع ستوكهلم العلمي جائزة «نوبل» في الآداب في 13 نوفمبر سنة 1913، وقال: إن شعره يشمل جميع مطامح النفس، وهو عريق في النسب من أسرة بنغالية تضم كثيرا من عظماء الرجال، وقد نال جده الأمير «دوراكانات تاجور» شرف المثول أمام الملكة فكتوريا، واشتهر والده المهرشي - أي الحكيم - دبندارانات تاجور بأنه مفكر ديني.
والمترجم نفسه معروف بتأملاته وتصوفه؛ إذ يشاهد كل يوم غارقا مدة ساعتين في بحار عميقة من التأملات، وهذا لا يمنعه من تكريس نشاط منتظم لتهذيب كثير من النفوس، إذ أسس بمدينة بوليبور بجوار كلكتا مدرسة يديرها في الهواء الطلق يعد فيها أكثر من مائتي طالب، وهو وطني عظيم، درس المدنية الإنكليزية وآدابها ومشهور في إنكلترا أكثر منه في فرنسا، وقد حضر مؤتمر الأديان بباريس سنة 1913.
عرف الناس هذا الشاعر منذ ربيعه الثامن عشر، إذ أخرج لهم رواية تمثيلية موسيقية ثم أعقبها برواية قصصية، وقد ذاع شعره في جميع أقطار الهند حتى أصبح بعد زعيم شعراء الهند قاطبة، وأصبحوا يؤرخون به عصرا جديدا في الآداب الهندية يسمونه «الرابندراناتي».
وقد برع في الموسيقى كما برع في الشعر، وألف ألحانا يدل شكل نغماتها على تعبيرات عالية، ولحن قصائد تلحينا يدل على غزارة المادة ودقة الشكل، وترجم بنفسه ديوانه المسمى «القربان الشعري» من البنغالية إلى الإنجليزية، وكتب له الشاعر الأرلندي «يتس» مقدمة قال فيها:
إن بيتا مع قريض رابندرانات لينسي آلام الدنيا.
يعد المترجم من الشعراء المتصوفين ذوي النظم الجلي المعبر عن عنيف العواطف والآلام، وما فتئ يتطلب تجلي الخالق ويشعر بوجوده في جميع العالم، ولو أنه هندوكي صميم لكنه لا يغفل وهو ثمل بنشوة التأملات والخيالات عن الاتصال بالناس وشغفه بالطبيعة.
إنه يتهلل لجمال الطبيعة وقد جللها النور وكستها أزهار الربيع بشائق حللها، ويشجيه تغريد الطير فوق الدوح والخمائل، ويبسم لقوس قزح، ويفتنه جمال الزهر ويثمله أرجه العبق، ويصغي بفرح إلى خرير الأمواج ومداعبتها للسفن الماخرة، وقد عبر عن هذا الشغف في كثير من المواقف؛ كقوله في عرض قريضه: «قد دعيت إلى عيد الدنيا وبورك لي في حياتي.» وهذا ما يدل على أنه بعيد عن التشاؤم العظيم الذي اتصف به المفكرون من الهندوكيين.
إنه لا يخشى الموت ويرغب في الخلود الذي يجمعه مع الله، ولكنه يحب الحياة وجمال الدنيا.
نرى شاعرنا يتهلل فرحا أمام منظر الحياة العامة، ولكنه يرى الحياة في العمل والإجهاد، ويرى في الموت الدعة والسكون، فهو يطمح إلى النعيم المقيم ليتفانى في التقرب من الله، إذ يقول: «لقد تمكنت من الوصول إلى ضفاف الأبدية التي لا يخفى فيها شيء. أغمس حياتي المجوفة في هذا القاموس، أغمرها وسط هذا التمام حتى أشعر في ذاك العالم الكامل بتلك الملاطفة التي فقدتها في الحياة الدنيا.»
وهذا التمام والكمال بابه الموت الذي لا يخشاه تاجور، إذ يعتبر أن في المنون تمام الحياة والمسلك الموصل للقاء ربه، وأن الموت والحياة هما وجها الدنيا، فإن أحب أحدهما فلم لا يحب الآخر. ومن أبلغ ابتكاراته الشائقة السهلة قوله: «يئن الطفل حينما تنزع أمه ثديها الأيمن من فمه مع أنها لا تلبث أن تناوله الأيسر الذي يجد فيه عزاءه وسلوانه.»
طرق تاجور أغلب نواحي الأدب من فلسفة وشعر وروايات قصصية وتمثيلية وأقاصيص وحكايات وقطع فكاهية وغيرها، ولقد أجاد كل الإجادة في كل هذه الأنواع.
إن أمعنا النظر في روايات تاجور الأولى التي ظهرت من سنة 1877 إلى سنة 1890 وجدنا فيها تأثرا ظاهرا من الكاتب البنغالي الكبير «بنكيم شندراشاترجي» الذي نشرت كتبه سنة 1864.
ولكنه تحرر من هذا التأثير في سلسلة الحكايات التي نشرها من سنة 1890 إلى سنة 1900، وكان يصور فيها حياة الريفيين والأسر المتوسطة البنغالية.
ثم ظهرت بعد ذلك رواياته الاجتماعية العظيمة:
حزن العيون سنة 1904-1905.
جورا سنة 1908-1910.
البيت والعالم سنة 1913-1914.
الأربعة الأصوات سنة 1914-1915.
وأما كتابته الفكاهية فلم تترجم لغاية الآن من البنغالية، ويعد تاجور أعظم كاتب فكاهي في الهند.
وأعظم رواياته وأكبرها «جورا» وهي صورة غنية وجريئة أغضبت كثيرا من الأحزاب لتهكمه الشيطاني اللطيف الذي يشوق القارئ لاكتشاف بطل الرواية وزعيم الوطنيين وهو من دم أرلندي وقد التقطته أسرة من الهندوكيين الطيبين.
وتلي هذه الرواية في الشهرة رواية البيت والعالم، وهي من حيث البلاغة والعواطف والرقة والرشاقة تقرب من الشعر كثيرا.
وقد قال عنه «رومان رولان» في عرض كلامه: لقد تفرد مؤلف «البجعة» باختلاج الطبيعة العنيفة الذي يغمر به حديثه فيسمع تحت كلام المحدث الرقيق غناء الروح بدون كلام، وهو يختلج تحت الحجاب وما هو إلا موسيقى السكون.
ولنكتف بهذه الكلمة لنعرض للقراء نماذج من ديوانه «القربان الشعري» و«بستاني الحب» وهما أشهر دواوينه. (12-1) القربان الشعري
5
أسالك أن تمن علي أن أستريح بجانبك لحظة أتم فيها ما شرعت فيه من الأعمال، حرمت من رؤية وجهك الكريم فأصبح فؤادي لا يعرف للراحة معنى ولا أمدا، وظل اجتهادي عناء دائما في مفازة النصب المترامية الأطراف، أقبل الصيف اليوم إلى كوتي هو وأنينه، وهرول النحل إلى الرياض المزهرة ليرتشف ثغور نوارها.
أقبلت ساعة الدعة الهنيئة لأنشد معك وجها لوجه ولا نذر، وأكرس لك حياتي في صمت هذا الفراغ العظيم.
6
اقطف هذه الزهرة الضئيلة وعجل بأخذها لئلا تذبل وتتناثر فوق التراب.
وإن لم يكن لها محل في باقتك فشرفها بلمس يدك واجنها، فإني أخشى أن لا يتم اليوم قبل أن يخالجني الشك ويفوتني وقت الإهداء.
خذ هذه الزهرة لنفسك وإن تكن كامدة اللون حيية العرف، اقتطفها فقد آن الوقت.
12
إن الزمن الذي يتطلبه رحيلي لطويل والطريق بعيدة، لقد خرجت راكبا عجلة أشعة النور الأولى، وقطعت رحلتي خلال وحدة الدنيا تاركا أثري فوق نجوم عدة، إن أبعد ظعن هو الذي يقربني إليك، وإن ترجيع الصوت وتنويعه لهو يوصل إلى انسجام الأصوات التام.
ويلزم الراحل أن يطرق جميع الأبواب قبل أن يصل إلى بابك، كما ينبغي له أن يضل خلال جميع العوالم الظاهرة ليصل في النهاية إلى تابوت العهد.
لقد تركت عيني تضلان في بعيد الفجاج قبل أن أقفلهما وأقول: ها أنت هنا، وهذا السؤال وذاك الانتظار يذوبان في عبرات ألف من الأنهار، ويغمران الدنيا تحت لجج هذه الحقيقة أنا.
21
أما حان الوقت لأطلق عنان سفينتي؟ تنهار الساعات الدنفة فوق العراء، فوا أسفاه!
جاء الربيع بأزهاره ونواره ثم ولى تاركا أزهارا حقيرة ذابلة بينا أنا منتظر مستبطئ.
هاجت الأمواج بعيدا عن الضفاف وتساقطت الأوراق المصفرة في الدرب الظليل.
ليت شعري! ما الذي غاب عنك وتفكر فيه؟ أما شعرت باختلاج يتخلل الهواء مع اللحن القصي الذي يصعد ثم يهرب وراء الشاطئ الآخر؟
27
أيها النور! أين ذاك النور؟ نعشت وأسعدت بنار الرغبة المتوهجة.
ها هو المصباح ولكنه لا يختلج كالشعلة ، أهناك مصيرك يا قلبي؟ وإن المنون لخير لك.
إن البؤس يطرق بابك ومهمته أن سيدك يقظ، وضرب لك موعدا للحب خلال جنح الظلام.
السماء متلبدة بالغمام وما فتئ المطر منهملا، ولكني لا أدري ماذا يجيش في نفسي ولا أدرك له معنى.
إن لمعان البرق الفجائي جلب إلى عيني ظلاما حالكا، وإن فؤادي ليبحث وسط هذه الحنادس عن السبيل الموصلة إلى الألحان التي تدعوني.
أيها النور! أين ذاك النور؟ نعشت وأسعدت بنار الرغبة المتوهجة.
يقصف الرعد وتهب الريح مزمجرة خلال الفضاء والليل معتم «كالاردواز» فلا تترك الساعات تمر في الظلام، وأنعش مصباح الحب بحياتك.
57
أيها النور! أي ضوئي الذي يملأ الدنيا، يا من هو لثمة العيون وهناءة القلوب.
يرقص النور وسط حياتي! أيها المحبوب العزيز! إن هواي يرن من وقع ضربة النور، تنفتح السموات، وتهب الرياح، وجاب ضحك الأرض.
حلق الفراش فوق خضم النور الذي أحبه، وفجر الضوء من رءوس اللحج زنبقا وياسمينا.
أيها النور العزيز! انقش السحب بأصباغك العسجدية لتنتثر منها الجواهر الشائقة، انتشر الفرح من ورقة لأخرى يا هواي، وسادت الهناءة العميمة.
طغى نهر السماء فغمر ضفافه، وظلت أمواج الفرح خارجه.
82
إلهي! لا نهاية للزمن الذي بين يديك، ولا أحد هناك ليعد دقائقك، تكر الأيام والليالي، وتتفتح الأعمار ثم تذبل كالأزهار، وتعرف أنت كيف تنتظر.
تتعاقب قرونك لتتم زهرة ضئيلة من أزهار الحقول، لا زمن لنا نضيعه، إذ ينقصنا الوقت كما أنه يلزمنا أن نتحمل المشاق في سبيل حظوظنا. إننا مساكين ولا يتسنى لنا أن نتأخر.
وهكذا يمر الزمن بينا أهجره لجميع الشاكين الذين يريدون أن يستردوه، وحينئذ يبقى محرابك خاليا من القرابين عاطلا.
وعند انتهاء النهار تساورني العجلة خشية أن لا تكون الأبواب موصدة، وفضلا عن هذا أرى أن الوقت لم يفتني بعد. (12-2) منتخبات من البستاني
1
الخادم :
أيتها المليكة رحمة بخادمك.
الملكة :
لقد انفض الاجتماع وانصرف أتباعي، ولم أتيت في هذه الساعة المتأخرة؟
الخادم :
تحين ساعتي حينما تمر ساعات الآخرين، خبريني أي عمل بقي لآخر خدمك؟
الملكة :
ماذا تؤمل بعد فوات الأوان؟
الخادم :
اجعليني بستانيا لحديقة أزهارك.
الملكة :
ما هذا الجنون؟
الخادم :
إنني أرفض أي عمل آخر، وسأطرح رماحي وسيوفي في التراب، لا ترسليني إلى أي بلاط ملكي بعيد، ولا تكلفيني بفتوحات جديدة، بل اجعليني بستانيا لحديقة أزهارك.
الملكة :
وماذا يكون عملك؟
الخادم :
سيكون عملي قاصرا على أوقات فراغك وسأرعى الكلأ بعنايتي حتى تستمر نضرته في الدرب الذي تسيرين فيه في الصباح، حيث تتمنى الأزهار الموت وتتعطش لأن تموت تحت قدميك مباركة القدم التي سحقتها.
وسأؤرجحك بين أغصان «السبتبرنا» بينما يطلع القمر مبكرا في السماء محاولا أن يقبل طيلسانك من خلال أوراق الأشجار.
وسأملأ السراج الذي يشتعل بجانب سريرك بالزيت العطر، وسأزين كرسيك بالصندل والزعفران.
الملكة :
أي جزاء تبتغي؟
الخادم :
أن تسمحي لي أن أمسك بين يدي بيديك الغضتين المماثلتين لأزرار النيلوفر، وأن أطوي حول ذراعيك عقود الأزهار، وسأخضب قدميك بعصارة أزهار «الأشوكا» الحمراء، وسأقتطف بقبلة ما علق عليهما من الغبار.
الملكة :
قد قبلت توسلاتك يا خادمي وستكون بستاني حديقة أزهاري.
2
أيها الشاعر! اقترب المساء، واشتعل رأسك شيبا.
أتسمع وأنت غارق في تأملات عزلتك رسالة ما وراء الوجود؟
قال الشاعر: ها هو المساء، إنني مصغ: فلربما نادى أحد من القرية رغما من هذه الساعة المتأخرة.
إنني ساهر، وعاشقان يبحث أحدهما عن الآخر، فهلا يقودهما قلباهما؟ وهلا يتقابل قلبان ضالان لعاشقين في شرخ الشباب؟ وإن عيونهم البراقة لتنشد وهي متسولة حبا منسجما يقطع السكوت ويتكلم بدلا عنهما.
من ينسج لحمة غنائهما المؤثر الشجي، إذا داومت الجلوس على شاطئ الحياة أشاهد الموت وما وراء الوجود؟
لقد اختفى نجم المساء الأول، وطفقت نار أتون الأموات تخبو ببطء بعد سعيرها المتوهج على مقربة من الغدير الصامت، وكان يسمع من فناء المنزل المقفر في ضوء القمر الكامد عواء أبناء آوى، وإذا مر ظاعن، وقد ضل عن مأواه ضلالا بعيدا ثم أقبل ليشاهد الليل وينصت وهو منكس الرأس إلى نشيد الظلمات، فمن يكون هنا ليسر إليه أسرار الحياة إذا أنا أقفلت بابي وأخليت نفسي من كل قيد يربط البشر بعضهم ببعض؟
لا يهمني إن اشتعل الرأس شيبا، فإني ما زلت فتيا مثل أصغر أهل القرية، وهرما مثل أكبر رجل فيها.
البعض لهم بسمات بسيطة لطيفة، والآخرون تلمع أعينهم من المكر والخبث.
وهؤلاء لهم عبرات تنفجر في ضوء النهار، والآخرون لهم دموع تختفي في الظلمات، جميعهم محتاجون إلي وليس عندي من الوقت ما يسمح لي بالتأمل في الحياة القادمة.
إنني في كل سن فلا يهمني أن يشتعل الرأس شيبا.
7
أماه، سيمر الأمير الشاب ببابنا، فكيف أستطيع العمل في هذا الصباح؟
لم تنظرين إلي نظرة الدهش يا أماه؟
إنني متيقنة أنه لا يلتفت إلى كوتي، وأعلم أنه سيختفي عن الأنظار بعد لمحة عين وستقبل زفرات نايه القصي وحدها لتموت في أذني.
سيمر الأمير الشاب أمام بابنا وأريد أن ألبس أفخر ما عندي لهذه اللحظة أماه، لقد مر الأمير الشاب أمام بابنا وكانت أشعة الشمس تتلألأ فوق مركبته، لقد سفرت ونزعت من جيدي عقد الياقوت ورميته تحت قدميه.
لم تنظرين إلي يا أماه نظرة الاستغراب؟
إنني أعلم أنه لم يلتقط عقدي وأعرف أنه قد سحق تحت عجلات مركبته بعدما ترك بقعة حمراء فوق التراب، ولم يفكر أحد أنه كان هديتي ولا لمن أهدي، ولكن الأمير الشاب قد مر أمام بابنا وقد نثرت في طريقه جواهر قلبي.
15
أعدو كظبي المسك وقد ثمل شذى عطره فظل يجري في ظلام الغاب، وكانت ليلة من ليالي أيار وقد هب النسيم من الجنوب، ضللت الطريق وتهت وظللت أبحث عما لا أستطيع أن أجده وأعثر على ما لا أبحث عنه.
وصعدت من قلبي صورة رغائبي فرأيتها ترقص أمام عيني.
لقد طار الجمال المتوهج وسولت لي نفسي أن أمسك به ففر وضللت الطريق، إنني أبحث عما لا أستطيع أن أجده وأعثر على ما لا أبحث عنه.
28
إن نظرك لحائر حزين يحاول أن يقف على ما يدور بخلدي.
إن القمر يريد أيضا أن يخترق اليم.
إنك تعلمين أسرار حياتي ولم أخف عنك شيئا، فلم تجهلين كل شيء؟
لو كانت حياتي حجرا ثمينا لسحقته مائة قطعة وعملت من هذه القطع عقدا أقلد به جيدك.
ولو لم تكن حياتي إلا زهرة صغيرة فإنني أقتطفها من ساقها لأزين بها شعرك، ولكنها أيتها الحبيبة قلب وأين يوجد أطرافه؟ إنك تجهلين حدود هذه المملكة بيد أنك ملكتها.
ولو لم يكن قلبي إلا لذة لرأيته يزهر ابتساما سعيدا ولاخترقته في لحظة.
ولو لم يكن إلا ألما لذاب وتحول إلى عبرات رائقة ينعكس فيها بصمت أسراره، ولكنه هيام يا حبيبتي العزيزة، ملذاته وأتعابه لا تحد، وفقره وغناه دائمان.
إنه لأقرب إليك من حياتك ولكن هيهات أن تعرفيه حق المعرفة.
29
تكلمي أيتها الحبيبة! أعيدي إلي الكلمات التي تترنمين بها.
الليل مظلم وقد غابت النجوم في السحب، والريح تتنهد خلال الأوراق.
سأحل شعري وستغمرني عباءتي الزرقاء بليلها، وسأضم رأسك إلى صدري، وهناك في هذه العزلة اللطيفة أناجي فؤادك، وسأغمض عيني وأنا مصغ دون أن أنظر إلى وجهك.
وحينما ينتهي كلامك نبقى سكوتا في اطمئنان ودعة، والأشجار وحدها تهمس بنجواها في حنادس الظلمات.
سيكمد لون الليل وسيولد النهار ونحن ننظر في عيني بعضنا البعض وسنتم طريقينا المختلفين.
تكلمي أيتها الحبيبة وأعيدي لي الكلمات التي تترنمين بها.
36
تمتم قائلا: ارفعي ناظريك يا حبيبتي.
فزجرته مجيبة: اذهب لشأنك! ولكنه لم يبرح مكانه.
جلس أمامي وأخذ يدي بين يديه، فقلت له: دعني وشأني! ولكنه لم يذهب، قرب وجهه من وجهي، فنظرت إليه قائلا: وا خجلاه! ولكنه لم يبد أية حركة.
مست شفتاه خدي فارتعدت وقلت: لقد غلوت في جرأتك! ولكنه لم يخجل.
وضع زهرة في شعري، فقلت له: هيهات هيهات لما تبغي! ولكنه لم يغضب.
أخذ عقد الزهر من عنقي ثم ذهب، بكيت وسألت قلبي: هلا يعود؟!
63
هل أنت مضطر لمواصلة سفرك الآن أيها السائح؟
الليل ساكن وقد أرخى الظلام سدوله على الغاب.
تتلألأ المصابيح فوق شرفتنا والأزهار نضرة ولم تكد تستيقظ عيون الشباب، هل أزف وقت رحيلك؟ هل أنت مضطر لمواصلة سفرك الآن أيها السائح؟
لم نحط قدميك بأذرعنا متوسلين والأبواب مفتوحة، وجوادك مسرج ينتظرك بجانب السياج.
لم تسول لنا النفس أن نحجزك إلا بأغانينا، وقد حاولت أنظارنا وحدها أن تؤخر سفرك.
أيها الراحل، إننا عاجزون عن أن نبقيك بجانبنا، إذ ليس لنا غير عبراتنا.
أية نار مقدسة تلمع في عينيك؟ وأية حمى اضطراب تجري في دمك؟ وأي نداء من الظلمات يحرضك؟
ما الذي قرأته في صفحة نجوم السماء من عزائم السحر الهائلة حتى يتسرب الليل خفية إلى فؤادك وهو الرسول الصامت الغريب؟
وإن كنت تحتقر الاجتماعات المتهللة، وترغب أن تخلد إلى الدعة والسكون أيها القلب المتعب، فإننا نطفئ مصابيحنا ونسكت كناراتنا.
وسنجلس هادئين ساكتين في الليل تحت حفيف أوراق الأشجار، وسيرمي القمر أشعته الضئيلة على كوتك.
أيها السائح، أي شيطان من شياطين الأرق سلطه عليك قلب الليل حتى مسك؟ (12-3) أقاصيص تاجور
نبغ تاجور في الأقاصيص حتى أصبح يضارع أكبر الكتاب في هذا النوع مثل: «دوديه وجي دو موباسان» إن لم يفقهما، ولقد جمع في كتاباته بين رشيق الأسلوب وظريف النكات والفكاهات وبلاغة التعبير وسمو الأفكار وفخامة المغزى الاجتماعي والأدبي.
إنه يهتم كل الاهتمام بما أوتي من بلاغة وشعر وفلسفة بالمرأة الهندية ولا سيما الأيامى؛ إذ هن أتعس وأشقى نساء العالم؛ لأنه لا يجوز لهن أن يتزوجن ثانية، وليس لهن بيت ولا ملك.
وقد خصص إحدى رواياته المسماة «الأصدقاء» للمرأة، إذ عليها يدور محور الرواية، وسيرى القراء في إحدى الأقصوصتين اللتين اخترناهما وعنوانها «جارتي الجميلة» كيف صور الأرملة وكيف رفعها إلى أعلى ذروة، وأسبغ عليها من آيات الجمال والرشاقة بأسلوب ساحر وقدرة نادرة.
جارتي الجميلة
إن الشعور الذي نفحتني به الأرملة الفتية التي كانت متوطنة بجواري ما كان إلا شعور إجلال واحترام، وهذا ما كنت أؤكده لأصحابي وأعيده لهم، حتى إن صديقي الحميم «نابان» كان يجهل حقيقة حالتي النفسية.
كنت أشعر بشيء من الكبرياء؛ لأنني استطعت أن أحفظ أهوائي نقية طاهرة بأن دفنتها في سويداء قلبي.
كانت جارتي أشبه بزهرة «السفالي» بللها قطر الندى ثم سقطت قبل الأوان، كانت متناهية في الطهر والنقاء وضاءة الجمال؛ فلذلك ما كانت تليق للزواج بل كانت حرية بأن تكرس للقاء الخالق.
عاودني هواي العنيف كسيل جارف دوى من شاهق بدلا من أن يستكن ويخمد، وطفق يبحث له عن مخرج يشقه.
فلذلك بذلت الجهد في التعبير عن تأثري وعواطفي بالقريض، ولكن خانني القلم ورفض أن يدنس حبي.
شاءت المصادفات في الوقت نفسه أن مني صديقي «نابان» بهوس القريض، إذ فاجأه بعنف كزلزال الأرض.
ولما كانت هذه هي النوبة الأولى التي أصابت هذا الشاب المسكين لم يجد عنده استعدادا لمعالجة النظم والقوافي، ولم يستطع أن يثبت أمام هذه الصدمة، وخضع لهذا السحر خضوع الأرمل لزوجه الثانية، وفكر نابان في الاستعانة بي لإغاثته، وعالج الموضوع القديم الأبدي الذي يظن دائما جديدا وهو إهداء قصائده لحبيبته، فسألته بعدما صفعته بلطف على كتفه: «من تكون إذن أيها البطل؟»
فأجابني مبتسما: «إنني لا أعرفها.»
وقد وجب علي أن أعترف بأنني وجدت سلوانا عظيما لمجيئي لعون صديقي، وكنت أشبه بدجاجة أفرخت بيضة بطة، واستنفدت كل هواي المتأجج خدمة لنزعات «نابان» الشعرية، ونقحت نظمه الرث وأشعلت معانيه حتى أصبح أغلب كل قصيدة من قصائده من عملي الخاص.
فصاح «نابان» وقد تملكه الدهش: هذا بالضبط ما كنت أريده وما لا أستطيع أن أعبر عنه، وكيف توصلت أيها الشيطان للتعبير عن جميع هذه العواطف اللطيفة؟ فأجبته إجابة شاعر: «يكفي لذلك خيالي، وإنك لا تجهل أن الحقيقة صامتة، وأن الخيال وحده يفجر الفصاحة، والحقيقة هي الصخرة التي تقف سيل العواطف، ولكن الخيال يعرف كيف يشق له في هذه الصفاة دربا يمر منه.»
تلعثم نابان المسكين من الحيرة وأجاب: «نعم نعم، لقد فهمت»، ثم تمتم بعد أن فكر لحظة: «نعم نعم، لقد صدق ظنك.»
وقد بينت فيما سردته أن حبي كان به عاطفة إجلال واحترام تمنعني عن التعبير عنه بألفاظ، ولما أصبح نابان بمثابة ستر لي لم أجد عائقا أمامي لنزعات قلمي، وتأجج لهيب صادق من هذه القصائد التي نظمت بتفويض من صديقي .
قال «نابان» في آونة كان فيها مطمئن البال مرهف الذهن: «إن هذا القريض مما جادت به قريحتك، فدعني أنشره باسمك.» - يا للحماقة! إنه يخصك يا صديقي العزيز ولم يتجاوز عملي غير التنقيح.
وبهذه الوسيلة أعتقد شيئا فشيئا حتى صدق ما قلته، ولا أنكر أن شعوري كان أقرب إلى شعور الفلكي الذي يقلب طرفيه في السماء، إذ طفقت أوجه ناظري مثله صوب كوة بيت جارتي، ولقد وافقت نظرتي المختلسة جزاءها اللطيف من مشاهدة من كانت تتطلع إليها، وكان أقل شعاع يصدر من هذا الضوء النقي يهدئ ويطهر في لحظة ما كان يكنه تأثري مما يعكر أو يشين.
وفي ذات يوم تملكني الدهش، فهل أستطيع أن أصدق عيني؟ إذ هاجت بعد ظهر يوم حار من أيام الصيف ريح الشمال الغربية وهي عنيفة لا نظام لها وظهرت مهددة، تبعتها سحب مكفهرة تكاثفت في الأفق، فنهضت جارتي الجميلة تحدق في هذا الجو المضيء الغريب المزعج، وتقلب ناظريها في هذا الفضاء المقفر.
وفي هذا التعبير البعيد المنبعث من عينيها اللامعتين السوداوين فقد استنطبت عالما عظيما من الانتظار اليائس! فيا لبركان ثائر تحت سكون الأشعة المتلألئة من هذا الكوكب! وا أسفاه إن هذا النظر المشبع بأماني غير محدودة، ومن يخيل أنه يحاول أن يطير خلال السحب بعنفوان الطير وخفته، وما كان في الحقيقة ليبحث عن السماء، بل كأنه يبحث له عن ملجأ لبعض القلوب الإنسانية.
ولما قرأت الأهواء المبهمة المتصاعدة من هذه النظرات كظمت عواطفي بكل جهد، وأصبحت لا يقنعني أن أصحح رديء القريض، وطمحت نفسي إلى الظهور بأعمال عظيمة جلية، وصممت في النهاية أن أكرس نفسي لتشجيع الزواج الثاني للأرامل، ولا أكتفي بنشر أفكاري هذه بالكلام والقلم، بل بنفوذ المال أيضا، وقد ناقشني نابان في هذه الفكرة قائلا: «إن العزوبة الدائمة تشمل في نفسها فكرة طهر وسلام لا حد لهما، ورواء ودعة تماثل الأماكن الصامتة التي ينيرها بأشعته المحتضرة ضوء القمر الضئيل في ليلته الحادية عشرة، وهلا يكفي الزواج الثاني لتدمير هذا الجمال الرباني؟ ويجب أن أعترف بأن هذا الشكل من سرعة التأثر كثيرا ما ضايقني، وفي أيام القحط كان رجل سمين ضخم يتمشدق بمسائل الغذاء بلهجة احتقار وازدراء ناصحا من يموت جوعا بأن يتغذى بأريج الزهر وغناء الطير، فماذا تقول في رجل مثل هذا؟» فسبقته بالجواب بعنف: «اصغ لي يا نابان، فقد تكون البيوت المتهدمة للفنان شيئا يثير إعجابه، ولكن المنازل لم تشيد لأسباب الجمال، ويجب أن تستمر عامرة بأهلها وتدوم فيها يد الإصلاح والعناية دون اهتمام بسرعة تأثر الفنانين.»
ومنذ هنيهة كنت تحبذ الترمل وتجعله شيئا خياليا ومثلا أعلى، ولكن يلزمك أن تفهم أن تحت هذا الترمل يختبئ إحساس القلب الإنساني الذي يئن ويصعد الزفرات من الألم والرغبة.
كنت واثقا بأني سأقنع نابان بصعوبة، فأفعمت مناقشتي بالأهواء والعواطف، ثم دهشت حينما لمحت نابان وهو يزفر زفرة ذاهل في أمانيه، وانتهى الأمر به بأن وافقني على آرائي بعد حديثي القصير، ورأيت أن أستغني عن النتيجة المفحمة التي كنت أريد أن ألقيها عليه!
مضى على حوارنا أسبوع، فأقبل نابان ليراني وينبئني بأنني إذا شددت أزره يكون في طليعة الحركة بأن يبني على أرملة.
طرت فرحا وعانقت نابان بحنو عنيف ووعدته بأن أمده بما يلزمه من النقود الكافية لمشروعه ثم سرد لي وقائعه.
ولقد علمت أن المرأة التي أحبها نابان لم تكن شيئا خياليا، وأنه فتن أيضا من زمن بأرملة دون أن يفضي بسره لأي إنسان.
ولقد وقعت المجلات التي نشرت قصائد نابان - وبالأصح قصائدي - في يد الحسناء، ولم يكن الشعر عديم الجدوى.
وقد وضح لي نابان خبره بالتفصيل، وقال لي: إنه سولت له نفسه لأبعد شأو حتى إنه لم يبحث عما إذا كانت الأرملة تجيد القراءة، وأرسل المجلات لأخي الحبيبة وأخفى اسم المرسل، وكان ذلك منه استرسالا لأهوائه دون أمل.
وحينما يضع العابد عقود الزهر فوق أقدام ربة فليس من شأنه أن يعرف أنها كانت تعلم أو تجهل قربانه، أو كانت تقبله أو ترفضه.
وقد أفهمني نابان أنه ما كان يتتبع شيئا محدودا، وبحث عن أخي الأرملة وتوصل لأن يتعرف به، وكل ذي صلة بالمحبوبة يملك نفعا خاصا للعاشق.
ثم أعقب ذلك خبر مرض الأخ الذي طال وانتهى بالزيارة الأولى، وحينما حضر صاحبنا تناولت المناقشة بالطبع قصائده، ولم ينتج من ذلك اقتصار الجدل على الموضوع الذي خرج منه.
وفي اليوم الجديد الذي اقتنع فيه نابان ببراهيني استجمع كل قواه لخطبة الأرملة، ولقد رفضت في أول الأمر، ولما استعان ببلاغتي وأسعدتها دمعتان من عينيه سلمت الحسناء دون قيد ولا شرط، ولم ينقص الآن إلا مبلغ من المال يستعين به ولي أمرها لقضاء ما يلزم.
فقلت لنابان: «إن ثروتي رهن إشارتك.»
فأجاب نابان: «ولكني مضطر لأن أعترف إليك بأنه ستمر بضعة شهور قبل أن أتوصل لتهدئة أبي والحصول منه على نفقة، وطالما كان أمر النفقة معلقا فماذا نعمل لنعيش؟»
فحررت له حوالة بما يلزمه من المال، وقلت له: خبرني الآن عن اسمها ولا تعتبرني مزاحما، وإني أقسم لك أنني لا أنظم شيئا عنها، ولو فرضنا وكتبت شيئا من الشعر فتيقن أنني لا أرسله لأخيها بل أوجهه إليك وحدك.
فأجاب نابان: لا تكن غبيا، فإني ما أخفيت عنك اسمها خشية من مزاحمتك، والحقيقة أن فكرة الركون إلى طرق غير مألوفة أثارت اضطرابها، والآن وقد تم كل شيء كما تشتهي وتتمنى فقد برح الخفاء، وما هي إلا جارتك المتوطنة في المنزل رقم 19.
فثار قلبي كمرجل من نحاس يوشك أن ينفجر، واكتفيت بأن قلت له: «ألم تبد اعتراضا على زوج ثان؟»
فقال نابان مبتسما: ليس هذا وقته الآن. - إذن فالفضل في هذا الانقلاب الغريب راجع إلى القصائد وحدها.
فأجاب نابان: «هلا كانت قصائدي رديئة لهذا الحد؟»
فأقسمت له كذبا.
ولكن على من تقع تبعة هذا الحنث؟ عليه أم على نفسي أم على الحكمة الإلهية؟ وهذا لا يهمني فقد حلفت رغما من هذه الاعتبارات.
على ضفاف الكنج
إن كنت تحب العصور السالفة فاجلس بنا فوق درجة سلم الشاطئ هذه وأعر أذنيك لتلاطم اللجج.
إننا نقترب من شهر أيلول وقد بلغ النهر غاية فيضانه، ولم يبق من درجات سلم الشاطئ غير أربع تظهر من سطح الماء.
بلغ البساط السائل حافة الشواطئ في المواضع المنخفضة، وقد نمت هناك خمائل «الكاشو» المتكاثفة محتمية بظلال المنجة، وقد كون التيار العنيف في هذا المكان زاوية وكشف عن ثلاثة أكوام من آجر طال عليه العهد في أماكنه، وقد رست سفن الصيد وربطت في جذوع «البابلاس»، وطفقت تؤرجحها الأمواج وقت الصباح، وكانت المقصبة التي كست الكثيب تجتذب أشعة الشمس حتى أزهرت قبل أن تدرك.
وكانت السفن تمخر عباب النهر المشمس وهي منتفخة القلوع، والكاهن البرهمي يحمل آنيته المقدسة ويتهيأ للاستحمام، وقد أقبلت النساء مثنى وثلاث يطلبن الماء، واعتادت «كزم» أن تظهر في هذه الساعة على درجات السلم لتستحم، ولكني لم أرها في الصباح، وقد أقبلت «بوبان وسوارنو» تتساءلان عن صديقتهما قائلين: «يظهر أنها أخذت إلى دار زوجها في موطن يبعد عن هذا النهر ويمتاز بغرابة سكانه وتفاوت منازله واختلاف طرقه.» ثم عفت رسوم كزم من ذاكرتي، مر العام والنساء اللاتي يأتين للاستحمام لا يذكرنها إلا قليلا، وفي مساء يوم انتفضت من التأثر، إذ عرفت قدمين طالما شاهدتهما، ولكن وا أسفاه قد أصبحتا عاطلتين من الخلخال وفقدتا رنتهما الموسيقية.
ترملت الفتاة، وقيل: إن زوجها دعي إلى بلد بعيد وإنها لم تره إلا مرة أو اثنتين، ثم حمل البريد نعيه ففقدته وهي في ربيعها الثامن عشر، وامحت من جبينها علامة الزواج الحمراء، وتجردت ذراعاها من أساورهما ثم ذهبت إلى بيت أهلها على ضفة الكنج، ولم تجد غير قليل من صويحباتها القديمات، وقد تزوجت «نوبان وسوارنو وامالا» ثم سافرت ولم تبق غير «سرات» التي تثبت أنها ستتزوج للمرة الثانية في شهر ديسمبر.
وفي وقت هطول الأمطار وازدياد مياه الكنج كان جمال «كزم» يزدهي يوما فيوما حتى أشرق، ولكن ثيابها السوداء ووجهها الكئيب وحالتها الهادئة قد ضربت بحجاب على نضرة شبابها وأخفته كما يحجب الضباب نظر الناس.
وقد مر على هذا العهد عشر سنين دون أن يلحظ أحد نمو «كزم»، وفي صبيحة يوم بعد هذه الأعوام الطويلة، وفي نفس هذا المناخ من أواخر شهر أيلول حضر كاهن فتي عظيم رائق اللون من جهة لا تعلم ليلنجي لمعبد «سيفا» أمام داري، وانتشر خبره بسرعة في نفس القرية، فتركت النساء جرارهن وذهبن ليحيين القديس، ازدادت الجماعات يوما عن يوم، وذاعت شهرة الكاهن بسرعة بين النساء.
وكان الكاهن يقرأ تارة «الهاجبات»، وطورا يشرح كتاب «جيتا»، أو يعظ في المعبد مستقيا مواعظه من الكتب المقدسة، وكان البعض يستمد نصائحه والآخر سحره أو طبه.
مرت الشهور وأقبل نيسان وجاء أوان كسوف الشمس، وكثر المستحمون في الكنج، وأنشئت سوق تحت خمائل «البابلاس»، وشوهد بين الحجاج القادمين لتحية الكاهن سرب من نساء القرية التي تزوجت فيها «كزم».
كان الكاهن في صباح يوم جالسا على إحدى درجات سلم الشاطئ وهو يدير سبحته في يده، وكان ضمن الحجاج امرأة تشير إلى صاحباتها قائلة: «إن هذا الكاهن لهو زوج صاحبتنا كزم.» ثم أزاحت التي بجانبها قناعها قليلا قائلة: «إنه هو بذاته وهو أصغر أولاد أسرة «شياترجو» التي تقطن قريتنا.» وقالت ثالثة وهي تنظم قناعها: «إن جبينه كجبينه، وأنفه كأنفه، وعينيه كعينيه.» وقالت أخرى دون أن تلقي نظرة على الكاهن وقد حركت جرتها في الماء وهي تتنهد: «وا أسفاه! إن هذا الفتى لن يعود أبدا، ووا حسرتاه على كزم!»
ولاحظت أخرى قائلة: «إنه لم يكن طويل اللحية مثله.» وقالت غيرها: «لم يكن هزيلا مثله.» وقالت أخرى: «يظهر أنه كان أصغر سنا.» واستمرت المناقشة بهذا الشكل ثم انقطعت.
وفي ليلة تم البدر أقبلت «كزم» وجلست على مقربة من الماء فوق الدرجة العليا من سلم الشاطئ، فوقع ظلها علي وكنا وحدنا على حافة موضع الاستحمام، وقد صدح حولنا الجندب وسكتت نواقيس المعبد وخفتت أصوات الأمواج عن ذي قبل متهيئة للاختفاء في الخمائل التي لا يحققها النظر من الضفة المقابلة كذكرى الصوت، ولمعت أشعة القمر فوق مياه الكنج السوداء، ومالت في اتجاه منبع النهر ظلال خيالية هائلة على السياج والخمائل، كما مالت على باب المعبد وحوض الماء والنخيل، وكانت الخفافيش تتأرجح فوق أغصان «الشتيم» بينا ينتشر على مقربة من المنازل عواء أبناء آوى، ثم لا يلبث أن يستحوذ عليه السكون.
خرج الكاهن من المعبد بخطوات متثاقلة، ونزل بعض درجات من مكان الاستحمام، فلحظ امرأة وحدها وتهيأ للابتعاد حينما رفعت كزم رأسها وأدارته فتزحزح قناعها وأضاء القمر وجهها.
حلقت بومة فوق رأسها ثم صاحت فاقشعرت، ولما اطمأن بالها نظمت قناعها ثم وقفت وقفة احترام وخشوع أمام الكاهن، فبارك عليها، ثم قال لها: من أنت؟ فأجابته: إن اسمي كزم، وفي هذه الليلة لم يتبادلا كلاما غير هذا، ثم سارت ببطء إلى منزلها وكان على مقربة من هذا المكان، ولكن الكاهن لبث مكانه فوق السلم دون حراك ساعات طوالا، وفي النهاية حينما غرب القمر وسقط ظل الكاهن أمامه هب ودخل المعبد.
ومن هذه الآونة رأيت كزم آتية كل يوم وماثلة بين يديه بإجلال وخضوع، وكانت تجلس في ركن لتستمع منه شرح الكتب المقدسة، وكان يدعوها إليه بعد الانتهاء من صلاة الصباح ويحادثها في مسائل الدين، ولكنها ما كانت تستطيع أن تفهم كل ما يقوله، بل كانت تصغي إليه بكل دقة، وكانت تساعد في خدمة المعبد وتسارع في العبادة، وتقتطف الأزهار لتزين بها «بوجا» وتحمل الماء من الكنج لغسل أرض المعبد.
أصبح الشتاء على وشك الرحيل واستمر الهواء باردا، وفي بعض الأحيان قبيل المساء يهب نسيم الربيع الحار فجأة من الجنوب، وتفارق السماء شكلها الشتوي، وكان يسمع من جديد صوت المزامير والموسيقى من القرية بعد السكوت الطويل، وسرح الملاحون سفنهم ماخرة الماء، وكانوا يقفون التجديف لينشدوا أغاني «كريشنا»، وقصارى القول: كان كل شيء يبشر بمظاهر الربيع وإقباله.
وفي هذه الأثناء لم أشاهد «كزم» وقد اختفت من أيام ولم تظهر في المعبد، ولا في مكان الاستحمام، ولا أمام الكاهن.
ولقد جهلت ما مر وقتئذ، وبعد قليل التقى الاثنان فوق سلم الشاطئ.
سألته «كزم» وقد نكست رأسها غاضة طرفها: هل دعوتني يا سيدي؟ - نعم، لم انقطعت ولأي سبب أهملت منذ أيام خدمة أربابك؟ فالتزمت الصمت.
خبريني عن فكرتك دون أن تكتمي شيئا. ثم أدارت وجهها قليلا وأجابت: «إنني خاطئة يا سيدي، وقد أهملت واجب العبادة.» فأجابها الكاهن: «إنني أعلم يا «كزم» أن نفسك فريسة الاضطراب والحيرة.» فأخذتها هزة خفيفة ثم كشفت وجهها وجلست تحت قدمي الكاهن وانهمرت عبراتها كالوابل، فتقهقر الكاهن قليلا ثم قال لها: «أنبئيني عما يجول في فؤادك أرشدك سبيل السلام.» فأجابت بلهجة ذات عقيدة ثابتة وكلمات منقطعة: «إن سمحت تكلمت، ولكني أخشى ألا أجيد التعبير بوضوح، وإنك بلا ريب يا سيدي قد حزرت كل شيء. إنني أحببت إنسانا حبا يقرب من العبادة، وكنت أجله وأحترمه، ولقد فاض قلبي بالسعادة والهناءة حينما انقطعت لإتمام هذه الشعائر.
ولقد رأيت في منامي معبود نفسي جالسا في بستان قابضا بشدة بيسراه على يمناي متمتما لي في أذني بكلمات ملؤها الحب، ولم أجد غرابة في هذا المنظر، زال الحلم واستمر تأثيره، وفي الغد حينما وقعت عيناي عليه ظهر لي بحالة غير التي كنت أعهدها فيه، واستمرت صورة الرؤيا في مطاردتي واستحوذ علي الرعب، وسولت لي نفسي الهرب إلى مكان قصي، ولكن الصورة ما فتئت مرتسمة في ذهني، ومن هذا الوقت لم تعرف نفسي السلام، وأصبح كل شيء من نفسي غامضا مبهما.»
وبينما هي تمسح الدموع من عينيها شاهدت الكاهن يدق حجر السلم برجله اليمنى بعنف، وحينما انتهت من حديثها سألها: حدثيني عمن رأيته في حلمك، فأجابت إجابة توسل ويداها مضمومتان: «لا أستطيع.»
فألح عليها قائلا: «يجب عليك أن تعترفي لي بكل شيء.» ثم لوت يديها وقالت له: «أتريد ذلك؟» فأجاب: «هذا واجب عليك.» فصاحت قائلة: «ما كان إلا أنت سيدي.» وهوت على الحجر تصعد الزفرات، ولما عادت إلى وعيها واستطاعت الجلوس أجابها الكاهن برفق وصوت عذب: «سأبارح هذه المواطن الليلة ولن تريني عوض، واعلمي أنني كاهن ولا أخص هذا العالم ويجب عليك أن تنسيني.» فأجابت بصوت خافت: «سيتم ما تريد يا سيدي.» ثم قال لها الكاهن: «أستودعك الله.» ثم انحنت كزم دون أن تنبس ببنت شفة، ونفضت غبار قدميه ومسحت به رأسها، ثم غادر القرية هذا الرجل الصالح.
طلع القمر وأعتم الليل فسمعت ارتطام الأمواج، وهاجت الرياح العنيفة في الظلمات كأنها تريد أن تطرد الكواكب من سمائها. (13) الخشاب الشاعر
هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره، إذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب، ولقد خان الحظ شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور، ولو أنه معروف بين الخاصة من الطبقة الراقية في الأدب، ولقد جنت عليه المطابع المصرية؛ إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالآستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا.
خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوروبا ومصر عدة طبعات، بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا، وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.
وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر، وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول بين ربوع الشام وأشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي، ويطرحان التكلف ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما، لم يعززا بثالث في ذلك الوقت.
كان والد المترجم به نجارا، ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الأخشاب بجانب تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة، وأرسل ابنه إلى الكتاب فحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه إلى طلب العلم فذهب إلى الأزهر، ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، فأنجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف بمطالعة الأدب والتاريخ والتصوف حتى أصبح نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات.
ولدماثة أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه، صحبه كثير من أرباب المظاهر والرؤساء والكتاب والأمراء وكبار التجار.
يقول لنا الجبرتي: إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن إسماعيل بن سعد بن إسماعيل الوهبي الحسيني الشافعي كانت له قوة استحضار في إبداء المناسبات حسبما تقتضيه حال المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور، ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته الجذابة الخلابة.
ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم به محررا لتاريخ حوادث الديوان، وقرر له الجنرال جاك منو في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة.
علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة في الميول مال كل منهما إلى الآخر حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم به تارة يذهب إلى داره وطورا يزوره هو، ويقع بينهما من لطيف المحاورة ما يتعجب منه، وهو الذي نفح الشاعر بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق.
ولم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته، مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له صديق يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي فتزوج شاعرنا امرأته وهي نصف، وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى، فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق عليه إشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه وأقام له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض أشهرا أنفق فيها كثيرا من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا وأقام له مأتما عظيما، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت له رواتب وقراء، واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره أقامت به نحو الثلاثين سنة، وهي مداومة على عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام، وشاعرنا طوع أمرها في كل ما طلبته، وكان كل ما وصل إليه من مال أو كسب ينفقه عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية؛ لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو نحيف ضعيف الحركة جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش أياما، ثم توفي في يوم السبت ثاني الحجة سنة 1230 بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز، وصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل، ودفن عند ابنه المذكور بجامع الكردي.
وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب في حياته سنة 1227 لإعجابه الشديد برقته وبلاغته وسمو خياله؛ أي قبل موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذي وضعه ناسخ الديوان محمد صالح الفضالي الواقعي المصري، إذ انتهى من نسخه في يوم الأحد 11 شوال سنة 1227، وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث سنين، ولا يبعد أنه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ولأنه لم يترك عقبا امتدت يد الشتات إلى نظمه الأخير.
لا نعرف بالضبط التاريخ الذي بدأ فيه بمعالجة القريض، وأقدم تاريخ في ديوانه سنة 1201 يؤرخ به ميلاد ابن أبي الأنوار السادات، ومن ذلك يعلم أنه مكث يقرض الشعر أكثر من ثلاثين سنة.
طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهي: الغزل، والخمريات، والمدح، والرثاء، والتهاني، والوصف، والموشحات، والأدوار، وإن ألقينا نظرة عامة في شعره وجدناه صادق الوصف، منسجم السياق، رشيق الأسلوب، يحسن اختيار الألفاظ وموسيقى الأوزان، خفيف الروح فخم التراكيب، مسلسل المعاني متصلها، ولم نر في جميع ديوانه شيئا من الهجو، وهذا مما يدل على سمو أخلاقه.
ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله في صديقه الفرنسي الذي سبق الكلام عنه، فإنه يتأجج بعنيف العواطف والصراحة في القول ورقة التعبير ورشاقة الوصف، ومن أرق قوله فيه:
أدرها على زهر الكواكب والزهر
وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر
وهات على نغم المثاني فعاطني
على خدك المحمر حمراء كالجمر
وموه لجين الكأس من ذهب الطلا
وخضب بناني من سنا الراح بالتبر
وهاك عقودا من لآلي حبابها
فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر
إلى أن قال في آخر القصيدة:
وفوق سنا ذاك الجبين غياهب
من الشعر تبدو دونها طلعة البدر
ولما وقفنا للوداع عشية
وأمسى بروحي حين جد السرى يسري
تباكى لتوديعي فأبدى شقائقا
مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر
وقال فيه أيضا:
علقته لؤلئي الثغر باسمه
فيه خلعت عذاري بل حلا نسكي
ملكته الروح طوعا ثم قلت له
متى ازديارك لي أفديك من ملك
فقال لي وحميا الراح قد عقلت
لسانه وهو يثني الجيد من ضحك
إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت
منه عساكر ذاك الأسود الحلك
فجاءني وجبين الصبح مشرقة
عليه من شغف آثار معترك
في حلة من أديم الليل رصعها
بمثل أنجمه في قبة الفلك
فخلت بدرا به حفت نجوم دجى
في حندس من ظلام الليل محتبك
وافى وولى بعقل غير مختبل
من الشراب وستر غير منهتك
ومن أروع ما قال فيه موشحه الذي عارض فيه موشح الشيخ حسن العطار الذي مطلعه:
أما فؤادي فعنك ما انتقلا
فلم تخيرت في الهوى بدلا «فاعجب»
وهذا الموشح الذي يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل، قال رحمه الله:
يهتز كالغصن ماس معتدلا
أطلع بدرا عليه قد سدلا «غيهب»
ريم يصيد الأسود بالدعج
يسطو بسيف اللحاظ في المهج
يزهو لعيني بمظهر بهج
فكيف أبغي بحبه بدلا
وليس لي عنه جار أو عدلا «مهرب»
وضاح نور الجبين أبلجه
وردي خد زها توهجه
إليه شوقي يزيد لاعجه
فلست أصغي لعاذل عذلا
وعنه والله لا أتوب ولا «أرغب»
ألمى شهي الرضاب واللمس
يزري غصون الرياض بالميس
يختطف اللب خطف مختلس
نويحل الخصر ينثني أسلا
من رام يوما إليه أن يصلا «يحجب»
قطع قلبي بحبه إربا
وصد عني فلم أنل أربا
أواه أواه منه وا حربا!
أصلى فؤادي بخده وقلا
وذبت وجدا به ولي قتلا «فاعجب»
مجوهر الثغر يلفظ الدررا
يدمي فؤادي وخده نظرا
علم عيني البكاء والسهرا
فأنهل دمعي كالوبل وانهملا
بالدم خدي عندما هطلا «خضب»
مولاي رفقا بصبك الدنف
قد كدت أقضي عليك من أسف
تلاف روحي فقد دنا تلفي
من ريقك العذب أروني نهلا
وهات كأسي وطف بها ثملا «واشرب »
راحا سناها يضيء كاللهب
تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب
عطر مازح ثغرك الشنب
بين رياض ومسمع غزلا
على المثاني إذا شدا رملا «أطرب»
والورق من حسن صوتها الغرد
تميل قضب الرياض بالميد
وتوج الدوح لؤلؤ البرد
تاجا من الدر نظمه كملا
فكن من اللهو سالكا سبلا «وادأب»
ومن درر نظمه خمريته:
أدر السلاف على صدى الألحان
ودع العذول بجهله يلحاني
واستجل بكر الراح في ظل الربى
بين الرياض تزف والعيدان
شمس لها من فوق خد مديرها
شفق الصباح إذا بدا الفجران
نور ولكن من سنا لألائها
في الخد نار فؤادها الولهان
نار لها في وجنتيه وكفه
لهب به أعشو إلى النيران
من كف معتدل القوام كأنه
قمر يلوح على غصين البان
نشوان من سكر الشباب يهزه
من خمر فيه وراحه سكران
ومهفهف ماء الحياء بوجهه
يزري بهي شقائق النعمان
إلى أن قال:
ليث العرين له تلفت جؤذر
يفتر عن در على مرجان
متلألئ تحت الشعور جبينه
كحسامه في غيهب الميدان
عربي لفظ أعجمي المنتمى
هندي لحظ صائل بيمان
غصب النجوم فصاغهن أسنة
وبفيه نظمها عقود جمان
والقصيدة طويلة والجزء الغزلي فيها يرجع إلى صديقه الفرنسي، ومن ألطف قوله قصيدته التي يمدح بها السادات:
وصلتك واضحة الجبين المسفر
من بعد طول تمنع وتستر
قامت فخالست ازديارك قومها
وتربصت سحرا هجوع السمر
وأتت ترنح كالغصين أماله
نفس الصبا وتجر فضل المئزر
هيفاء يخجل لحظها وقوامها
بيض الصفاح وكل لدن أسمر
ما أنس لا أنسى ليالي وصلها
بين الرياض وحسن نغم المزهر
إلى أن قال:
من سادة ورثوا النبي وجاهدوا
في دينه حق الجهاد الأكبر
من خير بيت من ذؤابة هاشم
من معشر أكرم به من معشر
والقصيدة طويلة.
ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ حسن العطار، فذكر له منها أحد عشر بيتا من وسطها ونسي الشاعر مطلعها وآخرها:
ولرب ليل قد أبيت بجنحه
أطوي هضاب فدافد ووهاد
بأغر أجرد ضامر لكنه
جلد العزائم عند كل جلاد
متعود وطء الأسنة في الوغى
متجشما في الروع هول طراد
ظن السيوف جداولا وعوامل
المران أغصان النقا المياد
إلى أن قال:
متقلدا عوض السيوف عزائمي
متسربلا بدل الدروع فؤادي
حتى بلغت أخا السماحة والندى
وابن السراة السادة الأجواد
لقد فات الجبرتي أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك قبل دخول الفرنسيين، وفترة الأربع السنين التي تولى الحكم فيها ولاة الأتراك، والعصر الذي عاشه في عهد ساكن الجنان محمد علي باشا.
للمترجم به من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة أهل عصره، رحمه الله رحمة واسعة، وألهم المصريين تخليد ذكره وإعلاء شأنه. (14) الأميرة نازلي فاضل
أصبحت أيها القصر الشامخ قاعا صفصفا وقد خيمت عليك الوحشة والكآبة، وكتمت أنفاس نسيم صباك بعدما كان مروحا فوقك يعبث بأفنان أيك احتضنك وأظلك.
أكمد الحزن عنادل كانت تصدح متهللة فوق الأغصان لا تفارقها؛ إذ كانت تجد أمامها أقواتها في كوى القصر فتطعم منها وهي آمنة مطمئنة، وربة القصر تنظر إليها وهي مفترة الثغر مستبشرة تماثل الزهرة في جمالها ورشاقتها.
ما أقسى فؤادك أيها المنون! وما أغلظ كبدك! أما راعتك هذه المحاسن الفتانة والمواهب النادرة والذكاء الغريب؟ ألم تأخذك الشفقة والرحمة على مئات من بائسات وأيتام لم يكن لهم عائل غيرها؟
لم ير الشرق سيدة تضارعها جمالا وكمالا وأنفة وذكاء ورقة وكرما، وعلما بأحوال الممالك وسياستها وعاداتها، تحسن أغلب اللغات الإفرنجية.
ابنة ذاك الأمير الجليل مصطفى باشا فاضل، وهو أول من سعى وراء الدستور قبل مدحت باشا بعدة سنين، وكان من وزراء السلطان عبد المجيد، وقد نفي في باريس بسبب بحثه وراء الحرية، وقد أنبتها نباتا حسنا، وكلف المعلمين الأكفاء بتربيتها وتهذيبها منذ صغرها، فدرست العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنجليزية والطليانية والألمانية والبيانو والأشغال اليدوية.
الأميرة نازلي فاضل.
تزوجت من صغرها من خليل باشا شريف أخي علي باشا شريف، وقد خدم زوجها الدولة العلية فكان وزيرا للنافعة وسفيرا لها في لندرة وفينا وباريس وبرلين، وكانت تعيش معه في هذه العواصم، وهي موضع الإعجاب والإجلال عند الغربيين لجمالها وتربيتها وآدابها السامية وفصاحة لسانها.
ولقد دهش البرنس بسمارك من مواهبها النادرة، ومما يؤثر عن المركيز سالسبوري أنه حينما أرسل إلى الآستانة السير دروموند ولف أوصاه بأن لا يعمل شيئا بخصوص مصر قبل استشارة الأميرة نازلي فاضل.
كان السلطان عبد الحميد يجلها ويحترمها ويعطيها من الحرية في القول والحكم أمامه في محادثته ما لو نطق به أعظم عظيم لكان جزاؤه النفي.
وكان يمنحها كل شهر مائة وخمسين جنيها لما لها من المكانة عنده، ولسابق خدمات أبيها وزوجها للدولة العلية.
كانت تميل كل الميل إلى محاثة كبار العقول وعظماء الأمة ومنافستهم في الأحوال الاجتماعية والسياسية، كما أنه ما من كاتب من كبار كتاب الغربيين والسياسيين ومشاهيرهم وأمرائهم يعرج على مصر إلا ويقابلها ويستمد رأيها.
يرى الداخل في بهوها الذي رتب على أجمل شكل وأحسن نسق أن جدرانه تكاد تستره صور عظماء الدولة ومشاهير الرجال وكثير من الأسرة الخديوية، وشائق الصور الزيتية اليدوية والأثاث الثمين، وقد وضع على أجمل ذوق، والنباتات الجميلة وقد زادته بهاء ورونقا، وكان لها غرام عظيم بالأزهار، وكانت مدام إيجيرت ترسل لها كل يوم جميل الأزهار وأندرها فترتبه في الآنية البديعة الصنع، حتى بلغ من فرط شغفها بها أنها حينما تستيقظ في الصباح تهرول إليها وتغير ماء آنيتها، وترمي ما ذبل من الأزهار، ولا تدع واحدة من أتباعها تمد يدها إليها، وكانت تحب الموسيقى وتعد من أمهر الموقعات على البيانو.
زارها المسيو دوجير فيل الكاتب الشهير في أوائل سنة 1905 ليستمد بسديد آرائها، ويستطلع فكرها لتكون نموذجا في كتابه عن المرأة المصرية، وكان في حضرتها المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وابن أخيها الأمير حيدر باشا فاضل وهو أعظم شاعر في اللغة الفرنسية بمصر، وقد نشر كثيرا من شعره في «الجورنال دوكير» وألقى بعضا من قصائده في نادي المدارس العليا.
بهت الكاتب حينما رأى هذا النظام البديع وتلك الصور والأثاث الفاخر والذوق السليم الذي نسقها، والأريج المنعش الذي يتضوع من الأزهار المبثوثة فوق المناضد والكوى، زاد دهشه حينما سمع منها قولا فصيحا وإلقاء يسحر السامع وذكاء متناهيا وآدابا سامية.
دار بينهما الحديث على كثير من الأمور وعظماء الرجال والتربية والأحوال الحاضرة، وجاء في الحديث ذكر اليابان فتكلمت عنها الأميرة وأسهبت في وصفها ورجالها حتى قال عنها الكاتب الشهير: إنها تعرفها أحسن مني. وقد قالت في عرض كلامها: لو كان عندنا رجل مثل أوياما الذي أجله كل الإجلال لما وصلنا إلى هذا الحد. وانتقل الحديث إلى الموسيقى وغيرها والتعليم، فقالت الأميرة: كل الناس من كبير وحقير يتهافت على التعليم، ولو أصبح الكل ذوي ألقاب وشهادات فأين يجد الناس لهم خدما وأتباعا، فخير للفتى أن يتبع صناعة أبيه ويرثها منه، ولولا ضيق المكان لسردنا المحادثة بنصها وفصها.
توفي زوجها من أعوام طوال وعاشت بعده أكثر من عشرين سنة دون أن تتزوج، ثم ساقتها المقادير إلى الاقتران بالسيد خليل بوحاجب من موظفي الحكومة التونسية، وابن الشيخ سالم بوحاجب مفتي ديارها وشيخ جامع الزيتونة وهو مدرسة إسلامية.
لم ترزق بعقب لا من زوجها الأول ولا الثاني إلى أن توفيت وهي في العقد السادس، ولم تقهر السنون لها جمالا، وقد كانت مثالا للبر ومواساة البائسين، وكانت تنفق كل شهر مائتي جنيه لنحو مائة أسرة أخنى عليها الدهر، والبعض منهم كان ينتمي لأبيها أو والدتها، وقصارى القول أنها كانت فخر نساء الشرق وموضع إعجاب الغرب.
اللهم ارحم أم المحسنين وأسكنها أرفع مكان من فراديس الجنان مع المتقين الأبرار والصالحين الأخيار. (15) إنشراح هانم شوقي
لم تكد ترقأ عبراتنا وتسكن زفراتنا على باحثة البادية حتى داهمنا مصاب أليم بموت كاتبة من فضليات المفكرات اللاتي كرسن حياتهن لترقية عالمنا النسائي، والأخذ بناصر أمهات رزحن طويلا تحت كلكل الجهل، وتخبطن في غياهب الخزعبلات والترهات؛ فقضين بالتعس والشقاء على أنفسهن وأولادهن وبعولتهن.
اختطفت المنية يوم الإثنين 28 أكتوبر سنة 1918 السيدة إنشراح هانم شوقي وهي في ريعان شبابها، إذ لم تتجاوز السابعة والعشرين بعدما عانت آلام المرض شهورا طوالا، وقاست نكد الزمان وعناده أعواما.
أنبتها والدها المرحوم مصطفى بك شوقي - وكان مستشارا في محكمة الاستئناف - نباتا حسنا، وهذب نفسها تهذيبا راقيا، فأتمت دراستها في مدرسة «الراعي الصالح» الفرنسية.
توفي والدها وهي صغيرة، ولما بلغت العشرين زوجها إخوتها رجلا جاهلا غير كفؤ لها، فلم تطق أن تعاشره أكثر من بضعة شهور، رزقت منه في أثنائها غلاما يبلغ الآن السادسة، تلوح عليه مخائل ذكاء أمه.
فاجأتها المنية ولم تنل من دهرها أملا من آمالها التي كانت تجيش في نفسها الكبيرة.
انقطعت للعلم بعد التخلص من بعلها، فكانت تقضي نصف النهار في دار الكتب السلطانية، والنصف الآخر في بيتها للكتابة والتأليف.
لم تكن كأترابها من الكاتبات مقتصرة على البحث السطحي في النسائيات، بل كانت ملمة بجانب عظيم من الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتاريخ الطبيعي والآداب الغربية، وكانت كاتبة قديرة مجيدة في اللغة الفرنسية، وقد صنفت خمسة مؤلفات باللغة الفرنسية وهي: (1) رقص الأموات - مطبوع. (2) روح الإنسان هو مقدار من كهرباء ومغناطيس الطبيعة المكتشفة. (3) وحدة الدين واللغة والمنشأ. (4) تولد المركبات من الاختلاط أو النمو التدريجي للطبيعة. (5) مدة وجود روح الإنسان وتأثير استدعاء الأرواح والتنويم المغناطيسي.
ومن محاسن الفقيدة أنها لم تر في حياتها متبرجة أو متعطرة أو لابسة زيا يخالف الآداب، بل كانت كالزاهدة، وكانت تقول لمن يعترض عليها من صديقاتها ما معناه:
أحمل رأسا قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
حاولت المبكية أن تنشئ مجلة تنشر فيها مبادئها وأفكارها، ولم تترك وسيلة حتى عملتها ولكن لم يسمح لها.
إن من يلقي نظرة على كتابها رقص الأموات يراه منطويا على أدب جم وعواطف من نار وخيالات سامية وشعور نبيل يئن ويشفق لآلام الإنسانية.
وإنا نسرد للقراء جزءا من نتيجة الكتاب ليكونوا على بينة مما وضحناه:
أيها النيل المحبوب! يا من هو سميري في آلامي وسلواني في وحدتي، إنني أجد صدى روحي حينما أنصت إلى صوتك، تنفحني أحيانا نغمات لججك الشجية بالسعادة والأمل، ويخيل إلي وقت اضطراب أمواجك الهائجة المزبدة وتكسرها على الشواطئ أنها تبكي ماضيا لن يعود إلى الأبد، أو أنها تحتج على مظالم الناس واستبدادهم.
ليت شعري! أتنسب هذه المظالم إلى الإنسان أم إلى الحروب؟
أيها المستقبل الغامض الذي لا يسبر له غور!
إلى أي حظ تقودنا؟ ترى تلك أيام حداد دائم، أو إنك لتنتقم من هذه الأعوام القاسية تريد أن تحقق صورته التي تموج في فكرنا؟
نستودعك ربا عادلا يجزي همتك بالرحمة والرضوان، وينيلك أضعاف ما أملت في الدنيا من فسيح الجنان، وإن أمتك لن تنسى شبابا ذهب ضحية الإخلاص، ولم يكافأ في دنياه بلحظة من الهناءة تنسيه آلامه أو تنيله بعض آماله. (16) نابغة شرقي مجهول
زرت ذات ليلة صديقا من الزملاء فتبادلنا الحديث ثم تنقلنا في السمر، فقال لي في عرض حديثه: إنك لسعيد الحظ بهذه الزيارة؛ إذ سيفد علينا بعد قليل أستاذي في البيانو وهو نابغة شرقي مجهول، ثابر على العمل بما أوتيه من حول وطول دون أن يطنطن أو يعلن عن نفسه بأساليب حب الشهرة الكاذبة المعروفة، وستبتهج حينما تنجلي لك حقيقته، ويشنف سمعك بآيات سحره ونفحات خياله الفتانة.
وبعد قليل طرق الباب فهرع رب البيت لملاقاة الطارق، فوقفت وعنقي مشرئب نحو الباب، فشاهدت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون قد وخطه الشيب يتوقد الفن من عينيه، وديع هادئ متواضع، لا تمر الأنانية على لسانه.
أكبرت الرجل وأفعم فؤادي هيبة ووقارا، وطفقت أتفرس فيه لأقرأ ما ارتسم على وجهه من مخائل النجابة ودلائل النبوغ، وتهلل قلبي فرحا وابتهاجا؛ إذ تحققت بعض أماني وعثرت على حين غفلة على شيء مما كنت أنشده فلا أجده.
وبعد التعارف وتبادل التحيات تجاذبنا أطراف الحديث، ثم تفضل علينا ووقع لنا بعض قطع من تأليفه مثل: النشيد الوطني العثماني، وسنفصل للقراء خبره عند موضعه، وقطعة أخرى اسمها «خمسة عشر تنويعا على لحن مصري»، وهذه القطعة عبارة عن المذهب في أغنية «حود من هنا تعال عندنا» وقد نسج عليه خمسة عشر تنويعا مع ما يستدعيه من الحليات «والأرموني» بشكل فني تعجب به الأذنان الشرقية والغربية، وذوق سليم ورشاقة ساحرة، فغرقت في هذه الآونة في لجة من الملذات غمرت نفسي وجثماني وجعلتني كالذاهل من عجائب حلم من الأحلام اللذيذة التي لم تتحقق.
ثم رجونا منه أن يتكرم بتوقيع شيء من الموسيقى الغربية فوقع «الفالز كروماتيك» لجو دار الموسيقي الفرنسي، وهو من القطع السريعة العويصة، وأعقبه «بسونات» البدر ليلة تمه لبيتهوفن، فأطربنا وأشجانا بفنه ورشاقة توقيعه.
شاب صفائي وبشري شيء من الكدر والخجل من نفسي، إذ صدر بحثي «الموسيقى الشرقية ماضيها وحاضرها ونموها في المستقبل» والذي طبعته جماعة أصدقاء الموسيقى بالإسكندرية خلوا من هذا النابغة، فقلت لنفسي: لقد علمت شيئا وغابت عنك أشياء، وماذا يقول القراء الذين يعرفون هذا النابغة، ولي بعض العذر إذا جهلته؛ لأن قومنا لم يرغبوا أن يقدروه حق قدره ويساعدوه على إتمام مشروعاته النافعة، وينتفعوا بعلمه ويستعينوا به على ترقية موسيقانا الشرقية.
طمحت نفسي لصداقة هذا النابغة فدعوته لتشريفي بمنزلي حتى أجرؤ على زيارته وأطمع في استماع مؤلفاته ومشاهدة اختراعاته التي سمعت عنها أخيرا، ثم ضرب لي موعدا لزيارته بمنزله، وفي هذه الأثناء زفت إلينا الجرائد خبر إنعام الحكومة الفرنسية على نابغتنا هذا بوسام التعليم العام من درجة «أوفسييه» اعترافا بفضله في الموسيقى، وقد سبق أن أنعمت عليه من بضع سنين بوسام الأكاديمية الفرنسية من درجة أوفسييه.
تهللت لهذا النبأ وعظم الرجل في عيني، وطفقت أعد الموعد بالساعات لأتملى بمشاهدته واستماع شائق مؤلفاته وبدائع نفحاته، وأبتهج بالإصغاء لتاريخ حياته الفنية.
ذهبت مع صديقي في الليلة التي حددها لنا فقابلنا بالبشر والإيناس، وبعد تبادل التحية وتناول الشاي رجوت منه أن يشنف أسماعنا بشيء من مؤلفاته، فذهب إلى غرفة مجاورة ثم أقبل يحمل كراسات ضخمة هاجت تطلعي فحملقت إليها حينما وضعها بين يدي، وتفرست في عنوانها فإذا هي «كنعان جوبانلري» أي رعاة كنعان، ثم قرأت تحت العنوان أوبه ره - أوج برده؛ أي أوبرا ذات ثلاثة فصول، فزاد دهشي وابتهاجي وإجلالي لذاته، وتصورت أنني في حضرة فاجنر أو بيتهوفن، ثم تشجعت والتمست منه أن يسمعنا فاتحتها الموسيقية وقطعة من موسيقاها السانفونية وأخرى من أغانيها وأناشيدها ورقصها، فوقعها وكلنا آذان صاغية، فما أحيلى ما سمعناه! وما أحسن ما حوت من بدائع الفن ورشاقة الأسلوب ورقيق العواطف وحماسي الأناشيد.
ولقد أثار في نفسي أماني أخرى وهي أن أرى هذه الأوبرا تمثل أمامي وأسمع ألحانها من أوركستر كبير تام.
ثم قدم لي نسخة من متن الأوبرا، فإذا به مما جادت به قريحة الكاتبة التركية العظيمة «خالدة أديب» وزيرة المعارف التركية السابقة، فغبطته على عطف وحفاوة كاتبة الشرق الكبرى ومؤلفة «قميص من نار»، والموضوع يشمل قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته وعزيز مصر وامرأته.
رجوت من نابغتنا أن يحدثني عن تاريخ حياته الفنية وتأليفه ومشروعاته، فقام وأحضر لي عدة شهادات من جميع أساتذة الكونسرفاتوار، وفي طليعتهم المسيو لافنياك مدير الكونسرفاتوار بباريس، وكان من أعظم المعجبين به، وقد أهداه صورته الفوتوغرافية ثم انبرى يحدثنا عما طلبناه.
ولد في عام 1876 وسافر إلى باريس لأول مرة في سنة 1892، ثم انتظم في سلك طلبة الكونسرفاتوار سنة 1893 فتلقى علم الأرموني على المسيو لافنياك كبير أساتذة الكونسرفاتوار، وفن الأركستر على المسيو فيدال، وفن التأليف والتلحين على المسيو لوتوفو، والغناء على المسيو جيروديه والمسيو أوجيز، والبيانو على المسيو رونان، وتاريخ الموسيقى على المسيو بورجوا دوكودريه، والأرغن على المسيو جيمار.
ولقد مكث في المعهد الموسيقي لغاية سنة 1902 حتى انتخبته كنيسة سانت إيسبري موقعا للأرغن، واستمر في هذه الوظيفة حتى عام 1910، إذ قدم استقالته وسافر إلى الآستانة ليقدم نشيده الوطني العثماني إلى مجلس المبعوثان، فصادق عليه بأغلبية الأصوات، وأعطوا له صورة من محضر الجلسة بتوقيع الأعضاء، وأرسل إليه جلالة السلطان محمد رشاد خطاب تهنئة، واستدعاه رئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا بك وهنأه باسم جميع أعضاء المجلس، وفي هذه السنة نفسها أقامت البحرية التركية احتفالا فخما لمساعدة الأسطول العثماني حضره أكثر من ستة آلاف من طلبة المدارس والقوى البرية والبحرية في الآستانة، فأنشدت كل هذه الجموع النشيد الوطني الذي لحنه نابغتنا، وكانت أصواتهم المصحوبة بالموسيقات البرية والبحرية تشق الجو كالرعد القاصف، وقد قدر المشاهدون بنحو ثلاثين ألفا ، ونشر هذا النشيد في سنة 1910 بملحق الأنسيكلوبيدي لاروس الشهري عند الكلام على كلمة «تركيا».
ذهب الأستاذ إلى سوريا سنة 1911 وأسس بها دار الموسيقى، وقد خصص لها محل «بلييل» الشهير بباريس جائزة سنوية؛ وهي بيانو من صنعه تمنح إلى أنجب التلاميذ الذي يحرز قصب السبق في مضمار الامتحان.
وفي عام 1917 طلبت أستاذنا حكومة الآستانة لإنشاء مدرسة موسيقية في وزارة البحرية.
وفي سنة 1919 ذهب الأستاذ إلى باريس ليبحث مع مدير مصنع «بلييل» في مسألة تركيب السلم الموسيقي وإنشاء آلة للأصوات الشرقية، وكان من رأي المسيو جوستاف لييون مدير المصنع أن تربط ثلاثة بيانات بمعزف (توش) واحد بواسطة الأسلاك الكهربائية لدرس الأصوات الزائدة.
وفي عام 1920 رجع إلى سوريا وطفق يفكر في اختراع آلة تعطي الأصوات الشرقية حتى أوجدها، وجعل يدخل فيها من التحسينات كل ما يخطر بباله.
وفي سنة 1922 ذهب إلى باريس وأخذ معه هذه الآلة، فعمل مثلها آلة أخرى تدار بالكهرباء بواسطة أنابيب هوائية ومنافيخ من الكاوتشوك، ولكن أصواتها لم تحرز من النقاء والضبط ما أحرزته الآلة التي صنعها في سوريا.
ثم أنشأ يفكر في صنع بيانو مناسب للأصوات الشرقية يشمل المقامات الكاملة والأنصاف والأرباع، فتوصل باجتهاده إلى تنفيذ فكرته بشكل أفضل من الأنواع التي ظهرت أخيرا بمصر؛ إذ جعل فوق التوش السوداء توشا جوزي اللون بارزا قليلا عن الأسود للأرباع مطارقها الوترية موضوعة في صف واحد فوق المطارق المعتادة بمسافة، ولكن ظهرت عقبة صغيرة وهي ضبط الأصوات، وستذلل قريبا؛ لأن العمال الإفرنج لم تتعود آذانهم بعد على الأصوات الشرقية وأرباعها.
في نفس هذا العام أرسل له الجنرال جورو خطاب تهنئة لإيجاد البيانو الشرقي، وبعث إليه المجلس النيابي خطابا مماثلا.
طرق نابغتنا عدة أنواع من التآليف الموسيقية ونجح فيها وبهر، وأهم مؤلفاته الآتية: النشيد الوطني العثماني، 30 لحنا وتنويعا شرقيا، 12 ترتيلا دينيا من الصولو طبعت بباريس، نشيد موسى، ترتيل، فالزللكونسير، جافوت من مقام الري مينور، رعاة كنعان أوبيرا تركية ذات ثلاثة فصول كتبت موضوعها الكاتبة التركية الكبيرة خالدة أديب هانم.
لنعد إلى وصف الآلة التي اخترعها أستاذنا، وهي عبارة عن صندوق بشكل المكتب الأمريكاني بجانبها الأيمن محرك يدار بالرجل فيدير عجلة بها سير يدير ترسا صغيرا من الخشب له مضارب متحركة بشكل أبي رياح، وهذه المضارب مغطاة باللبد، وعلى سطح الآلة وتر من السلك واحد، وبجانبي الوتر أكتافان من التوش مثل البيانو، وحينما يوقع عليها تعفق الوتر بمقصات من الحديد وتخرج أصواتا نقية مضبوطة، والأرباع لها توش ثالث فوق السود وناتئة عنها، ولقد أنفق الأستاذ أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات على هذه الآلة وأختها والأخرى التي تدور بالكهرباء.
ليس نابغتنا من الأغنياء، ولكن شغفه بالفن وتفانيه في خدمة الموسيقى الشرقية جعلاه يضحي كل ما أوتي من مال ونشب دون تردد.
ولا شك في أن القارئ فرغ منه الصبر وزاد به الشوق لمعرفة اسم هذا النابغة، ولكني أردت أن أستدرج بعض القراء الذين لا يقرءون إلا العناوين أو بضعة سطور من رأس الموضوع، ولا يقدرون الأبحاث قدرها، فليفخر الشرق بنابغته الأستاذ وديع صبرا، وليوله الزعامة من النهوض بموسيقاه، ولتطأطأ له الرءوس إجلالا، وليقل القراء معي للمتشدقين والجامدين المحافظين على القديم: أطرق كرى إن النعامة في القرى.
الروايات التمثيلية
(1) برليوز «رواية تمثيلية جديدة ذات أربعة فصول وتسعة عشر منظرا للكاتب الشهير شارل ميريه»
مثلت لأول مرة بمسرح بورت سان مرتان في 22 يناير سنة 1927.
بزغ «الرومانتيسم» في أفق فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر على يد ثلاثة من كبار الزعماء، فتملك فكتور هوجو دولة الشعر، وهكتور برليوز دولة الموسيقى، وأوجين دولاكروا دولة التصوير، وقد جعل التاريخ برليوز مساويا تقريبا لفكتور هوجو في الشهرة، وما زال ليومنا هذا صاحب التاج والصولجان للموسيقى الفرنسية، ولقد عبر عنه بعض النقاد بأنه «الرومانتيسم» المجسم، وصوره آخر بأنه «روسو» المستيئس الذي يقوده إلهام عنيف صوب المدركات الموسيقية، وكان عنده الخيال أقوى من روح النقد، وحماسة الخيال الشعري أجود من السيادة الفنية.
ترى في برليوز أن الفن والرجل ليسا إلا وحدة لا تتجزأ، لا تختلف ولا تتنافر، إذ كانت حياته النفسية في اشتعال وتوهج وخياله معذبا وحساسيته مرهفة، وكانت له مزية خاصة، إذ يشعر ويتألم في الموسيقى، له ذوق يميل دائما للعظمة، وفؤاد عميق قلق مضطرب يعرف منتهى الحنان وأقصى الشقاء، ولقد ذاقت نفسه الأمرين بصبر جميل وشمم عظيم.
ومن مميزات برليوز أنه أنشأ فن توزيع الموسيقى على الآلات ونظم له قواعد وأصولا، وقد وضع فيه كتابا عظيما سماه: «كتاب الفن العصري لتوزيع الموسيقى على الآلات».
وقد ذاعت شهرة برليوز في النقد وكان من أقدر كتاب عصره، وما فتئت مؤلفاته في النقد والتحليل تشهد له بالفضل الخالد، وكان يحرر في عدة جرائد منها: «جازيت موزيكال» و«جورنال دي ديبا» وغيرهما، وكان ظريف الأسلوب خفيف الروح، وتقع مؤلفاته في عشرة مجلدات تقريبا منها رسائله ومذكراته و«خلال الغناء» و«الموسيقى والموسيقيون» و«ليالي الأوركستر» و«سخفاء الموسيقى» وغيرها.
كان لبرليوز كثير من الأصدقاء وأغلبهم من نوابغ عصره، مثل: فكتورهوجو، والكونت ألفريد دوفيني، وليزت، وشوبان، وباجانيني، وإيميل، وأنتوني ديشان، ولوجوفيه، وبريزو، وأوجين سو وغيرهم، وكان له أعداء يمقتونه مثل: كيروبيني، وكان مديرا لكونسرفاتوار باريس، وكان يتصنع له صداقة ملؤها اللؤم والخسة، وفيتيس الذي كان وقتئذ مدرسا بالكونسرفاتوار ثم عين في سنة 1832 مديرا للكونسرفاتوار ببروكسيل ورئيسا لكنيسة ملك بلجيكا لم يكن أقل عداء له من كيروبيني.
لا ينكر أحد أن فتيس كان عالما نحريرا في الموسيقى، ولكنه لم يفلح في التلحين رغما من كثرة مؤلفاته من أوبيرات وقطع متنوعة، وقد قضي على جميع مؤلفاته في وقتها، ولو أن هذا الرجل كان بلجيكيا لكنه تلقى دروسه الموسيقية في كونسرفاتوار باريس وحاول أن ينال جائزة روما الأولى فلم يفلح، إذ دخل في المسابقة سنة 1806 فأخذ الجائزة الثانية من الدرجة الثانية، وفي سنة 1907 أعاد الكرة فلم يفلح أيضا وأخذ نفس الجائزة؛ أي الثانية من الدرجة الثانية.
أما برليوز فإنه أخذ سنة 1828 الجائزة الثانية من الدرجة الأولى، ولكنه دخل في مسابقة سنة 1830 فنال جائزة روما الأولى التي تعطي الحق لحاملها في أخذ مرتب مدى أربعة أعوام، كما أنه يعطى مصاريف السفر إلى روما ذهابا وإيابا، أكل الحسد صدر فيتيس، إذ رأى برليوز سائرا في سبيل الرقي والشهرة بخطوات واسعات، فأخذ يحمل عليه حملات عنيفة ملؤها الحقد والجبن حتى إنه انتقد السانفوني «فانتاستيك» في جريدة الطان بعنوان يدل على سخافته وهو: «ليس برليوز بموسيقي».
ولكن هذا الهراء قوبل بالسخرية من أغلب القراء بعدما سحرتهم القطعة بنغماتها الشجية وتعبيرها البليغ.
ومن المدهش أنه حضر الحفلة الأولى التي وقعت فيها السانفوني فافتتن وطفق يصفق بكل قوته حتى أنساه الشجو حسدا وضغنا طالما نهشاه في فؤاده.
والذي يثبت لنا ذلك خطاب برليوز لوالده، وقد أرسله إليه في 6 ديسمبر سنة 1830؛ أي في اليوم التالي للحفلة التي وقعت فيها السانفوني، إذ قال في عرض خطابه:
إن بيكسيس وسبونتيني ومييربير وفيتيس كانوا يصفقون بكل عنف كالهائجين، وصاح سبونتيني عندما سمع «الذهاب إلى العذاب» وهي من ضمن السانفوني المذكورة: «لا يستطيع أن يعمل أحد مثل هذه القطعة إلا إذا كان في منتهى القدرة، فإن هذا شيء خارق للعادة.» ثم عانقني بيكسيس بعد الانتهاء هو وخمسون غيره، ولقد أكرهني ليزت الشهير على تناول الغداء معه ولم يترك تعبيرا للثناء والإطراء إلا غمرني به.
نذكر على سبيل التفكهة حكما من أحكام فيتيس يدل على منتهى السخافة والغباوة، إذ قال في كتابه «تراجم الموسيقيين» عن جان سباستيان باخ إنه أعظم الموسيقيين الألمان على الإطلاق، ثم قال في موضع آخر حينما تكلم عن مميزاته: «له أرموني جريئة لكنها ليست دائما صحيحة.» فكيف به يرفعه إلى أعلى عليين ثم يخفضه إلى أسفل سافلين، وكيف يكون أعظم موسيقيي الألمان ويلحن في الأرموني!
الحديث ذو شجون ولو استرسلنا في سخافات فيتيس لخرجنا عن الموضوع، ولكن سكوتنا أمام هذه المسألة الدقيقة يترك القارئ في شيء من الشك والريب، فإتماما للفائدة نقول كلمة مختصرة تصور لنا حقيقة باخ وتحلل لنا نفسيته.
مضى على باخ أكثر من قرنين تطورت فيهما الموسيقى والأذواق والنقد، فبذلك تغيرت أكثر الأحكام القديمة وظهر خطؤها جليا.
لا يختلف اثنان في أن باخ يعد أعظم علماء الموسيقى في ألمانيا بل في جميع أقطار العالم، وكان في عصره يقدرون الموسيقيين بدرجة تعمقهم في العلم وأصوله وقواعده، ولكن أصبحت هذه المزية لا قيمة لها الآن في عصرنا الحاضر.
يتطلب عصرنا الحاضر أن يكون الموسيقي شاعرا مبدعا بمعنى الكلمة، يعبر عن عواطفه ومشاعره بأصوات، ويصف ويصور ما حوله من جمال الطبيعة تصويرا صادقا، ويكفيه من القواعد ما يعصمه من الخطأ في التلحين.
عاش باخ طول حياته موظفا عند بعض أمراء الألمان، وكان همه أن يكون قدوة حسنة للموظفين، وأن يحافظ على وظيفته بالمواظبة وإرضاء رؤسائه، وكان يلحن قطعا من موسيقى الغرف أو القطع الدينية، ولم تحدثه نفسه أن يكتب شيئا للجمهور أو يسافر وينتقل كغيره من الموسيقيين لتسعده الأسفار بشيء من النفحات الشعرية، ولم يتجشم حتى الذهاب إلى غابات ألمانيا البديعة القريبة منه ليرى فيها آيات الجمال من أشجار باسقة وخمائل ملتفة وطيور مغردة وأيائل راتعة.
لم يحب قط طول حياته ولم ينكب بفادحة، وكان ضخما قوي البنية رزق عشرين ولدا وبنتا؛ منهم عشرة من زوجه الأولى وعشرة من الثانية، ولم يعرف شيئا من الآلام ومتاعب النفس ولم يعضه الفقر بنابه، ينام ملء جفنيه على جنب واحد، وقد أجمع الثقات من النقاد العصريين على أن باخ لم يكن مفكرا في موسيقاه قبل كل شيء كمن خلف من بعده من كبار الموسيقيين مثل: بيتهوفن وفاجنر وبرليوز، لم يعبر في موسيقاه عن مسراته وهمومه وآلامه في حياته الخاصة، ولذلك كان الرجل لا يمتاز عن غيره إذا أخرجنا منه الفن حتى شبهه أحد النقاد الظرفاء بكاهن القرية.
لنرجع إلى شاتنا كما يقول الفرنسيون، ونعود إلى برليوز ونذكر شيئا من مؤلفاته وعدتها 28 «أوبوس» مؤلف من فاتحات وسانفوني وقطع دينية وأناشيد وأوبيرات وغيرها، ونكتفي بذكر صفوة مؤلفاته الخالدة مثل: «روميو وجولييت» وهي سانفوني دراماتيك كبيرة وبها «كور» و«سولو» للغناء و«برولوج» بشكل «كور»، وقد أثنى عليها «فاجنر» ثناء عظيما وانتقد منها بعض مواضع، قال: إنها ليست في مستوى القطعة ، وقال عنها كاميل سان صانس الشهير: «إنها أرقى ما كتبه برليوز، ولم يترك تعبيرا في الإطراء إلا ذكره.»
وهي في الحقيقة معجزة فنية تلتهب بالعواطف والنفحات الشعرية وأبلغ التعبيرات الصادقة الصادرة من أعماق النفس، وهذه الموهبة لم يبلغ أعظم شأو فيها غير بيتهوفن وبرليوز، وإن فاجنر نفسه لم يلحق غبار برليوز من هذه الوجهة، ولا ننكر أن فاجنر صاحب مذهب عظيم، وأنه رقى بالتمثيل الغنائي ونهض بفن الأوركستراسيون، وعمل انقلابا عظيما في الموسيقى.
كلنا نعرف باجاتيني وهو عطارد الكمنجة وملحن قدير لم يأت قبله ولا بعده من استطاع تقليده، ومن قال عنه ليزت: «من المستحيل أن يخلف باجاتيني أحد، إذ كل من حاول ذلك، ولو أوتي جميع الوسائل المؤهلة فإنه يفتضح أمره ويظهر بمظهر المقلد الكاذب.» وكان باجاتيني هذا حاضر في إحدى حفلات برليوز الموسيقية وبعد الانتهاء ركع أمام برليوز وقال له: «إنك أعظم من بيتهوفن.» ثم أهداه بمبلغ 25000 فرنك. «وطفولة المسيح» وهي من أعظم مؤلفاته الدينية، «وخلود فوست في العذاب» وقد مثلت كثيرا بالأوبرا المصرية، و«أهل طروادة»، ولم تمثل بمصر مع أنها من المعجزات، و«السانفوني فانتاستيك» وهي من أروع ما أخرجته الموسيقى الفرنسية، وهو الذي هذب نشيد المرسلييز والنشيد المجري ووضع لهما الأوركستراسيون الحاضر.
وقد عين مديرا لمكتبة الكونسرفاتوار، وانتخب عضوا في المجمع العلمي الموسيقي، ومنح وسام اللجيون دونور من درجة أوفيسيه، ونال عدة أوسمة من الممالك الكبيرة، وكان ميلاده في سنة 1803 ووفاته سنة 1869، ولنكتف بهذه الكلمة والرواية فيها الكفاية لتاريخ حياة برليوز. (1-1) الرواية
لا مراء في أن شارل ميريه مؤلف «اللهب» و«الدوار» و«الأميرجان» و«الإغواء» و«سرير العرس» يعد من أقدر كتاب المسارح الفرنسيين، وهو يعرف جيدا كيف تركب الرواية التمثيلية، ويعرف كيف ينفذ إلى قلوب الجمهور ويهيمن عليهم، وقد وهب نفحات نادرة في فن المسرح ومناظره اللائقة به.
ابتدأ روايته في عام 1827، وكان برليوز في ذاك الوقت طالبا في الكونسرفاتوار وعمره أربع وعشرون سنة، واختتمها في سنة 1869 بموت برليوز، فتكون المدة التي تدور فيها الرواية اثنين وأربعين سنة، وإنها لقدرة نادرة أن يسرد لك في بضع ساعات حياة نصف قرن تقريبا تشعبت فيه الحوادث وتطورت فيه الأحوال وتغير فيه الزمان، وأظهر لك كل طور في جوه الطبيعي دون أن تشعر بتفكك في أجزاء الرواية أو تناقض تشمئز منه، ولقد وضح لنا حياة برليوز وكفاحه مع البؤس ونضاله مع معاصريه الذين ما فتئوا يتحدونه في كل فرصة حسدا وبغيا، وهرولته الدائمة حول خيال الحب، ومن المناظر التي تلفت النظر وتستهوي النفوس؛ منظر القصر الملكي «اللوفر» سنة 1830، والكونسرفاتوار سنة 1835، وقهوة كاردينال، وقد أظهرت تلك المناظر نوابغ الكتاب والروائيين والموسيقيين مثل: بلزاك، وإسكندر دوماس، وتييوفيل جوتييه، وألفونس كار، وجانان، وفاجنر، وليزت، وأدولف أدان.
ومن ظرفه وسلامة ذوقه أن ربط العصر الماضي بالحاضر، إذ نشاهد برليوز وهو على سرير الموت محاطا بسان صانس وربير، وقد مات الأول منذ بضع سنين والثاني سنة 1909 وكان عضوا في المجمع العلمي الموسيقي مع سان صانس.
ومما زاد في طلاوة الرواية أن أوركستر بادولو الشهير وقع بين فصول الرواية نخبة عظيمة من مؤلفات برليوز حتى تحمس الجمهور من السرور والإعجاب، وكانت الحفلة غاية في البهجة والرواء.
الفصل الأول
نشاهد حينما يرفع الستار في الفصل الأول غرفة برليوز سنة 1827 بالمنزل رقم 96 بشارع ريشليو، وكانت حقيرة بها بعض أثاث قديم وسرير وبيانو ومائدة مكدسة بأوراق الموسيقى وبجانبها مصباح، وفي ركن آخر «كومود» وعليه قيثارة، ويشاهد أمام المدفأ كانون وبعض آنية للطبخ، وكل ما في الغرفة غير مرتب ولا منظم كعادة أغلب الطلاب، وكان الوقت بعد الظهيرة، وقبل فتح الستار تعزف الموسيقى جزءا من القطعة الكنائسية المسماة «سان روك».
وكان يقطن مع برليوز في غرفة ثانية في نفس المسكن الطالب شاربونيل وكان يدرس الصيدلة، وهو صديق برليوز ومن البلد التي ولد فيها، وقد حضر دورتيج المحرر في جريدة «لاكوتيديين» وصديق برليوز لزيارته فلم يجده فانتظر قليلا، فحضر شاربونيل قبل برليوز وجلس يحادث ضيف صديقه وأخبره في سياق الحديث أن الدكتور برليوز أراد أن يكون ابنه طبيبا، وأرسله إلى مدرسة الطب ولكنه لم يستطع أن يستمر في مادة لا يميل إليها، وعكف على دراسة الموسيقى، ودخل الكونسرفاتوار، ولما تقدم لجائزة روما لأول مرة رفضت اللجنة أن تمنحها له؛ لأنهم كانوا يعبدون القديم ويكرهون كل حديث، فلذلك حرمه أبوه من المرتب الذي كان يعيش به، فاضطر أن يعطي دروسا موسيقية بفرنك واحد للدرس ليستطيع أن يعيش، وما كان هذا البؤس ليثني عزيمته أو يفل من شجاعته فاستمر بصبره المعهود ونضاله حتى تغلب على جميع الصعاب، فقال له دورتيج:
إنني أريد أن أكتب عنه مقالة في «الكوتيديين» وقد أخبرني رفيقه في الكونسرفاتوار المسيو مونفور بأنه يكتب أوبيرا اسمها «القضاة الأحرار»، فدهش من قوله وقال له: إن برليوز قد اعتراه في هذه الأيام قلق واضطراب كبر كان يريد أن ينفجر، وقد حصل له هذا الانقلاب ليلة أن شاهد الممثلة الأرلندية التي تمثل مع الجوق الإنكليزي بمسرح الأودييون.
دورتيج :
هي هاريت سمتسون ويقال: إنها خليلته.
شاربونيل :
خليلته؟ ... إنها لا تعرفه ولم تخاطبه قط، وغاية الأمر أنه رآها ومن تلك اللحظة وهو في شيء من الذهول والارتباك، وطفق يجوب المدينة كالمجنون ثم سكن هذه الدار؛ لأنها مواجهة للمنزل الذي تسكنه هذه الممثلة ونافذته مطلة على نافذتها، وقد تمر عليه ساعات وهو مترقب في النافذة ويرسل إليها رسائل خالية من المعنى، وإني أخشى أن يصيبه مس.
دورتيج :
أواه!
شاربونيل :
إنه لا يشتغل أبدا! ... وقد تحدثت عن القضاة الأحرار؟ ... وا أسفاه! ... أتعرف كيف يقضي وقته في غيبتي؟ ... إنه يقطع وقته في الغناء، وقد سمعته عدة مرات قبل الدخول إلى الغرفة يغني قطعا من أغاني الفودفيل السخيفة! فجاء برليوز المعجب بجلوك وفيبر! ثم فتش في أوراقه وأخرج منها عدة قطع أراها لدورتيج.
دورتيج :
ولكنها قطع من الأناشيد «كور».
شاربونيل :
صه فقد أقبل. (دخل برليوز وجلس على كرسي مسندا رأسه إلى يده دون أن يشاهد شاربونيل ودورتيج، ثم لمح أمامه موسيقى القطع السابقة وطفق يغني ويعمل إشارات التمثيل، ثم اكفهر وجهه وقال: إن هذا سيجعلك غبيا سخيفا! ... وفي هذا الوقت كان شاربونيل ودورتيج صامتين منصتين لغنائه وإشاراته، ولما انتهى أقبلا على أطراف أصابع أرجلهما وقدم دورتيج قائلا: إنه محرر في «الكوتديين» فصافحه برليوز.)
برليوز :
هل سمعت غنائي؟ أما قلت في نفسك إنه معتوه؟ (ثم وقف برليوز على كرسي وأطل من النافذة ليرى الطريق ... وفي هذه الأثناء قال):
شاربونيل :
منذ ما شاهد هملت أصبح ...
برليوز (وهو على الكرسي) :
أتحسبني أيها الفتى مجنونا؟ من هو المجنون؟ هو رجل تختلف طريقة نظره وإحساسه عن سائر الناس، (ثم نزل عن الكرسي وأمسك بيدي دورتيج قائلا) : لست مجنونا وإنما أنا أتعس بائس! فتأثر دورتيج ثم قال: حاشا يا مسيو برليوز.
برليوز :
لقد نسي شاربونيل أن يقدمني إليك ولكنه يجهل ذلك، إنني هكتور برليوز منشد «كوريست» في مسرح النوفوتيه (فدهش الرجلان عند سماعه) ، ولكن ما العمل ويلزمني أن أعيش وقد عملت مسابقة في النوفوتيه لكوريست وكان يزاحمني نساج وحداد، وكان المسرح محتاجا لمنشد له صوت «باس» وصوتي باريتون، ولكني فزت عليهما ولي خمسون فرنكا في الشهر، (ثم أخذ يقهقه وغنى قطعة من الفودفيل، وكان شاربونيل ودورتيج يبتسمان في أول الأمر ثم أغرقا في الضحك، فلما رآهما برليوز على تلك الحال كف فجأة عن الغناء ثم قال) : هل رأيتما هارييت سمتسون في هملت؟ هل رأيتماها وفي «أوفيلي»؟ لقد صعقني شكسبير حينما سقط علي فجأة هو وهارييت! وفي ذاك المساء عرفت العظمة الحقيقية والجمال الحق والحقيقة الروائية، وفي نفس هذا المساء عرفت الحب! إنها لم ترني ولم أخاطبها ولكني أحبها! اذكر هذا يا مسيو دورتيج وانشره وقل إنها ستكون لي زوجا!
شاربونيل :
أنت أحمق.
برليوز :
ستكون عقيلتي وأنا موقن بذلك وأشعر به! (ثم دخل عليهم مونفور وحيا دورتيج ثم دار الحديث بينهم على غرام برليوز، وبعد لحظة غنى برليوز وهو بجانب النافذة قطعته المسماة «مرثية» واصطحبه على البيانو مونفور ثم سكت فجأة، إذ لمح من النافذة هارييت سمتسون.)
برليوز :
هي هي! ... وهذه العربة التي وقفت لأجلها (ثم هرول إلى عباءته ولبسها وبحث عن قبعته فلم يجدها) .
شاربونيل :
هل نويت الخروج؟
برليوز :
نعم.
شاربونيل :
والغداء؟
برليوز :
لا أشعر بجوع.
مونفور وشاربونيل :
هكتور! (وأرادا أن يسدا الطريق أمامه.)
برليوز (وقد كاد يطرحهما أرضا) :
مكانكما!
دورتيج :
يا مسيو برليوز! ...
برليوز :
معذرة ... إنني ... هي ...
أستودعكما الله (ثم خرج حاسر الرأس كالمعتوه، ووقف الرجال الثلاثة هنيهة يشيعونه بنظرهم وهم باهتون) .
شاربونيل لدورتيج :
وهذا كما ترى! ... (تقابل في يوم آخر دورتيج وبرليوز ومونفور في قهوة كاردينال ودار بينهما الحديث.)
مونفور :
روسيني.
برليوز (وقد قاطعه) :
فيجاروبوني! ... أحبته! ... يتهكم على أوبيرا حلاق إشبيلية.
مونفور :
يزعم روسيني أن موسيقى فيبر تحدث له مغصا.
برليوز (يضرب المائدة بقبضة يده) :
آه! إني أريد أن أقعده على خازوق من حديد مصهور! إن الروسينيين لبغضهم لجلوك وسبونتيني قد تمادوا في طغيانهم حتى قالوا: إن الموسيقى لا قصد منها غير تشنيف الآذان وهي عاجزة عن التعبير عن العواطف والآلام! ... (فظهرت على مونفور ودورتيج بوادر الغيظ والاشمئزاز)
يا لهم من مجرمين، (يتكلم بصوت خافت بلهجة الآمر)
يجب أن ينسف المسرح الإيطالي بمن فيه من الروسينيين في إحدى ليالي التمثيل!
مونفور لدورتيج :
وماذا حصل للمقالة التي تريد نشرها في «الكوتيديين»؟
دورتيج :
إن ميشو يخشى عاقبة نشرها.
مونفور لبرليوز :
إن هذه المقالة تصيرهم لك أعداء.
برليوز :
ليس لي إلا أعداء! ... وجميع أعضاء المجمع العلمي الموسيقي مثل: كيروييني وباير وبوالديو وكاتل أغبياء، إذ علنوا أن «الكانتات» التي كتبتها أخيرا لا يمكن توقيعها، وقد قال لي يوما بروتون: يا صديقي لا يوجد شيء جديد في الموسيقى.
مونفور :
إنه مصاب بالنقرس.
دزرتيج :
ومن عباد الأوهام العتيقة.
برليوز :
أتعرف ماذا أجاب كروتزر حينما أوصاه على لوسويور: «ليس عندنا وقت لفحص التلحين الجديد! وماذا يصير مآلنا إذا ساعدنا هؤلاء الشبان؟!» (ثم قام برليوز قائلا) : كم الساعة؟
دورتيج :
الساعة الثانية.
برليوز :
سأذهب إلى مسرح الأوبيرا كوميك لآمرن الموسيقيين على تحضير فاتحتي الموسيقية «فافرلي»، وستكون الحفلة في اليوم الخامس من ديسمبر لمساعدة هوييه وستشترك في هذه الحفلة هارييت سمتسون وتمثل فصلين من روميو وجولييت لآخر مرة بباريس .
دورتيج :
هلا نلت منها موعدا أو استقبلتك؟
برليوز :
كلا! إني أكتب إليها دون أن ترد علي، وقد حظرت على خادمها أن تستلم شيئا من خطاباتي، وعلى كل حال سأراها في الحفلة، ثم انصرف الجميع ووعد دورتيج أن يحضر الحفلة.
ننتقل بالقارئ إلى مسرح الأوبرا كوميك لنشاهد تحضير الحفلة التي سبق الكلام عليها فنرى الممثلين الإنكليز مع هارييت سمتسون يتمرنون على تحضير الحفلة، ونرى برليوز مع مونفور ودورتيج على مقربة منهم، وعندما تموت جولييت ويرفعها روميو بين ذراعيه يصيح برليوز: ماتت! هل هي التي ماتت! وكان يريد أن يرتمي عليها فمنعه مونفور ودورتيج، ثم حصل هرج بين الممثلين وأومأ «أبوت» الذي كان يمثل دور روميو إلى برليوز وقال: إنه مجنون ... ثم قال مونفور لبرليوز: ماذا دهاك؟ قال له دورتيج: ألم تشهد تمثيل روميو وجولييت؟ فأجابه برليوز: حينما رأيتها بثيابها العادية ظننت أنه أغمي عليها وماتت.
وبعد لحظة ذهب نحو هارييت وقال لها: مدموازيل هارييت سمتسون! إنني ... فتقهقرت مذعورة وقالت له: هل توجه إلي الخطاب من هذا الشاب؟
برليوز :
أنا هكتور برليوز! وقد كتبت إليك مرارا! وإنك تعرفينني.
هارييت (وهي متقهقرة) :
لا لا! إنني لا أريد أن أعرفك ودعني بسلام!
برليوز :
أنبئيني أين تقابلينني وتسمعين حديثي.
هارييت :
كلا كلا! اغرب أيها القبيح!
برليوز :
حذار أيتها الآنسة.
هارييت :
أغيثوني! أغيثوني!
ثم أقبل منظم المسرح وأبوت الممثل وأبعدا برليوز بعنف، وقال الأخير مشيرا إلى برليوز: اطردوه.
ثم أخذ يتهكم منه صاحباه بعد هذا الخذلان، وبعد قليل اتجه صوب الموسيقيين وابتدءوا يوقعون فاتحته «فافرلي»، فأبدى لهم بعض ملاحظات.
ثم أقبل إليه المستر ترفر وقال له: إنني متعهد تمثيل مس هارييت سمتسون، وهي تقول: إنها ستسافر مع والدتها إلى أمستردام، وترجو منك أن تتركها بسلام إذا كنت حقيقة تحبها، فاضطرب من هذا الخبر وشحب لونه؛ فأقبل إليه صاحباه وقال له مونفور: لست في حالتك العادية، ويجب عليك بعد انتهاء مسابقة المجمع العلمي أن تسافر وتذهب إلى بلدك لتغيير الهواء والاستراحة.
ملاحظة: لقد صور الكاتب المقابلة الأولى لبرليوز بهذا الشكل السمج المرذول حتى جعله أضحوكة بين الجميع، مع أن الحقيقة التاريخية تخالف ذلك، ولو كان المؤلف قرأ رسائل برليوز لعثر على خطاب يصور لنا المقابلة الأولى بكل احتشام وأدب وظرف، وكان موقفهما مما يضرب به الأمثال في التأثير والعطف، وهذه الرسالة كانت موجهة إلى المسيو ا. دوبو في 5 يناير سنة 1833، قال في عرض خطابه:
حضرت هارييت سمتسون إلى حفلتي جاهلة أنني سأقود الموسيقى، وقد سمعت الفاتحة التي هي موضوعها وسببها الأصلي فبكت، وقد شاهدت بعينيها نجاحي الباهر، ونفذ هذا إلى فؤادها مباشرة ودلتني على ذلك حماستها بعد الحفلة، وقد قدموني إليها فأصغت إلي ودمعها ينحدر من مآقيها، وقد سردت عليها مثل عطيل جميع التقلبات التي انتابتني من يوم ما شغفت، فسألتني الصفح عنها لما سببته لي من آلام ومتاعب كانت تجهلها حق الجهل، وأخيرا في 18 ديسمبر سنة 1830 في حضرة أختها سمعت منها هاته الكلمات: «إنني أحبك يا برليوز.»
ومن هذا الوقت انحصرت جهودي في إطفاء بركان رأسي؛ لأني خيل إلي أني فقدت صوابي، إنها تحبني ولها قلب كقلب جولييت أو هي أوفيلي، وإذ لم أستطع مشاهدتها كنت أكتب لها كل يوم ثلاث رسائل، وكانت تكتب إلي بالإنجليزية وأرد عليها بالفرنسية، وهذا ما يدل على وجود العدل في السماء مع أني كنت لا أعتقد بوجوده، وإني مدين في ذلك لفني وفكري، وأما سانفونيتي العزيزة فإني أريد أن أضعها فوق مذبح ثم أحرق لها العطور.
وهذه السانفوني هي «حوادث حياة فني» وهي تشمل «الفانتاستيك» وملحقها «العودة إلى الحياة» مع تنقيح وإضافات من «كور» و«سولي»؛ أي أناشيد وقطع يغنيها فرد أو يوقعها فرد على آلة واحدة.
بعد أن تمت المسابقة الأولى وأخذ الجائزة الثانية من الدرجة الأولى ذهب إلى ميلان «فرنسا» في سبتمبر سنة 1828 وهي بلد عائلته، وقد قابل هناك أخته ومدموازيل إيستيل صديقة طفولته، وقد أخبرته أخته «نانسي» أن أباه سر جدا حينما انتشر خبر نيله الجائزة الثانية، وقد عزم على الاستمرار على إعطائه مرتبه، ثم أقبلت إيستيل وجلست هنيهة مع برليوز وصارا يتجاذبان ذكريات الطفولة الحلوة وأخبرته في آخر الأمر أنها خطبت منذ عامين، فكان لهذا الخبر وقع أليم في نفسه.
ننتقل بالقارئ إلى قصر اللوفر في سنة 1830 والتاسع والعشرين من يوليه وكانت الساعة الخامسة بعد الظهر في إبان الثورة، إذ هجم الثوار على قصر اللوفر بعدما أصلوه نارا حامية، وكانت باريس تموج بالجموع المحتشدة من فلاحين وجنود وعمال وطلبة والجميع ينشدون الأناشيد الحماسية والثورية، وقد اصطدم وقت الزحام بالمصادفة دورتيج مع برليوز فسأله عما فعل في المسابقة لجائزة روما، فقال له: لقد نجحت وأتممت «الكانتات» «حريق سردينال»، وحينما كنت في المجمع العالي أثناء المسابقة رأيت الحرب منتشبة في اللوفر، وقد نجوت بنفسي بأعجوبة، فهناه دورتيج وأخبره بأن اللوفر قد وقع في أيدي الثوار.
وبينما هما سائران إذ سمع برليوز جمعا يغني نشيد «مور» من تأليف برليوز، فأسكت المنشدين وقال لهم: ليست السرعة بهذا الشكل، فسكتوا ونظر رئيس المحتشدين إلى برليوز شزرا وقال له: وماذا يعنيك؟
برليوز :
إنني أقول إن هذه السرعة ليست بسرعة القطعة.
الرئيس :
هل أنت موسيقي؟
دورتيج (وهو يضحك) :
من؟ هو؟ إنه ... فأسكته برليوز.
الحرس الوطني (موجها خطابه إلى المنشدين ومشيرا إلى برليوز) :
اتبعوا ما يقوله لكم هذا الشاب.
برليوز (يغني أولا القطعة ثم يضرب الوزن) :
أنشدوا معي أيها الرفاق!
ثم قال أحد الجنود وهو يحمل العلم الفرنسي: أنشدوا المرسييز.
الجميع :
هيا أنشدوا المرسييز.
الجندي (مشيرا إلى برليوز) :
هيا أيها الصغير واصعد على الكرسي واضرب الوزن.
برليوز (يصعد على الكرسي) :
المرسييز، (ثم يقول لدورتيج)
سترى التهذيب الذي سأدخله على المرسييز (ثم قال للجمهور)
أنشدوا معي أيها الوطنيون، ولينشد كل من له صوت وقلب ودم يجري في شرايينه (ثم يغني) .
هلموا أبناء الوطن!
الفصل الثاني
ننتقل إلى نزل «كونجريه» حيث تقيم هارييت في غرفة مؤثثة بأثاث ليس بالفاخر في أغسطس سنة 1833، وكانت مستلقاة على كرسي طويل «شيزلونج» وقد أصيبت رجلها بكسر، وكانت معها أمها وأختها تتمشيان في الغرفة وتتحادثان معها بلهجة الآمر الحانق وتتوعدان برليوز لو حضر إليها، فكانت الأم تقول: إنها ما دامت على قيد الحياة فلا يستطيع برليوز أن يضع قدميه في غرفتهن، وقالت الأخت: لو كنت مفتولة الذراعين لقذفت به من النافذة، فأجابتهما: إن منعتماه يأتي ولا يهاب شيئا، فلما احتدم الجدال دار الحوار بينهما.
والدتها :
هل تحبينه؟
هارييت :
إنكما تضايقاني أكثر منه!
والدتها :
هل سبك أحد طول حياتك؟
أختها :
ولقد اتهمك في هذه السانفوني الممقوتة في الحفلة التي شاهدتيها وكنت وقتئذ مضغة في الأفواه ووصفك بهذه الأوصاف ... أوفيلي، البنت الخليعة! ... المرأة الساقطة! ... وكانت الجموع يرمقونك بأنظارهم وهم ضاحكون! حتى كدت تختنقين من الخجل في ذاك اليوم.
أمها :
وبعد الحفلة بثمانية أيام تريدين مقابلته وأنت أنت التي كنت تحتقرينه منذ ست سنين، وقصارى القول: ماذا يريد منك؟
هارييت :
يريد أن يتزوج مني.
أمها :
ولكني أرفض زواجه.
أختها :
وكذلك أهله يرفضون!
أمها :
إنه فقير ولا يملك غير مائتي فرنك في الشهر وهي مرتبه عن جائزة روما.
هارييت :
وإني مدينة بأربعة عشر ألف فرنك!
أختها :
أتعرفين مع كم من النساء لعب نفس هذا الدور؟
هارييت :
هذا لا يهمني.
وبينما هن في جدالهن العنيف، إذ حملت إليهن الخادم رسالة، وقبل أن تقعد هارييت أخذت أمها الخطاب وقالت: هذا خطه، وفتحته فقالت لها هارييت: إنني أمنعك عن الاطلاع عليه، فلم تلتفت إليها وطفقت تقرأ هذه السطور:
إذا كنت لا تريدين موتي ولو بدافع الرحمة؛ لأني لا أستطيع أن أقول بدافع الحب ... أنبئيني متى أراك، إنني أسألك الصفح وأنا راكع باك، وإني أنتظر جوابك كما أنتظر الحكم من القاضي.
فضحكت أمها بتهكم وقالت للخادم: من أحضر هذا الخطاب؟ فقالت: شاب أشقر، فقالت أختها: هو هو! ثم قالت الأم للخادم: قولي له: إن مس سمتسون لا تستطيع أن تقابلك، فاحتجت هارييت على والدتها وصرفت أمها الخادم بإشارة، ثم سمع صوت برليوز صائحا هائجا: «هل هي هنا؟ سأراها، اذهبي إلى الشيطان!» ثم فتح الباب ودخل برليوز وهو هائج، وقال لأمها وأختها: «إنكما لا تستطيعان أن تمنعاني من مشاهدتها، اغربا من أمامي وإلا أقتلكما.» وهجم عليهما ففرتا مذعورتين ودخل على هارييت وارتمى على قدميها.
برليوز :
هارييت، يا من هي هواي وآلامي في الحياة.
هارييت :
إن أهواءك لتقودك كالمجنون.
برليوز :
نعم جننت من الفرح! اقرئي رسالة أبي فإنه وافق على زواجنا يا هارييت، يا عقيلتي (وحينما جلس احتك برجل هارييت دون قصد) .
هارييت :
آه يا هكتور، قد آلمت رجلي.
برليوز :
ماذا؟! أما طرت فرحا من هذا النبأ؟
هارييت :
إنك ترعبني مثل المرة الأولى التي رأيتك فيها في حفلة مساعدة هوييه من ست سنين.
برليوز :
أرعبك؟ إذا استطعت أن تفهمي درجة حبي لارتميت بين ذراعي.
هارييت :
ولكن لم تصيح وتعلن ذلك في كل مكان؟ ولقد أصبحنا أضحوكة الشارع، وأصبحنا مضغة الأفواه، إذ لا يتحدث الناس في جرائدهم ومقاهيهم ومسارحهم إلا بحبك الجهنمي!
برليوز :
بل هو المجد!
هارييت :
إنك تقسم أنك ستموت وقد آثرت بذلك سخرية أصدقائك، وقد شاهدت أوجين سو ولوجوفيه وجول جانان يضحكون منك، فسكن ما بك وفكر قليلا.
برليوز :
فيم أفكر؟
هارييت :
في حالتي السيئة! إنني مثقلة الديون ومريضة.
برليوز :
إن هجرتك السماء والأرض فإني سأستمر على حبي وأكون خاضعا للهوى مثل روميو أمام جولييت.
هارييت (تمد إليه يدها وهي متأثرة) :
هكتور!
برليوز :
متى نتزوج؟
هارييت :
أمهلني حتى أفكر.
برليوز :
خبريني عن الميعاد (ثم قعد ثانية فلمس رجلها) .
هارييت :
آه! رجلي!
برليوز (ينهض غاضبا) :
وأنا فؤادي يؤلمني، وإن هذا الألم العنيف لم ينهش فؤاد أحد بهذه الدرجة، وأنت التي لا تحبينني.
هارييت :
لا يا هكتور ولكنني مترددة.
برليوز (وهو هائج) :
إنك مترددة، ولكني لا أتردد، لقد انتهى الألم، وانتهت الحياة (ثم أخرج من جيبه زجاجة وشرب ما فيها فانقضت عليه هارييت وانتزعتها من يده) .
هارييت (وقد كادت تجن) :
ماذا فعلت؟ أي هكتور! (ثم نظرت إلى الورقة الملصقة بالزجاجة)
أفيون! آه يا رباه! إنك تريد الانتحار! هكتور (ثم وقع على الأرض مغشيا عليه)
أفق! إنني أحبك، يا لك من مجنون إنني أحبك! يجب أن تعيش لمؤلفاتك الخالدة ومجدك العظيم.
برليوز (يحرك رأسه) :
بل لأجلك يا هارييت.
هارييت :
وا أسفاه! إنك تشتريني بثمن غال، وآلام قاسية، لقد فاتني الوقت، وإني متعبة جدا.
برليوز :
هارييت.
هارييت :
سأعمل كل ما تريده.
برليوز (يعانقها) :
أنت لي وحدي. •••
ننتقل بالقارئ إلى ضاحية مونمارتر في سبتمبر سنة 1834 وهناك نرى بيت برليوز الصغير وبه حديقة جميلة، ونشاهد برليوز مع زوجته هارييت يتنعمان بالحب ويتناجيان في أسرار هواهما، وقد رزقا غلاما اسمه لويس، وقد لبى ليزت ودورتيج دعوة الغداء وأخذوا يتسامرون وقت الطعام بأطيب السمر، ولما شاهد صديقاه اشتغال باله بطفله في كل آونة، قال ليزت لدورتيج سرا: أصبح النسر أسيرا في حظيرة الدجاج. •••
وفي 24 نوفمبر سنة 1839 أقام برليوز حفلة كبيرة في الكونسرفاتوار لتوقيع سانفوني «روميو وجولييت» وقد غص البهو بالأمراء وعظماء الرجال.
دورتيج :
هذا نصر مبين! فقد حضر الأمير دومال والأمير مونبانسييه (وكان يتكلم بصوت منخفض فأقبل ألفونس كار وهو محاط بجمع من الناس) .
ألفونس كار :
أتريدون معرفة رأيي في موسيقى برليوز؟ إن موسيقى برليوز الخالية من الأغاني ليست بالموسيقى التي أحبها، وموسيقاه هي نتيجة تقدير غير صحيح، فإنه يريد أن يصور بالموسيقى كما يصور الكلام! وليس في ذلك نجاح، إنما هو تأخر وتقهقر أحد الموسيقيين، إن الفضل في شهرة برليوز راجع للأصدقاء، وكما أن برليوز ملحن ونقاد فلذلك نرى جميع أصدقائه من الصحفيين يتملقون إليه.
أدولف آدم :
شهرة مبنية على ادعاء وقح ولا ترتكز على عمل مستحسن.
دورتيج :
أدولف آدم مؤلف أوبيرا «البيت السويسري».
بلزاك :
إن هذا لمن أعجب العجب! إنني أبحث عن برليوز، ها هو! (ثم يظهر برليوز على اليمين وأصدقاؤه ملتفون حوله ويسمع التصفيق الحاد والصياح «مرحى مرحى» ثم يعانق بلزاك برليوز.)
إسكندر دوماس الكبير :
لقد أحرزت مجدا كبيرا!
برليوز :
أهلا بعزيزي دوماس.
دوماس :
ما أرق وأعظم ما سمعناه! إنك لعظيم مثل شكسبير!
تييوفيل جوتييه :
أعانقك يا برليوز.
برليوز :
أهلا بعزيزي تييو!
تييوفيل جوتييه (متجها نحو جول جانان) :
عم صباحا يا جانان، هل أنت مبتهج مسرور؟
جول جانان :
إن رأيي لم يتغير قط في برليوز ، إنني أحبه وأعجب به أيما إعجاب!
لوجوفيه (موجها القول لبرليوز) :
إنني أنا وجميع أصدقائك متهللون بعد هذا الفوز العظيم! ولقد عبرت لزوجك اللطيفة عن شعوري العميق نحوك.
برليوز :
إنك صديق مخلص، هل رأيت زوجي؟
لوجوفيه :
رأيتها هي وطفلها ذا الشعر العسجدي المماثل لشعر أبيه ... كم يبلغ من العمر؟
برليوز :
خمس سنين.
ماري ريتشو (وهي فتاة جميلة إسبانية وقد اقتربت من برليوز ووجهت القول لدورتيج) :
قدمني من فضلك إلى المسيو برليوز.
دورتيج :
أقدم لك مدموازيل ماري ريتشو المغنية الشهيرة.
ماري ريتشو :
آه أيها الأستاذ الكبير ... لقد هجت قلوبنا وأثرت في رءوسنا، وإن مؤلفك هذا لمتأجج متوهج مؤثر عظيم (ثم أخذت يده وقبلتها) ، إنني أقبل هذه اليد التي سطرت هذه الموسيقى الخالدة.
برليوز (فينحني شاكرا) :
هل تغنين يا مدموازيل؟
ماري ريتشو :
إنني أتلقى الغناء على المسيو بنديرالي (ثم تقدم والدتها) ، أقدم لك مدام سوتيرا دوفيلاس والدتي.
مدام سوتيرا :
لقد فتنتنا أيها الأستاذ ...
ماري ريتشو :
إن والدتي إسبانية ولكن أبي كان فرنسيا وضابطا في الجيش، آه! لو تفضلت أيها الأستاذ بمقابلتي واستماعي ... إني أكون سعيدة إذا كنت بجانبك ... (ثم هاجته بنظراتها) .
برليوز (وهو مضطرب) :
بكل ارتياح أيتها الآنسة ... تفضلي بمقابلتي في جريدة الديبا أو في مكتبة الكونسرفاتوار.
ماري وأمها :
شكرا لك أيها الأستاذ العظيم!
ماري ريتشو :
إنني مسرورة جدا ... إني أقبلك! (ثم قبلته وخرجت مسرعة مع والدتها) .
برليوز (مخاطبا دورتيج) :
إنها جميلة وفتانة! (وقد دخلت هارييت هي وابنها منذ هنيهة من الجهة اليسرى وكانت ممسكة بيد ابنها.)
دورتيج (يلمحها فينبه برليوز بصوت خافت) :
زوجك!
هارييت (وقد شحب لونها واكفر وجهها) :
من هذه الفتاة؟
برليوز :
من؟
هارييت :
التي قبلتك.
برليوز :
لا أعرف ... وهل هذا كل ما عندك لتفاتحيني به بعد هذا اليوم العظيم المشهور؟
هارييت :
إن المعجبات بك قد عبرن لك عن كل ما يخالج قلوبهن.
برليوز (بصوت تعلوه الشفقة) :
هارييت! ...
هارييت :
أواه! إنني أختنق من الخجل، لقد حضرت كتائب خليلاتك! حتى هذه الفتاة التي اجترأت على تقبيلها أمامي! ...
برليوز :
لقد شردت عن الموضوع .
هارييت :
لقد تحرشت بي بعينيها وهي ضاحكة!
برليوز (وقد خاف أن يسمعها أحد) :
أرجو منك أن تكفي.
هارييت (وقد سحبت ولدها وهي هائجة) :
هيا يا لويس فإننا نضايق أباك! (ثم خرجت مع ابنها) .
دورتيج (وقد لمح الماريشال دولوبو ووراءه ضابطان ياوران) :
المريشال دولوبو (ثم حصلت حركة كبيرة في المجموع وطفقوا يتهامسون) «الماريشال الماريشال».
الماريشال (مادا يده لبرليوز) :
آه يا مسيو برليوز إنني أهنئك!
برليوز (وهو منحن تعظيما) :
أشكر لك يا جناب الماريشال!
الماريشال (بحماسة) :
عظيم جدا ... إن ما أحبه على الأخص في مؤلفك هي ... (ثم يفكر هنيهة)
هي الطبول (ثم يصافح برليوز ويخرج) .
دورتيج (وهو باسم) :
هذا فخم.
برليوز (وهو يهز رأسه) :
وا أسفاه! (وفي هذه الأثناء يدخل ملاحظ الحفلات ويعطي لبرليوز ورقة فيشكر له وينظر فيها)
هل رأيت يا دورتيج، هذا نجاح باهر عظيم.
أتعرف ما الذي أكسبه من دخل روميو وجولييت إذا أقمت ثلاث حفلات غير هذه؟ ألف ومائة فرنك.
دورتيج (وقد رفع ذراعيه) :
اكتب إذن شيئا من الفن الجدي.
برليوز :
إن الفنيين لا يحق لهم أن يعيشوا.
الفصل الثالث
كانت هارييت بعد زواجها تساورها الغيرة على زوجها وتظن به الظنون؛ فكان ذلك مدعاة لاستمرار المشاحنة بينهما وسوء الظن به، وطفقت تدمن في الخمور حتى ساءت صحتها وتجهم وجهها وفقدت جمالها بعد ثمانية أعوام من زواجها فأصبحت معاشرتها لا تطاق، واضطر برليوز أن يخادن ماري ريتشو خفية ويصطحبها في أسفاره، وبلغ من شراسة هارييت أنها كانت تذهب إلى زوجها في مكتبة الكونسرفاتوار وتضايقه بمشاحنتها الصارخة.
وفي ذات يوم ذهبت إليه ماري ريتشو وكانت بالمصادفة هارييت وابنها هناك، فاضطرم الشجار بينهما بشكل مريع.
ومن كثرة إدمان هارييت على الخمر أصابها شلل واحتقان في الدماغ فكانت تتكلم بصعوبة، ثم عانت المرض والآلام أعواما طوالا إلى أن ماتت في 3 مارس سنة 1854.
وفي شهر يونيه سنة 1855 دعا المسيو سانتون العازف على الكمنجة الفرنسي الشهير وكان مقيما بلندرة برليوز وفاجنر، فلبيا دعوته، وكان بجانب سانتون صحفي يكتب مذكرات أثناء حديثه.
سانتون :
إنه لمن العجب العجاب أن أكون بلندرة وأنا من تولوز، وأن يكون على مائدتي أكبر موسيقيي فرنسا برليوز وأكبر موسيقيي ألمانيا فاجنر.
الصحفي :
الاثنان المتنافسان.
سانتون :
وسيقود كل منهما أوركسترا، ويا لوقع هذا الخبر إذا نشر في التيمس!
الصحفي :
هل يعرف بعضهما بعضا؟
سانتون :
تمام المعرفة.
الصحفي :
وهل هما عدوان متباغضان؟
سانتون :
ولكنهما يخفيان في قرارة نفسهما إعجاب كل منهما بالآخر! وسأفاجئهما ببعضهما.
الصحفي :
وكيف ذلك؟
سانتون :
بكل سهولة، ولكن ما العمل مع مدام برليوز؟
الصحفي :
هارييت سمتسون؟
سانتون :
كلا، فقد ماتت منذ سنة ونصف، ولكن برليوز تزوج ثانية من مغنية شهيرة تدعى ماري ريتشو، وهذه هي زوجه الجديدة، إنها كالصل تمقت فاجنر وتبغض كل ما يصدر من غير برليوز، ولم أدعها ولكنها دعت نفسها.
الخادم (يدخل ويعلن) :
المسيو برليوز وزوجه.
سانتون :
هي! لقد أفسدت حيلتنا! (ثم يوجه كلامه للخادم)
إذا حضر المسيو فاجنر فأدخله في البهو الصغير، (ثم يقول للصحفي)
هل تتفضل يا عزيزي بانتظاره هناك وتسليته قليلا؟ (فيذهب الصحفي)
شكرا لك (ثم يشير إلى الخادم ليدخلهما) .
برليوز :
عم صباحا سانتون (ثم يوجه خطابه لزوجه)
هل تعرفين المسيو سانتون عازف الكمنجة الشهير؟ (ثم يخاطب سانتون)
أقدم لك مدام برليوز.
سانتون (ينحني احتراما) :
مدام ... (ثم يجلس برليوز)
هل أنت تعب يا أستاذ؟
برليوز :
نعم ... ومريض أنا وزوجي، إنني أشكو من أعصاب أمعائي وهي من نوبات القلب ...
سانتون :
لقد حضرت لك عشاء تولوزيا.
ماري ريتشو (وهي قائمة) :
حذار يا هكتور من الإفراط في أكله!
سانتون :
أتعلمان أنني التزمت أن أدعو أيضا فاجنر؟
ماري ريتشو (وقد نهضت هائجة) :
فاجنر فاجنر! إننا نبارح البيت.
برليوز (بلهجة المتجاهل) :
ولم؟
ماري ريتشو :
هذا الخبيث الذي يسخر منك في كتابه الأخير وينكرك ...
برليوز :
إنها لرصاصات صغيرة وقد صوبت منها كثيرا إلى سيقان الغير لئلا أجد غرابة فيها حينما تصوب إلي بدوري ...
ماري ريتشو :
نبئنا برأيك في فاجنر، تكلم بصوت جمهوري وعبر عن فكرك.
برليوز :
إن فاجنر فيه شيء جذاب.
ماري ريتشو :
وهل هذا كل شيء.
برليوز :
كلانا عندنا شيء من الخشونة، ومن الممكن أن تزول وتعتدل أخلاقنا. (وبعد قليل استأذنت مدام برليوز وانصرفت إلى الفندق الذي نزلت فيه هي وزوجها، ورجت من زوجها أن لا يأكل من الأطعمة التولوزية لئلا تتعبه، فلا يستطيع أن يقود الأوركستر في المساء.)
سانتون :
إن الخوف يخالج صدري يا أستاذي العزيز! ... قد حضر فاجنر.
برليوز :
أصحيح ما تقول؟
سانتون :
أتريد أن تراه؟
برليوز (وقد قطب حاجبيه) :
هل أنبئ بحضوري؟
سانتون (وهو يبتسم ابتسام المكر) :
نعم عنده علم.
برليوز :
لا شيء يمنعني من مقابلته (فخرج سانتون من الجهة اليمني ونهض برليوز وتقدم بضع خطوات، ثم وقف وفكر قليلا ثم نادى فاجنر، فدخل فاجنر من الجهة اليمنى فصافحه برليوز) .
فاجنر :
أهلا وسهلا بالمسيو برليوز.
برليوز :
عم صباحا يا فاجنر، أما تراني قد شخت؟ إننا لم نتقابل منذ اثنتي عشرة سنة؛ أي حينما كنت في درسد.
فاجنر :
منذ درسد! إنني لسعيد ومتأثر!
برليوز :
إنك أصغر مني سنا بعشر سنين، وهذه المدة الأخيرة من عمري كأنها مضاعفة (ثم جلس وهو متعب) .
فاجنر (وقد جلس أمامه) :
إنني أعلم بأن ليزت قال لي بأنه هو الذي حرض على هذه المحادثة، معذرة؛ فإني لا أتكلم جيدا بالفرنسية، وإني أحبك حبا جما يا مسيو برليوز رغما عن سوء الظن الذي يقصيك عني.
برليوز (يشير إشارة غامضة للاحتجاج) :
عجبا! ...
فاجنر :
إنك لا تعرفني ولكنني أعرفك جيدا.
برليوز :
لقد سمعت ثلاث فصول من رينزي وخيال السفينة.
فاجنر (باحتقار) :
عجبا! هذا بعيد! نعم إنك لا تحب موسيقاي.
برليوز :
ولكني معجب بقوتك وإرادتك.
فاجنر :
وإني معجب بقطعتك السانفوني فونيبر، وإنها لعظيمة من أول نوتة لآخر نوتة.
برليوز (وقد ابتسم) :
ولكنك قلت إن موسيقى فوست حقيرة (ثم ضحك) .
فاجنر (يضحك بدوره) :
وأنت قلت إن إنشائي الحر يجعلك ترقص فوق الحبل المرخي. (ثم ضحك الاثنان.)
برليوز (ثم وقف فجأة وجعل يتفرس فيه) :
ومع ذلك، فستكون أستاذ المسارح بعد خمسين سنة.
فاجنر (وقد نهض واحمر وجهه من الزهو والسرور من هذا الإطراء) :
عجبا! وأنا إذا كنت بيتهوفن لقلت : «لو لم أكن بيتهوفن ولو كنت فرنسيا لأردت أن أكون برليوز»؛ لأنك يا مسيو برليوز الموسيقي الوحيد في فرنسا الذي لم يقبل أن يحقر فنه ليكسب المال.
برليوز (يمد إليه يده) :
وأنت أيضا.
فاجنر (يجلس ثانية) :
يا مسيو برليوز إن أصدقاءك في ألمانيا وليزت وأنا وغيري تنتظر منك مؤلفا كبيرا، درام.
برليوز :
هل تشتغل بتلحين شيء؟
فاجنر :
نعم بحلقة نيبيلونجين ... ألا تعرف تانهوزر ولوهنجرين، سأرسل إليك موسيقاهما، وماذا تعمل أنت الآن؟
برليوز :
إنني أفكر في تلحين قصيدة كبيرة موسيقية وهي أهل طروادة، ليت شعري هل أعيش طويلا حتى أتمها؟ وهل تعلم أية مهنة أزاولها لأعيش؟ (ثم نهض قائما)
منذ ثلاث سنين سمعت في أحلامي نغمات سنفوني، كنت أحلم أني أكتبها، وفي الصباح استيقظت وتذكرت الجزء الأول، وأردت أن أشرع في كتابتها ثم قلت في نفسي: لو كتبت هذا الجزء لاضطررت أن أكتب الباقي ويستمر العمل مدى ثلاثة أو أربعة شهور ... وأضطر لترك تحرير القسم الموسيقي في الجرائد؛ فيقل دخلي، وحينما تنتهي السنفوني أطبعها بألف أو ألف ومائتي فرنك ثم أقيم حفلة لتوقيعها، فيغطي الإيراد نصف المصاريف فأقصر في عمل الواجب نحو زوجتي المريضة ودفع مصاريف مدرسة ولدي، فرميت القلم قائلا: «سأنسى غدا السانفوني.» وفي الليلة التالية عادت تطن في دماغي، فاستيقظت وكانت تأملات أمس تعاودني ثم نمت ثانية، ولما استيقظت في الصباح اختفت من مخيلتي كل ذكرى إلى الأبد!
فاجنر :
وا أسفاه! إن هذا شيء مؤلم كالانتحار أو الموت (فسالت الدموع من مآقي فاجنر وطفق يجفف نظارته المبللة بالعبرات) .
برليوز :
نعم، نعم، هذه بلادة مني ورخاوة، ولكن حينما تكون عندي زوج لا هي حية فترجى ولا هي ميتة فتنعى ويلزمها ثلاث نساء لخدمتها ويعودها الطبيب كل يوم وينقد أجره، وإذا كنت واثقا تمام الثقة بأني لا أجد بباريس بعد انتهاء أي مشروع موسيقي إلا نتيجة مشئومة فإنني لست الآن بليدا رخوا حينما تركت التلحين، بل كان عملي هذا إنسانية ومروءة.
فاجنر (باحترام) :
لقد تكشفت لي يا مسيو برليوز في ضوء يختلف عن الضوء الذي رأيتك فيه فيما سلف، وما زلت أشاهدك مشرقا كأبطال الملاحم على رأس الأجواق الموسيقية التي تقودها في الحفلات كقيصر الأساطير!
برليوز :
برليوز الأساطير! وهناك الآخر فاجنر رجل فقير، وإن التحيز والخصومة اللذين صادفاك قد اصطدمت في جدارهما بدون جدوى منذ ثلاثين سنة حتى تهشمت يداي وأصابعي، ولنعيش ويعجب بنا الجمهور ونكون محبوبين يلزمنا أنا وأنت أن نكتب في الموسيقى مثل ما كتب مييربير وهاليفي اللذان شوها الموسيقى.
فاجنر :
إنني أفضل أن أكون المسيو برليوز.
برليوز :
إنك أسعد مني حظا.
فاجنر :
إنني في بلادي كمن هدر دمه ...
برليوز :
توجد مواطن للنفي أقسى من غيرها.
برليوز :
لقد هرولت طول حياتي مثل هملت وراء طيف الحب، وحينما تصورت أني ملكته وضممته إلى صدري أفلت مني واختفى ... والخراب والموت، وآلام الوحدة؟
فاجنر :
ولذلك أردت أن نتفاهم وحدنا، وعلى كل حال توجد بين بعض الناس الذين لم يفهمهم الجمهور والذين تساووا في الضراء قرابة متينة (فنهض برليوز وجعل يتفرس في فاجنر بأثر) ، وهذه السلسلة الخفية التي تربط أحدنا بالآخر في أخوة المحن والألم.
برليوز (يفتح ذراعيه) :
فاجنر! (ثم يتعانق الاثنان.)
الفصل الرابع (ماتت ماري ريتشو زوجه الثانية في 13 يونيه سنة 1862، وعاش برليوز وحده مع والدتها مدام سوتيرا دوفيلاس، وكان يفد إليه ابنه لويس وقت إجازته، وفي شهر يوليه من هذه السنة كان ابنه يتحادث معه ويسأله عما حل بالأوبيرا المشهورة «أهل طروادة»، فقال له: إنها تئن في محافظ الأوبيرا ولا أعلم متى يحضرونها، وبينما هما يتحادثان إذ دخلت عليهما الخادم وأعلنت قدوم فتاة، فسأل عن اسمها، فقالت: إنها رفضت أن تعلنه.)
برليوز :
لقد عرفتها (ثم ينهض لويس)
سنتعشى سويا هذا المساء يا لويس (فقبل)
في الساعة السابعة! لقد أعطيت ميعادا لهذه الفتاة، وهي تريد أن تغني في المسرح ولكن ليس لها صوت، أتعرف كيف تعرفت بها؟ في ذات يوم كنت بمقبرة مونمارتز وهذه رياضتي المحبوبة، وكنت جالسا على مقعد هناك وبكيت فاقتربت هذه الفتاة مني وظنتني متألما، فتأبطت ذراعي لأخرج من المقبرة، وهي من عمرك ولها ست وعشرون سنة، ثم صافحه ابنه وخرج، ثم أشار على الخادم بإدخال الفتاة، فدخلت وهي مرتدية ثياب الحداد وكانت عسجدية الشعر جميلة رشيقة القامة والهندام.
برليوز :
ادخلي بنيتي.
إميلي :
أستاذي العزيز ...
برليوز :
لا يليق بي هذا التعبير فقد شخت!
إميلي :
كلا بلا!
برليوز :
إنك ظريفة (ثم أشار إلى ابنه وهو خارج) ، إنه ولدي، تفضلي بالجلوس.
إميلي :
شكرا لك أيها الأستاذ.
برليوز :
خبريني أولا ماذا كنت تعلمين يوم الجمعة في المقبرة، وإنها ليست نزهة شائقة لفتاة من سنك؟
إميلي :
لقد فقدت والدي منذ عام وأصبحت يتيمة أعيش مع عمتي.
برليوز :
إن هذا لمن الغرابة بمكان! إنني أتفرس فيك؛ لأنك تشبهين تمام الشبه فتاة كانت قرينة صباي، وكنت أحبها وكانت تماثلك في القامة والوجه والعينين، ولا تختلف عنك إلا في لون الشعر، إذ كان شعرها أسود وشعرك ذهبي، وكانت تسمى إيستيل وأنت إميلي! آه! لو كنت تعرفين كيف يوقظ ويهيج حضورك عندي تلك الذكريات اللطيفة والتأثر الشديد.
إميلي :
وأنا قد عرفتك مباشرة.
برليوز :
هل تعرفينني؟
إميلي :
لقد شاهدت صورتك مرارا ولذلك قد عرفتك وقلت في نفسي: «إنه هو، هو، وإن الفنيين الذين أحبهم وأعجب بهم لهم أصدقائي، وهذا ما جرأني على الاقتراب منك فخاطبتك، كنت تبكي! وقد اضطربت لمشاهدة عبراتك السائلة، وما كنت أتصور أن رجلا مثلك يتأتى له أن يكون سيئ الحظ! وأنت مسيو برليوز العظيم بنبوغه وقلبه، أنت الذي تلتهب موسيقاك كالشعلة والضوء المشرق، كنت هناك وحيدا على المقعد متألما حزينا!
برليوز :
لقد استحوذت عليك الشفقة لأجلي.
إميلي :
ليست الشفقة هي الكلمة التي تؤدي المعنى، ولست أستطيع التعبير لقد أردت سلوا لتخفيف ما بك، فقل لي يا مسيو برليوز إنك اليوم أحسن حالا من ذي قبل.
برليوز (وهو باسم) :
نعم لوجودك، (ثم أمسك بيديها)
أيها الشباب! أيها الشباب المحبوب، يا سحر الربيع! إيستيل، إميلي، أيها السراب الذي يحييني ولكن سأموت.
إميلي :
ماذا تقول؟
برليوز (يهز رأسه) :
لقد بلغت الستين (ثم ينهض ويمشي في الغرفة بضع خطوات فتتبعه) .
إميلي :
ليس هذا صحيحا، فإن موسيقاك فتية كما أن قلبك فتي.
برليوز :
إنك لتتأثرين وتتألمين إن قرأت يوما في الجرائد: «موت هكتور برليوز»؟
إميلي (تتألم) :
أواه!
برليوز (يجذبها إليه وهو متأثر) :
بنيتي! ثم يقبلها في جبينها فتستسلم، فهلا يقبلها في فمها؟ ثم ينهض بغتة كمن عاد إليه شبابه، ثم طفق يمشي في البهو بخطوات نشطة ثم فرك شعره وتكلم بلهجة حادة سارة: يا لله! وا خسارتاه؛ لأني لم أعرفك إلا بعد فوات الوقت! ولو جئت في الوقت المناسب لصيرتك فتية عظيمة، هل تريدين أن تغني في المسرح؟ يلزم لذلك صحة من حديد، ويظهر لي أنك رقيقة يا إميلي، وفضلا عن ذلك فإن صوتك رخيم، ولو عرفتك من سنة واحدة لعلمتك غناء دور بياتريس لتغنيه بمدينة باد. •••
في شهر أكتوبر سنة 1862 كان برليوز جالسا على مقعد في منتزه مونسو فمر عليه لوجوفيه الكاتب الشهير، فجلس بجانبه يتجاذبان أطراف الحديث، ثم أخرج برليوز خطابا من جيبه ناوله للوجوفيه.
برليوز :
اقرأ (يقرأ السطر الأول ثم يقف) .
لوجوفيه :
إنه خطاب غرام؟ مرسل إلي ...؟
برليوز :
لا تضحك، إنه مرسل إلي.
لوجوفيه :
إنني لا أضحك (ثم قرأ الإمضاء)
إميلي.
برليوز :
إميلي، إنه حب أتاني دون أن أبحث عنه وقد قاومته، ثم استسلمت له، ثم اشتد معي.
لوجوفيه :
هل هي فتية؟
برليوز :
إنها فتاة في مقتبل العمر.
لوجوفيه :
هل هي جميلة؟ (فأشار برليوز برأسه نعم)
وهل هي تحبك؟ فمم تشكو وماذا جرى لك؟
برليوز :
جرى لي أنني بلغت الستين.
لوجوفيه :
وإذا كانت لا ترى فيك إلا شابا في عقده الثالث.
برليوز :
ألم تر خدي الغائرين وشعري الأبيض وجبيني المجعد، وهذه الفكرة المشئومة ما لبثت تساورني، وكانت تأخذ رأسي بين يديها، وكنت أشعر بدمعها المنحدر على عنقي.
لوجوفيه (يرد إليه الرسالة) :
هذه الرسالة صادرة من فتاة عظيمة ذات قلب مفعم بالحنان والحب.
برليوز :
لقد وصلتني هذه الرسالة منذ ثلاثة أسابيع ثم انقطعت أخبارها، ولقد كتبت لها أخيرا أنني أنتظرها في هذه الحديقة هذا الصباح ... ليت شعري هل تقبل؟ جس قلبي.
لوجوفيه :
إنك ابن عشرين كما قلت لك وسأتركك أيها العاشق العزيز (ثم يصافحه ويخرج فتأتي إميلي وهي شاحبة اللون نحيفة) .
برليوز :
هل أنت بنفسك؟
إميلي :
صديقي العظيم (ثم أجلسها بجانبه على المقعد) .
برليوز (يقبل يديها) :
بنيتي العزيزة، لقد رأيتك بعدما نفذ مني الصبر وكنت متألما تعسا، لم لم تأتي يوم الإثنين والجمعة؟ وقد انتظرتك طويلا، وما أشد عذابي ولم يأتني منك خبر ولا رسالة.
إميلي :
لقد فكرت فيك، معذرة فإنني لم أستطع المجيء ولا الكتابة (ثم أطرقت رأسها) .
برليوز (ينظر إليها وقد دهش من شحوبها) :
انظري إلي ما أشد شحوبك! هل كنت مريضة؟
إميلي (وما فتئت مطرقة الرأس) :
كلا.
برليوز :
يداك الصغيرتان حارتان (ثم تسعل) ، هل أنت محمومة؟
إميلي :
كلا، ولا أشعر بشيء.
برليوز :
إميلي (فبكت)
لم تبكين، أخبريني ماذا دهاك؟
إميلي :
سأترك باريس مدة طويلة وربما على الدوام.
برليوز (وقد صعقه الخبر) :
أواه!
إميلي :
يجب أن أتبع عمتي إلى الجنوب.
برليوز :
وماذا العمل؟
إميلي :
لن نتمكن من المقابلة (ثم هزت رأسها)
لا، وهذا أفضل شيء ...
برليوز (وهو متألم كاسف البال) :
إني بلغت الستين؟
إميلي :
كلا! فإن السبب لا يرجع إليك بل يرجع إلي وحدي، والآن تستطيع أن تنساني؛ لأن الفراق بعد فوات الوقت مؤلم قاس.
برليوز :
إنك تتكلمين بالمعميات والألغاز، ولا أفهم لك قولا.
إميلي :
لا ينبغي أن تحاول الفهم، يجب علينا أن نفترق الآن بدون توان (ثم تسعل أيضا) ، ومن الحكمة أن نفترق بإرادتنا.
برليوز :
وبدون تعويض كالموت؟
إميلي (بشدة) :
نعم كالموت (ثم نهضت ولبث برليوز جالسا كالمصعوق) .
إميلي (بتألم) :
وأنا الذي أحببتك، وما زلت أحبك، وأقسم أنني لن أحب أحدا مثلك، فهل تصدقني وتثق بي؟
برليوز (يقبل يديها) :
بنيتي؟
إميلي (تخلص يديها منه) :
واعلم أنني حينما أودعك فإنما أودع كل شيء.
برليوز (وهو قائم) :
إميلي.
إميلي :
الوداع (ثم هربت مهرولة) .
ننتقل بالقارئ إلى مقبرة مونمارلتر في صيف سنة 1864 وقد كسا الربيع المقبرة بحلله القشيبة السندسية المزهرة حتى أصبحت كالحديقة الغناء، وكان الحارس واللحاد يتحادثان، وفي هذه الآونة أقبل برليوز وهو مرتد ثيابا سوداء يمشي بخطوات ثقيلة كأنه طيف خيال، فحياه الرجلان بإجلال فرد عليهما التحية، ثم ذهب إلى قبر ووقف أمامه.
الحارس (يخاطب اللحاد) :
أتعلم من هذا؟
اللحاد :
كلا.
الحارس :
المسيو برليوز.
اللحاد :
ومن هو؟ هل هو من أمراء البحار؟
الحارس :
لا بل هو (يبحث في ذاكرته)
يلحن أوبيرات وهو يأتي كل يوم شتاء وصيفا ويقطن قريبا من هنا في شارع كاليه، وفي أوقات المطر التي لا تخرج فيها الكلاب من المنازل تراه يجول في المقبرة وحده.
اللحاد :
وما يفعل؟
الحارس :
إن سيره لا يتغير، وتراه يقف أمام القبر هناك وقد دفنت فيه زوجه الثانية منذ عامين، وكان متزوجا قبلها من ممثلة ماتت منذ عشر سنين، وقد دفنت في أول الأمر في مقبرة سان فانسان ثم نقلت رفاتها في فبراير الماضي إلى هذا الرمس، وهما الآن يغنيان مع بعضهما مع أنهما كانتا عدوتين لدودتين. (سار برليوز في طريق آخر فلمح مقعدا فجلس فوقع نظره على رمس جديد، فسأل الحارس: لمن هذا الرمس الذي لم أره قبل اليوم؛ لأني أمر نادرا في هذا الممر؟)
الحارس :
هذا لحد فتاة ماتت بالسل منذ ستة شهور.
برليوز :
كم لها من العمر؟
الحارس (وقد قرأ التاريخ فوق القبر) :
ولدت في مايو سنة 1827 (ثم حسب)
سبع وعشرون سنة.
برليوز (وهو يهز رأسه) :
سبع وعشرون سنة! (ثم نهض واقترب من القبر وقرأ ما كتب عليه فصاح)
أواه! إميلي! إنها هي. (وكاد يقع لولا أنه استند إلى شجرة)
إميلي!
الحارس :
هل تعرفها؟
برليوز :
إنني أعرفها (ثم وقع قاعدا على المقعد وأخذ يحدث نفسه)
قد ماتت منذ ستة شهور ولم ترض تخبرني بأنها في انتظار الموت العاجل، وكان لها من العمر ست وعشرون سنة، جميلة رقيقة تكتب كأنها ملك السماء، واتفقنا على الفراق وقطع المكاتبة، وقد رأيتها من بعيد في المسرح فأشارت برأسها، وكانت تعالج الموت، ولم أعلم حقيقتها ثم ماتت بعد ستة أسابيع ولم أدر بموتها أواه! رحمة وحنانا وكفاني اللهم عذابا وألما.
ننتقل إلى منزل برليوز في 8 مارس سنة 1869 وكانت مدام سوتيرا دوفيلاس حماة برليوز تهيئ مخدات على كرسي (فوتيل)، فأدخلت الخادم المسيو ريير الملحن الشهير.
مدام دوفيلاس :
أهلا بعزيزي المسيو ريير.
ريير (وكان في الخامسة والأربعين من عمره) :
عمي مساء سيدتي، كيف قضى ليلته؟
دوفيلاس :
على أسوأ حال، وقد أيقظني في الساعة الثانية صباحا ليسألني إن كان وصل خطاب من لويس، وفي بعض الأحيان ينسى أن ابنه فارق الوجود.
ريير :
يحسن أن يترك جاهلا موت ابنه.
دوفيلاس :
وماذا العمل؟ وقد خانني الدمع وانقطعت رسائله ... وفي ذات يوم كنت أتحدث بصوت خافت مع الخادمة في غرفة مجاورة لغرفته، فاقترب منا هكتور وسمع كلمة «الحمى الصفراء» ثم خرج فقابل في الطريق أحد أصدقاء ابنه فقدم له واجب العزاء، فرجع إلى البيت وصار يتمرغ في أرض الغرفة ويصيح: «كان الموت أولى لي.»
ريير :
هل هو نائم؟ هل يمكنني مشاهدته؟
دوفيلاس :
سيستيقظ، ولقد حاول البارحة أن يذهب إلى المجمع العلمي.
ريير :
نعم ليعطي صوته لشار بلان؛ لأن برليوز مخلص ووفي لأصدقائه.
دوفيلاس :
إنه يحبك يا مسيو ريير كولده، ومنذ وفاة المسيو دورتيج أصبحت أنت والمسيو سان صانس أعز أصدقائه (ثم تسمع حركة) ، انتظر فإني أظن أنه استيقظ (ثم أقبل برليوز مستندا إلى خادمه، ثم تقدمت إليه دوفيلاس وأجلسته على الكرسي (الفوتيل) وأسندت ظهره إلى وسادة فعانقه ريير) .
برليوز (وكان كالأموات خافت الصوت) :
أشكرك يا ريير.
ريير :
لقد لاحظت أنك لم تكتب الإهداء على نسختي بينفينوتر، وإني أكون مسرورا إن وقعته.
برليوز :
نعم يا صديقي العزيز (ثم ناولته دوفيلاس القلم فكتب)
إلى صديقي العزيز ... (ثم وقف وتفرس في ريير)
آه لقد نسيت اسمك.
ريير :
ريير. (برليوز كتب أرنست ريير، ثم دخلت الخادم وأعلنت حضور المسيو كاميل سان صانس) .
سان صانس (وكان في الثالثة والثلاثين) :
كيف نمت يا أستاذي العزيز؟
برليوز :
لم أنم (ثم أشار إلى سان صانس)
إنه موسيقي عظيم يعرف جلوك كما أعرفه (ثم يميل إلى الوراء)
لقد أقبلوا ... ولكنني سأذهب (يتألم ويشكو )
آه.
سان صانس :
هل أنت متألم؟
برليوز :
نعم.
ريير (مخاطبا دوفيلاس بصوت خافت) :
ألم يكتب له الطبيب دواء مسكنا؟
دوفيلاس :
لقد كتب ولكنه لا يريد أن يشربه.
سان صانس :
ماذا نعمل يا إلهي لنخفف آلامه؟
برليوز (وقد فتح عينيه حينما سمع القول) :
هذا عندي على حد سواء (ثم سكت)
إنني أريد أن أموت في الشمس وأمام البحر.
سان صانس :
إن شهر مارس لفظيع مرعب! وستمطر ثلجا، انظر كيف أظلم الجو.
برليوز :
لا تتحادثوا وإن استمررتم فإنني أحب أن لا أموت (عم سكوت وأغمض برليوز) .
سان صانس (بعد لحظة) :
هل نام؟
دوفيلاس :
لقد نام.
سان صانس :
فلنتركه ليستريح.
ريير (مخاطبا سان صانس) :
لقد عانقته البارحة! أتعلم ماذا قال لي؟ آه! كلمة مؤلمة عظيمة! «وقصارى القول: هل سيوقعون موسيقاي؟» (ثم خرجوا على أطراف أصابعهم وأقبل الليل وقد رمى ضوء الموقد شعاعا على وجه برليوز، وكان يظهر عليه أنه نائم، وكأن نداء أتاه من العلا في الليل البهيم ثم يسمع توقيع دعاء الأموات من وراء الستار موقعا على الأرض، ويغنيه المنشدون وتمتلئ الغرفة بأشباح الموتى، وتظهر إيستيل وإميلي وهارييت سمتسون ونانسي وآديل وماري ريتشو ولويس برليوز فيفتح برليوز عينيه.)
برليوز :
دعاء الأموات، هل حضر الجميع لسماع دعائي للأموات؛ هارييت، نانسي، أديك، ماري، إميكس، لويس الصغير؟ (ثم اعتدل على كرسيه ورفع ذراعه، وطفق يضرب الوزن، فاقتربت منه الأموات وأحاطوا به ثم مالت ذراع برليوز وفارق الوجود.) (2) عنترة «مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم شكري غانم»
ينتمي هذ الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي، وله ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة 1900، وروايتان مثلتا بالأودييون سنة 1905 في فصل واحد وهما «وردة» أو «زهرة الحب» و«ربع ساعة من ألف ليلة وليلة»، ورواية قصصية كبيرة تسمى «دعد»، وأهم رواياته التمثيلية عنترة، وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية، ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو، وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل دور العجائز، وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالأنفلوينزا منذ بضع سنين وقد قام بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص.
ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يوما، وقد سحروا الجمهور بإبداعهم النادر، وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه.
اشتهر مورينو بحسن إلقائها ونبرات صوتها الموسيقي، وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد سارة برنار وتضيف إلى ذلك قدرا كبيرا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها الخالية من كل تكلف، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث، وقد مثلت دور ابن نابليون في النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك، وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة 1909 إلى الآن.
مثلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية، ثم مثلها مسرح الأودييون بباريس في 12 فبراير سنة 1910، فلاقت إعجابا شديدا ونجاحا باهرا، وقرظتها أغلب الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والأكلير والدييا والطان والليبرتيه ومجلة التياتر المصورة والأوبنيون، كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ملحقها الشهري سنة 1910، وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة، وتفكيرها العميق، وتحليلها الأخلاقي، ومناقشتها الطلية، وعواطفها المشتعلة، ورقتها ومواقفها الفنية الرائعة.
ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن اقتراب ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
وما سيكون له من شأن خطير، كما نوه بإعجابه الشديد ببلاغة القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي، فجزاه الله خيرا ورحمه رحمة واسعة.
المنظر الثالث «من الفصل الرابع» (عنترة، ثم شيبوب ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص يدخل عنترة في الحال.)
عنترة :
هل هو عربي؟ لا ... كان الخائن مختبئا في الظلام وراء هذه الصفاة كالذئب، ولا بد أن يكون أجنبيا. (يسمع صوت شيبوب من بعيد.)
ها هو ذا شيبوب، هل يقوده؛ لأني أرى شبحين
شيبوب (يتكلم بصوت مرتفع) :
تقدم. (ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرا من يده.)
لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع إذن الحياة. (مخاطبا عنترة الذي يقترب منهم.)
لا جدال ولا ريب! فإنه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل. (يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة، وكان شيبوب يتكلم وهو سائر حتى يصل إلى عنترة.)
لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى إنني كدت أن أحمله.
عنترة :
لكنه يحسن الهرب!
شيبوب :
لا، إنه لم يهرب وكان جالسا على مقربة من صفاة، وقد طعن نفسه بسهم عندما اقتربت منه، وترى هنا قليلا من الوضوح فانظر. (ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه.)
آه! وزر!
عنترة :
وزر؟ أتحلم؟ كلا!
شيبوب :
هو بعينه.
عنترة :
الفارس المختال الذي عرفته من قبل؟ (ثم يحدق به هنيهة)
نعم نعم، كيف تكون خائنا؟ أقبلت في الليل الدامس لتقترف إثما ملؤه النذالة والصغار، ولم ير مثله في البلاد العربية! هل بلغت بك السفالة أن تفعل فعلتك هذه؟ ماذا عملت بقناتك وحسامك؟ لقد أحسنت بستر وجه دمغ بميسم النذالة والجبن، ما أبشع هذا الوجه الدميم، أتنهض وترفع عينين باردتين ملؤهما الخجل والخزي؟ أم يتلهفان لاقتراب جرم آخر؟ تكلم.
وزر :
عيناي فارغتان وقد استعضت عنهما بقلب ملئ حقدا!
عنترة :
ولم؟ وعلى من تحقد؟
وزر :
لا تتجاهل وما هو إلا عليك.
شيبوب :
ماذا تقول؟
عنترة :
دعه! ويلزم أن يوضح هذا الرجل، أجب.
وزر :
انظر إذن، ها هو جوابي، هاتان العينان الخامدتان المفقوءتان كأنهما جحران أسودان كئيبان، آه! إنك تسميني النذل يا عنترة وما النذل إلا أنت.
شيبوب :
قد بلغ السيل الزبى.
عنترة (وهو يزيح شيبوب عن وزر) :
إنني أجهل أمرك، ولقد أسرتك من قبل وأنا راع صغير الشأن وأنت فارس مدجج بسلاحك، ثم سافرت في مساء ذلك اليوم وسلمتك إلى غيري ولا أعلم ما فعلوا بك في غيبتي وأنت أسير.
وزر :
ألم تك أنت الذي أمرت أن يفقئوا عيني؟
عنترة (وقد غير لهجته شيئا فشيئا) :
كلا، فإني لا أعرف أن أسيء إلى ضعيف، أما كنت أستغرب ما حصل لك منذ هنيهة؟ وكيف لي وأنا الذي ما زلت أحارب ورائدي الشرف ومبدئي النبل أن تعزو إلي هذا الجرم الفظيع دون عذر أو مبرر، أو يتهمني به عدو مقهور موتور نهش صدره الحسد؟ إنني فتنت بالحروب وهي صناعة كثير من الملوك ذوي الحول والطول وغيرهم من السادة الأمجاد الذين لا يستطيعون أن يشقوا لهم طريقا إلى الأفئدة ويعتقدون أنهم بالغوها بظبا البيض الصفاح، وهذا خطأ ظاهر وما فتئ الإنسان عرضة للخطأ.
أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتا وهم أحياء؟ كلا، ثم كلا، وأقسم بهذا الهلال الصدفي الذي بزغ في السماء، إنني لا أستطيع أن أقترف مثل هذا الإثم، إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة ... فهل تثق بي إذن؟
وزر :
أثق؟ نعم، أود أن لا أثق، إنني أبحث في قلبي وأفتش في ذاكرتي؛ لأن عندي أسبابا أخرى أهم وأقوى تبرر بغضك، مهلا (يناجي وزر نفسه على مسمع من عنترة)
إن كان ترك لك عينيك ولم يكن لك جلادا فهل كف أن يكون خائنا لكل عربي يحب حريته واستقلاله، إنه يريد أن يبيع ويسلم بلاده إلى الفرس. (ثم يوجه الكلام إلى عنترة)
وهذا ما أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه وموته في سبيل إنقاذ بلاد العرب.
عنترة :
هل نصبت نفسك حكما؟
وزر (وقد اطمأن شيئا فشيئا) :
لقد حكمت نفسي بكل الوسائل من سلاح وقول وكل ما يصلح للقتل والانتقام، أما تراني إذن جريئا سفاحا؟
عنترة :
عجبا لك! كيف يعرفون أن يشوهوا الحقيقة الحسناء! يخفون صورة الجمال تحت كثيف البراقع والأصباغ كالعجائز ينقشن وجوههن بالوشم ويتكحلن ويصبغن خدودهن بالحمرة ، يرون أن يزيدوا الجمال حسنا فيشوهونه، يجب أن تغمره الشمس وهو في صحة عريه فيتركونه في بساطته ووداعته ويزيلون هذه الصبغة الدميمة التي تحجبه.
اصغ لي يا وزر: فإني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى أن يبلغا نفسك السوداء، وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى صديقا للملك المنذر؟
وزر :
أنا؟
عنترة :
نعم أنت! وتعلم جيدا مقاصد هذا الملك.
وزر (بلهجة مرة) :
بلى، وهي وحدة العرب في يد ملك فرد، وهذا صحيح، ولكن ذلك لم يكن إلا حلما لذيذا.
عنترة :
ما هو الآن بحلم.
وزر :
وكيف؟
عنترة :
لقد تخلص وتحرر من نير الفرس وسأنضم إليه الآن ...
وزر :
تنضم إليه؟
عنترة :
وستظهر حكمة فرد آخر كطلوع الفجر ويؤيده الله بقوته فينشر قوله الأبدي، ألا تشعر بالأرض وهي تميد قبل انتشار هذا القول الذي سيميله على الناس رب قوي عظيم، لقد زلزلت الأرض زلزالها، واهتز النخل في الصحراء من عبث رياح السماء اللواقح، وأصبحت آمال الإنسان تتتابع مسوقة بنسيم الصبا كأسراب هائلة من بنات الهديل تنشد أيكا تحط عليه لتريح أجنحتها المتعبة فلا تعثر عليه، تسير تلك الأسراب حيارى مترددة لا رائد لها إلا المصادفات، ولكن المغرب سيتوهج شفقة بزخرفه وقد اقترب الزمن الذي ستتصل فيه الأرض بالسماء حتى يسمع أهل الدنيا كلام الله الكريم، كلاما ذهبيا في إطار الألفاظ اللجينية، وستهب قبائل العرب من كل فج عميق من فيافيهم المترامية الأطراف وقت طلوع هلالهم الفضي المتألق. (ينوه في هذه الفقرة عن اقتراب ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
ونزول القرآن.)
وزر :
أواه! إنني لأشعر باستنارة أمارتي بالسوء باحمرار الفجر وضوء اللهب، صبت عليكم اللعنات يا من خدعتموني! لقد قطع سهمي خيط حياته الذي تتعلق به آمال أسلافنا، وهذا الخيط الذي انتظمت فيه حبات المستقبل! يا لكم من خونة مجرمين! وإن قبره ستدفن فيه بلادي، عفوا وغفرانا!
عنترة :
لقد عفوت عنك وسامحتك ولكن هذا الجرم سيقع على من حللوه، وإن إثمك قد خط فوق الرمال وسرعان ما تمحوه الرياح، ولكن المجرم المحرض سيلاقي جزاءه في القريب العاجل إن امتد الأجل، وإني أحمد الله وأمجده وآمل أن يكون الجرح خفيفا.
وزر (بلهجة قوية وأنفاس مضطربة) :
ماذا تقول! هل أصابت طعنتي؟
عنترة :
لقد أصابت ذراعي وليس لها أقل تأثير.
وزر (وهو هائج) :
إنها لعظيمة خطيرة! فاسحقني بحجر من هذه الأحجار كما تسحق العقارب والأفاعي، ادفعني بقدمك بكل ازدراء واحتقار فإنني لا أستحق أية رحمة ولا شفقة، إنني لتعس شقي، وإن جرمي لعظيم لم يخط فوق الرمال، لقد نقش نقشا عميقا فوق جسمك الكبير الذي يماثل النحاس بصلابته بآلة الحقد والحفيظة، فاسحقني سحقا.
عنترة :
ولم هذا اليأس؟
شيبوب :
إنني خائف!
وزر :
هل اسود الجرح؟
شيبوب (وهو يزيح الثوب عن الجرح) :
نعم قد اسود.
وزر (وقد كشف عن صدره لشيبوب) :
انظر هل اسود جرحي مثله؟
شيبوب :
لا يفترق عنه.
وزر (وهو خائر القوى) :
هذا هو المنتظر، ولا يغني حذر من قدر، أي عنترة، قد اشتريت جرمي بحياتي، وإني أريد نجاتك ولا أستطيعها؛ لأن سهمي يحمل السم الزعاف بين أسنانه.
شيبوب :
ويل لك من شقي! ألا تجد له دواء؟
وزر :
هيهات هيهات.
شيبوب :
ولو يقف سير السم.
وزر :
لا ينجع فيه دواء.
شيبوب :
ولكن الأدوية كثيرة جدا.
وزر :
كلا، إن سمي لا دواء له وهو يندفع كالسيل، وهو هو الذي يقتلني، إنني أعالج سكرات الموت يا عنترة فاصفح عني وسامحني.
عنترة :
مت بسلام واطمئنان.
وزر :
ما العمل الآن؟ ويل لي من شقي! لقد نسيت، أسرع عنترة وفوت مالك وزوجك ورجالك من هذا المضيق، فإن عمارة الوغد الذي قادني إلى هذه المكان يتربص لقتلك، ومعه مائتان، وسيمرون من هنا.
عنترة :
إنني ما زلت قويا قائما على رجلي، فقل لي أين هم؟
وزر :
كلا، فلات ساعة لحاق يا عنترة والأفضل الهرب.
عنترة :
الهرب.
وزر :
ليس لك، فلا فائدة لك منه ترتجى، ولكن الآخرين فهربهم وإن ساعدك لكفيل بتهريب زوجك وعشيرتك؛ فعجل دون أن تنتظر أن يكفر موتي عن حياتي.
شيبوب :
أواه! إنك لن تموت .
عنترة :
لم يرد الموت أن يدركني في الحروب.
شيبوب (مهددا جثة وزر) :
ويل لك أيها الخائن!
عنترة (يمنعه) :
ولم هذه الإساءة للموتى؟ فلينم بدعة وسلام، وإن موتي لن يختلف عنه في الأجل والشكل، وسيموت كلب ضال وهو في عنفوان قوته دون أن يثب الوثبة الهائلة ليصل إلى الماء وينهل الحياة، ولما شحب لونه وأسلم روحه الصغير ومن يعلم لأي جلاد؟ مات من غلته أمام خرير الماء، كلا فإني سأثب هذه الوثبة مهما حل وحصل، وسأحيا، وسأحيا، إذ لا بد أن أحيا، أوقد النار يا شيبوب واصهر حد السيف أو الرمح، فإن السهم مهما بلغ أمره فلا يقوى على الحرق إذا ما تعدى الجرح، وإن مت فسأموت مختالا فخورا، ويخيل إلي وقتئذ أنني قتلت بالحديد. (وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت عيناه على جثة وزر.)
ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه وأصبحت جثة بمثابة نذير، إلهي إنما أنا عبدك وخادمك، إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتني هذ الميتة بل على الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصاد، يا لهذه الجثة! إنني وجل، وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء، ما انتابني قط الخوف فكيف حل بي الآن، وإذا كان الإنسان في الحروب مقداما جريئا فهل يكونه دائما في كل المواقف؟ (ثم يسوق الكلام إلى شيبوب)
هل تمكنت من مشاهدة عبلة وتطمينها؟
شيبوب :
إنها نائمة وتنتظرك وهي واهية القوى من وعثاء الرحيل والتأثر، والفضل لسلمى في تهدئتها.
عنترة :
ما أعزك علي يا عبلة!
شيبوب :
لقد احمر النصل.
عنترة :
يجب أن تضع النصل المصهور في الجرح دون اضطراب وارتعاش فإن حياتي معلقة به.
شيبوب :
وا أسفاه! ستتألم كثيرا.
عنترة :
كلا، احرق، احرق فإني لا أحب أن أموت (ثم يعري عنترة كتفه فيكوي شيبوب الجرح) . (ثم ينزل الستار.)
الفصل الخامس (عنترة - شيبوب) (يأتيان من المعسكر والوهن باد على عنترة وهو متوكئ على كتف شيبوب.)
شيبوب :
نعم، لقد بدد صوتك الشك عندهم ، والباقون سيستعدون لموالاة سيرهم.
عنترة :
ولكن هذا يوم الراحة الذي وعدوا به.
شيبوب :
لم أقل عنه شيئا البارحة، وقد أرجأت البت فيه إلى هذا الصباح.
عنترة :
ألا يدهش أحد من هذا السفر السريع؟
شيبوب :
كلا، وفضلا عن هذا فلا يعلم القريبون منا ولا البعيدون بمصابك، هل تشعر بتحسن؟
عنترة :
إن نسيم الصباح يطفئ قليلا الحمى، والكي وحده الذي يؤلمني، هل دفن ميت البارحة؟
شيبوب :
أجل، هناك بجانب تلك الخميلة.
عنترة :
إن الموتى مهما بلغ أمرهم لهم الحق في الراحة، ولننتخب الآن المكان الملائم لمشروعي، هناك، لا، بل بجانب تلك الهاوية فإنها مكان مكشوف قليلا، ويجب أن يتمكن العدو حينما يصل من رؤية عنترة حيا أو ميتا، والآن أيها الرفيق والأخ يجب أن نفترق في هذا المكان ولنرجع من هذا الطريق الذي كان بالأمس طريق الأمل، أما أنا فسأتمم حياتي وواجبي.
شيبوب :
ألا تريد إذن أن أنوب عنك؟
عنترة :
ولم يا شيبوب يحدث موتي ارتباكا في سير الأمور؟ وتصبح عبلة وسط هذا الاضطراب دون أنت تتمكن من الوصول إلى الملك؟ لا، بل يجب أن ينفع حتفي رجالي وعشيرتي ومجدي ويترك نقطا من الإبريز الوهاج في صفحات تاريخي.
شيبوب :
ولكنني سمعت أن لدى المنذر كثير من علماء الطب فتعال، تعال، ومن يدري؟
عنترة :
لقد فات الوقت، إذ بيننا وبين المنذر ثلاثة أيام، ولقد مات وزر بسرعة ولا مرد للقضاء.
شيبوب :
نستطيع أن نؤخره بجهد عظيم!
عنترة :
لا يمكن تأخير ساعة الموت، ولم هذا الجشع الذي ينقص الكرامة ويسقط الاعتبار؟ وصباح حافل بالحوادث خير من يوم عظيم خال ...
أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسا سقط عن جواده في ميدان المجد والفخار؟
شيبوب :
إنني أبكي قومنا جميعا، أبكي بلادك وأمتك وكل ما سيموت بموتك، عفوك اللهم وغفرانك!
عنترة :
إن مستقبل الأمة والبلاد لا يتوقف على فرد ولو كان فارس الزمان، أو كان ملكا دانت له الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، ولا شيء يوقف تقدم أمة، إنني أراها ترقى وتتقدم من المشرق إلى المغرب في ازدهاء كسف الكوكب الذهبي في فلكه، ولا يهم النسور المختالة حتى الخطاطيف ريشة تزيد أو تنقص من أجنحتها القوية!
شيبوب :
كلا يا عنترة! فإن هذه الفكرة لا تنطبق على ذويك.
عنترة :
حتى ذوي، إذ سيكون ألمهم شديدا ينفذ إلى سويداء قلوبهم، وكل شيء في الدنيا يتألم حينما يولد أو يخلق حتى الحبة تتعفن قليلا قبل أن تنبت، وما الحياة إلا ثمرة شجرة الموت، اذهب وارحل فلربما رأيتني في يوم قريب، وسأظهر لك مرة ثانية في الخيط الأسود الذي يخطه موتي في الموضع الذي مر فيه الزارع، وستنبت تحت قدميه الحبة التي بذرها، سافر واسهر عليها واحرسها أيها الصديق والحارس الأمين، ومن يدري ماذا سيكون شأن المولود الذي ستلده.
شيبوب (وهو ناظر إلى جهة المعسكر) :
اذهب وكن على رأس الجند ومر من المضيق.
عبلة (آتية من المعسكر وهي تعدو وشيبوب وراءها) :
أواه عنترتي، لقد فهمت كل شيء وحدثني به قلبي، لا تمكر علي فإن قلبي لقلب بطلة، ولو أنه تألم كثيرا ولكنه يستطيع أن يستمر في ألمه (ثم تقع على قدميه)
إنني لا أتألم إذا شاطرتك حظك، أما أنا ظل ارتبط بظلك؟
عنترة (وقد غالب آلامه) :
هذه زهرتي المسكينة قد أضجعها إعصار وهي مثقلة بماء السماء، انهضي فإن الشمس ستشرب وهي منحنية عليك عبرات حبك، لقد بدد الحديد المصهور كل خوف، وإني لأشعر بخفة وطأة الموت وأكاد أفلت من مخالبه، وإنك تستطيعين يا عبلة أن تذهبي وأنت مطمئنة مرتاحة البال، (ثم يقول بلهجة حنان وتأثر)
هذا واجب عليك، وإن لك غرضا يجب أن يكون نصب عينيك، ستبتهج له نفسك وهو أمل عظيم يتوج المرأة ويولد الغد من أسراره الخفية، وحبذا لو نضجت ثمرة حبنا يا عبلة، وإن مت وجب عليك أن تضاعفي حبك لهذا المخلوق الصغير (ثم يبتسم) ، ولكن ما العمل؟ وكأني أحزنك وأقطب جبينك وأسعد عبراتك، ولكن كل شاعر حزين الفؤاد ولو من غير ما داع ولا سبب.
عبلة (تنهض وهي منهوكة القوى مصعدة الزفرات) :
سأرحل ولكنك لا تخدعني، وأعلم أن كل لحظة أو خطوة تبعدني إلى الأبد عن وجهك ونظرك المملوء بالعطف والحنان، ولا تقل عنك شجاعتي وسأذهب طائعة، وأتمنى أن ألد ولدا يثأر وينتقم لأبيه، وإني أحب الحياة لأجلكما، وهل يساعدني الحظ على نيل هذه الأمنية؟
عنترة! إنني كالسكرى من هذه الضحية وذلك الألم، فالوداع الوداع! وآمل أن لا تلين عبراتي من قناتك، ثم يتعانقان.
عنترة :
الوداع الوداع يا بنت الأمير النبيل سلالة الأبطال الأماجد الذين يقابلون الأهوال بعيون كعيون النسور القشاعم، إن دم أسلافك لا يكذب كما يصدق دم راعيهم القديم الذي نال الشرف اليوم (ثم يصطحب شيبوب عبلة) .
اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، إن نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا، وسأبذرها في الهواء لتكون ذرات حياتي هذه بمثابة حرس عظيم، ثم أحرسكم جميعا فيما بعد من أعالي السماء. (ثم يعود إليه شيبوب.)
شيبوب :
يا لك من مسكين! يجب أن تلحق بها في أقرب وقت، هيا بنا فإنني تام العدة والسلاح، وهذه آخر واقعة أخوض غمارها ويلزمني أن أستعد لها كالفوارس البواسل وأتلقى الطعنات إلى أن أقع مضرجا بالدماء.
عنترة :
شيبوب! يا أخي وزميلي في الحروب لنتعانق دون ضعف أو أسف لا يجدي ولا ينفع، وعيون جامدة لا تعرف أن تدمع. (ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ويذهب.)
سأموت الآن بغير شهود ونعم ما فعلت، إنني أستطيع الآن أن أعبر عن آلامي ويتسنى لعيني أن تبكيا دون أن تسيل عبرات الآخرين، لقد خارت قواي ولكني ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفي وآلامي (ثم يخترف شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه عنترة) .
والشمس لا تفترق عنا، إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت، أيتها الشمس اذهبي إلى ذوي وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة وفي الممات، الوداع يا أماني الحب والمستقبل الزاهر، أواه! إنني أشعر أن البرد يغير علي شيئا فشيئا، وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني؟! هل هذه وطأتك أيها الموت ؟ مهلا مهلا، فإني أنا الذي أهاجمك وأشد عليك دون وجل، لأمتط الجواد والرمح في يدي كما كنت من قبل، وسأجبرك أن تخضع لأمري وسيقود ذراعي سيرك الأعمى الأحمق. (ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير)
والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق، يخيل إلي أني أنام نوما هادئا وأرى سربا من الطير آتيا من المشرق، يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود، ولكنه حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها أيام الأمل والحب والحرب، إن الماضي يعرض أمامي وأرى أول الكفن، أي أيام الطفولة، إن خيوطك لمن خز وعسجد وأنت وحدك اللامعة الزاهية، إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، وهذا كفني يطويه الموت بأصابعه وهو يدفنني في طيات حياتي، لا تتحرك يا عنترة، يجب أن يراك العدو حينما يقبل مستعدا للكفاح. (ثم يسلم النفس الأخير ويميل برأسه ويبقى جسمه منتصبا معتدلا مستندا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة، وفي هذه الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة، فلمع سلاحه وهو راكب جواده.)
عمارة :
آه! إنه لحي لم يمت.
الباقون (وهم يولون الأدبار مذعورين) :
حي. (ينزل الستار.) (3) الغادة ذات الكامليا (3-1) تحليل ونقد
ألكسندر دوما الصغير، علاقته بماري دوبليسي، فضله ومكانته في التأليف التمثيلي، الغادة ذات الكامليا، لاترافياتا، ترجمتها إلى العربية، تمثيلها بمسرح رمسيس، يوسف بك وهبي والسيدة روزاليوسف وعزيز أفندي عيد.
ولد هذا الكاتب الشهير بباريس سنة 1824 وتوفي سنة 1895، وكان ابنا دعيا للروائي الشهير دوما الكبير، وكان جده الجنرال دوما هجينا دعيا أيضا، إذ حملت به أمه وهي إحدى زنجيات جزيرة هاييتي من المركيز لابايتري بلا عقد بمدينة جيريمي بهاييتي وهي إحدى جزر الأنتيل، وما أردت سرد هذه الأسرار إلا لأبين نفحاتها على المؤلف وتأثيرها العظيم في رواية الغادة ذات الكامليا ودفاعه عن النساء الساقطات؛ لأن هذه المسألة هي «قضيته الشخصية».
يعد المترجم له من أقدر الكتاب في الروايات القصصية والتمثيلية في القرن التاسع عشر، ومن مزاياه أن يهيمن احترامه على الجمهور في المسرح ويواجهه بصدماته ويسيطر عليه ويخضعه، تمثيله ذو نشاط وعمل وسرعة حماسية وروح جذابة في التعبير، لغته تنم عن القوة والثبات، ومحادثاته المسرحية ملأى بالحماسة وتبهر بنكاتها الأدبية.
ولع دوما بالنظام والظرف، واشتهر بطلاوة أسلوبه في المحادثة والقصص، كما أنه كان من المولعين بالفنون الجميلة، وكان رقيق الشعور يتألم من الرذائل والمساوئ ويحاربها بعزيمة ماضية لا تعرف الملل، وقد أعطى لغته شكلا اجتماعيا وأخلاقيا عظيما، وكان غرضه الذي يرمي إليه تعضيد المجتمع الإنساني بإصلاح الأسرة التي يجب أن تؤسس على الحب لا على المال، وحينما كان يحارب الأوهام الفاسدة يشتبك مع الجمهور في حرب عوان، ولكنه لمهارته وجرأته وشدة عارضته وقوة أحكامه المنطقية وما وهب من الاستعداد أصبح واثقا من الانتصار عليه والظفر به، حتى أصبح من أنبغ الروائيين في القرن التاسع عشر. (3-2) ماري دوبليسي
كانت تعرف أيضا باسم الغادة ذات الكامليا؛ لأنها كانت مفتونة بأزهار الكامليا وتزين بها صدرها وآنيتها، واشتهرت بجمالها وعيشة البذخ والترف، وقد ولدت بمدينة «فوان» بمقاطعة «أرون» سنة 1824، وماتت بالسل بباريس سنة 1847 وهي في ربيعها الثالث والعشرين، وقد هام بها دوما الصغير واتخذها صاحبته وخلد ذكرها بروايته القصصية والتمثيلية. (3-3) الروايتان القصصية والتمثيلية للغادة ذات الكامليا
كتب المؤلف روايته القصصية سنة 1848، ولا حاجة لذكر الموضوع فقد سبقني كثيرون وذكروه في تقاريرهم بل أكتفي الآن بتحليلها.
يتساءل الناس: لم حازت هذه الرواية هذا القبول والنجاح وأبكت السامعين مع أنها ليست بأعظم ما كتب المؤلف؟ فنجيب بأن هذه الرواية هي تاريخ حقيقي للمؤلف مع صاحبته ماري دوبليسي، ودفاع مجيد عن قضيته الشخصية وعن حبيبته، فهي تفتن بسرعة ارتباط الحوادث ببعضها، وإنشائه السهل الذي لا يشوبه تكلف، وعواطفه المتأججة.
وقد انتقد البعض المؤلف ولاموه على تعضيد نظرية فاسدة ضارة بالنظام الاجتماعي، وهي تجديد شرف الساقطات بحب الشريف من الرجال، ولكنه ليس بأول كاتب اتبع هذه النظرية وقد سبقه كثيرون من زمن مديد، ولم يعد دوما هذه النظرية بشكلها القديم ولكنه أتانا بشكل حديث مؤثر حتى استطاع أن يبكي العيون الجامدة، وما وسع الناس بعدئذ إلا أن يهنئوه ويفخروا به.
ثم استخرج روائينا من تلك الرواية رواية تمثيلية مثلت لأول مرة بمسرح الفودفيل في 2 فبراير سنة 1852 وقد أحدثت انقلابا عظيما في فن التمثيل، ولم تك هذه الرواية جديدة بالنسبة لموضوعها أو فكرتها أو لأن الكاتب اختار موضوعا جديدا في مذهب «الرومانتسم» وهو استرداد اعتبار البغي وأعاد «ماريون دولورم»؛ بل لأنه أتي بشكل جديد وأظهر على المسرح مناظر وملابس الحياة الحاضرة، وأسس كوميديا الأخلاق الحديثة التي تشمل أخلاق العصر الحاضر في دائرتها وشكلها الحقيقي؛ ولذلك اقتفى أثره أغلب كتاب الروايات التمثيلية الذين انضموا في سلك مذهب «الريياليسم»؛ أي مذهب الحقائق.
كل هذه الظروف والاعتبارات التي شملت هذه الرواية جعلتها أكثر تداولا من جميع روايات المؤلف ولو لم تكن أهمها؛ لأن روايته الأخيرة «فرنسيون» التي مثلت لأول مرة سنة 1897 تعد صفوة مؤلفاته التمثيلية، وقد مثلها الممثل الشهير «ألوبارجي» بالأوبرا الملكية من خمس عشرة سنة تقريبا.
وكانت بعض روايات «دوما» يشوبها شيء طفيف من العيوب لتقليده للروائي الفرنسي «سكريب»، والخشونة في بعض المواضيع، والتكلف، والأحكام المنطقية التي تبعد من المعقول أحيانا، ولكن هذه الشوائب تبررت بظهور «فرنسيون» ودلت على نفحات جديدة أتت من فج عميق وأسعدت كاتبنا بهذا الرقي الباهر. (3-4) لاترافياتا
استخرج فردي من رواية الغادة ذات الكامليا الأوبيرا المسماة «لاترافياتا» وهي من أحقر مؤلفاته، وقد سقطت سقوطا أبديا من أول يوم مثلت فيه في «البندقية»، وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، إذ اعترف فردي نفسه بسقوطها، ونكتفي بسرد خطاب له كتبه في 9 مارس سنة 1853.
عزيزي لوكاردي
لم أكتب إليك بعد التمثيل الأول «للاترافياتا»، وإني أكتب إليك الآن بعد التمثيل الثاني، ولقد كانت النتيجة سقوطا بل سقوطا تاما ولا أدري على من يقع الخطأ؟ وأفضل الأمور السكوت، كما أني لا أريد أن أقول شيئا عن الموسيقى ولا أتكلم عمن ساعدوني.
فردي (3-5) ترجمة الرواية
ليت شعري! هل يجد الإنسان ما سردناه من المزايا النادرة من تلك البلاغة الساحرة، والتحاليل البسيكولوجية والأخلاقية، والفكاهات الرقيقة، والروح اللطيفة، والأبحاث الاجتماعية، والعواطف الملتهبة، والفن التمثيلي الذي يهيمن على السامعين بتأثيره ونظامه في الترجمة العربية؟
كلا ثم كلا، إذ لم يقدر المترجم شيئا من تلك المزايا بل أبرز لنا شكلا لا يزيد عن الهيكل العظمي للرواية بعبارة ركيكة. (3-6) تمثيل الرواية بمسرح رمسيس
أول شيء لفت نظري حينما فتحت برنامج الحفلة هذه الجملة: «تفتتح الحفلة بمارش رمسيس تأليف وتلحين يوسف بك وهبي»، فقلت: هذا فضل جديد كنت أجهله وانتظرت على جمر الغضا توقيعه، ولكن سمعنا لحنا غريبا ضئيلا مريضا واستغرب منه صديقي أيضا الذي كان بجانبي، وهو من المولعين بالموسيقى والتمثيل وله ذوق عظيم فيهما.
رفع الستار في الليلة الأولى في الساعة التاسعة والنصف، وانتهى التمثيل في الساعة الثانية صباحا، وهذا حالنا دوما نحن معشر المصريين لا نظام لنا ولا ترتيب.
رأيت المناظر والملابس جميلة ولكن ينقصها كثير من الذوق السليم لا سيما ملابس النساء وترتيب شعورهن، إذ كان يسود عليهن الشكل «البلدي» ونسين أنهن يمثلن نساء باريسيات!
إن ما رأيته في تمثيل هذا الجوق لا يمتاز بشيء محسوس عن الأجواق الأخرى التي تفككت أو الباقية إلا بالملابس والمناظر، ومن العيوب السائدة فيه عدم حفظ الأدوار والاستعانة بالملقن، كما أن الإشارات والحركات رديئة خصوصا عند السيدات، وكانت السيدة فاطمة رشدي ذات حركات «بلدية»، وقد لفتت الأنظار بالضحك وقتما كانت تشرح كيف خسر زوجها المحامي قضيته، وحكم على الذي دافع عنه بالأشغال الشاقة، إذ كانت تحرك كتفيها ويديها وتضرب على كفيها، وكان على مقربة مني أحد الشبان الراقين من المشتركين في الأوبرا الملكية، فقال: «أظن أن القضية كانت أمام محكمة الأزبكية.» فأغرق الحضور في الضحك لهذه النكتة الظريفة التي تناسب المقام.
أهم أدوار الرواية ثلاثة وهي: دور أرمان ليوسف بك وهبي، ومرجريت لروزاليوسف، ووالد أرمان لعزيز أفندي عيد، دخلت المسرح وكلي آمال واشتياق، ولكن ما لبثت أن خابت كل الظنون وشككت في أنه درس دراسة تامة ونال بعدها دبلوما، رأيت فيه جمودا في الجسم، إلقاؤه يكاد يكون على وتيرة واحدة خال من العواطف، حتى إن تمثيله وسحنته لا يدلان على شيء منها، وربما كان أليق قليلا في نوع آخر كالحزن أو الكلاسيك أو غيره، وهذا ما لا أستطيع الحكم به قبل مشاهدته.
وإذا قارنا بينه وبين عبد الرحمن أفندي رشدي وجدنا الأخير أميز بمراحل، ولو أنه لم يتلق التمثيل على أحد بل درسه من كثرة مشاهدة الأجواق الأجنبية المشهورة التي كانت تؤم البلاد، كانت روزاليوسف أمهر من باقي الممثلين في عدم التكلف في حركاتها وإشاراتها، وقد أبكت كثيرا من الحاضرين واغرورقت عيني ولو أني لم أعجب بتمثيل الرواية بعدما شاهدتها من كثير من مشاهير فحول الكوميدي فرنسيز ممن زاروا مصر.
والذي ينقص الآن هذه الممثلة نشاط الحركات وقوة الصوت وسرعة الإلقاء، وقد سمعتها منذ اثنتي عشرة سنة في نادي الألعاب الرياضية هي وعزيز أفندي عيد تمثل «يا ست ما تمشيش كده عريانه»، وكانت وقتئذ نشيطة في الحركات رشيقتها رنانة الصوت، أما عزيز أفندي عيد فلا يليق إلا للنوع المضحك، وكان دوره في والد أرمان رديئا جدا بعيدا عن مهابة الآباء وحنوهم ورزانتهم بصوت خشن أبح وحركات مضحكة، وقد ترحمت على أبي العدل أفندي وقلت: حبذا لو كان حيا ومثل لنا هذا الدور الذي لا يحسنه غيره.
وأملنا أن يعطي وهبي بك لهذه الملاحظات عناية تامة ويحسن اختيار الروايات وتعربيها.
الأبحاث الموسيقية
(1) الموسيقى في مصر
لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من الضروريات عند كل الطبقات، وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية، وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية والرقي.
الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له؛ لأن كثيرا من الحالات النفسية العميقة لا يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلا سهلا:
إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟ أعد الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ علامات الحزن على وجهه ، ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق الشعور.
إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان أولى بها أن تسمى لغطا وجلبة تصدع الرءوس وتسئم النفوس.
لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيبا يقارب الضروريات، ولكنها متقهقرة في الموسيقى، ولم نر واحدا من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال، ولا يتأتى بلوغ هذه الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كاف من الثقافة العامة ولا سيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة؛ لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان العواطف.
إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتربوان، وتوزيع الموسيقى على الآلات؛ نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الأرموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية، أما الكونتربوان فإنها تتمشى مع موسيقانا ولا تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة.
إن موسيقانا لا تتعدى على الجملة: الضروب والمقامات، وهي لا تؤهل الإنسان للتلحين ما لم يكن الموسيقار قد وهب استعدادا طبيعيا وموهبة فنية وذوقا سليما كالشيخ سلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عثمان، وبهم استرشد ومنهم اقتبس جميع ملحنينا العصريين.
المشتغلون بالموسيقى في مصر هم المحترفون والهواة وصبية رياض الأطفال وصبيات السنتين الأولى والثانية من مدارس البنات الابتدائية والجيش والبوليس والملاجئ، وسنتكلم عن كل طائفة منهم.
إن المحترفين من عازفين ومغنين ومنشدين وملحنين يقنعون بالوصول إلى درجة متوسطة أو دونها، وليس عند أغلبهم ميل إلى الفن، والغاية التي ينشدونها هي كسب العيش بدرجة يغبطون عليها من القناعة.
والهواة من الشبان يكتفون بحفظ بعض البشارف والسماعيات وجانب من المارشات والأدوار دون أن يهتموا بقواعد الفن وأصوله.
وأما الفتيات فأغلبهن يتعلمن منهاج المرحومة ماتيلده على البيانو ويقلقن به الجيران إلى ما بعد منتصف الليل ، ولا يعزفن نوتة واحدة.
ويستثنى منهم أفراد قلائل من الشبان والفتيات بلغن غاية عظيمة ويقولون دائما: هل من مزيد؟ ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
اغتبطنا حين رأينا مدة انعقاد المؤتمر الموسيقي أطفال رياض الأطفال ومدارس البنات الابتدائية يمثلون قطعا استعراضية تمثيلية غنائية في غاية من الرواء والإتقان، ويمثلون أدوارهم برشاقة واسترسال، ويغنون ألحانها غناء صحيحا شجيا، وقد أعجب بهم أعضاء المؤتمر أيما إعجاب، ويسرنا أن نرى وزارة المعارف مهتمة بتنفيذ قرارات المؤتمر الذي أوصى بنشر التعليم الموسيقي في المدارس الابتدائية والتجهيزية، إذ قررت الوزارة في هذا العام تعليم بنات السنة الثانية من المدارس الابتدائية.
أما موسيقى الجيش والبوليس والملاجئ فقد ترقت كثيرا في السنوات العشر الأخيرة ولا سيما موسيقى البوليس فإنها تعزف كثيرا من القطع الإفرنجية ومنتخبات الأوبرات المشهورة، فضلا عن القطع العربية الراقية، كما أنهم اهتموا بتوحيد طراز آلاتهم حتى يكون فيها انسجام، وهم يعزفون عليها بلباقة وحسن تعبير ورقة لم تكن موجودة فيما مضى.
وإني أورد مثالين يظهران شدة الاهتمام بالموسيقى والتضحية العظيمة في سبيلها:
كلنا نعرف هكتور برليوز أعظم موسيقي أنجبته فرنسا، وكان في أول أمره طالبا في مدرسة الطب، وكان أبوه طبيبا فلم يجد الولد في نفسه ميلا إلى الطب ورجا والده أن يدخله في معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل الكونسرفاتوار، فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فاضطر أن يعطي دروسا موسيقية بفرنك واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع الرومانتيسم في الموسيقى في فرنسا، والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى بدرجة لا تجدها في المصريين.
كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جمعيه في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى لجمع «البجم» من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة.
كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع والكسيلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الأحجام والكيزان الصفيح المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث «دوكة» مخصوصة وقت التوقيع، وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم نصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة.
إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن تزين بها تيجان الملوك.
إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو أكثر من مائة وزن (الضروب)، ولكن أين النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين.
إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الألحان القديمة ثم يخلطونها بشيء من الموسيقى الإفرنجية المنحطة التي نسمعها في أفقر المقاهي الإفرنجية، ويظنون لسذاجتهم أنهم جددوا الفن ونهضوا به، وما دروا أنهم شوهوه وفضحوه، وهذا جرم كبير لا يغتفر، عيرنا به كثير من المستشرقين.
كانت الموسيقى المسرحية قد خطت أول خطوة في سبيل النجاح، ولكن القائمين بأمرها لم يحسنوا إدارتها، وكان ينقصهم الحزم والتدبير والذوق الفني؛ فلذلك فشل المشروع في عامه الثاني واستمرت الموسيقى المسرحية في التمثيل الهزلي، والحمد لله قد نشطت هذه المسارح وسارت في سبيل الرقي لولا ما يصادفها من عقبة لم تذلل وهي ندورة المطربين والمطربات الحائزين للأصوات الجميلة القوية الرنانة والثقافة الموسيقية الصحيحة.
إننا معشر المصريين مقصرون في تجميل بيوتنا وإنعاشها بالفنون الجميلة حتى نسكن إليها بعد عناء العمل، ونجد فيها من وسائل السرور والأنس ما ينسينا آلامنا وينعشنا ويجدد قوانا.
نجد الأسر الإفرنجية تهتم بتعليم أبنائها الموسيقى، وتعنى ربة الدار بنظام الحديقة وتنسيقها حتى تصبح جنة مصغرة ترتاح إليها النفوس المتعبة، وفي المساء تجتمع الأسرة فتحيي حفلات موسيقية ترقص لها القلوب وتنسى فيها الهموم والآلام.
أما بيوتنا التي تجردت من جميع مظاهر الجمال والأنس حتى نفرت منها النفوس، ولم يطق الأبناء أن يطيلوا المكث فيها فينصرفون إلى المفاسد من تجوالهم ومعاشرة ذوي الأخلاق الضعيفة، فلا يلبثون أن تتسرب إليهم عدوى الرذائل ويصبحون في عداد الحشرات المؤذية.
إن الموسيقى لغة القلوب، ومهذبة الأخلاق، ومرققة الطباع، ومبددة الهموم والأشجان، وخير لنا أن نهتم بها في أوقات فراغنا ونسعى في رقيها حتى نعيد عصر زرياب وإسحاق الموصلي. (2) بيتهوفن «للفيلسوف العظيم والكاتب الكبير إيبوليت تين»
يلزمك يا ولهلم أن توقع لي الآن السونات التي من مقام السول مينور، ألا تعرف المؤلف؟
إن الموسيقى لها هذا التأثير الفتان؛ لأنها لا توقظ فينا أشكالا مثل المناظر الطبيعية وسحن الناس والوقائع والمواقف الممتازة، بل تثير حالات النفس كأنواع الفرح والكآبة ودرجات الانقباض والانتعاش ومنتهى البشاشة أو البث القاتل الذي تضمحل أمامه القوى، تطرد جميع الفكر فلا يبقى إلا أعماق النفس والقوة التي لا نهاية لها؛ وهي اللذة والألم وهياج وهدوء الخلقية العصبية الحساسة والاختلافات والانسجامات التي لا تحصى في اضطرابها وسكونها، كما لو نزع من بلاد أهلها وطمست معالمها ومحي حرثها فلم يبق إلا الثرى وأغواره وأطواده وصرير الرياح وخرير الأنهار والشعر الأبدي المتباين للنهار والليل.
لم أكن مصغيا لك ومسايرا؛ لأني كنت أفكر، فأرجو منك أن تعيد القطعة الثانية التي من المقام الكبير (الماجور).
بيتهوفن.
فأعاد هذه القطعة الثانية وهي مشجية مؤثرة، فكان الغناء ذو الأصوات الرائقة البلورية تزحف فوق الأصوات المؤتلفة فيختفي ثم يظهر وينشر التفافه المتموج، كجدول ينساب وسط المروج فيخيل إليك في بعض الأحيان أنه أنين الناي، وفي الغالب تكون كصوت رخيم شجي لعاشقة حزينة، وتارة ينقطع هذا اللطف وتلك الرقة وتظهر ثانية النفس الهائجة وتثب أنغامها ثم تهوي كماء يتحدر بين الجنادل أو كأهواء نفس رقيقة أو كأصوات رنانة لها انسجام غريب، ثم تسقط كل هذه الأصوات وتختفي ثم تصعد جموع من أصوات صغيرة خفيفة الحركة ثم تهبط وتتابع كأنها ارتجاف أو اضطراب أو خرير ماء شجي.
ولتقود اللحن إلى مجراه الأول كانت الأنغام ترجع إلى سيرها الموزون، وكانت لججها الرائقة تجري للمرة الأخيرة وهي أكثر تعرجا وأعظم مما رئيت في موكب من أصوات رنانة فضية، اضرب دائما من بيتهوفن يا ولهلم ولكن أطل في هذه المرة واضرب كل ما يخطر ببالك، فاستمر أكثر من ساعة، ولم أنظر ساعة الحائط، وكنت في هذا اليوم مفتونا بالسماع ومكبا عليه أكثر منه.
وقد ضرب في بادئ الأمر اثنتين أو ثلاثا من السوناتات بأكملها ثم أعقبها بقطع من السانفوني والسوناتات المخصصة للبيانو، والكمنجة ولحن من فيدليو وقطعا أخرى لا أعرف أسماءها.
وكان يصل هذه القطع المتفاوتة ببعض أصوات متوافقة منسجمة، وبعض سكتات كقارئ فتح ديوان شاعره المحبوب، فتارة يقرأ في وسطه وطورا يقرأ في آخره، فينتخب أحيانا فقرة ثم يبحث عن غيرها حسب تأثره الوقتي.
لبثت مصغيا لا أتحرك وما فتئت عيناي تحدقان بالمدفأ فتنبعث حركات هذه النفس العظيمة التي انطفأت كما يتفرس الإنسان في سحنة حية ليقرأ ما ارتسم عليها من العواطف، إنها لم تخمد إلا في ذاتها ولكنها ما زالت أمامنا حية خالدة في بطون هذه الأوراق المسطورة، إن الشهرة العامة تكون في مكانها ظالمة جائرة! ولقد عرف بأنه أمير الموسيقى في العظمة الهائلة والآلام المبرحة، وقد حددت هناك مملكته، ولم يمنح من الملك غير أرض مقفرة اكتنفتها الأعاصير الهوج فأصبحت يبابا فخمة تماثل الأرض التي عاش فيها «دنت»، إنه يملكها ولا يستطيع موسيقي غيره أن يلجها، وقد استوطن غيرها.
إن أجمل وأنضر رياض الخلاء، وقد أنبتت من كل زوج بهيج، وأعطر الوديان الباسمة ذات الظلال الوارفة والأزاهير الرشيقة الفيحاء، وأرق نسمات السحر العليلة الخجلة، كل أولئك ملكه وفي حوزته، ولكنه لا يدخل فيها نفسا وديعة هادئة؛ لأن الفرح كالألم يهزه كالريشة في مهب الريح.
إن إحساسه اللذيذ عنيف وما هو بسعيد بل مذهول، مثله كمثل رجل قضى ليله حليف الهموم والأشجان فأصبح يلهث من الألم وظل يخشى أن يفاجئه نهار أسوأ من ليله، لمح فجأة منظرا طبيعيا جميلا عليل النسيم مخضلا بالندى فارتجفت يداه وتنهد تنهد من تخلص من كروبه واعتدلت جميع قواه بعد انحنائها ورزوحها، واندفاع سعادته لا يذلل كوثبات يأسه، تتهافت نفسه على كل لذة، سعادته مؤلمة وما هي بهنيئة. إن قطعه التي كتبها من سرعة «الليجرو» تقفز كالأمهار الطلقة فتعبث بالمروج الزاهرة وتهشم ما تصادفه وقت جماحها، وأشد وأعنف منها قطعه التي من سرعة «برستو» ولها جنون لذيذ ووقفات فجائية مختلجة، وقطع تماثل سرعتها خبب الجياد ولكنها غير منتظمة ويطرق «فوجها» الرنان على ملامس البيانو، وبينما تراه وسط فرحه الأحمق، إذ سطا الجد الفاجع فلم يغير سيره ويهجم عقله إلى الإمام بنفس العنف كأنه يخوض غمار المعمعة، وهو ثمل دائما بعنيف سرعته ولكن بوثبات غريبة وخيال خصيب، حتى إن المشاهد ليقف مذعورا من عنفوان هذه الحياة الوحشية وكثرة هباته وحركاته الفجائية، وجماح تنويعاته غير المنتظرة التي تنقطع وتتضاعف بشكل لا يبلغه التصور ولا يخطر على البال، وكل ذلك يعبر عن تلك الحياة دون أن يستنفدها ...
ثم قال لي ولهلم: «الآن أعرني إصغاءك» ثم ضرب القطعة النهائية من السونات الأخيرة.
إنها لجملة تتركب من سطر واحد بطيئة تعبر عن حزن لا حد له، تتردد بدون انقطاع كتأوه طويل، ويسمع تحتها أصوات مختنقة متسلسلة، وكل لهجة تمتد على ما يتبعها ثم تخفت وتغيب كمثل صيحة انتهت بتأوه؛ بحيث إن كل شعور جديد بالألم كان يحفه موكب من الشكاوى القديمة، وكان يميز وسط أنين الشكوى المرة الصدى الخافت للآلام الأولى، ولست ترى في هذه الشكوى غضاضة أو غيظا أو هياجا.
إن القلب الذي أصدرها لم يعترف بأنه بائس تعس، ولكنه اقتنع بأن السعادة مستحيلة، وإنه ليجد الدعة والسكينة في هذا الاستسلام والخضوع كمنكود سقط من عل فتهشم، فطفق ينظر إلى الجواهر المتلألئة في السماء والتي رصعت بها قبة ليلته الأخيرة فينفصل عن نفسه وينسى واجبه، ولا يفكر مطلقا في إصلاح ما استحال إصلاحه، ويسكب صفاء الأشياء الإلهي في نفسه لطفا خفيا ويفتح ذراعيه اللتين لا تستطيعان أن تنهضا جسمه المتحطم، ويمدهما صوب الجمال الخالد الذي يلمح خلال هذا العالم المحفوف بالأسرار.
نضبت عبرات الألم دون أن يشعر لتمهد ذرف دموع نشوة النفس وقت تجردها، وبالحري ليندمجا في قلق مزج بالملذات.
وفي بعض الأثناء ينفجر يأسه فلا يلبث أن يفيض الشعر، وتنتشر الألحان الحزينة الفاجعة وهي ملفوفة بأصوات مترافقة فخمة لا يدركها الوصف، ثم يطفو العظيم منها ويغطيها جميعا بانسجام مؤثر.
وفي النهار بعد جلبة عظيمة ومعركة عنيفة يبقى العظيم وحده وتتحول الشكوى إلى نشيد لتمجيد الخالق يدور بصوت رنان وهو محمول وسط أنغام ظافرة، وتسمع حول الغناء في الأصوات الغليظة والحادة من البيانو جموعا كثيرة من الأصوات السريعة المشتبكة المنتشرة انسياب نشيد الاستحسان، وهو ينمو وينتفخ ويضاعف بدون انقطاع وثباته وفرحه، إن ملامس البيانو ليست بكافية، إذ لا يوجد صوت لم يشترك في هذا الاحتفال، فالغليظة برعودها، والحادة بتغريدها، قد تجمعت كلها في صوت واحد، إنها واحدة ومتعددة كالوردة الرائعة التي رآها «دانتي» وكانت كل وريقة من تويجها روحا سعيدة.
ولقد كفى غناء مركب من عشرين صوتا لتأدية تأثرات متباينة (تركنا هنا جملة لم نستحسنها، إذ كلها تشبيهات بأقسام الكنيسة واصطلاحاتها الدينية التي لا نجد لها تعريبا، وهي في ذاتها لهذا السبب عديمة الأهمية).
الرغائب والأماني قوة لا تغلب ولا تقهر! ولقد حاولوا إخضاعها بلا طائل وما فتئت منابعها جارية، ولقد تكدست على المنبع جهود ثلاثين عاما من أعمال وحساب وتجارب فظن أنه جف ونضب، وما لبث أن مسته نفس عظيمة حتى تفجرت ينابيعه وكانت أشد من أيامها الأولى فتحطمت الجسور، ولما طغى الماء اكتسح التيار المواد الثقيلة التي سد بها المنبع فزادته قوة فوق قوة، ومن غريب المصادفات أنني رأيت ثانية في هذه الآونة مناظر الهند الطبيعية وهي وحدها، بما أوتيته من العنف والتضاد، حرية بأن تعد الصور لمثل هذه الموسيقى.
وحينما تهب الرياح الموسمية وتتكاثف السحب المربدة فتكون سورا هائلا كسواد القدر يغير على الزرقاء والدأماء، وفي هذه الأكداس الفحمية تطير أسراب من النوارس لا يدركها الحصر، وترى ذاك السواد المرعب وقد شابته هذه الأجنحة البيضاء يزخف على الغبراء ويلتهم الفضاء ويغرق رءوس الأرض في أبخرته.
أبحرت وقتئذ السفن، وفي آخر يوم جميل رأيت على بعد جزائر «ملاديف» وهي اثنا عشر ألف جزيرة صغيرة من المرجان في بحر من الماس وجميعها تقريبا مقفرة، نام الماء في خلجانها الصغيرة فزان رصفها بهداب من لجين.
وترى الشمس ترشقها بوابل سهام من نار وبمنعرج قنواتها ينساب ذوب النضار فيفجر اللجج الماثلة، وكأن البساط العظيم السائل وقد تشقق من اضطراب الأمواج معدن مطروق مطعم بالأشكال العربية، وقد لمع البرق فوق ظهر اليم بآلاف من وميضها لا يدركها العد كما تتألق الجواهر على الدروع المرصعة، فكأنها كنز لأحد ملوك الهند من أسلحة وحلي وخناجر مقابضها من الصدف، وملابس مرصعة بالصفير، وخوزات محلاة بالزمرد، وأحزمة مزينة بالفيروز، وإستبرق لازوردي موشى بخيوط الذهب ومرصع باللآلئ.
بماذا نقارن هذه السماء البيضاء الناصعة؟ هل رأيت غادة تختال في برد شبابها وصحتها وهي تنتفض من رجة الملذات وقد تحلت بأفخر مظاهر الزينة ليلة زفافها وأنشبت مشطها العسجدي في شعرها، وازدان جيدها بعقود اللآلئ، وتدلى من أذنيها قرطان من ياقوت، وحينما يضيء لألاء هذه الجواهر ورد بشرتها الحي يعلق في أغلب الأحيان على جبينها نقابا أبيض خفاقا، غير أن وجهها يملؤه بنوره، وترى ثوبها الرقيق الأبيض الذي يخيل إليك أنها تختبئ فيه وقد صار لها فخرا زائنا.
وهذا مثل ذلكم البحر وقد أظلته تلك السماء بضوئها الوهاج الذي ينساب كالماء بعد تباين ألوان السحب الرصاصية حتى أصبح شائقا فخما، كاللحن الديني الشجي الفتان للرجل العظيم بعدما جالد اليأس في ظلامه الحالك، إن ذاك اليم يهيج نفوسنا كما يوقظه فينا ذاك الرجل العظيم ، وسواء أكان في حضرة هذا أو ذاك ينقطع استماع ونظر الأشياء المنفردة أو الكائنات المحدودة أو شطر من أعمال الحياة، إن موسيقاه لهي النشيد العام للأحياء الذي يشعر فيه بالتنعم أو الشكوى؛ بل إنها النفس العظيمة وما نحن إلا فكرها، إنها الطبيعة بأكملها قد جرحتها الضرورات فشوهتها أو سحقتها، ولكنها ما فتئت مختلجة وسط جنازتها وهي بين جموع الموتى الذين لا يدركهم العدو قد غطوها، ترفع كفيها صوب السماء وقد امتلأتا بالسلالات الجديدة وهي تصرخ صراخا غير رنان ولا مفهوم دائم الاختناق تسببه على الدوام رغبة لا يطفأ أوارها.
نظرت إلى ولهلم وكنا تقريبا في نفس تلك الحالة وتقدمنا إلى بعضنا، أستغفر الله فإننا لم نضع وجهينا المجعدين صوب بعضهما، ولكننا قد تنبأنا بفكرتنا بعضنا في عيني بعض ثم ابتسمنا، وكفانا في هذه السن أن نتصافح ... (3) احتفال مصر بمرور خمسين عاما على وفاة فاجنر
في نفس الساعة التاسعة من مساء 29 يناير سنة 1934 التي كان الألمان يحتفلون فيها بأوبيرا برلين بمرور خمسين عاما على وفاة فاجنر أكبر نابغة في الموسيقى في القرن التاسع عشر، كانت مصر تشارك في هذا الاحتفال في المعهد الملكي للموسيقى العربية، والفضل في ذلك يرجع إلى الأستاذ ستافرينو صاحب مجلة الأسبوع المصري التي تصدر بالفرنسية، والشاعر المجيد خيري نجل المرحوم خيري بك الأمين الأول للمرحوم السلطان حسين كامل.
وقد جمعت هذه الحفلة من عظماء المصريين والأجانب وكثير من الأدباء والصحفيين، وقد بهر الشاعر المجيد خيري الحضور بمحاضرته القيمة التي ألقاها بلغة فرنسية فصيحة أمام جهاز الراديو، الذي تجشم المهندسان اللذان قاما بتركيبه كثيرا من المتاعب حتى حصلا على أعظم نتيجة، إذ استخدما محطة المعادي اللاسلكية وسلطا عليها سلك التلفون، ثم وصلا هذا السلك بالراديو، وبعد إلقاء المحاضرة قال صاحب السعادة حسن نشأت باشا كلمة في الاحتفال بأوبيرا برلين باللغة العربية حيا فيها جلالة مولانا الملك، وحمل إلى المصريين تحية هتلر وتمنياته، ولقد سمعت في مصر بفضل هذه الجهود بصوت جهوري رنان، ثم أعقبه الاحتفال فوقع أوركستر الأوبيرا القطع الآتية:
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا تانهوزر.
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا لوهنجرين.
سيجفريد إيديل.
الفاتحة الموسيقية لأوبيرا أساتذة الغناء.
كان التوقيع غاية في الإتقان والصفاء ولم يشبه أدنى جلبة بفضل هذه الجهود الجبارة حتى كادت تميد طربا جدران المكان.
لم أتمكن من الجلوس في الصفوف الأولى لشدة الزحام، فلذلك لم أستطع أن أسمع كل الأقوال بجلاء، وعللت النفس بمطالعتها حينما تنشر لأستعيد تلك اللذة العظيمة، ولأعلن لأمتنا المحبوبة أن في الكنانة رجالا يشرفوننا في مثل هذه المواقف.
فاجنر.
إن مجلة الأسبوع المصري تظهر كل خمسة عشر يوما، ولقد نشرت المحاضرة في أربعة أعداد ظهر الأخير منها في 15 أبريل سنة 1934، وهذا ما دعا إلى تأخير الرد لغاية الآن.
ولا أنسى ليالي رمضان الشجية التي شنف فيها أسماعنا منذ ست سنين الدكتور منصور فهمي والأستاذ محمود فؤاد مرابط مدرس تاريخ الفنون بمدرسة الفنون الجميلة العليا، إذ تكلم أولهما عن الفيلسوف نيتشه، وتكلم ثانيهما عن الرابطة التي كانت تجمع في أول الأمر بينه وبين فاجنر، وعطف على الكلام عن حياة هذه النابغة وتأثيره وعن الرسالة التي قام بتأديتها خير قيام، وقد أسمعنا أثناء محاضرته هذه على البيانو القطع الشهيرة الآتية:
نشيد الحجاج من أوبيرا تانهوزر.
أنشودة النجم من أوبيرا تانهوزر.
لحن مسير الخطبة من أوبيرا لوهنجرين.
دخول الآلهة في الولهال من أوبيرا ذهب الرين.
الفتيات الأزهاد في أوبيرا برسيفال.
جزء من فاتحة برسيفال الموسيقية.
إن أفئدتنا لتبتهج حينما نرى شبابنا الناهض ملقيا بدلوه في الدلاء ليستقي من فنون الغرب ما يستنير به في ترقية موسيقاه دون أن يعبث بطابعها الشرقي، سرد لنا المحاضر حياة فاجنر وأعماله وما صادفه من عقبات وبؤس ومناوأة نقاد جهلاء أو حساد أصمهم الغرض وأعماهم الهوى، وكان الذوق الفني والثقافة الموسيقية لم يتحررا بعد من أسر الموسيقى القديمة؛ فلذلك لم يرق لهم في أول الأمر فن فاجنر الجديد ولم يستطيعوا أن يفهموا أسراره ومذهبه الفخم، وكان يتخلل المحاضرة من النكات والفكاهات ما أبعد الملل عن الحضور وجعلهم ينصتون إلى المحاضر كأن على رءوسهم الطير لهذه السيرة المفعمة بالمجد والفخار، ثم سرد مؤلفاته ونوه بالصحف الشهيرة منها التي سارت بذكرها الركبان.
عرفت المحاضر منذ نعومة أظفاره، إذ كان مفتونا بفاجنر ويوقع منتخبات من مؤلفاته بتعبير عظيم وعواطف متأججة وتصوير خلاب، وكان يعالج الشعر الفرنسي في هذا الوقت ويجمعه في كراسات مخطوطة فكان يسمعنا منه قطعا شائقة، وهذا سر نجاحه؛ لأنه تكلم عن نابغة فتن به منذ صغره.
وما أردت بهذه الكلمة إلا أن أنوه بفضل شاعرنا المفضال وجهده العظيم، وأن أضيف كلمة متواضعة عن فاجنر في النواحي التي لم يطرقها المحاضر وله العذر؛ لأن المحاضرة بلغت نحو الأربعين صحيفة تقريبا ولا يتأتى أن يلم المحاضر بجميع أطراف الموضوع في محاضرة واحدة.
اجتمعت في فاجنر مواهب جمة قل أن توجد كلها في نابغة غيره، كان كاتبا قديرا وشاعرا مجيدا وموسيقيا مبدعا وفيلسوفا عظيما ومبتكرا ومجددا بمعنى الكلمة، ولقد سرح فكره في تاريخ الفن واستعراض الأطوار التي مرت عليه، فوجد أن التراجيدي اليونانية القديمة التي نشأت من اشتراك جميع الفنون والتعاون الفرح للأمة التي ما اجتمعت واتحدت إلا لتبدع الجمال أو تعجب به، وقد اتحد الشعر مع الموسيقى لإيجاد الدرام اليوناني، واجتمع الرقص والإشارات التمثيلية والنحت ليحققه على المسرح بأوزان شجية وجماعات ساد عليها الجمال، ثم ائتلفت الهندسة مع التصوير ليحدثا الإطار اللائق لأن تدور فيه المشاهد والحوادث، وهبت الأمة بعضهم بمثابة ممثلين والآخرون مشاهدون.
كانت الوحدة الأولية في العصر اليوناني لم تتفكك بعد، إذ كان الإنسان قريبا من الطبيعة يشاهدها بعين الفنان ويخضع لأول وهلة لقانون الحاجة الذي يتكلم في نفسه بصوت الغريزة.
ولما كرت الحقب وتعاقبت السنون تهشمت تلك الوحدة وأخلت البصيرة والغريزة مكانهما للتفكير؛ فأصبح يحلل بدلا من المشاهدة، وبهذه الصفة تجزأت الوحدة في الطبيعة إلى أجزاء عدة منعزلة عن بعضها، وانحل التعاون الأخوي الذي ساد بين الفنون.
شعرت الإنسانية شيئا فشيئا بالداء الذي تئن منه، فابتدأ الميل إلى الجمع
Synthése
من جديد، وهب الفنان الأخصائي من أعماق عزلته وفتح ذراعيه للفنون المجاورة، احتاجت الموسيقى إلى الرقص ليمدها بالإيقاع (الوزن)، وإلى الشعر ليملي عليها الألحان، وإلى القول ليعطي المعاني المحدودة لأمانيها.
ولقد حاولت الموسيقى من عدة قرون أن تكتفي بنفسها وتستغني عن غيرها من الفنون قانعة بإيقاع وألحان مستعارة أو مقلدة فلم تفلح، إلى أن ظهر أكبر نوابغ الموسيقيين في العالم بيتهوفن، فإنه تنبأ ببصيرته الوقادة عن المثل الأعلى في الموسيقى، وكانت السانفوني التاسعة قد اضطرته إلى الاستعانة بالشعر ليكون متمما لها وليسمح له بالخروج من المنطقة المبهمة للاضطراب الخالص، وليعلن بدقة عن مطامحه ورغباته، فوصل بذلك ما انقطع من الروابط التي تربط الفنون الثلاثة ببعضها، والفضل يرجع إليه في تخليص الموسيقى من عزلتها، وكانت السانفوني التاسعة خطوة ثابتة قاطعة نحو الفن الجمعي
L’art Synthétique .
رأى فاجنر أن ينهض بالدرام الموسيقي إلى أوج الكمال، فوضع نظرياته العديدة وابتكاراته العظيمة حتى أصبح فنه كالمغناطيس يجذب أغلب الموسيقيين إليه طوعا أو كرها، وكان أساس نظامه الوحدة الفنية بين الفنون اللازمة للمسرح، إذ يجب أن يكون الموضوع ونظم الدرام والتلحين لشخص واحد حتى تسود وحدة التفكير في المتن والموسيقى.
كان فاجنر ينتخب الموضوع بنفسه وينظم شعره ويلحنه، ويتلخص مذهبه في أن تكون الموسيقى واصفة لكل ما تقع عليه العين معبرة لكل ما يجيش في النفوس ويختلج في الأفئدة من مختلف العواطف والميول.
ولقد ابتكر فنا جديدا لتوزيع الموسيقى على الآلات لا يجاريه فيه مجار، وامتازت موسيقاه باتصالها وارتباطها كالحلقة المفرغة حتى لا يتسنى لأحد أن ينتخب منها قطعا متفرقة؛ لأنها غير قابلة للتجزئة.
ومن أهم ابتداعه اللحن المثير
Leitmotiv
وهو عبارة عن لحن صغير يرمز به لمعنى من المعاني ويتكرر بالمناسبات، وهو قوي التعبير مظهر للمعاني الخفية.
كان فاجنر قوي الإرادة، ماضي العزيمة، سيئ الحظ، بائسا قلب له الدهر ظهر المجن، فلم تثبط صروف الزمن همته أو تفل له عزما، بل استمر في تأدية رسالته وهو واثق من نفسه.
لم يفهمه قومه ولا الباريسيون أنفسهم وسقطت تانهوزر وقابلوها بالصفير ونكات الشوارع، وحينما ابتدئ بتمثيلها في باريس وكان أغلب الجماهير جاهلا محافظا على التقاليد العتيقة فلم يسغ فن فاجنر الجديد، والبعض الراقي من الموسيقيين نهش الحسد صدورهم وأشفقوا من هذا المنافس الجديد، والبعض أعماهم التعصب الذميم، كان الباريسيون تشجيهم موسيقى مييربير المزوقة الجوفاء الخالية من العواطف والتعبير، وقد قال فاجنر: «إن مقطعا موسيقيا واحدا من برليوز لأفضل من جميع الأوبيرات التي كتبها مييربير.»
تألب بعض النقاد على فاجنر مثل: برليوز وفيتيس وشومان وغيرهم، ولم يكن الخصام بين برليوز وبين فاجنر إلا بسبب سوء الفهم ثم تصافحا وتحابا.
وتفصيل الخبر أنه عرض على فاجنر في يناير سنة 1855 أن يقود الأوركستر
ويعطي ثمانية كونسيرات فقبل على سبيل التطلع إلى حركة الموسيقى في تلك البلاد، وصادف وجود برليوز في نفس هذا الوقت وكان يقود أوركسترا
New Philarmonic
فتقابلا وزال بينهما سوء الفهم، وأصبحا صديقين حميمين يعجب كل منهما بالآخر، واستمرت المراسلات بينهما بعد سفر فاجنر إلى سويسرا، ولكن من أعجب العجب أن فيتيس رئيس كونسرفاتوار بروكسل والذي تربى في كونسرفاتوار باريس وكان مدرسا فيه حمل حملة عنيفة على المترجم له، ومع أنه لم يشتهر إلا باختصاصه بالتدريس وحفظ القواعد، ولم يوهب شيئا من النفحات والابتداع يؤهله لأن يكتب شيئا يعيش ويخلد، وقد ألف عدة أوبيرات سقطت كلها من أول ليلة في تمثيلها، كما أنه حاول أن ينال جائزة روما الأولى من الدرجة الأولى فلم يفلح ولم ينل غير الثانية من الدرجة الثانية، ثم دخل الامتحان في العام التالي فلم يأخذ غير نفس هذه الدرجة الحقيرة.
وقد انتقد هذا السخيف برليوز قبل فاجنر وكان يحمل عليه حملات عنيفة متتابعة في الجرائد ولكنها كانت تقابل بالازدراء والسخرية، ومن سخافات هذا الرجل أنه قال في قاموسه «تراجم الموسيقيين» عن جان سيباستيان باخ بأنه أعظم الموسيقيين الألمان على الأطلاق، وهذا ما يدل على تفضيله باخ على بيتهوفن وفاجنر وهذا منتهى السخافة والغباوة.
ومن نكد الدهر أن فاجنر العظيم عاش زمنا طويلا يكابد صنوف البؤس، وكان ساعده الأيمن وقت الشدائد ليزت وهو من أشد المعجبين به وصديقه الحميم، ولما عطف عليه لويس الثاني ملك بافاريا وفتن بفنه العظيم قربه إليه وأخذ يساعده في نشر مؤلفاته وتحسين معيشته، ولكنه لم يلبث بعد سنة وبضعة شهور أن تألب الجمهور على فاجنر ورموا الملك بالانصياع إليه والخضوع لإرادته السياسية، فلم ير بدا من إبعاده عن القصر، فذهب إلى سويسرا ومكث فيها ست سنين كانت من أسعد أوقاته، وإن أضفناها إلى الاثني عشر عاما التي قضاها خارج بلاده حينما صدر الأمر بالقبض عليه لاشتراكه في الثورة لبلغت ثمانية عشر عاما.
إن رسائل فاجنر وقد ترجمت إلى الفرنسية تعد من أعظم المستندات والمراجع التي تدرس منها حياته، وفضلا عن ذلك فإن له فيها أفكارا عظيمة في الفن وملاحظات دقيقة.
لم ينتقد فاجنر إلا في تطويله في بعض المواقف، إذ تراه مثلا يخصص فصلا بأكمله لبث بشكوى الغرام بين المحب وحبيبته، ونفوره من الرقص في التمثيل؛ لأنه كان يقول: لا أحب أن أكتب رقصا لأوبيراتي حتى يلهو النظارة بسيقان الراقصات الجميلة ولا ينصتون إلى موسيقاي.
نأخذ على المحاضر أن جعل سيزار فرنك في مستوى واحد مع فاجنر، وهذا شيء فيه غلو كبير لم يقله غيره من المؤرخين والنقاد، لا ننكر أن فرنك نبع في الموسيقى الدينية وله في القطع القليلة التي كتبها نفحات عظيمة، فمن العبث إذن أن نوازنه بمن قلب الموسيقى رأسا على عقب وابتدع المذهب الفخم ونهض بالموسيقى إلى أرفع شأو.
ولقد رفع دوبوسي إلي مصاف الآلهة، وإني أسرد كلمة عن هذا الموسيقي ربما أقنعت محاضرنا المحبوب:
كان دوبوسي من أنجب تلامذة المعهد الموسيقي، وقد تخلص من بعض تأثير أستاذه «ماسنيه» وأوجد له مكانة خاصة، كان يميل هذا الموسيقي إلى «كوبران» و«رامو» و«موزار» ويتضايق من «جلوك» ولا يطيق أن يسمع «فاجنر»، وكما أن لهذا الموسيقي فئة تعجب به وتجله فإن له نقادا كثيرين وساخطين عديدين، وأظن أن حكمه على جلوك وفاجنر كاف للدلالة على ذوقه ومبلغ علمه وشدة غروره.
تنحصر مؤلفات دوبوسي في القطع الصغيرة ولم يلحن إلا أوبيرا واحدة وهي «بيلياس وميليزاند»، وإني أسرد للقراء نقد «أرتوربوجان» لهذه الأوبيرا، وهو كاتب عظيم وأكبر نقاد موسيقي في هذا العصر، وقد توفي منذ بضع سنين وله مؤلفات عديدة يرجع إليها في تاريخ الموسيقى ونقدها، وهو الذي ينتدب لتحرير القسم الموسيقي لملحقات المعاجم ودوائر المعارف مثل: قاموس لاروس (ثمانية مجلدات)، وقاموس الأوبيرات، ومعجم فييس الموسيقي وغيرها، وقد مثلت هذه الأوبيرا لأول مرة بمسرح الأوبيرا كوميك بباريس في 30 أبريل سنة 1902، وهي مستنبطة من رواية الكاتب الشهير مترلنك.
إن كلود دوبوسي وهو من الحائزين لجائزة رومة 1884 يعد من الموسيقيين الذين لا تفهم موسيقاهم، وقد اعتبرته فئة من زملائه الذين هم على شاكلته رئيس مذهب جديد، وقد وضع ألحان هذه الأوبرا كما يشاء ويهوى حسبما يفهم الموسيقى التمثيلية، ولسوء حظه قد فاته الوقت وهو متأخر ككثير من زملائه الشبان، ولقد ظنوا جميعا أنهم سبقوا زمنهم وما شعروا أن الزمن يسير ويتقدم وهم متأخرون منقطعون.
ولقد سئم الجمهور سماع موسيقاهم وما هي من الموسيقى بشيء، وملت آذانهم هذا الإلقاء الثقيل المستمر على نمط واحد ووتيرة واحدة، وهي مجردة من الهواء والضوء ولا يجد فيها السامع قطعة من الغناء الحقيقي، ويلاحظ السامع أن الوزن والغناء ولون الأنغام وهي دعائم الموسيقى قد جهلها دوبوسي واحتقرها بمحض إرادته.
إن موسيقى هذا العالم مبهمة غامضة لا لون لها ولا حد، واهية القوى يتعمد واضعها الهرب من الوضوح والدقة والتصوير الموسيقي والوزن، حتى إن الآلات الموسيقية تستمر في موسيقاها على وتيرة واحدة دون صفة أو خبرة بأنغام لا تنفك ترددها الآلات الهوائية مثل: الكور والكلارينت والباسون دون أن يسمع بينها الصوت الرخيم الرنان للكمان بنغمة ضعيفة مخدرة للحواس، وخلاصة القول إن موسيقاه منومة كثيرة الخطأ والزلل. (3-1) مسرح فاجنر وضريحه
إتماما للفائدة نسرد كلمة موجزة عن هذا المسرح الذي بناه فاجنر في مدينة بيروت خصيصا لتمثيل مؤلفاته، وهو يسع 1500 مشاهد، وخال من النقوش والزخرفة؛ لئلا تلهي الحاضرين، والأوركستر غير منظور، وقد افتتح في 3 أغسطس سنة 1816 حيث مثلت فيه حلقة نيبيلونج، وهو يبعد عن مدينة بيروت بعشرين دقيقة، ومنظره الخارجي خال من الجمال الفني.
يقام في هذه المسرح احتفال فخم كل ثلاث سنين تمثل فيه مؤلفات فاجنر ويشترك في تمثيلها وغنائها أشهر مشاهير الفنيين في ألمانيا، ويهرع إليه الناس من كل فج عميق حتى من أمريكا، ويلزم أن تقدم طلبات المقاعد والمساكن إلى لجنة تنظيم الاحتفال قبل الموسم بمدة طويلة حتى يضمن المشاهد له محلا ومسكنا يأوي إليه مدة الموسم، ومحظور على المشاهدين التصفيق أو التكلم أو الاستحسان لا بالإشارة ولا بالقول، وتوجد فيلا فاجنر في حديقة عظيمة في نهاية الشارع المسمى باسمه، وهي مبنية على طراز روماني، وبأعلى باب الدخول صورة رمزية تمثل روتان مع غرابيه تحيط به التراجيدي والموسيقى، وبجانبهما سيجفريد الشاب، وقد كتب تحت هذه الصورة: هنا وجد خيالي الراحة والسكينة ويلزمني أن أسمي هذا البيت «راحة الخيال».
وفي هذه الحديقة وفي النقطة التي اختارها لرقدته الأخيرة على مقربة من الذين تفانوا في حبه وأخلصوا له ولم يعيشوا إلا ليمجدوا ويخلدوا أعماله العظيمة.
ولقد أوصى فاجنر أن لا يقيموا له ضريحا فخما على لحده ولا يكتبوا عليه شيئا وهو في هجعته الأخيرة راقد تحت حجر بسيط، ولقد دفن على مقربة منه كلبه الحارس الأمين «روس».
إن الآلاف الذين يحجون إلى بيروت ليذهبون لزيارة قبره، ويقفون خاشعين صامتين أمام المجد والفخار والجلال الذي يحف هذا الضريح، ثم ينصرفون بكل احترام وخشوع وقلوبهم تفيض بأجل الذكرى والاحترام.
متفرقات
(1) فن الإلقاء
فن الإلقاء فن جليل عني به الغربيون وأهمله الشرقيون جهلا بجزيل فائدته، ولو علموا أنه يمنح القول تأثيرا عظيما ويأسر النفوس ويتملك القلوب، ويفعل ما لا يفعله السحر فيثير العواطف الهاجعة ويهيج العزائم الخامدة ويلين القلوب الجامدة لما طرحوه وراء ظهورهم وأهملوه في زوايا النسيان، كم من محام جمع في دفاعه بين بليغ القول ودافع الحجج ومفحم البراهين، ولكن خانه الإلقاء فحذر حواس القضاة بإلقائه ذي النغمة الواحدة حتى خسر دعواه.
وكم من ممثل أسأم الحضور بإلقائه وجلب إليهم النعاس، وارفضوا قبل انتهاء التمثيل، نسمع أغلب خطباء المساجد يلقون خطب فقيد الوعظ والإرشاد والإلقاء، وهي كما علمنا أرقى وأبلغ ما سمعناه فوق المنابر، ولكننا نرى نصف المصلين نياما والباقين يتثاءبون مع أن الفقيد كان يبكي العامة قبل الخاصة بما أوتي من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان وبلاغة الإنشاء، وقصارى القول أننا لا يتسنى لنا أن نجيد الإلقاء دون الشروط الآتية: (1)
حسن النطق ولا سبيل إليه إلا بدراسة علم تجويد القرآن؛ إذ به تعرف مخارج الأصوات ومقادير الحروف والمد والقصر والإدغام والإظهار الشفوي، والأحوال التي ترقق أو تفخم فيها الحروف وغير ذلك، ولا بد من الاستعانة بقارئ ماهر من قراء القرآن الذين أتقنوا دراسة التجويد. (2)
إتقان اللغة العربية حتى يفهم القارئ ما يلقيه ويتأثر من المعاني ليشرك معه شعوره وعواطفه وقت الإلقاء. (3)
معرفة فن الموسيقى أو على الأقل تعويد الأذن على فهم الموسيقى ليكون قادرا على تنويع نغمات الإلقاء حسب مقتضيات الحالات النفسية. (4)
الإشارات والوقفة وتغيير السحنة وهي من ضروريات الإلقاء التمثيلي؛ إذ هي التي تساعد على تمثيل العواطف، ولولاها لأصبح الممثل كتمثال من نحاس تمجه النواظر وتنفر منه النفوس. (5)
رقة الشعور وتعد من أعظم العوامل في إتقان الإلقاء ليكون الإنسان متأثرا مما يلقيه فتتغير النغمات بدون تكلف وتتنوع إشاراته وسحنته من حيث لا يدري، ويصدر منه الإلقاء والإشارات وحركات السحنة بشكل طبيعي صادق خال من التصنع، وبذلك يكون أشد تأثيرا وأعظم وقعا. (6)
يحسن لمن أراد أن يبلغ غاية عظيمة في الإلقاء لا سيما التمثيلي أن يضرب بسهم وافر في علم البسيكولوجيا ليدرس أحوال النفس دراسة تؤهله لفهم عواطفها وشعورها؛ ليستطيع أن يزيد إلقاءه وضوحا وتعبيره تأثيرا.
وإن أنعمنا النظر في هذه الشروط وجدنا الثالث ألزمها وأعظمها نفعا وأصعبها نيلا؛ لأن معظم التأثير ناشئ من نغمات الإلقاء، ولا ريب أن الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولا للأذهان، ولا يكفي لطالب الإلقاء أن يدرس «السولفيج» وحده بل يلزمه أن يتعلم التعبير الموسيقي وكيف يعبر الموسيقي.
وحينما يتم له ذلك نقول له: لقد أتممت دراستك الفنية فهيا إلى الدراسة العملية، واذهب إلى باريس في أيام عطلتك الصيفية، وواظب على مشاهدة مسارح الكوميدي فرنسيز والأودييون وبورت سان مارثان، واجلس في الصف الأول لتراقب مشاهير الممثلين والممثلات لتتعلم منهم الوقوف والجلوس والمشي والإشارات وتنويع السحنة وطريقة الإلقاء، وأنواع النغمات في الفرح والحزن والغضب والحماسة والعطف والتأثر والحيرة والدهش والخوف وعظمة الملك وغير ذلك، وإن للخطيب صفات دقيقة تفوت أغلب الناس ولها مكانة عظيمة وعليها معول كبير في التأثير: (1)
أن يهيمن على نفوس سامعيه ويتملك قيادها، وذلك بنباهته وشدة إصغائه ولطفه وظرفه وأسلوبه. (2)
أن يتجنب كل عاطفة كبر وغرور وازدراء؛ فإن ذلك ينفر منه القلوب ويصرفها عنه وتزدريه. (3)
أن يرتب الموضوع ليسهل فهمه ورقة الأسلوب وصوغه بشكل أدبي؛ لأن الموضوعات حينما تكون علمية محضة عارية من ثوب الأدب تسئم وتمل وتمجها النفوس لا سيما إذا كان الموضوع طويلا جافا.
تلك نصائح نافعة صغتها في كلمات قلائل ليسهل تناولها، وعسى أن تهتم ناشئتنا بهذا الفن لترقيه في بلادنا وتنتشله من وهدة الانحطاط والسلام. (2) الأسد
من أعظم الضواري المعزوة إلى فصيلة الهر وأشدها بأسا الأسد «ملك الحيوان» قامة عظيمة، ونظر متوقد، ومظهر نبيل، واختيال في المشية، وأعضاء في غاية التناسب، ولبد يحيط برأسه ورقبته إحاطة الإطار الجميل بالصورة المتقنة يسترسل على كتفيه كطيالسة الملوك، وزئير يقصف كالرعد ويدوي لأبعد فج فيرتعد منه العالم الحيواني.
تجمعت في الضغيم هذه الصفات لتؤهله لأن يكون المسيطر الفرد، كله أعصاب وعضلات أكسبته قوة لا تثبت أمامها أعظم القوى، وجرأة لا تهاب الأخطار والمهالك عند الهجوم، وقصارى القول أنه أقوى وأشرف جميع السباع.
لا حاجة لنا بوصفه، إذ ما من أحد إلا رآه في حدائق الحيوانات ومسارح الوحوش، غير أننا نلاحظ أنه أعظم حيوان يمثل القسم غير المخطط من الفصيلة، ويمتاز بلون ثوبه المتحد ولبده المتكاثف الذي لا يشاهد في اللبؤة، وخصلة الشعر السوداء التي تزين نهاية ذنبه، وهو يفوق جميع أنواع الفصيلة قامة وجمالا.
مواطنه المنطقة الحارة، وكان في العصور الخالية موجودا في جنوبي أوروبا كما روى «هيرودوت»؛ حيث كانت هذه الضواري القديرة تهبط من جبال مقدونيه لتفترس مطايا «خشاير شاه»، ثم صارت نادرة في مقدونيه في عصر الإسكندر الأكبر إلى أن انقرضت من أوروبا في عهد الرومان، وكانت الأسود كثيرة الانتشار بآسيا ولكنها أصبحت الآن لا توجد إلا في جزيرة ما بين النهرين والشواطئ الشمالية لخليج العجم والشمال الغربي للهند.
يمتاز الأسد الآسيوي عن الإفريقي بقامته الربعة وغزارة خصلة شعر الذنب، وأصبحت أفريقية الآن وطن الأسد الحقيقي، وهناك يشاهد بجميع مظاهر جماله وعظمته، وهو شائع في هذه القارة إلا في بعض مواضع قليلة انقرض منها، وقد لوحظ أنه يختلف لونا وقامة حسب المواطن، ولكن جميع أنواعه في الطباع سواء.
يسود الفزع والجنون بين الحيوانات حينما يرتج الهواء من زئيره، إذ كل منها يعرف هذا الخصم المزعج القاهر الذي لا يستطيع أشدها بطشا أن يثبت أمامه، ولا يؤمن شره بسور ارتفاعه ثلاثة أمتار؛ لأنه يجتازه بكل سهولة وهو مقل فريسته، ويجتاز ما يبلغ أربعة أمتار إن كان لا يحمل شيئا ولكنه لا يستطيع أن يتسلق الأشجار كالنمر.
يقتات عادة بالحيوانات المجترة ولا يأكل إلا الحي منها فلا يرجع إلى ما بقي منه بالأمس إلا اضطرارا، ويستطيع أن يصبر على الطعام يومين أو ثلاثة عقب أكلة تملأ بطنه، وفصيلة «الأنتيلوب» (نوع من الغزلان) لا ترى عدوا لها ألد منه، إذ يختبئ في مقصبة ليغتال القطعان التي ترد الغدران أو البحيرات وقت ظهور الشفق، ساد السكون في هاته الأماكن وسكنت الريح فلم تحرك قمم أشجار الجميز ولبث جريد النخل دون حراك فلم يشب هذا السكون والدعة أية جلبة لا قريبة ولا قصية، فتأتي هذه الأنعام الجميلة أولاد الصحراء ماشية بتؤدة وتبصر وتيقظ منتصبة آذانها شديدة الإصغاء مشرئبة أعناقها مسرحة أنظارها الحادة في كثيف المقصبة، خلا المكان من كل ما يرهب جانبه أو يسمع له همس أو لمس بين الخمائل، فاطمأنت النعم وأمالت رءوسها متهافتة إلى ماء منعش كانت تتلهف عليه وقتا طويلا، وعلى حين غفلة يثب هذا القسورة القهار بطفرة هائلة، ويخرج من مكمنه وينقض كالصاعقة على زعيم القطيع فيرزح المسكين تحته حتى يسوي به الأرض بينا تهرب رفاقه مستنفرة بأسرع من الفكر لتختفي في أعماق البيداء.
وقد مجد أشهر الشعراء سلطان الحيوان في جميع العصور والأزمان، ومهما تغالوا في وصفه أو في جميع التواريخ التي وضعت له فإنها لا تقل عن أن تكون حقيقة وتكاد توفيه حقه من الوصف، ومهما نفح الكتاب بمدهشات البيان وأسعد المصورون بعجائب بنات البنان فإنهم لا يستطيعون أن يمثلوه تمام التمثيل، وليست خيلاء الرئبال أو شجاعته النبيلة اللتان أذاعتهما بخطأ وركاكة الأساطير القديمة هما اللتان أكسبتاه وقاره المهيب وعظمته الهادئة، بل مخائله التي تشف عن ثقته بقوته التي لا تغلب واعتماده على نفسه واعتياده على الظفر والنصر.
ولو أن طباع النفاق عند الأسد لا تزيد عن طباع غيره من أنواع فصيلته فإن خصال هذه العامة توجد فيه، إذ يزحف على بطنه بخبث إلى أن يتمكن من خصمه الذي يتوسم فيه الضر والأذى، ويقيس بتبصر الوثبة فلا تفلت منه غنيمته، ومن ذلك يعلم أنه لا تمتاز طباعه عن غيره من أنواع فصيلته.
إنه لا يقتل لمجرد اللهو، بل لرد غائلة السغب، ويندر أن يثب على فريسته مرة ثانية إن أخطأها في الأولى، وإن شبع مر مر الكرام أمام الأنعام السائمة دون أن يلتفت إليها واضطجع في عرينه ونام، والغضنفر إن فوجئ وهو نائم يكون كالميت ويغتنم مواطنوه هذه الفرصة ويباغتونه في حالة ضعفه ويقتلونه بأسلحتهم النارية أو سهامهم المسمومة.
تنتشر بين الذكور معارك تشيب من هولها الولدان، وحينما يتزاحم اثنان على أنثى فتية لم تأتلف بعد مع أسد، وقد روى أحد أعراب البادية لصائد من أهل الجزائر واقعة من هذا القبيل حضرها مكرها، كان كامنا في ليلة مقمرة يترصد الأيل، وليكون آمنا مطمئنا تسلق شجرة بلوط في مكان خال من النبت والشجر وسط الغاب في مقربة من الدرب، وفي منتصف الليل لمح لبؤة مقبلة يتبعها أسد فتي تكامل لبده فتركت الأنثى الدرب واضطجعت تحت شجرة البلوط ولبث وحده الأسد بجانب الطريق مصغيا، وما هي إلا هنيهة حتى دوى على بعد في الآفاق زئير فأجابته اللبؤة واشترك معها الذكر الذي اصطحبها فزمجر صوته كالرعد القاصف فهلع فؤاد صائدنا المتربص فوق الشجرة وسقطت بندقيته من يده وكاد يهوي معها لولا أن تدارك وأمسك بالأغصان، وكان زئير الأسد القصي يقترب شيئا فشيئا وكلما زاد قابلته بالمثل اللبؤة الجاثمة، بينا رفيقها يجري روحة وجيئة من الحنق كأنه يريد أن يقول له: «فليقبل ليرى كيف ألتقيه.» وبعد ساعة أتى أسد أسود قامت لملاقاته اللبؤة فمنعها رفيقها وطردها ثم انقض على خصمه الذي كان ينتظره بفروغ صبر، وطفقا يتصادمان ويقعان ملتحمين وطال بينهما النزال وكان مزعجا للصائد المشاهد رغما منه بينا العظام تهشم تحت الفكاك القوية، والبراثن تمزق جسميهما، والزئير يكون تارة مختنقا وأخرى قاصفا معبرا عن كلا الوحشين وآلامهما، وكانت اللبؤة عند ابتداء المعركة تنظر إليهما وهي جاثمة على بطنها، فلما حمي وطيس القتال أخذها الزهو والإعجاب، إذ رأت خصمين جبارين يقتتلان لأجلها وأنشأت تترجم عما خالجها بتحريك ذنبها، ولما انتهت الوغى وخر الاثنان صريعين هرولت إلى الجثتين تشمهما ثم ذهبت لشأنها معجبة بنفسها دون أن تلوي على شيء.
وللأسد خصلة حميدة وهي أنه لا يهجر أبدا أليفته التي اختارها ويظهر لها كثيرا من الميل والاعتناء، وله عناية عظيمة بجرائه ولو أنه صعب المراس شديد الجانب، لا يوجد مع صغاره إلا بتكلف، إذ يعروه السأم ويتنغص من لعبها معه.
وحينما يريد أهل البدو من المغاربة صيد الأشبال يترقبون الزمن الذي تنقطع فيه عن ملازمة الأم، وذلك يكون بعد ابتداء ظهور أسنانها بثلاثة أشهر، فيرصدون العرين من أكمة بعيدة أو شجرة مشرفة عليه، وربما تحينوا الفرص أياما كاملة، وحينما يرون أن اللبؤة بارحت أشبالها وأن الأسد غائب ينزلون من مكمنهم بكل تبصر ويقظة ويلفون الأشبال ببرانسهم لئلا تتمكن من الزئير، ويناولونها إلى الفرسان الذين ينتظرونهم في أطراف الغاب المجاور ثم يرخون أعنة جيادهم فتسبق الريح، وهذه الجرأة لا تخلو من المخاطر.
لا يتم نمو الأسد إلا في سنته الثامنة فيبلغ أشده ويكمل لبده، ولم تحقق بعد بالضبط نهاية عمره ولكن علماء الحيوان يقدرونها من 30 إلى 35 عاما، ويشاهد في الجزائر ثلاثة أنواع من الآساد: الأسود والممائل للون صدأ الحديد والأسمر، والأسود أندرها وأصغر قليلا في القامة ولكنه ربعة وأعرض من الآخرين ولونه أسمر داكن إلى الكتفين، ثم يبتدئ لبده الأسود الفاحم الذي يكسبه شكلا مريعا، ويبلغ عرض جبهته ذراعا وطوله من أرنبة أنفه متران وثلث، ويزن جسمه من 500 إلى 600 رطل، والمغاربة تهاب هذا النوع أكثر من غيره؛ لأنه لا يتنقل ولا يجول كالنوعين الآخرين بل يبحث له عن مكان لائق أمين يعيش فيه رخي البال نحو ثلاثين سنة، فلا يجازف بنفسه في السهول إلا نادرا، ولا يهجم على الدور كغيره، بل يتربص ليلا بالثيران النازلة من الجبل وينحر منها أربعة أو خمسة ليرتشف دماءها.
وفي الصيف لا يبارح مأواه إلا عند الغروب، ثم يقف بالمرصاد على قارعة طريق آتية من الجبل ينتظر المشاة والركبان المتأخرين وهم مقبلون وحدانا، وقد باغت سبع أسود فارسا من أهل البدو وحينما هجم عليه فكر أن يترك له جواده فلربما لها به فتحقق أمله ونجا، وهذا أمر نادر جدا؛ لأن المسافر المنفرد لا يتمكن من الفرار أو النجاة إن فاجأه ليلا وهو منقطع عن الركب، ولو أن النوعين الآخرين أعظم جسما لكنهما أقل قوة من الأسود، وطباعها ومعيشتها واحدة إلا ما استثنيناه.
لا يغدو الأسد عادة من مربضه إلا بعد الغروب ويروح إليه قبل الشروق فلا يفارقه سحابة النهار إلا نادرا طلبا للماء أو هربا من البعوض أو القيظ؛ لأنه يقضي النهار في عرينه نائما مستريحا في الغابات ليهضم مطمئنا في الدعة والسكون ويتغلب عليه حينئذ الكسل والخدر فلا يلتفت إلى الإنسان وقتئذ إن صادفه، ولكنه يكون بالعكس ليلا ويشاهد بجميع مظاهر قوته وافتراسه ورغبته في الهجوم ، فإن صادفه مدلج منفرد هلك وأعيته الحيل.
وحينما يوجد الأسد مع أليفته تزأر هي أولا عند مبارحتها العرين، ويشمل الزئير اثني عشر صوتا تقريبا مختلفة تبتدئ بنوع خافت أشبه بالتنهد، ثم يزيد شيئا فشيئا حتى ينتهي كما ابتدأ، وبين الصوت والآخر بضع ثوان ويجاوبها الأسد بالتبادل، وإن أرادا الهجوم على دار لافتراس أنعامها يزأران من ربع ساعة لآخر حتى يصلا إليه، وحينما يشبعان يستمران في الزئير لغاية الصباح، ووقتما يكون الأسد منفردا يزأر عند ما يستعد للخروج ويأتي في الغالب صامتا إلى المنازل.
والآساد تفتك فتكا ذريعا في جميع الأقطار التي تسكنها، فلا تدع الإنسان ولا الحيوان وتعد ضحاياها بالمئات، من قرية أعيتها الحيل فهاجر أهلوها وتركوها قاعا صفصفا تزأر فيها الضياغم، وقد تعطلت سكة «أوغاندا» الحديدية بسبب افتراس الأسد للعملة الهنود وتركوا أشغالهم حينما رأوا أنه ما من ليلة إلا يذهب عدد منهم طعاما للسباع، وقد تمكن أخيرا أحد مهندسيهم المسمى «باتيرسون» من صيد أسدين بعدما بلغت ضحاياهما ثمانية وعشرين من الهنود وعددا عظيما مجهولا من الزنوج.
ولنسرد أشهر الوقائع التي كتبها المشاهير من الرحالين والصيادين وما قاسوه من الأهوال في صيد الأسود لتكون مثالا عظيما ندرس به جيدا طباعها وأحوالها وقت الصيد والمهاجمة، ولنستدل على صعوبة مراسها وجرأتها. (3) رحلة لفنجستون
في أثناء طوافي حول غدير «كورمان» انتخبت وادي «مابوتسا» الجميل لأتخذه مقرا للبعثة، وقد وقع لي هناك حادث عظيم كان الناس يسائلونني عنه في أغلب الأحيان منذ عودتي إلى إنجلترا، ولولا مضايقة الأصدقاء وإلحاحهم لكنت ادخرته لأقصه على أولادي عندما تذهب الشيخوخة بذكائي وحدته.
ضج أهل هذا البلد حينما رأوا أن الأسود تباغتهم كل ليلة وتسطو على مطاياهم وأبقارهم حتى بلغ من جرأتها أنها كانت تفتك بالماشية في رابعة النهار مما لم يعتادوا حصوله، واعتقدوا أن إحدى القبائل المجاورة سحرتهم وجعلتهم نهبا للأسود، وقد حاولوا التخلص من هذه الكواسر واجتهدوا أن يبيدوها فلم يفلحوا، إذ هم أضعف كثيرا من قبائل «البشوانا» فاستولى عليهم الجبن ورجعوا إلى دورهم دون أن يطاردوا واحدا من أعدائهم، ومما لا ريب فيه أنه لو قتلوا واحدا منها لكان للبقية خير نذير ولتركت مواطن ابتليت فيها بالصيد.
سطت الأسد من جديد على بهائم «البكويين» فخرجت مع رجال القبيلة مشجعا لهم على قطع دابر هذه الطغمة، فوجدنا الآساد فوق أكمة مجللة بحرجة فالتف حولها الرجال وتسلقها الواحد بعد الآخر، ومكثت في السهل مع أحد الوطنيين المدعو «ميبالويه» وكان معلما في كتاب، وأنبه من جميع أصحابه ذكاء ونشاطا، فرأيت أسدا جاثما على ربوة وقد أحدق بها الصيادون، فصوب إليه «ميبالويه» رصاصة من بندقيته لم تصب إلا الصخرة التي كان مقعيا عليها، فعض المكان الذي أصابته الرصاصة من الصفاة كما يعض الكلب الحجر أو العصا التي يرمى بها، ثم انطلق وثبا واخترق صف الصائدين الذين فتحوا له ممرا ونجا دون أن يجرح، والغالب أن هؤلاء لم يقدموا على مهاجمته اعتقادا منهم بالسحر الذي ابتلوا به وزعما أنهم لا يظهرون على الأسد مهما بلغ جمعهم وبطشهم، ثم التأمت الحلقة وظهر ضيغمان آخران فلم أستطع أن أرميهما خوفا من إصابة أحد الصيادين المحدقين بهما وفرا سالمين، ولو فعل «البكويون» كعادة بلادهم لقتلوا السباع طعنا بالرماج حينما اخترقت صفهم ولكنهم لم يستعملوا سلاحهم قط.
ولما رأيت أن الهجوم غير متيسر لهم عولت على الرواح واتجهت صوت الطريق الموصلة إلى القرية، وبينا أنا أطوف حول الأكمة رأيت أسدا آخر فوق صفاة كالأول مستترا وراء خميلة ولا تزيد المسافة بيني وبينه عن ثلاثين خطوة فصوبت إليه بندقيتي وأطلقت عليه رصاصتين فصاح الرجال: «لقد أصبت فهيا بنا نحمل عليه.» ثم لمحت الأسد يحرك ذنبه بغضب وحنق، فالتفت إلى الصائدين وطلبت منهم أن ينتظروني ريثما أحشو بندقيتي، وبينا أنا أعدها، إذ سمعت صراخ فزع فاقشعر جسمي وما كدت أرفع رأسي حتى رأيت الأسد واثبا علي، وكنت واقفا فوق ربوة فأمسك بكتفي فتدهورت معه إلى حضيض الأكمة وزأر في أذني بقوة مزعجة، فكدت أصم وأفقد صوابي لما أصابني من الرعب، وصرت في قبضته كفأرة ظفر بها سنور ثم أصبحت في حالة خدر لا أشعر فيها لا بفزع ولا بألم، ولو أني كنت واعيا لكل ما حدث وهذا أشبه بحالة المرضى وقت تأثير البنج، إذ ينظرون تفاصيل العملية دون أن يشعروا بمشرط الجراح، وقد بددت رجات الضيغم مني الخوف وأشلت كل عاطفة للفزع بينا الصيادون ينظرون إلى الأسد وجها لوجه.
وكان الأسد قابضا بيمينه على مؤخر رأسي، فاجتهدت أن أتخلص من ضغطه والتفت فرأيت الأسد ناظرا إلى «ميبالويه» الذي صوب إليه بندقيته فلم تنطلق من الجهتين؛ لأنها كانت ذات زند وصوان، فتركني الأسد في الحال وانقض على «ميبالويه» وعضه في فخذه، وكان من بينهم شخص نجيته من الموت حينما قذفته في الهواء فحل من الجاموس، فحاول هذا أن يطعن الأسد وهو جاثم على «ميبالويه» فخلاه وأمسك بهذا الرجل من كتفه، ولكن لم يلبث في الحال أن وقع مدرجا بدمائه من تأثير الرصاص الذي اخترم جسمه، حدث ذاك كله في لحظه قصيرة وبلغ الرئبال منتهى الغيظ والكلب والاستماتة حينما علم أنه آخذ في النزع.
وفي الغد احتفل البكويون بإشعال نار عظيمة فوق جثة الأسد ذلك؛ لأنهم لم يروا له مثيلا في العظم كما قالوا، واعتقادا منهم بأنهم بعملهم هذا يبطلون السحر الذي انتابهم.
وقد هشم هذا الغضنفر عظم عضدي وعضني إحدى عشرة مرة في ساعدي، والجراح التي تحدثها أنيابه أشبه بجراح الرصاص ويعقبها عادة قيح غزير وتميت جزءا عظيما من الأنسجة، وقد قابلت في السنة التالية الرجل الذي عضه الأسد في كتفه فرأيت جرحه انفجر ثانية في الشهر نفسه من العام التالي، وإن هذا الحديث لحري بأن يلتفت إليه رجال العلم. (4) رحلة جول جيرار
اقتفيت أثر الأسد قبيل الغروب وبصحبتي حميد وعمر وأبو القاسم وكان الأولون مسلحين «بقربانتين» والثالث يقود جديا صغيرا كممنا فمه جيدا واتخذناه طعما نجلب به السباع، وقد عاينت وأنا سائر مدخل الأسد الموصل إلى عرينه واختبرت آثار أقدامه فسررت مما اكتشفته، وبحثت عن مكان أمين أتخذه مرصدا فوجدت موضعا خاليا على مقربة من الربوة الكامن فيها الأسد.
وقد ربطنا الجدي بجزع شجرة وتناولت سلاحي، وما هي إلا لحظة حتى اقترب عمر مني فجأة وقد تشنج وجهه من الرعب وأشار بأصبعه إلى رأس أسد ضخم متكامل اللبد قد لمحنا من مسافة مائة خطوة تقريبا؛ فصرخت الأعراب ونزعت أنا كمامة الجدي وتربصت بالمكان الخالي من الغاب لأتمكن من رؤية الأسد حينما يأتي إلى الجدي الذي حينما أبصر «القربانات» المصوبة لم يطمئن باله، وأخذ يصيح بشدة ويحاول قطع الحبل وبعد بضع دقائق لمح الجدي على غرة الأسد في مربضه، فارتجف كريشة في مهب الريح وأخذ ينظر إلي من وقت لآخر كأنه يتوسل بي لأحميه من شر الأسد، ولما ساد الرعب تبينت أن الأسد مقبل نحونا، فنظرت من خلال الغاب المتكاثف المحيط بالمكان الخالي الذي كنت فيه فوجدت جسما ضخما لا يتحرك ولم أستطع أن أتحقق شكله، إذ حالت دون ذلك الأوراق والغصون.
وفي الحال تحركت الأشجار وخرج من مكمنه واثبا وثبتين أوصلتاه إلى المكان الخالي من الغاب ثم وقف ينظر إلينا.
شتان بين جمال هذا الحيوان وبين جمال ما نشاهده في المسارح، رأيته أملح وأعظم وأفخم حيوان مع أني رأيت كثيرا غيره، وقد أشفقت عليه وأملت «قربانتي» بعدما صوبتها إلى ما بين عينيه، ثم تمدد الأسد على مهل فوق الكلأ منتظرا ساعة طعامه، فأسفت أن رأيته متحفزا للوثوب على فريسته فصوبت إلى كتفيه رصاصتين فوقع زائرا بصوت كالرعد، وأخذ يعض في منحدر السيل، ثم انقض دون أن يعلم أو يرى في السيل من علو عشرين قدما.
وعندما سمع الأعراب صوت النار أتوا سراعا وظنوا أن الدماء الغزيرة التي سالت من الأسد انتهت بقتله، وصاحوا في الرجال المنتظرين بالقرب منهم: «هلم إلينا بالبغال.»
وكان الموضع الذي ينبعث منه زئير الأسد كثيف النبت فلم أستطع أن أرى جذوع الشجر على قيد خطوتين، وعندما كنت أضع العلامات على مدخل السبع الدامي أقبل الصائدون ومعهم أربعة رجال مسلحين من أهل الجبل، وكان في عزمي أن أصبر للغد لأجد الأسد ميتا أو حيا وأملت أن تقتله جراحه في الليل، وعلى كل حال اعتمدت على الدماء الغزيرة التي فقدها وهي كافية على الأقل لأن تضعفه في اليوم التالي، وفي الختام تحققت أنه من الحمق أن أذهب إلى الأسد بين هذه الآجام الكثيفة التي لا يخترقها أحد الأنظار وأقواها لا سيما عند إقبال الظلام، وضحت ذلك للأعراب ولكنهم لم يسمعوا النصح قائلين: سنذهب وحدنا ونحن واثقون بموت الأسد، ولما لم أستطع أن أقنعهم ذهبت في مقدمتهم بعد أن أكدت لهم أنهم واقعون لا محالة في سوء عنادهم، ثم صادفت «دو رودامبورج» وهو راجع من طوافه فرجوت منه أن يحمي ظهري ولا يفارقني، وحينما وصلنا إلى مدخل مقر الأسد مرت رصاصة من خلفي مصوبة إليه فزأر وانقض علينا هاشما كل ما صادفه، فقلت للأعراب: «أرأيتم كيف هلك؟ وأود الآن مشاهدة قوة الرجال البواسل وجرأتهم.» وما انتهيت من كلامي إلا ورأيت الأسد واقفا بيننا، وعندما أردت أن أصوب رصاصة إلى رأسه سبقني الأعراب وأعموني بدخان بارودهم ولم أستطع أن أنظر إلا عمر وهو يطلق ناره فوثب عليه الأسد وكسر «قربانته» بأنيابه وأمسك به وطرحه أرضا كضغث من الهشيم.
فأسرعت إلى الأسد بقفزتين وكان لاهيا بتمزيق المسكين فلم يلتفت إلي، وأردت أن أخترم رأسه برصاصة ولكني خفت أن أصيب عمر فصوبت إلى قلبه ورميته فترك فريسته ولم يقع فرميته بثانية فلم تنطلق الرصاصة، وكان لا يفصلني عنه إلا القربانة فطفق يقاوم بكل قوته، ولما رأى الأعراب الخطر المحدق بي هبوا بجرأة عظيمة ولو أن أسلحتهم لم تكن محشوة والتفوا حولي، وكان حميد أقربهم إلي فناولته «القربانة» وطلبت منه البندقية المحشوة التي عهدت بها إليه ليحملها لوقت الحاجة، فوجدته قد كان أطلقها مع رفاقه فأمسينا تحت رحمة الأسد، وكان «دو رودامبورج» على قيد خطوات من المكان، ولم يبق لي مدافع غير هذا الصديق فصوب إلى الأسد نارا حامية ألقته صريعا يتخبط في دمه.
لم يمت عمر المسكين ولكنه أصبح مخرم الجسم بجراح بالغة يكفي أحدها لقتله، فحملناه على الملابس والعصي، ومكث يعاني أشد الآلام ساعتين أمكننا بعدها أن نسعفه بضمد جراحه ومعالجته.
وفي الغد ذهبت لأنتزع جلد الأسد ثم عرجت على عمر وودعته وخلفته بين يدي طبيب من مواطنيه، وعدت في اليوم نفسه إلى حديقة الأسود.
وبعد الغد نحرت لبؤة قطيعا من الثيران في مكان ليس ببعيد، فشكا الناس وتضرعوا وما من مجيب، فلم أر من المروءة أن أصم أذني عن استغاثتهم، وخرجت في طلب اللبؤة وواجهتها في الساعة التاسعة مساء، ولم يك بيني وبينهم أكثر من عشر خطوات، وقد حال الظلام وكثافة الأدغال دون رؤيتها جيدا لأصيب منها مقتلا، فصوبت إلى كتفها لأعيقها عن لحاقي فهوت من أعالي الغاب صارخة بزئير مزعج فانسحبت بكل احتراس وتبصر ولم تسمع وقع أقدامي، إذ غطى عليها زئيرها.
وفي الغد عدت إليها في أول النهار فوجدتها مكسورة الكتف مخرمة الصدر، ولكنها كانت بحالة جيدة فأطلقت عليها الرصاص ولم تقع إلا وقتما أصابتها الثالثة.
وحينما انتهت هذه المعركة رأيت أن أرجع إلى قسطنطين، ولم أكد أبلغها إلا ووافاني نبأ موت عمر المقدام.
بلاغة الغرب
(1) الجزء الثاني «لشاعر القطرين خليل بك مطران»
بين يدي الجزء الثاني من «بلاغة الغرب» مكتوبا فيه تحت العنوان بالحرف الدقيق «أحاسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره»، والحق البارز الناصع ما جلاه النقش تحت هذه الكلمات، فإن محمد أفندي كامل حجاج الذي نقل إلى العربية طائفة جديدة من روائع اللغات الإفرنجية قد أضاف بهذا الجزء إلى نفائس لغة الضاد قلادة لا تقوم بأثمان.
افتتح الأديب الألمعي كتابه بإهدائه إلى روح فكتور هوجو مستحضرا ذلك الروح بقوة يقينه الأدبي، مخاطبا إياه بقوله:
إليك أهدي ما عربته من معجز قولك ونفحات شعراء الغرب، وهو عندي أعز قنية وأنفس طرفة، ولعله يرضيك فتقلبه قبولا حسنا، فسلام عليك من معترف بفضلك وآلائك، لاهج بشكرك وثنائك، وذلك الاستحضار الصادر عن وحي فطرة امتزج في حسها الرقيق الماضي بالحال كأنهما الوقت العتيد قد أثر بي شديدا منذ ألقيت النظرة الأولى على الكتاب .
ثم جعل الأديب المجيد في مواجهة هذه الصفحة صفحة مزدانة بوجوه ستة رجال من أفراد البيان في القرنين التاسع عشر والعشرين، هم: فكتور هوجو، ألفريد دوفيني، جوت، شيلر، هين، لييوباردي.
وما هؤلاء الستة بالذين قصر عليهم الكلام بل ذكر غيرهم من النوابغ، وأتى بترجمة كل منهم وأورد ما أجمع الرأي على إيثاره من محرراتهم، وهذه أسماء الآخرين: ألفونس كلر، شيلر، توركواتو تاسو، جون ملتون، جوزيف أديزون، شيلي، بيرون.
لماذا عانى محمد أفندي كامل حجاج تعريفنا بشعراء الغرب وكتابه؟
شرح لنا ذلك بألطف إشارة في مقدمة هذا الجزء تحت عنوان «كلمة في الإنشاء» بدلالته إيانا على مواضع جهلنا، وإرشاده إيانا إلى ما يجب أن نعلم لنصير كتابا حق الكتاب، كما يفهم المعنى الذي تقتضيه ضرورات هذا العصر عصر المعارف والفنون في أسمى ما ارتقت إليه مدارك الناس.
ولما كان الغرب هو المورد الأعظم لكل ما يجدر بنا أن نرده من حياض تلك المعارف والفنون لم يضن علينا محمد أفندي حجاج في عنوان آخر «كلمة في الترجمة» يهدينا بها الصراط الذي يوفق بين ما تأتيه ذهنية الغرب وما تقبله ذهنية الشرق فيما يرتبط بالأدبيات.
وسرعان ما يتبين المطالع بعد أن يقف على الغرر التي جاء بها في تعريبه أنه قد وفق في النقل ما شاءت البراعة في اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها، وما شاء رقي الوجدان عنده مسامتا للوجدان الراقي الذي أوحى إلى أولئك العبقريين الغربيين غرر مبتكراتهم.
ولقد أردت حين قراءتي لقطعة قطعة أو قصيدة قصيدة مما صوره الأديب بقلمه البديع العجيب أن أتبين ما إذا كان أسلوبه الإنشائي ينطبع بطابع الأسلوب الإنشائي المنقول عنه، فوجدت أثر ذلك فيه ولكن بمقدار، إذ لا ينبغي أن ننسى ما بين التعبير بلغتنا العربية الفصحى لغة الكتابة دون التكلم، لغة الفكر المتهيئ لا الفكر المتبادر، لغة الإحساس المصطنع المستعير أدوات أزمنة أخرى للظهور لا الإحساس المتدفق فورا بعوامل ما بين يديه من مؤثرات الحياة العتيدة، وبين التعبير بتلك اللغات الأجنبية التي هي لغات الحياة الحاضرة بكلياتها وجزئياتها.
فيا أيها الصديق الذي أتحفني بهذا الجزء الثاني من كتابه الجليل، بارك الله في يقظتك ونشاطك، وفي ألمعيتك وعظيم خدمتك للغتك، وأي شيء يتوصل به إلى تجويد القول أفضل من حسن الاختيار والتنويع فيما تستنبض له القلوب وتغذى به العقول.
خليل مطران (2) الكاتب القدير الأستاذ مصطفى راشد رستم
كثيرون من أهل اللغة العربية ينكرون على غيرهم من أهل اللغات الأخرى ما ينسبونه هم إلى اللغة العربية من السعة والفصاحة والبلاغة وكثرة وسائل التعبير، وقليلون منهم يعرفون عوامل الجمود والتقهقر التي حاقت بالعربية من جراء التمسك بتلك الفكرة السيئة.
على أنه منذ بدأت تدرس اللغات الغربية في الشرق أخذت شجرة «التمسك باللغة العربية دون غيرها» تهتز بشدة أمام رياح الغرب القوية، وتتساقط أمامها أوراقها وأزهارها حتى كادت تجتث من فوق الأرض، وقد عالج هذا الأمر كثيرون من أهل الموضوع، واهتدت الأغلبية إلى طريقة تشبه طريقة التطعيم النباتي.
ومن الكاتبين من رأى أن يدمج معلوماته الغربية في كتاباته العربية، ومنهم من جعل ينبه عليها في مظانها بلغاتها، ومنه من أنشأ ينقلها إلى العربية إما نقلا حرفيا أو معنويا، ولكل من هؤلاء أدلته على صحة رأيه.
ومن الذين رجحت عندهم فكرة الترجمة على غيرها من الآراء الأخرى الأديب «محمد كامل حجاج»، فقد تفقد صفحات من أدب بعض الأمم الغربية واختار منها محاسن فيها وترجمها ونشرها بين الناطقين بالضاد لتزداد بها مادتهم الأدبية.
وهو «يحافظ على الألفاظ والجمل محافظة دقيقة، ولكنه يتصرف في ترتيب الألفاظ طبقا لما يستوجبه ذوق اللغة التي ينقل إليها»، وهو يرى أن هذا هو أعظم أسلوب في الترجمة والمتبع بين أفاضل المترجمين في أوروبا.
وكذلك يرى «أنه لا ينبغي للناقل أن يترجم شيئا لكاتب أو شاعر دون أن يقرأ عدة قصائد أو قطع ليسبر غوره وتتجلى له روحه ومراميه»، وهذا النوع الأخير هو الذي اتبعه في تعريبه. ••• «بلاغة الغرب»: جزءان كبيران ولكنهما مع ذلك قطرة من بحر محيط واسع، على أنها قطرة قد تطفئ قدرا كبيرا من ظمأ المتعطشين، وكذلك هي قطرة حلوة نقية صافية.
أطل المعرب الأديب من وراء ستار مجهوداته الكريمة على ساحة اللغة العربية الواسعة منذ سنين، بجزئه الأول من بلاغة الغرب، وكان الجدل بين أهل تلك الساحة قائما، وكذلك لم تكن لشواغل الحروب وحوادث الأيام ما لها من الأثر الكبير في حياة العقول الآن، فتناولوه يومئذ حاجة جديدة ومادة للجدل، ولكنهم انتهوا منه على تشجيعه واستحسانه، ولم يكن هذا التشجيع مع الاستحسان والقبول إلا داعية ثبات الأديب على فكرته واستمراره في مجهوده، وما كان التصفيق له في الأولى إلا دليلا على فائدة عمله وحسن اختياره وجمال أثره وأنه المكافأة الواجبة من ظمآن لساقي الماء الزلال؛ لذلك جاء في الثانية مثله في الأولى. لم يقف ولم يتقهقر بل سار وتقدم وهو يتلفت حوله فاقتطف من مختلف الرياض ما جمع به طاقته الأدبية من أزهار الجنان الغربية الواسعة الغنية، وقدمها للجمهور العربي في شكل أختها السابقة.
وقبل أن نلقي بالنظرات على أزهاره ومقتطفاته الجديدة نقول: إن تمسك الأديب كامل حجاج بأن يكون جزؤه الثاني مثل جزئه الأول من حيث الشكل والطبع وحسن الورق وإتقان العمل دليل واضح على أنه يحمل للجمهور القارئ احتراما كبيرا جليلا، كما أنه برهان على تحفظه ورعايته للدقة والعناية، وقد كان سهلا على الأديب أن يجد المعاذير الجمة إذا هو أراد أن يخرج كتابه الثاني أقل جودة من كتابه الأول. •••
الجزء الثاني من بلاغة الغرب ينشر بين الناطقين بالضاد مختارات من أدب الفرنسيس والإنجليز والألمان والطليان، وبينما ينقل المترجم عن ألفريد دوفيني الفرنسي «غضب شمشون» الجبار وقد هلكت قوته فينادي: «أيها الدائم قهار الجبابرة ...» وينقل عنه «الأقدار» وهي تقول: «نحن الأقدار المشئومة من لم تخطئ سهام سطوتنا القديمة فردا من الناس، قد أتينا نستعلم عن أحكام المستقبل ...» إذا به يترجم القطعة الخاصة عن بيتهوفن شيخ الموسيقيين للكاتب البولوني الأصل الفرنسي اللغة؛ ألفونس كار، صاحب رواية تحت ظلال الزيزفون.
ولما اجتاز المترجم الحدود بين فرنسا وألمانيا - وهي في دور الأدب لا حرس عليها ولا جمارك لها ولا مناطق احتلال ولا رور ولا رين - ذهب إلى «صاحب التاج والصولجان بين الشعراء الألمان» جوت ونقل عنه كثيرا، ولما ودع جوت استقبل شيلر «ثاني شعراء الألمان» ونقل عنه «الرهين» وهي قصة تشبه قصة العربي مع النعمان بن المنذر، كذلك نقل «الغواض» الذي يقول: إن السعداء من يستنشقون هذا الهواء النقي.
ولما تحول عن ثاني شعراء الألمان أقبل على «ثالثهم» هنريش هين فترجم له «بحر الشمال» بمقطوعاتها الشعرية الكثيرة: «إن في الشمال غادة ... تدلت حلقات شعرها الفاحم كليلة هنيئة من رأسها المتوج بغدائرها المفرغة حول وجهها الأزهر المؤثر الذي تسطع به عينها الشبيبة بشمس سوداء.»
ثم انحدر المترجم من بلاد الجرمان مخترقا جبال الألب إلى بلاد الطليان وأنصت إلى شاعرهم «تاسو» وشهد روايته «أمنت» «التي لم يستطع أحد من الكتاب أن يأتي بمثلها».
ثم أبحر من إيطاليا إلى إنجلترا حيث قرأ على «نابغة من فحول شعرائها ملتون» «الفردوس الضائع» فنقل منها حديث إبليس: «وحيث ضاعت مني كل النعم والطيبات فكن نعيمي أيها السوء ... وربما استطعت بك أن أحكم على أكثر من نصف العالم.» ثم حديث آدم وقد سمع ربه يقول له بعد أن استوحش آدم الأرضين: «كيف تذكر وحدتك؟ أليست الأرض معمورة بمختلف الخلائق الحية؟ ... استخدمها وتحكم لملاهيك فيها فمملكتك واسعة الأرجاء.»
ثم نقل عن أديسون الكاتب الكلاسيكي الفكه، وعن شيلي وبيرون الشاعر الذي كان يشرب الخمر في جمجمة إنسان وهو في ثياب راهب ... •••
تلك بعض مختاراته وحبذا لو كان المعرب قد أتم طوافه في أوروبا بزيارته روسيا، فإن للأدب الروسي مميزاته وله دولته الجديدة المبدعة.
والقطع المختارة وإن كانت قليلة بالنسبة للأدب الغربي الواسع المحيط غير أنها من درره النادرة، وهي توحي الشيء الكثير من معنى روحه وطريقته، وذلك أفيد ما يكون لمن لا يعرف إلا العربية، أما من يعرف اللغات الأوروبية فإنا نرى له أن يدرس آدابها بها نفسها أو بإحداها إذا اختص بواحدة منها، فإن قراءة لغة أوروبية أنتج وأسهل من قراءتها باللغة العربية.
ومن حسنات المعرب أنه جاء لكل شاعر بفذلكة من تاريخه ونقده، أما لغته فإن رأيه في طريقته الطيبة مذكور واضح كما أن الجمل التي اقتطفناها ظاهرة غنية.
والآن فإنا نشكر المعرب وندعو معه النشء القارئ أن ينعم النظر فيما بين يديه من الأدب الغربي، وأن يبحث عنه، وعليه أن يجمع بين بيان العرب وبلاغة الغرب.
مصطفى راشد رستم
ميدان سليمان باشا 3
في 22 نوفمبر سنة 1932
سيدي المفضال
قد وصل إلي كتابكم، وأما الجزء الأول منه فقد كنت قرأته من زمان في رومية، إذ تفضلتم وأرسلتموه إلى والدي، ولم يكن لي شك منذ ذلك الزمان أن تأليفكم هذا من دواعي النهضة الحديثة في القطر المصري، وأما الجزء الثاني فقرأته في هذه الأيام لأول مرة، وهذا سبب تأخير ردي الجواب إليكم فاعذروني، ولقد أعجبت بالكتاب غاية الإعجاب وزادني إعجابا ما قلتم في «كلمة عن الإنشاد» وأصبتم فيها الإصابة كلها.
هذا وأظن أنه من الواجب عليكم أن تضيفوا إلى فضل فضلا، وتنشروا تراجم تامة لبعض التآليف الغربية حتى تقف الشبيبة المصرية على كنه الأسلوب الغربي، وأنتم خير المرشدين إلى ذلك، وهذه مسألة مهمة تأبى قلة علمي في هذا الميدان أن أستقصيها.
ولا بد لي من أن أعبر عن عواطف شكري لهديتكم الثمينة، ولتلك العبارات اللطيفة التي استعملتموها في رسالتكم مما لا تستحقه قلة فضلي، ولا أرى سببا له إلا فرط لطفكم.
وتفضلوا بقبول آيات احترامي.
ميكيل أنجيلو جويدي
أستاذ فقه اللغة العربية بالجامعة (3) الأستاذ محمد بك فؤاد حمدي رئيس نيابة محكمة مصر المختلطة
يقولون: إن التأليف إذا احتاج إلى الفكرة مرة واحدة فإن الترجمة محتاجة إليه مرتين، وحسن الاختيار محتاج إليه مرات ثلاث، ويقول الشاعر العربي:
قد عرفناك باختيارك إذ كا
ن دليلا على اللبيب اختياره
وإن كتاب «بلاغة الغرب» الذي حوى من أحاسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره لجدير بتقريظ مطران، إذ يقول:
إن هذا السفر كنز جامع
غالي الدر وحر الذهب
وكفاه من فخار أن حوى
معجز الغرب وآي العرب
ظهر الجزء الأول من هذا السفر الجليل سنة 1909 حافلا بأبدع وأروع ما جادت به قرائح فحول شعراء فرنسا، فخف إلى تقريظه أكابر الأدباء أمثال: طنطاوي جوهري والمنفلوطي، وطفقت كبريات الصحف تثني على أمانة معربه في النقل وصدق أسلوبه، وبراعته في التوفيق بين البلاغتين الفرنسية والعربية، واحتفاظه بموسيقية القصائد التي عربها وبدقة الفن الذي يفيض عليها رواء وبهجة وجمالا.
بل لقد تجاوزت ذلك إلى نشر قطع من الكتاب هي بالدمى والتماثيل أشبه من حيث انسجام الأجزاء وتلاؤم المظاهر واتزان الصورة العامة، فقد نقلت «اللواء» عنه قصيدة العزلة للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين، نشرتها يوم 5 أبريل سنة 1909، ثم نشرت قصيدة «إن للرمال للينا خائنا كلين النساء» لفكتور هوجو التي نشرها «الدستور» في 9 أبريل سنة 1909، ونشرت «الجريدة» يوم 3 أبريل سنة 1909 قصيدة «نابوليون الثاني» لفكتور هوجو.
ولما كان كتاب «بلاغة الغرب» الأول من نوعه، وكان قد حظي بقوة الذيوع والانتشار بين المستنيرين وغواة الأدب، فلا مراء في أنه كان حجرا في زاوية النهضة الأدبية في البلاد، جاء الكتاب في مستهل عهد الثورة الفكرية التي نادت بتحرير الأسلوب والخيال والاتصال بالحياة الجميلة النبيلة، ولو سألت أيا من الكتاب والأدباء المعاصرين سرد أدوار تطوره الفكري لوجدت أنه مر بدور تأثر فيه بمعربات الأستاذ محمد كامل حجاج، ونرجو هنا أن يفطن القارئ إلى ما نقصده بالانفعال والتأثر فهو إما إيجابي وإما سلبي؛ إيجابي في الذين لم يمرحوا في رياض الأدب الغربي، سلبي في دارسيه والمتعمقين فيه، وكلنا قد عالج الانفعال لدى مطالعة قصيدة أو طرفة أدبية كان قد استوعبها بلغتها الأصلية، وقد اطلعنا على الثاني من بلاغة الغرب فجاء تكملة لمجهود فني أدبي عظيم، فإن معربنا الجليل ضم إلى المختار من الشعر الفرنسي نبذا صالحة ونماذج رائقة من الشعر الإنجليزي والألماني والإيطالي، ونحن نرجو حضرته أن يواصل هذا المجهود النافع فيجعله سلسلة متماسكة الحلقات.
Unknown page