Khawatir Himar
خواطر حمار: مذكرات فلسفية وأخلاقية على لسان حمار
Genres
مقدمة الناشر
مقدمة المترجم
إهداء الكتاب
فاتحة الكتاب
1 - السوق
2 - المتابعة
3 - الأسياد الجدد
4 - القنطرة
5 - المخبأ
6 - المداليون1
Unknown page
7 - الحريقة
8 - سباق الحمير
9 - الأصحاب الصالحون
10 - الكلب ميدور
11 - الحمار العالم
12 - حسن الدفاع
13 - السفينة
14 - الخاتمة
مقدمة الناشر
مقدمة المترجم
Unknown page
إهداء الكتاب
فاتحة الكتاب
1 - السوق
2 - المتابعة
3 - الأسياد الجدد
4 - القنطرة
5 - المخبأ
6 - المداليون1
7 - الحريقة
8 - سباق الحمير
Unknown page
9 - الأصحاب الصالحون
10 - الكلب ميدور
11 - الحمار العالم
12 - حسن الدفاع
13 - السفينة
14 - الخاتمة
خواطر حمار
خواطر حمار
مذكرات فلسفية وأخلاقية على لسان حمار
تأليف
Unknown page
الكونتيسة دي سيجور
ترجمة
حسين الجمل
مقدمة الناشر
خواطر حمار
هذا عنوان غريب في اللغة العربية، ومفاجأة جديدة في الكتب العصرية، ونوع طريف من الحكاية على ألسنة الحيوانات، إذا كان مستحدثا في هذا العهد فما هو بالجديد في الآداب الشرقية، فقديما قرأنا كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وحديثا اطلعنا على كتاب العيون اليواقظ لمحمد عثمان جلال، ولولا براعة الإغراب في الوصف ومعرفة المراد بالكتاب لكان جديرا أن يكون عنوانه «مذكرات أخلاقية فلسفية على لسان حمار». •••
ولقد شاهدنا أن أكثر ما تخرجه المطابع المصرية في هذا العصر وهي فيه أكثر ما كانت عملا، لا يعدو إلا قليلا نوعين اثنين من الكتب: الكتب العلمية، والروايات الغرامية أو الجنائية. فأما الكتب العلمية فمكانها المدارس وقراؤها الطلبة، وأما الروايات فأكثر قرائها ناشئة الجنسين من الطلبة والفتيات، وهم إذا فرغوا من فصول الدراسة وحل زمن العطلة الصيفية انكبوا على تلك الروايات. ويسوء الآباء ورجال التربية والأخلاق أن أكثر تلك الروايات مشحون بالمغريات من الحوادث الشائنة والمخزيات من الفظائع المدهشة، وهي سيئة الأثر في أنفس الناشئين؛ بما تقرب إليهم من الجرائم والمنكرات، وبما تكشف لهم عن وجوه من الشر والموبقات كانت مستترة عنهم وكانوا هم عنها غائبين لولا تلك الكتب المجرمة، وقد كان أولى لهم الجهل بها فإننا ممن يرون أن من الجرائم نشر الجرائم. •••
وكان حقا علينا وعلى القائمين بخدمة الآداب في الشرق، أن نتخير لمطالعة الناشئة ومحبي الفكاهة والمسامرة طائفة من الكتب تكون مصونة من ذلك التبذل، بريئة من تلك العيوب. •••
ودعانا إلى إيثار هذا الكتاب بالاختيار ما تضمنه من الحكمة البالغة في الفكاهة السائغة، والموعظة الحسنة في الأسلوب الشائق، وأعجبنا من عبارته أنها ليست بالجد المضني ولا بالهزل الساخر.
وهو كتاب وضعته الكونتس دي سيجور من مشهورات الكاتبات باللغة الفرنسية، الغنية بالكتب المؤلفة للطلبة والناشئين، مما روعي في موضوعه القرب من مداركهم والمناسبة لأذواقهم.
Unknown page
فاقترحنا نقله إلى اللغة العربية، من أجل ما بيناه من الأسباب، على الكاتب العصري حسين أفندي الجمل، وهو كاتب معروف لدى الأدباء أكثر من معرفته عند جمهور القراء، إذ كان توظفه في الحكومة يجعل أكثر عمله في الرسميات، وكان ذلك يقضي عليه بالتنكر فيما ينشر ووضع إمضاءات رمزية
1
على كثير من رسائله المنشورة في الجرائد والمجلات؛ فأجاب الاقتراح وكان عند حسن الظن في أدبه، إذ أتحفنا بآية مختارة في فن الترجمة بأسلوب ممتع هو السهل الممتنع، ترى المعاني فيه منطبقة على الأصل انطباق الكف على الكف، وكأن الترجمة في اللغتين مرآة تجمع بين الحسناء وخيالها. •••
وإنا لنرجو أن يكون ما تحراه الأستاذ المترجم في ترجمته من تسهيل اللفظ، وتيسير المعنى، وسلاسة الإنشاء داعيا إلى حسن القبول وإقبال أكبر عدد من القراء.
مقدمة المترجم
الرفق بالحيوان معروف في الشرق قبل الغرب بما سبق إليه الشرقيون من الحضارة والمدنية، وبما أوحت إليهم الأديان السماوية من رقة العواطف والرحمة الإنسانية.
ولقد كان المصريون القدماء يكرمون بعض الحيوانات تكريما ترقى إلى حد التقديس وانتهى إلى درجة العبادة. وإذا كان الغربيون قد سبقونا في هذا العصر إلى تأليف الجمعيات للعطف عليها والعناية بها، فقد كان ملوك العرب يجودون بالرعاية العظيمة للحيوان، وكان الناس على دين ملوكهم. وروي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين كان يركب دابته فإذا أجهدها السير نزل عنها يمشي إراحة لها.
وشوهد رجل من العرب في يده قطع من الخبز يكسرها ويلقيها بجانب جدار بيته إلى النمل، فقيل له: ما لك وللنمل؟ فأجاب: «هن جارات ولهن حرمة»، فما أحسنها رقة جديرة بالاحترام! وما أجمله عطفا قل مثله في هذه الأيام!
ومن الحيوان المستأنس حيوان هادئ متواضع، هو رفيق الفلاح المصري في كده وشريكه في تعبه، يستقبل الشمس معه للعمل في البكرة ويودعها معه للراحة في الأصيل، ذلك هو الحمار الذي يعمل لصاحبه أكثر من عمله لنفسه، فإن كان لهذا سمي حمارا فحبذا الحمار!
وقد سبق إلى إنصاف هذا الحيوان كاتبة من شهيرات كاتبات الفرنسيين بهذه الرسالة التي جعلت عنوانها «خواطر حمار»، وأبدعت الإبداع كله فيما حدثتنا به عنه من عجائب الحوادث وما صدقت فيه رواية الخيال، فإن فاتني السبق في هذا المضمار فلا أقل من اللحاق بها والنقل عنها وترديد صوتها، اعترافا بجميل هذا الحيوان الوديع الذي يستحق عندنا فوق جزاء المعاونة على العمل بحسن الصنيع، كرامة أنه كان مطية لعيسى عليه السلام وهو المتواضع الرفيع.
Unknown page
ونظرة أخرى في هذا الكتاب تنبئ الناظر فيه بما استودع من محاسن الآداب، وتدل على براعة المؤلفة وحسن تصويرها لوجوه الموعظة، وحذقها الكامل في إدخال الحكمة على القلوب، وإزجاء الفكاهة إلى النفوس من أقرب الأبواب بأيسر الأسباب.
حسين الجمل
مصر الجديدة
إهداء الكتاب
إلى سيدي الصغير هنري
أنت يا سيدي الصغير كنت بي رحيما، ولكنك كنت إذا ذكرت الحمير تحدثت عنها باحتقار لها جميعا، فلأجل أن تعرف عن علم حقيقة الحمير ويصدق حكمك عليها، كتبت هذه المذكرات وأهديتها إليك.
وسترى يا سيدي العزيز كيف كنت أنا المسكين ورفقائي من الحمير نعاني من الناس قسوة المعاملة، ثم تتحقق أن لنا نصيبا عظيما من الذكاء، وحظا وافرا من المواهب الطيبة. وستعرف كيف أنني كنت شقيا في عهد حداثتي، وكم كنت أجازى بالعقاب الشديد! ولكن الندم والتوبة والعمل بإخلاص وحب كل ذلك أعاد إلي محبة رفقائي ورضا سادتي.
فإذا فرغت من قراءة هذا الكتاب، فإنك تنتهي إلى الحكم بأنه بدلا من أن يقال: «بليد كالحمار، جاهل كالحمار، عنيد كالحمار»، يجب أن يقال: «ذكي كالحمار، عالم كالحمار، متواضع كالحمار.»
ثم ترى بحق أنت وقومك أن هذه أوصاف صادقة، وأنها إذا اعتبرت مدائح فلم تكن عبثا.
هي هان!
Unknown page
1
يا سيدي العزيز، إنني أتمنى لك ألا تكون في النصف الأول من حياتك شبيها بخادمك المخلص.
كديشون
الحمار العالم
فاتحة الكتاب
سيدي
لا أتذكر جيدا عهد طفولتي، وأظن أنني كنت في الغالب بائسا مثل كل جحش، وكنت لطيفا ظريفا كسائر الحمير.
ولكنني متحقق من أنني كنت قوي الذكاء، كما أنا الآن في سن الهرم أشد ذكاء وأحسن تصرفا من رفقائي.
ولقد خدعت سادتي ومكرت بهم غير مرة، وهم لم يكونوا إلا من بني آدم ولذلك لم يستطيعوا أن يدركوا مقدار فهم حمار وبراعة حيلته.
وسأقص عليك في هذا الكتاب بعض الأدوار التي مثلتها معهم في زمن الصبا وعهد الشبيبة.
Unknown page
كديشون
الحمار العالم
الفصل الأول
السوق
لما كان الناس لا يعرفون كل ما يعرفه حمار عالم، فإنكم يا من تقرءون هذا الكتاب تجهلون بلا شك ما هو معروف لكل رفقائي الحمير؛ من أنه يقام في كل يوم ثلاثاء سوق في مدينة «ليجل»، يباع فيها الخضار والزبدة والبيض والجبن والفواكه وأشياء أخرى فاخرة.
وكان ذلك اليوم يوم شقاء لرفقائي المساكين، وكان لي كذلك أيضا قبل أن تشتريني سيدتي الكبيرة جدتك الكريمة التي أعيش الآن عندها، فقد كنت مملوكا لفلاحة شرسة قاسية. تصور يا سيدي الصغير كيف أنها كانت تبالغ في القسوة حين تجمع كل البيض الذي يبيضه ما عندها من الدجاج، وكل ما يتجمع عندها من الزبدة والجبن الذي يستخرج من لبن ما تملك من البقر، وكل ما ينضج عندها أثناء الأسبوع من الخضر والفاكهة، ثم تملأ بكل ذلك سلالا تضعها فوق ظهري.
فإذا تم لها كل ذلك وكنت محملا بالأثقال في حالة لا أستطيع معها التحرك، كانت تجيء هذه المرأة الثقيلة وتجلس أيضا فوق السلال، ثم تسوقني بغلظة وعنف إلى أن أصل إلى السوق وكان بينه وبين منزلها مسافة فرسخ، وكنت دائما في شدة الغيظ الذي لا أستطيع إظهاره لأنني أخشى وقع العصا التي كانت تحملها دائما، وهي عصا غليظة معقدة كانت تؤذيني أذى شديدا كلما ضربتني بها. وكنت كلما اقترب وقت الذهاب إلى السوق أشهق وأنهق برقة أستعطف بها سادتي، فكانت هي تسرع إلي وتقول: اسكت أيها الكسول، ولا تصدعنا بصوتك المنكر «هي هان! هي هان!» كأنك تحسب هذا الصوت موسيقيا مطربا. ثم تنادي ولدها «جول» وتقول له: قرب هذا البليد من الباب لكي أضع الأحمال على ظهره؛ هناك سبت البيض وسبت آخر، والجبن والزبدة، والخضار أخيرا. وهذا حمل تحصل من بيعه في السوق على بضعة ريالات، وتدعو ابنتها مارييت بعد تشييد الحمل على ظهري فتقول لها: أحضري كرسيا لكي تصعد أمك على الحمار. فإذا ركبت تناولت العصا، وبدأت تضرب ضربا متكررا، وكأنها تحسب الضرب مداعبة ضرورية، ثم تسير ولا تكاد العصا تقف أو تكف في يدها عن الضرب على رقبتي وعلى جنبي وأفخاذي، وكنت أسرع في السير وأحيانا أجري، ومع كل ذلك فلا تنقطع الفلاحة عن استمرار الضرب، فكان من حقي أن أقسو وأن أنتقم بل حاولت الرفس لكي ألقيها على الأرض، ولكن كان الحمل ثقيلا فلم أستطع هذه الحركة، ولكني كنت دائما أتحول في الطريق يمينا وشمالا، وكنت مع ذلك مسرورا لأنني أشعر باضطرابها فوقي، فكانت تهددني وتقول لي: سأصلح هذا الاعوجاج بالعصا، وأعلمك الاستقامة في السير. ويستمر الضرب حتى كان يؤلمني كثيرا المشي في الطريق إلى أن نصل إلى السوق، ثم ترفع الأحمال التي على ظهري وتلقى على الأرض.
وتذهب سيدتي بعد أن تربطني لتأكل، ومع أنني كنت أكاد أموت من الجوع والتعب، فإنها لم تعطني لا شيئا من الماء ولا قليلا من البرسيم، لذلك احتلت على الاقتراب من سبت الخضار أثناء غيابها، فرطبت لساني وفمي بما ملأت به معدتي من الخضراوات والكرنب، ولم أذق في حياتي أطعم من هذه الخضراوات، وانتهيت من التهام آخر كرنبة في اللحظة التي عادت فيها سيدتي.
فصرخت حين أبصرت السبت فارغا، ورأيتها ممتقعة متألمة لأنها أدركت فعلتي.
ولا أكرر على مسمع القارئ ألفاظ الشتم والسباب التي هالتها علي وكانت لهجتها حادة شرسة، وكانت وهي غاضبة تقول من الكلام ما أحمر منه خجلا أنا الحمار.
Unknown page
ولم يكن مني إلا أنني كنت أتلمظ ثم وليتها ظهري، فتناولت عصاها واستمرت في الضرب بقسوة إلى أن ضاع رشدي ونفد صبري فرفستها ثلاث رفسات؛ هشمت الأولى أنفها وكسرت بعض أسنانها، وخلعت الثانية يدها، وأصابتها الثالثة في معدتها وألقتها على الأرض.
فهرع إلي أشخاص كثيرون وأثقلوني ضربا وإهانة، ثم حملوا سيدتي ولا أدري إلى أين، وتركوني مربوطا بجانب المكان الذي ألقيت فيه أحمالي وبقيت وحدي فيه مدة، فلما رأيت أنه لا يفكر في أحد أكلت ما في سبت آخر من الخضار اللذيذ، ثم قرضت الحبل الذي ربطوني به وعدت بهدوء إلى طريق العزبة.
ودهش الذين رأوني في الطريق عائدا وحدي، وصاروا يتهامسون ويتضاحكون، وقال بعضهم: إنه لا يحمل شيئا فأين صاحبته؟ وأين ذهبت أحماله؟ فقال آخر: لا بد من أنه فعل فعلة سيئة، وقالت امرأة: قربوه ليركب هذا الطفل على بردعته، فقال زوجها: إنه يستطيع أن يحملك أنت والطفل.
وأردت أن أحسن ظنهم بي وبحسن أخلاقي، فاقتربت بلطافة من الفلاحة ممهدا لها سبيل الركوب على ظهري، فقال زوجها وهو يساعدها على الركوب: ليس خبيثا هذا الحمار.
فابتسمت لهذا الكلام لأن الحمار الذي تحسن معاملته لا يكون خبيثا، فإننا لا نكون مغضبين عنيدين إلا إذا أردنا أن ننتقم ونجازي على ما يصب علينا من الأذى والإهانة، أما إذا عوملنا برفق فإننا نكون طيبين أحسن من كل أنواع الحيوان.
وذهبت مع هذه المرأة وطفلها إلى منزلها، وكان الطفل جميلا عمره سنتان، فأحبني ولاطفني وأراد أن أبقى عندهم، ولكني فكرت في أن هذا لا يكون من الشرف، فإن سيدتي هي التي اشترتني فأنا مملوك لها، ولقد هشمت أنفها وخلعت يدها وآذيت معدتها وهذا كاف في الانتقام.
وأدركت أن الأم تهم بموافقة طفلها على استبقائي عندها فأسرعت فقفزت من جانبها، وقبل أن تستطيع اللحاق بي لتمسك لجامي ركضت حتى وصلت إلى المنزل.
وكان أول من أبصرني مارييت بنت سيدتي، فقالت: هذا كديشون، وقد عاد اليوم مبكرا، يا جول اخلع عنه البردعة، فقال جول : كثيرا ما يشغلنا هذا الحمار، وإلا فلماذا عاد وحده؟ أنا أراهن على أنه هرب. وشتمني ثم ضربني برجله على فخذي، وقال: لو تحققت أنك فررت من السوق لضربتك مائة ضربة.
وخلع عني البردعة واللجام فابتعدت راكضا، ولم أكد أتوغل في المزرعة حتى سمعت أصواتا من جهة العزبة، فتلفت فرأيت سيدتي قد عادت محمولة، وكان أولادها يصيحون فأصغيت لما يقولون، فسمعت جول يقول لأبيه: إنني سآخذ كرباج العربجي، وسأربط الحمار في شجرة وأضربه حتى يسقط على الأرض.
فقال له أبوه: اذهب ولكن لا تقتله، فنفقد الثمن الذي دفعناه، وإنني سأبيعه في السوق القادم.
Unknown page
وبقيت مضطربا من الخوف لما سمعت حين أبصرت جول يجري إلى الإصطبل يبحث عن الكرباج، وصار الأمر واضحا وتوقعت الأذى فلم أفكر هذه المرة في استفادتهم من الثمن الذي اشتروني به، وركضت إلى الزريبة التي تحجبني عن النظر، وجريت بسرعة وقوة حتى كسرت في طريقي كثيرا من فروع الأشجار ووصلت إلى آخر المزرعة، ثم جريت في الغيط، واستمررت أجري طويلا وأسرع كثيرا وأنا أحسب أنهم يطاردونني، وأخيرا حين عجزت عن الاستمرار في الجري وقفت وأصغيت فلم أسمع شيئا، وصعدت ربوة فلم أر أحدا فنعست واسترحت وابتهجت بتخلصي من شراسة هؤلاء الفلاحين.
ولكني سألت نفسي: ماذا يكون من أمري، فإذا بقيت في البلد فسيعرفونني وسيمسكونني، ثم يرسلونني إلى العزبة؟ فماذا أصنع، وأين أذهب؟!
ونظرت حولي فرأيت نفسي وحيدا بائسا وبكيت حالتي المحزنة، وكنت على مقربة من غابة جميلة فانتعشت وقلت إنني سأجد في هذه الغابة الحشيش الرطب والماء وما أشتهي من غذاء، فأقمت فيها أياما ثم ذهبت إلى غابة أخرى بعيدة جدا عن عزبة سادتي.
ودخلت هذه الغابة، ثم أكلت الحشيش المبسوط على الأرض بلذة، وشربت الماء الجاري من نبع عذب بهناء.
واقترب الليل فاضطجعت على بساط أخضر من الطحلب بجانب شجرة صنوبر، ونمت هادئا إلى اليوم التالي.
الفصل الثاني
المتابعة
فلما أصبحت تذكرت في اليوم التالي بعد أن أكلت وشربت ما وصلت إليه من الراحة والسعادة، وقلت في نفسي: ها أنا نجوت وهم لن يدركوني، وبعد مضي يومين أكون فيهما استكملت راحتي سأمعن في الابتعاد عن هذا المكان أيضا.
ولم أكد أفرغ مما فكرت فيه حتى سمعت نباح كلب عن بعد أعقبه نباح كلب آخر، ثم تبينت زمرة من الكلاب فصرت قلقا خائفا، وقمت فاتجهت إلى نهير لمحته في الصباح، وبمجرد وصولي إليه سمعت صوت جول يخاطب الكلاب: اذهبوا يا كلابي فابحثوا جيدا حتى تجدوا ذلك الحمار البائس وتعضوه وتمزقوا جلده وتحضروه إلي لأقطع الكرباج على ظهره.
فوقعت من شدة الخوف، ولكني عدت إلى التفكير فقلت: إنني إذا سرت في الماء فإن الكلاب لا تستطيع إدراك أثر أقدامي، وأمعنت في السير في مياه النهير بدون توقف زمنا طويلا، وابتعد نباح الكلاب عني وكذلك صوت جول، وانتهيت إلى أنني لم أسمع منهم شيئا، ثم تعبت وأحسست بالظمأ فوقفت هنيهة لأجل الشرب، وأكلت مما حول النهير من العشب، وكنت مبترد الساقين ولكني لم أجسر على الخروج من الماء، لأنني خائف من متابعة الكلاب وشعورها بخطواتي. ولما استرحت عدت إلى السير بجانب النهر دائما إلى أن خرجت من الغابة، فوجدت أنني وصلت إلى مرجع متسع فيه من الثيران نحو خمسين، ونمت في الشمس في جنب البرسيم، ولم تلتفت إلي الثيران أدنى التفات حتى رأيت أنني أستطيع أن آكل وأن أنام كما أشتهي.
Unknown page
وفي المساء دخل رجلان المرج، وقال أكبرهما للثاني: ألا ترى يا أخي أن نبيت الثيران هذه الليلة، فإنه يقال إنه يوجد في الغابة ذئاب؟ فأجابه: ذئاب! من حدثك بهذه السخافة؟
فقال: ناس من مدينة ليجل، وقيل: إن حمارا من تلك المدينة اختطف وافترس في هذه الغابة.
فأجاب: اسكت يا أخي، فإن كنت تعني حمار العزبة القريبة منا فإن أهلها غلاظ الأكباد، وربما كانوا هم الذين قتلوا الحمار من شدة الضرب، فقال: فلماذا إذن يقال إن الذئاب أكلته؟ فأجاب: لكيلا يعرف أنهم هم الذين قتلوه. فقال: على كل حال يحسن أن ندخل الثيران. فأجاب: افعل ما شئت يا أخي، فإنني لا أتمسك بالموافقة ولا بالمخالفة.
سمعت هذا منهما وأنا لم أتحرك من مكاني، وإن كنت كثير الخوف من أن يرياني، وكان البرسيم عاليا يخفيني عن النظر، ولحسن الحظ لم تكن الثيران في الجهة التي أنا فيها، فقادوها إلى العزبة التي فيها أصحابها.
ولم أخف من تلك الذئاب لأن الحمار الذي تحدثوا بقتله لم يكن سواي، وأنا لم أحس أثرا لأي ذئب في الغابة، فلذلك نمت ملء جفوني، وأتممت فطوري في الوقت الذي عادت فيه الثيران صباحا إلى المرج، وكان يقودها كلبان ضخمان.
ولمحتهما بخفة حين كان أحدهما يبصرني وينبح بلهجة مهددة، وجرى نحوي فتبعه الآخر. ما العمل؟ وكيف أفر منهما؟ هرعت إلى جانب النهير وابتعدت عنهما، وسمعت صوت أحد الرجلين اللذين سمعتهما ليلا ينادي الكلاب، واستمررت في سبيلي هادئا متابعا السير إلى أن وصلت إلى غابة أخرى لا أعرف اسمها، وأيقنت أنني بعدت عن العزبة وعن مدينة ليجل بنحو عشرة فراسخ وأنني نجوت الآن، لأنه ليس يعرفني هنا أحد، وأستطيع أن أظهر بغير خوف من أن يقودني أحد إلى سادتي.
الفصل الثالث
الأسياد الجدد
عشت هادئ البال في هذه الغابة نحو أشهر، وضجرت من العزلة، ولكنني مع ذلك أفضل الانفراد على معيشة البؤس مع الناس.
وزاد همي حين أبصرت الحشائش تقل وصارت قاسية، وتساقطت أوراق الشجر وتجمد الماء وترطبت الأرض.
Unknown page
فقلت: وا أسفاه! ماذا أعمل إذا مكثت هنا، سأهلك من البرد والجوع والظمأ؟ ولكن أين أذهب؟ وماذا يحل بي؟
وبقوة التفكير تخيلت طريقة أجد بها ملجأ، فخرجت من الغابة ودخلت قرية صغيرة قريبة منها، فرأيت فيها منزلا منعزلا نظيفا وامرأة طيبة جالسة على الباب تغزل، وتأثرت بمنظرها الذي يدل على الطيبة والأسى، فاقتربت منها ووضعت رأسي على كتفها، فانبعث من هذه المرأة الطيبة صوت مؤثر، وأسرعت إلي تحرك كرسيها وظهر أنها تخوفت، فلم أتحرك ونظرت إليها بعين هادئة مطمئنة.
فقالت: دابة مسكينة، ليس على هذا الحمار شيء من سمة الخبث، وإذا لم يكن لك صاحب فإنني يسرني كثيرا أن تكون عندي لكي تخلف حماري جريزون الذي مات من الكبر، وبذلك أستطيع الربح من بيع الخضار في السوق. ولكن لعل لك أصحابا يبحثون عنك.
وسمعت صوتا رقيقا من الداخل يقول: مع من تتكلمين يا جدتي؟
فقالت: أتكلم مع حمار جاء ووضع رأسه على كتفي، ونظر إلي بعاطفة لم أستطع معها أن أطرده.
فأجابها صاحب الصوت: سننظر. ولمحت على جانب الباب غلاما جميلا في نحو السادسة أو السابعة من العمر، وكانت ثيابه ثياب فقير ولكنها نظيفة، فنظر إلي بعين فاحصة ولكنه كان خائفا قليلا.
وقال لها: هل يمكن أن ألاعبه؟ - نعم بلا شك، ولكن احذر أن يعضك يا جورج.
فبسط الغلام ذراعه ولم يدركني، ولكنه تقدم خطوة وأخرى ثم استطاع أن يصل إلى ظهري.
فلم أتحرك خشية أن أخيفه، ولكنني أدرت رأسي نحوه ولحست يده بلساني.
فقال جورج: ما ألطف هذا الحمار! إنه طيب لأنه لحس يدي.
Unknown page
فقالت الجدة: من الغريب أنه وحده، أين صاحبه؟ اذهب يا جورج إلى الفندق حيث ينزل المسافرون، واسأل عن صاحب هذا الحمار فإنه ربما كان مشغولا بالبحث عنه.
جورج :
هل أقود الحمار بيدي يا جدتي؟
الجدة :
هو لا يتبعك، فاتركه يذهب حيث يشاء.
وذهب جورج راكضا فأسرعت السير وراءه، فلما رأى أنني أتبعه جاء إلي ولاطفني قائلا: ما دمت تتبعني فإنك لا تمنعني من ركوبك. وقفز إلى ظهري وقال لي: شي ... شي ...
ومشيت مشيا خفيفا فرح به جورج، ولما وصلت إلى الفندق وقفت أمامه ولم أتحرك كأنني مقيد.
فقال صاحب الفندق: ماذا تريد يا ولدي؟ - جئت لأعرف إذا كان هذا الحمار الذي على الباب هو لك أم لأحد النازلين عندك.
فتقدم مسيو دوفال إلى الباب ونظر إلي بإمعان، وقال: كلا، ليس لي هذا الحمار ولا لواحد ممن أعرفهم، فاذهب وابحث في غير هذا المكان.
فصعد جورج على ظهري، وعدت إلى السير به، ومشينا وهو يسأل من باب إلى باب عن صاحبي فلم يعرفني أحد.
Unknown page
وانتهينا إلى الرجوع إلى تلك الجدة الطيبة، التي كانت مستمرة في الغزل وهي جالسة أمام باب منزلها.
جورج :
يا جدتي، هذا الحمار ليس ملكا لأحد من أهل البلد، فماذا نصنع به هو لا يريد أن يتركني، وإذا تمسك به أحد تخلص منه إلي؟
الجدة :
ما دام الأمر كذلك فلا يحسن أن تتركه في الليل في العراء فإن ذلك يضره، فاذهب به إلى إصطبل حمارنا جريزون وقدم له شعيرا وماء، وسننظر غدا إذا ذهبنا به إلى السوق لنتعرف صاحبه.
جورج :
وإذا لم نجده يا جدتي؟
الجدة :
نحتفظ به إلى أن نسأل عنه، فإننا لا نرضى أن نترك هذا الحيوان يهلك من البرد في هذا الشتاء، أو ندعه يسقط في أيدي الغلمان الأشرار الذين يعبثون به ويتركونه يموت من التعب والشقاء.
وقدم لي جورج الشعير والماء ولاطفني وخرج، وسمعته وهو يقفل الباب يقول: كم أتمنى ألا يكون له صاحب وأن يبقى عندنا!
Unknown page
وفي اليوم التالي قدم لي جورج بعد الفطور رسنا وقادني إلي الباب، ووضعت الجدة فوقي بردعة خفيفة وجلست عليها، وأحضر لها جورج سبتا صغيرا من الخضار وضعته على ركبتيها ومشينا إلى سوق مامير، وباعت هذه المرأة الطيبة خضارها في السوق ولم يعرفني أحد، فرجعت مع أسيادي الجدد.
وعشت عندهم أربع سنوات، وكنت سعيدا، فلم أفعل شرا لأحد، وكنت أؤدي عملي جيدا، وأحب سيدي الصغير الذي لم يكن يضربني أبدا، وهم لم يكونوا يتعبونني كثيرا، وكان الغذاء كافيا جدا مع أنني لست نهما، ففي الصيف يقدمون قشور الخضار والحشائش التي لا يأكلها الخيل ولا البقر، وفي الشتاء كان طعامي من الشعير ومن قشور البطاطس والكراث والكرنب، وهذا يكفينا نحن الحمير.
وكانت مع ذلك تمر بي أيام لا أحبها، هي تلك الأيام التي كانت تؤجرني فيها سيدتي إلى الصبيان المجاورين لنا.
وذلك لأنها لم تكن غنية، ففي الأيام التي لم يكن لي فيها عمل عندهم كانت تؤجرني إلى غلمان القصر القريب منا ليتنزهوا بركوبي، ولم يكونوا دائما طيبين.
وإليك ما جرى ذات يوم في نزهة من تلك النزهات:
الفصل الرابع
القنطرة
كان في الحوش ستة من الحمير مصفوفة، وكنت من أقواها وأجملها، وأحضر ثلاثة من البنات الصغار طعامنا من الشعير، وكنت وأنا آكل أسمع الأطفال يتحدثون.
فقال شارل: هيا بنا يختار كل منا حماره، أنا أختار هذا. وأشار إلي بأصبعه.
فأجاب الخمسة الأطفال الذين كانوا معه: إنك دائما تختار لنفسك أحسن الموجود، يجب أن يكون التوزيع بالاقتراع.
Unknown page
فقال شارل: كيف يمكن أن نقترع على الحمير يا كارولين؟ هل يمكن وضع الحمير في كيس والسحب منها كما تسحب الأكر؟
فأجاب أنطوان: كيف تقول هذا؟ أليس من الممكن أن نضع نمرة على كل حمار من الحمير الستة 1 و2 و3 و4 و5 و6، ونضع هذه النمر في كيس ثم نسحب النمر على اسم كل واحد، فتخرج نمرة كل واحد بحسب حظه.
فصاح الباقون: أحسنت. وقالوا لأرنست وهو أصغرهم: اكتب أنت النمر على ظهور الحمير، واكتب مثلها على قطع من الورق.
وضحكت في سري لأنني رأيت أن هؤلاء الأطفال أغبياء، ولو كان عند أحدهم شيء من ذكاء الحمار لرأى أن أحسن من هذا الجهد في الكتابة والتنمير أن يصفوا الحمير بجانب الحائط ويقترعوا عليها، فمن كانت نمرته الأولى أخذ الحمار الأول ومن كانت نمرته الثانية أخذ الثاني وهكذا.
وفي هذه الأثناء أحضر أنطوان قطعة كبيرة من الفحم، وكنت الأول فكتب على جنبي بخط كبير 1، وبينما كان يكتب 2 على جنب الحمار الذي يليني انتفضت بشدة لكي أظهر له أن اختراعه الكتابة بالفحم لم يكن مفيدا، فإن الفحم الذي كتب به نمرتي تطاير واختفت النمرة 1، فصاح الذي كتب منهم شاتما لاعنا وقال: سأعيد الكتابة، وبينما كان يكتب ثانيا نمرة 2 على جنب الحمار الذي بجواري، وكان حمارا خبيثا، انتفض هو أيضا انتفاضة شديدة فتطاير ما كتبه بالفحم ثانيا من نمرته، فغضب أنطوان من هذا العمل المكرر الذي ضايقه في أثناء الكتابة، ولكن إخوانه ضحكوا كثيرا وسخروا منه.
وأشرت إلى جميع الحمير بأن تنتظر الكتابة ولا تتحرك، وقد حصل ما أشرت به. وعاد أرنست ومعه النمر في منديله، وبدءوا يسحبون النمر كل واحد يأخذ نمرة، فعملت إشارة أخرى إلى رفقائي، وأخذنا جميعا ننتفض ونهتز بسرعة وشدة، فذهب ما تكلفوا من الفحم وما تعبوا فيه من الكتابة، وقال أحدهم: يلزم أن نعود إلى الكتابة. وكانوا متغيظين، ولكن شارل كان يضحك منتصرا، أما أرنست وألبير وكارولين وسيسيل ولويز فصاحوا في وجه أنطوان، وكان هو يضرب الأرض برجله غيظا، وسخطوا وسبوا جميعا، فأخذت أنا ورفاقي في النهيق، وتنبه الآباء والأمهات وساقتهم إلينا هذه الضجة وعرفوا ما جرى. وأخيرا اقترح واحد من الآباء أن يصفونا صفا بجانب الحائط، وبدأ في سحب النمر لهؤلاء الأطفال.
فسحب نمرة 1 فصاح أرنست: هذا لي.
وسحب نمرة 2 فقال سيسيل: هذا حماري.
وسحب نمرة 3 فصاح أنطوان. وهكذا كلما سحب نمرة نادى واحد من الأطفال إلى أن انتهى من الأخير.
ثم قالوا: إذن فلنبدأ السير، وقال شارل: أنا أمشي أولا.
Unknown page
وأجابه أرنست: وأنا ألحق بك حالا وأدركك سريعا.
فقال شارل: أؤكد لك أنك لا تستطيع.
فأجاب أرنست: وأنا أراهن على إمكاني ذلك.
وبدأ شارل يسوق حماره فسار به ركضا، وقبل أن يضربني أرنست بكرباجه أسرعت أنا في السير بحالة أوصلتني في أقرب وقت إلى شارل وحماره فابتهج أرنست، وتضايق شارل وصار يضرب حماره ويكرر الضرب، ولكن أرنست لم يكن في حاجة إلى ضربي لأنني جريت بسرعة كأنني أسابق الرياح، وتجاوزت شارل في دقيقة واحدة. وسمعت الآخرين يضحكون ويصيحون: ما أسرع الحمار نمرة 1! إنه يجري كأنه فرس رهان.
وخامرني الزهو فتشجعت واستمررت في الركض به إلى أن وصلنا إلى قنطرة فتوقفت فجأة، لأنني رأيت لوحا عريضا من خشب أرض القنطرة متآكلا منهارا، ولم أشأ أن أسقط في الماء مع أرنست إذا سرت به على القنطرة، فقفلت راجعا إلى الجماعة التي كانت معنا وكانوا متأخرين عنا كثيرا.
فناداني أرنست: كلا، كلا، لا ترجع، استمر في اجتياز القنطرة، فقاومت ولم أنتقل، فضربني بعصاه، فاستمررت أمشي نحو الآخرين، فقال لي: اذهب يا عنيد وتحول إلى القنطرة. واستمررت نحو رفاقي وأدركتهم رغم المقاومة والضرب من هذا الغلام الغبي .
فلما أبصره شارل قال له: لماذا تضرب حمارك يا أرنست مع أنه حمار فاره، وقد جعلك تسبقنا وتتجاوز شارل؟
فأجاب: ضربته لأنه عاند ولم يستمر في السير على القنطرة، بل عاد أدراجه ولم يوافقني على اجتيازها.
فقال له: ذلك لأنه كان وحده، أما الآن وقد صرنا معا فإنه سيجتازها مع سائر الحمير.
فقلت: مساكين كلهم! ووجب علي أن أفكر فيما يمنع سقوطهم في الماء، ويحسن أن أدلهم على أن في الأمر خطرا.
Unknown page
فأسرعت ركضا نحو القنطرة على ارتياح تام من أرنست وصياح مستمر من رفاقه، فلما وصلت إلى القنطرة وقفت فجأة وقفة الخائف المضطرب.
فدهش أرنست وحثني على الاستمرار، فتراجعت بحالة اضطراب زادت في دهشة أرنست، ولكن هذا الغبي لم يدرك شيئا مع أن اللوح الخشب المتآكل من القنطرة كان ظاهرا جدا. واستغرب الآخرون وهم يضحكون من مجهود أرنست في حملي على المسير ومجهودي في التوقف عنه، وانتهوا بالنزول عن حميرهم وكان كل واحد منهم يدفعني ويضربني بدون شفقة ولكني لم أتحرك.
فصاح شارل: اسحبوه من ذيله، فإن الحمير أهل عناد تتراجع إذا أراد الواحد أن تتقدم.
وهموا بأن يسحبوا ذيلي فدافعت عن نفسي بالتحول عنهم فضربوني كلهم، ولكني لم أتحرك ثانيا.
فقال شارل: انتظر يا أرنست، سأذهب وأجتاز القنطرة أنا أولا، وسيتبعني بعد ذلك حمارك بغير شك.
وأراد أن يتقدم فاعترضته، وجعلت نفسي بينه وبين القنطرة، فأرجعوني بقوة الضرب المستمر.
فقلت في نفسي: إذا كان هذا الغبي يريد أن يغرق فإنني قد فعلت كل ما في وسعي لنجاته، وما دام يريد أن يشرب من ماء النهر بسقوطه فيه فلينزل ما دام يريده على كل حال.
ووصلوا بعد الجهد إلى إنقاذ المسكين شارل من الغرق.
ولم يكد حمار شارل يضع قوائمه على اللوح المتآكل من القنطرة حتى تكسر اللوح وسقط الحمار وشارل في الماء، ولم يحدث أدنى خطر لرفيقي الحمار لأنه كان يعرف العوم مثل كل الحمير. أما شارل فكان يحاول التخلص ويصرخ بأعلى صوته دون وصول إلى ما يتمنى من الإنقاذ، ثم صاح قائلا: أحضروا مدرة ، أحضروا مدرة، فصرخ الأطفال وجروا إليه من كل ناحية، وأبصرت كارولين مدرة طويلة فالتقطتها ومدتها إلى شارل فقبض عليها، ولكن ثقله في الماء كاد يجر إليه كارولين، فصاحت قائلة: ساعدوني! فأسرع إليها أرنست وأنطوان وألبير ووصلوا بعد جهد إلى إنقاذ ذلك المسكين شارل، الذي شرب من الماء أكثر مما يدعو إليه الظمأ، وغطاه الماء من القدم إلى الرأس. فلما نجا ضحكت الأطفال من هيئته التي تغيرت فغضب شارل، وركب الأطفال حميرهم ونصحوه بأن يعود إلى المنزل لتغيير ملابسه، فركب حماره والماء يقطر منه. وضحكت أنا على حدة من شكله المتغير ووجهه المكتئب، وكان تيار المياه قد جرده من قبعته وحذائه، فكان والماء يقطر منه على الأرض وشعره نازل على وجهه وملتصق به، ذا شكل يدعو إلى الضحك. ضحك الأطفال وجاراهم رفقائي الحمير، فكانوا يشاركونهم في الاستهزاء والسخرية من ذلك المنظر.
ويجب أن أزيد هنا أن حمار شارل الذي سقط في الماء كان بغيضا إلينا نحن الحمير جميعا، لأنه كان مشاغبا وكان نهما وبليدا، وهذه صفات نادرة في الحمير.
Unknown page
أخيرا اختفى شارل، وهدأ الأطفال والحمير، وكأنهم فهموا ما أردت من نجاتهم بابتعادي عن القنطرة، فأصبحوا يلاطفونني ويستحسنون عملي ورأيي. وعدنا إلى السير جميعا، وأنا على رأس الجماعة، إلى أن رجعنا وتفارقنا وذهب كل واحد إلى منزله.
الفصل الخامس
المخبأ
لقد كنت سعيدا كما حدثت فيما مضى ولكن لكل شيء نهاية، فقد ذهبت سعادتي؛ كان والد جورج جنديا فعاد إلى بلده يحمل من المال ما تركه رئيسه، ويعتز بوسام أهداه إليه القائد، فاشترى منزلا في مدينة مامير، وأخذ معه ابنه الصغير وأمه العجوز، ثم باعني إلى جار له يملك مزرعة صغيرة، فحزنت لأنني اضطررت إلى ترك سيدتي العجوز وسيدي الصغير جورج، وكان كلاهما رحيما بي، وكنت أؤدي عندهم واجباتي أحسن الأداء.
ولم يكن سيدي الجديد لئيما، ولكنه كان ذا رغبة شديدة في العمل الكبير الذي يشغل به كل من يكون عنده، وكنت أيضا كغيري ممن كلفهم كثرة العمل، فقادني إلى عربة صغيرة يحملني عليها الأتربة والسباخ والبطاطس والأخشاب، فابتدأت في التكاسل لأنني لم أكن أطيق أن أكون مربوطا، وكنت أكره على الخصوص أيام السوق، وذلك ليس لأنه كان يحملني فوق طاقتي ولا لأنه كان يضربني، بل لأنني كنت أضطر يوم السوق إلى البقاء جائعا من الصباح إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وكنت إذا جاء وقت الظهر أكاد أموت من العطش، وكان واجبا علي أن أنتظر حتى يتم بيع كل الحمل، وأن يقبض سيدي ثمن ما يبيعه، وأن يحيي أصحابه، وأن يأكل أكلة العصر.
ولذلك لم أكن لهم حينئذ طيبا، فإنني أحب أن أعامل بالحسنى وإلا فإنني أبحث عن وسيلة للانتقام، فانظر ماذا عزمت عليه في يوم من الأيام، وسترى من ذلك أن الحمير ليست غبية، وستعرف أنني صرت لئيما:
ففي يوم السوق يستيقظون مبكرين، فيجمعون الخضار ويصنعون الزبدة ويلتقطون البيض، وأنا في الصيف أنام في حقل واسع، فكنت ألاحظ هذه الأعمال وأنا أعرف أنهم في الساعة العاشرة قبل الظهر يبحثون عني ليربطوني في العربة التي يملئونها من كل ما يريدون بيعه، وسبق أنني قلت إن يوم السوق يضايقني ويتعبني؛ فرأيت أن أبحث عن مخبأ أحتجب فيه وقت الطلب إلى السوق، فلاحظت أن في وسط ذلك المرج حفرة كبيرة مملوءة من الطحلب والحشائش، وفكرت أنه يمكن أن أختبئ فيها فلا يرونني وقت ذهابهم. ففي يوم السوق حين رأيت الذاهبين والآيبين من سكان المزرعة نزلت بخفة إلى الحفرة، وتوغلت فيها بحالة تجعل من المستحيل على الناظرين أن يروني، ومكثت فيها نحو ساعة مغمورا بالقش والطحلب، في الوقت الذي كان فيه الخادم يبحث عني ويجري في كل ناحية حتى عاد إلى المزرعة، ويظهر أنه أخبر بأنه لم يجدني لأنني رأيت صاحب المزرعة بنفسه يسأل امرأته وكل من حوله عني، فقال أحدهم: الظاهر أنه ذهب إلى الزريبة.
فأجاب آخر: من أي جهة تظن أنه ذهب وليس له طريق مفتوح في الغيطان؟ إنه ليس بعيدا من هنا، فتشوا عليه في كل مكان وعودوا حالا فإن الوقت يمر بسرعة، وسنتأخر عن الوصول إلى السوق في الوقت المناسب.
وها هم أولاء كلهم قاموا إلى الغيط وفي الغابة يجرون وينادونني، وأنا في أثناء ذلك أضحك في سري وأجتهد في أنني لا أظهر من مكاني.
وعاد المساكين يلهثون من شدة التعب، وكانوا قد بحثوا عني في كل مكان مدة ساعة كاملة.
Unknown page