فمال الشريف على المتنبي، وقال: لقد جاوز الكلب الحد وبلغ الغاية في الإقذاع، اهجه يا أبا الطيب، اهجه من صنف كلامه ونوعه، ومزق عرضه كما تمزق النعل الخلق. فجلس المتنبي هنيهة ثم أخذ ينادي ضبة وهو في حصنه بأقبح الألقاب، وينشده قصيدة قذرة الألفاظ والمعاني قذفه فيها بكل ما حققه من السباب، ورماه ورمى أمه بما يتعفف عن ذكره أبذأ الناس لسانا. وعاد جماعة المحاربين ولم يبلغوا من ضبة مأربا، ولم يجرد أبو الطيب سيفه من قرابه.
وقال أحدهم: لقد كانت قصيدة عجيبة، وأغلب ظني أنها ستثير ضجيجا في بني كلاب.
وقال ثان: لعلها تؤدب هؤلاء القرامطة وتصرفهم عن غيهم.
وقال ثالث: إني أخشى ما أخشاه أن تصل هذه القصيدة إلى أذن فاتك الأسدي. فالتفت المتنبي في انزعاج، وقال: ومن فاتك الأسدي هذا؟ - فاتك الأسدي رجل قرمطي، وهو خال ضبة بن يزيد، وهو لص بطاش مغامر يستحل دم الحجاج في الحرم، والقصيدة كلها قذف في أخته وثلم لعرضها، ولا أعتقد أنه يسكت عن هذا أو بعض هذا. فتهافت المتنبي ساخرا، وقال:
إذا صلت لم أترك مصالا «لفاتك»
وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
واستمر أهل الكوفة في خوف وذعر من القرامطة، وعلمت فاطمة زوج المتنبي بخبر ضبة، وتساقط إلى سمعها بعض أبيات من القصيدة فتوجست شرا، ولم تستطع أن تحادث زوجها في الأمر.
وبعد أن أشهر تجددت ثورة القرامطة وتجمعوا حول زعمائهم بظاهر الكوفة، وصمموا على الهجوم على المدينة، فالتف كبراؤها حول أبي الطيب وجهزوا فصيلة من الفرسان والرجالة لقتالهم، وقد كانوا أرسلوا إلى بغداد رسولا لطلب المعونة، وخرج أبو الطيب وعبيده للقتال وحارب أياما فأثخن في أعدائه، وانتهت المعركة، وفر بنو كلاب، وعاد الشاعر الفارس منصورا مظفرا. وجاء جيش بغداد بعد أيام فخلع قائده «دلير» على المتنبي وأجزل له العطاء، وأنشده أبو الطيب قصيدة في الميدان، وقد كان ممتطيا جواده منها:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
Unknown page