فمتى الوعد أن يكون القفول؟
قعد الناس كلهم عن مساع
يك وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
من عبيدي إن عشت لي ألف كا
فور ولي من نداك ريف ونيل
وعاد المتنبي إلى حياة الملل والفراغ، وكان صديقه الحسن العلوي يكثر من ازدياره، ويجتهد في تسليته والترويح عنه، فبينما كانا في أحد الأيام بظاهر الكوفة إذ رأيا شابا في نحو العشرين قوي العضل وثيق البناء قصير القامة غليظ الوجه عابس نظرات العينين، يبدو كأنه ساخط على الوجود ومن في الوجود، ووراءه طائفة من الأعراب في أسمال وأخلاق، وهم يسيرون خلفه في رهبة ومهابة، كما تسير العبيد خلف السيد المطاع. ومر الشاب ومن معه بالمتنبي وصاحبه، فلم يزد على أن رفع بصره إليهما في اشمئزاز، ثم ابتسم ابتسامة سخرية وازدراء. فقال المتنبي: من هذا الوغد الجافي يا سيدي الشريف؟ - هذا ضبة بن يزيد، وهو فتى قرمطي شرير خبيث، لو أراد الشيطان أن يتخذ لروحه مكانا ما اختار لها غير جسمه. إن هؤلاء القرامطة يا سيدي لم يتمسكوا بمذهبهم عن رأي وعقيدة، ولكنهم قوم صعاليك فتاكون نهابون، عز عليهم أن يروا بعض الناس في نعمة ويسر، فأوغروا صدور الفقراء على الأغنياء، وزينوا لهم نبذ طاعة كل حاكم، وأحلوا لهم السلب والنهب والقتل وكل ما يندى له الجبين من رذائل. وقد وجدت دعوتهم قبولا عند شذاذ الأعراب الذين كانوا يقتلون ويسلبون في خوف وحذر، فأصبحوا الآن يقتلون ويسلبون عن عقيدة ودين. هؤلاء القرامطة كارثة على الإسلام يا أبا الطيب. - بلا شك، وإني أعتقد أن هذه الثورات ليست إلا فتنا سياسية ابتدعها أعداء العرب لإضعاف دولة العرب، وألبسوها ثوب المذاهب الدينية. - هذا صحيح. وضبة هذا يسيطر على فريق من صعاليك بني كلاب، وأظن أنهم يدبرون خطة للهجوم على الكوفة، وقد أخذ أغنياء المدينة يحتاطون لأموالهم، ويعدون العدة لصدهم. - سأمحو بسيفي هذا وساوس عقولهم إن كان لهم عقول.
ومرت شهور ولا حديث للمدينة إلا غارات القرامطة، وتخوف الناس من وحشيتهم وقبح أفاعيلهم، وفي صباح أحد الأيام زار الحسن العلوي دار أبي الطيب وكان مضطربا مهتاجا، فحياه المتنبي، وقال: ما الخبر يا سيدي؟ اجلس واهدأ قليلا. - لن أجلس يا أبا الطيب. فإن الفرصة قد أمكنت من هذا الوغد ضبة، وقد سير إلى بعض رجالي رسولا يطلب النجدة ويقول: إنهم قد ضيقوا عليه الخناق، ولا يحتاجون إلا إلى بضعة فرسان للتغلب عليه وعلى أنصاره. قم يا أبا الطيب واركب معنا. - هذا هو اليوم الذي كنت أتمناه على الأيام فقد صدئ سيفي في غمده.
وركب أبو الطيب والشريف على رأس شرذمة من الفرسان، وما كادوا يصلون إلى ميدان المعركة حتى فر رجال ضبة شماطيط، والتجأ إلى حصن منيع أحكم إغلاق بابه، وأطل من نافذة ضيقة به وأخذ يسب ويلعن ويصيح: أين متنبيكم هذا الكاذب المنافق الجبان؟ أين ابن عبدان السقاء حتى أبصق في وجهه بصقة تذكره بالماء الذي كان يحمله أبوه؟ أين هذا الدعي الفاجر لأعلمه أن امتشاق الحسام غير نظم الكلام؟ فصاح الشريف: مرحى بمن يفر من الحراب، ويقاتل بالسباب. إنك في الحق أجبن من فأر. ولكنك في الشتم أجرأ من أسد. - إنني أقدم إذا كان الإقدام عزما، وأحجم إذا كان الإحجام حزما. فصاح المتنبي: على شرط أنك لا ترى الإقدام عزما في يوم من الأيام. - اخسأ يا دعي كندة. والله إن سيفي ليحن إلى رأسك، ولكنه يخشى أن يدنس بدمائك.
Unknown page