وكان المسجد الذي بناه علي بن أبي طالب لا يزال ماثلا بعد أن جدد بناءه، وأقام ما انهار منه يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك على العراق، وكان هذا المسجد روضة العلماء والأدباء والمحدثين، ومباءة طلاب العلم والأدب، وهو المسجد الذي تلقى فيه أبو الطيب في طليعة صباه علوم الأدب واللغة، وفيه كان يجلس إلى الناشئ الأصغر الشاعر، ويكتب عنه ما يمليه من شعره على الطلاب.
وكان يحكم الكوفة حين عاد إليها أبو الطيب وال من قبل معز الدولة له ميل إلى الأدب والشعر، وحب للعلم والعلماء، ولكنه كان شديد الحرص على منصبه، كثير الخوف والوساوس من كل ما يؤدي إلى سخط بغداد، أو يجر عليه مصيبة العزل التي أصبحت شبحا مخيفا يساوره في اليقظة والمنام.
بلغ أبو الطيب الكوفة بعد رحلته المضنية القاسية الجريئة، فاتجه نحو داره وكانت بمحلة العلويين بالقرب من المسجد الجامع، فمشى في طرق اشتبهت عليه منافذها، ولقي أناسا ليس له بهم عهد، فقد غاب عن الكوفة وعن أهلها أكثر من ثلاثين عاما، مات فيها أقوام وولد أقوام، وتهدمت معالم وقامت معالم، وليس ببعيد أن يكون قد مر بباله وهو يتطلع يمينا وشمالا في دهشة وعجب، ذلك الرجل الذي بعثه إخوانه من أهل الكهف بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا؛ لينظر لهم أيها أزكى طعاما وليأتيهم برزق منه.
كان ينظر فإذا الفناء الرحيب الذي كان يلعب فيه مع أترابه أصبح دورا ومتاجر، وإذا القصر الذي كان آهلا بسكانه عامرا بأسباب الغنى والسؤدد مائجا بعبيده وجواريه أصبح طللا دارسا وربعا محيلا، وإذا الشجرة التي كانت لا تتجاوز قامته حينما كان يمر بها وهو ذاهب إلى المكتب، أصبحت دوحة باسقة ممتدة الأفنان. كل شيء تغير، وكل مظهر تبدل، والزمن كفيل بأن يغير كل شيء، «ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟» إنه هو نفسه تغير، فليس هو الآن ذلك الطفل المرح الوثاب الذي يسره كل شيء، ويضحكه كل شيء. أين هو الآن من ذلك الطفل بعد أن فارقه ثلاثين عاما ثم عاد إليه بنفس جديدة، وخلق جديد؟ إنه الآن لا يقنع بما دون الملك، ولا يرضى بأقل من اقتناص البزاة إذا اصطاد غيره البغاث والرخم، ولا يهدأ إلا إذا حلق في السماء ورأى الناس تحته كأنهم ذباب أو نمال، إنه الآن يقول:
وما تسع الأزمان علمي بأمرها
وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
إنه الشاعر الطموح، والشارد الجموح، والصخرة النطوح.
إنه هو الذي ازدهى على الأمراء وتحكم فيهم ثم هجاهم، وهو الذي تزلف إليه العظماء فازدراهم، وسمت إليه عيون الشعراء فبهرهم وأخرسهم، وحاول علماء الأدب واللغة أن يجروا معه في شوط فبزهم وأخمد أنفاسهم. إنه الفارس المغوار، والبطل الكرار، الذي تحدى الصحراء وأرغم أنف البيداء، وصارع الموت وأفنى الفناء.
يحاذرني حتفي كأني حتفه
وتنكرني الأفعى فيقتلها سمي
Unknown page