السيد والسيدة كانا ينتظران القطار على إفريز إحدى محطات الضواحي ويسيران، ثم متبخترين مقبلين مدبرين.
وقبل وصول القطار بدقائق قليلة أقبل من خلف الإفريز فاعل من الفعلة، كأنه نبت من الأرض طفرة واحدة. وكان حافي القدمين، مفتول العضل، يرخي لحية سوداء قصيرة مغيرة، عليه سروال يظهر ساقه داكنة، وفوق قامته قميص استحال بياضه إلى لون التراب، وعلى رأسه شبه عمامة، وقد أرسل على كتفه جلبابا أسود يظهر فيه مزيج من الجير والرمل والحمرة. هو من هؤلاء العمال الذين يعلمون في تشييد المنازل، أو حفر الجنادل. وكأنه حين رأيته كان قد فرغ من عمله لساعته؛ لأن آثار الجهد تبدو عليه. ويظهر أن الرجل المكدود كان مستغرقا في فكره، أو أوصابه، فلا يلفته ما أمامه ولا ما حوله.
خطا الفاعل خطوتين، أو ثلاثا أمام السيد الأنيق والسيدة المتأنقة، ثم قبل أن يرتدي رداءه المسدل على كتفه أخذ ينفضه مما علق به من العفر. وما كاد يلوح به مرة، أو اثنتين في الهواء حتى لحقه السيد الأنيق صائحا، متوعدا، مهددا، رافعا عصاه اللينة ليهوى بها على المنكبين الصلبين الشديدين، ولكن الفاعل - وقد أخذه نوع من الذعر - لم يفه إلا بعبارة واحدة:
هذا تراب طاهر. أنه لتراب طاهر!
حقا لم يكن صاحبنا الفاعل ليعلم أن وراءه المتأنقة المعفرة بالمسحوق الأبيض؛ ليتقي الشر ممن أزعجه اليسير من عفر العمل. وحقا لم يكن صاحبنا السيد ليتذكر وقتئذ أن أمثال القصر الأنيق الذي يسكن إلى صاحبته فيه، قد ترك تشييده في ثوب العامل ما من أجله أهين وانتهر.
ألا فأرخ بربك ساعديك أيها الملوح بعصاه، المشمئز من تراب العامل. وأطرق إجلالا، فإن الغبرة التي تجلل ثوب هذا المنتج الكادح، وتغمر وجهه أطهر وأكرم عند الله من تلك المساحيق التي ذرتها صاحبتك على وجهها؛ لتجعل منها عليه وجها آخر.
التصنع والتواضع
القاهرة في 27 من مارس سنة 1927
صاحبي مفرط الشغف في أن يعد من أهل الحسب، وله ولع بأن يسند إلى أهل النسب دون أن يكون من النبلاء في أرومته، ودون أن يتفضل الله عليه ببعض تلك الملامح التي قد يتميز بها أهل الأنساب، ليس بذي القوام السمهري الرشيق، وليس بذي الأنف الأقنى، أو الأشم. وليس بذي الراحتين الرخصتين الصغيرتين، وليس في طبيعة صوته غنة، وليس فيها صحل. ليس بذي الملامح التي تنم عن وراثة في النعمة وسالف الطمأنينة، لكن صاحبي مع ذلك يتألق في لبسته، ويتعالى في مشيته، كأنه يتطلع إلى أن ينطبق عليه قول ابن الأعرابي:
شبهت «مشيته» بمشية ظافر
Unknown page