99

Kharitat Macrifa

خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن

Genres

شكل 8-6: صفحة من كتاب جالينوس «عن الطريقة العلاجية» من مخطوطة تعود إلى القرن الرابع عشر باللغة اليونانية كانت تمتلكها عائلة باربارو، التي اشترتها من طبيب قبرصي في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. في عام 1517، ترجم العالم الإنجليزي توماس لينيكر النص إلى اللاتينية ونشره في باريس.

ومع ذلك، في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، كان الفكر اليوناني مؤلها ويروج له بنشاط؛ وخاصة من قبل طبيب جامع للكتب اشتملت شجرة عائلته على التدريس والدراسة في بادوا وبولونيا وفيرارا. أثناء حياته المهنية الطويلة، كان نيكولو ليونيسينو (1428-1524) قد جمع مكتبة مدهشة من المخطوطات الطبية والعلمية اليونانية. وحسب الأستاذ فيفيان نوتون، كانت «أشمل من أي مكتبة أخرى كانت معروفة قبلئذ أو منذئذ، وهي ليست متميزة بحجمها الكبير فحسب، وإنما أيضا بندرة محتوياتها.»

17

مستخدما مجموعته منطلقا، شن هجوما على قرون من الأخطاء والتفسيرات الخاطئة وأخطاء النساخ في نقل العلوم الطبية، وبخاصة في أعمال عن الأمراض والأدوية، وشمل هجومه اللاذع كتابا رومانا، لا سيما بلينيوس الأكبر، الذي زعم أنه أفسد كتاب ديسقوريدوس «عن المواد الطبية» عن طريق الخطأ في تحديد النباتات وملء الكتاب بالمغالطات. كانت النتيجة المترتبة على هذا هي تجدد تبجيل المصدر اليوناني الأصلي، وفي عام 1499 نشر مانوتيوس، الذي كان من معارف ليونيسينو المقربين، أول طبعة يونانية لكتاب «عن المواد الطبية»؛ لذلك وصل عمل ديسقوريدوس إلى جمهور أوسع نطاقا بكثير مما وصل إليه أي من أعمال جالينوس في ذلك الوقت. كان من شأن الصيادلة، وبالتأكيد أي أحد لديه اهتمام بعلم النبات والرسومات النباتية، أن يحرصوا على امتلاك نسخة. لاقت طبعة ألدين نجاحا تجاريا عظيما، على الرغم من تعقيد عملية إنتاج قوالب خشبية من أجل الرسومات التوضيحية للنباتات.

لم يقرض ليونيسينو مخطوطات إلى مانوتيوس فحسب، وإنما إلى طابعين آخرين أيضا، ومع ذلك لم تصبح الثروة الكاملة من مجموعته الجالينوسية اليونانية متاحة إلا عند وفاته، بعدما بلغ من العمر أرذله إذ توفي وهو في السادسة والتسعين من عمره. في عام 1525 طبعت دار ألدين للطباعة كتاب «الأعمال الكاملة» باللغة اليونانية، وهو مشروع ضخم ومكلف لم يكن ليتحقق لو كانت فينيسيا في حالة حرب؛ لذا كان من الممكن شراء واستخدام «مخزون ضخم من المعدن الذي كان يمكن لولا ذلك أن يستخدم في ترسانة الأسلحة لصنع مدفع»

18

لصب القدر الهائل من الحروف المطبعية اللازمة لإخراج العمل. وقد انعكس هذا بطبيعة الحال على سعر التجزئة المرتفع؛ ثلاثين فلورين، أو جيلدر، في ألمانيا (ثلث الراتب السنوي لطبيب في نورنبرج)، وأربعة عشر سكودو في روما، فكان سعره ميسورا للأثرياء فقط. وكالمعتاد، كان إسهاب جالينوس المفرط في غير صالحه؛ فحتى المحاولات لنشر أجزاء صغيرة من نتاجه يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر؛ ففي عام 1500 أفلست دار طباعة فينيسية بسبب طبعتها اللاتينية من أطروحتي جالينوس من كتاب «أرتيسيلا». لم تكن طبعة دار ألدين لكتاب «الأعمال الكاملة» طبعة ذات تميز خاص، ولكنها جعلت جوانب كثيرة من عمل جالينوس متاحة للمجتمع الطبي، وبخاصة بعدما بدأت في الظهور تراجم لاتينية، مستندة إلى النسخ اليونانية المطبوعة. بات التأثير المتبادل بين الفلسفة والطب وتدخلات جالينوس الدوائية والفضل الذي يدين به إلى أبقراط، أوضح كثيرا، وكذلك معاييره الأخلاقية وأفكاره عن الممارسة الطبية الصحيحة. ونتيجة لهذا، بدأ الطب في التغير والتطور بطرق مثيرة للاهتمام؛ ففي بادوا، مزج المعلمون في ذلك الوقت بين الدراسة النظرية والعملية، فأقاموا صلة أوثق بين قاعة المحاضرات وغرفة المرضى، بينما اكتسب التشريح ودراسة أجزاء الجسم أهمية متزايدة، وشجع على ذلك نشر عمل جالينوس عن الأوردة والشرايين والأعصاب؛ مما مهد الطريق أمام اكتشافات عالم التشريح الفلمنكي العظيم فيزاليوس في أربعينيات القرن السادس عشر.

بيعت الكتب التي أنتجت في فينيسيا في ميرسيريا إلى فيض لا متناه من السكان المحليين والزوار، ولكنها كانت أيضا تحزم وتحمل في قوارب وتبحر عبر نهر بادي، في أول مرحلة من رحلاتها إلى مدن إيطالية أخرى، ومنها إلى ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا. حملت شبكة التوزيع الشاسعة هذه كتبا عبر أنحاء القارة، إلى محال لبيع الكتب وإلى البيوت؛ مما جعلها متاحة أكثر من أي وقت مضى. مع اختراع الطباعة جاء وضع المعايير، وأصبحت مصادر المعلومات أكثر تماثلا ودقة بكثير، في حال إذا ما كان الطابع قد أدى عمله على نحو صحيح. انخفض سعر الكتب انخفاضا كبيرا مع تزايد الإنتاج ونمو سوقها. لعبت الكتب الثمانية القطع والأصغر حجما دورا فعالا في انخفاض السعر؛ فباستخدام ورق أقل بكثير، أصبح إنتاجها أرخص؛ إذ كان الورق غالي الثمن، كان يمثل خمسين بالمائة من التكاليف التي كان يتحملها الطابعون. في البداية، كانت الكتب الثمانية القطع كتبا مخصصة للتعبد، إلى أن بدأ ألدوس في طباعة أدب كلاسيكي في هذا الحجم، وفي حين أنه دائما ما كانت كتبه غالية الثمن للغاية، استوعب الطابعون الآخرون هذا الابتكار وباعوا تلك الكتب بأسعار أقل. وبحلول نهاية القرن السادس عشر، كان في مقدور حتى الحرفيين الملمين بالقراءة والكتابة أن يشتروا الكتب، وفي ذلك الوقت كان يوجد أيضا عدد أكبر بكثير من الكتب المعروضة باللغات المحلية.

بحلول عام 1500 كانت فكرة الكون «المتماسك والمحدود والمنظم» التي كانت سائدة في القرن الماضي قد بدأت تتفكك.

19

Unknown page