Kharitat Macrifa
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
بينما كانت أوروبا المسيحية مزدهرة، كانت الإمبراطورية الإسلامية تعاني من التمزق والانكماش. وبحلول منتصف القرن السادس عشر، كانت قد انقسمت إلى ثلاثة كيانات سياسية منفصلة. في أثناء الاضطرابات التي أعقبت ذلك، لم يكن يوجد وقت ولا مال لتمويل البرامج الطموحة للاستكشاف الرياضي أو الرصد الفلكي أو الأبحاث الطبية. كان لاكتشافي القرن الخامس عشر العظيمين، وهما العالم الجديد وآلة الطباعة، نتائج كارثية على الثروات الإسلامية. وفتحت رحلات الاستكشاف الأوروبية طرق تجارة جديدة عن طريق البحر التفت حول الشرق الأوسط، فحرمته من فرصة تجارية. ازدادت طرق الحرير القديمة، التي ظلت تنقل الثروات العظيمة عبر القرون، سكونا وخرابا. وفي الوقت الذي كانت فيه المطابع تفتح في مدن عبر ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ظل الناس في العالم الإسلامي في ريبة من هذه التقنية الجديدة وبذلوا جهدا كبيرا في تصميم حروف طباعة قابلة للتحريك إلى اللغة العربية، بعلامات التشكيل الملتفة والتنويعات التي لا تعد ولا تحصى. لهذا، ولأسباب أخرى كثيرة، استغرق الأمر منهم قرونا حتى يتمكنوا من تكييف آلة الطباعة؛ مما جعلهم في وضع غير مؤات للغاية فيما يتعلق بنشر المعرفة. وهكذا انتقل تركيز المشروع العلمي، متحولا شمالا إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا. وبدأ العالم الإسلامي في استهلاك المعلومات العلمية، بدلا من إنتاجها.
في ظل هذه الظروف، التي اقترنت بتصاعد في النزعة المحافظة الدينية، لعله من غير المستغرب أن السعي في طلب المعرفة في العالم الإسلامي بدأ في الاضمحلال، إلا أنه لا يسهل فهم السبب وراء أن إرث العلوم الإسلامية قد أصبح نسيا منسيا إلى حد بعيد؛ فبالنظر إلى الإسهام المتميز الذي قاموا به، فإن باحثين مثل الخوارزمي والرازي ينبغي أن يكونوا أسماء مألوفة، مثل ليوناردو دافنشي ونيوتن، ولكن حتى في يومنا هذا، لم يسمع بهم إلا قلة من الناس في العالم الغربي. كيف حدث هذا؟ لا بد أن يقع بعض اللوم على عاتق الإنسانيين، الذين قادهم تعظيمهم للعلوم اليونانية إلى تجاهل علماء كثيرين من الحقبة المنقضية. كذلك ارتكب مترجمو العصور الوسطى جريمة «إضفاء الصبغة اللاتينية» على الكتب التي ترجموها ولم ينسبوا الفضل إلى المؤلفين المسلمين الأصليين. ومع ازدياد أوروبا ثراء وقوة، وبدئها في إقامة إمبراطوريات، دانت لها السيطرة الثقافية أيضا. نتيجة لذلك، وضعت رواية همشت من المعرفة العربية وأبعدتها إلى غياهب الماضي.
تجسد هذا المنهج في تحطيم الأيقونات المثير الذي حدث في عام 1527؛ فقد أحرق الباحث الألماني المتطرف براكلسوس نسخته من كتاب «القانون» لابن سينا بوصفه جزءا من دعوته لطلاب الطب إلى الابتعاد عن «كتب البشر الصغيرة» والتحول عوضا عن ذلك إلى «كتاب الطبيعة العظيم».
2
احتل براكلسوس جانبا متشددا في حركة أكبر تشجع اتباع اتجاهات جديدة للمعرفة، شملت ملاحظة عملية لعالم الطبيعة الذي «من شأنه أن يحرر البشرية من الخضوع لسطوة الماضي البائد.»
3
إلا أن الباحث الجيد يحتاج، بالطبع، إلى الأمرين، والنقطة التي أغفلها براكلسوس هي أن المرء لا يمكنه إعادة تشكيل نظرية فكرية دون أن يتعمق فيها. أدرك هذه الحقيقة أندرياس فيزاليوس أثناء أعوام دراسته للتشريح الجالينوسي. استغرق الأمر منه وقتا طويلا ليقبل أن الطبيب الأسطوري كان على خطأ. واستوعب الأمر أخيرا عندما لاحظ أن جالينوس وصف فقرة ظهرية إضافية، وهي فقرة كانت موجودة في القردة العليا وليس في البشر. من هذا، أدرك أن جالينوس لم يشرح أجساد البشر أبدا، وإنما فقط أجساد الخنازير والقردة العليا؛ ومن ثم كانت معرفته التشريحية، المستندة إلى الفحص المستفيض للجثث، أفضل. كانت الملاحظة الدقيقة لعالم الطبيعة قد انتصرت على الحكمة القديمة.
نشر فيزاليوس اكتشافاته في عام 1543، في كتاب أسماه «بنية جسم الإنسان». وكانت تلك لحظة تحول في دراسة التشريح؛ فقد تخلل هذا الكتاب الفخم رسوم تخطيطية مفصلة ورسومات توضيحية متغلغلة في النص، استنادا إلى القوالب الخشبية التي كانت قد صنعت خصوصا في فينيسيا ونقلت بعناية عبر جبال الألب إلى بازل حيث طبع الكتاب. إن مثل هذا الكتاب حدث مهم في الطباعة العلمية، ويعد تجسيدا لرغبة فيزاليوس في الوضوح والدقة في التواصل، وهو أمر كان قد تنامى لديه خلال الأعوام التي أمضاها يحرر ويعد النصوص الجالينوسية للطباعة. فلكي تكون المعرفة العلمية مفيدة، كان يتعين أن تكون دقيقة، وليس ثمة مجال كان ينطبق عليه هذا أكثر من الطب. «كلمة خاطئة واحدة يمكن أن تقتل آلاف البشر»، هكذا أشار رابليه بتهيب وهو يحرر نصوص أبقراط بغرض طباعتها في عام 1532.
4
شكل 1: صورة إيضاحية مطبوعة بقالب خشبي تصور جالينوس وهو يجري تشريحا لخنزير على الصفحة الأولى لإصدار سنة 1565 من كتابه «الأعمال الكاملة».
Unknown page