فدنا منها جالسا على الديوان، وقال: إنه ليصعب على المرء، ليستحيل عليه أن ينجز بسرعة مقاصده، وينفذ الأهم من أوامره في هذه الأيام. - قد يعزر وزير عثماني لم ينجز في الحال أوامر جنرال ألماني على أني أراه إبطاء عاديا أصبح صفة لازمة لدوائر الحكومة. - بالتمام، بالتمام، هذا هو الواقع.
قال هذا متنفسا الصعداء، فإنه رأى فيه فرصة للتملص من الوعد، وللنجاة من حراجة الموقف، ولكي يحول الحديث إلى نقطة أخرى تبعده عن الموضوع، توقف قليلا ثم قال: وماذا كنت تطالعين عندما أقبلت عليك؟ - كنت أطالع كتاب نبيكم عن «الوحش الأشقر».
ودلته على العنوان، وعيناها تبرقان غنجا وسحرا. - نعم إن نيتشى من أعاظم نوابغنا، ويقال إنه شاعر أكثر منه فيلسوف، أما أنا فلا أحفل بكتاباته، وطالما حاولت مطالعة هذا الكتاب فلم أستطع ذلك، ولم أنه إلا صفحات قليلة منه، والسبب طبيعي؛ فإن نيتشى كثير الخيال، وهذا ما لا يرغب فيه الجندي، ولكن ما أجملك وما أبهاك بهذا الزي الوطني! - في سبيل إعزازك وإكرامك أيها الجنرال.
قالت هذا مخفية في الحال لحظة ذابلة رمته بها، أما هو فتناول يدها وكله هيام، فضغط بها على شفتيه مقبلا إياها.
ودخل إذ ذاك سليم بطبق القهوة، فتناولت جهان الفنجان العائم عليه حب الهال، وهو دليل لها لأخذه دون الآخر الذي قدمته إلى الجنرال.
رشف الجنرال قهوته ساكتا، وعيناه ترقبان حيطان الدارخانة الفخمة، فلاحت منه نظرة إلى متحف السلاح. - لأبيك مجموعة سلاح جميلة. - نعم إن له متحفا للسلاح يروق لناظره، فهذه قطعة مغشاة بالصدأ، ولكنها من أثمن التحف التي كوفئ بها والدي من آثار الجيل الرابع عشر، وقد أهداها إليه السفير الفرنسوي، وهذا السنان هدية أحد زعماء العشائر العربية، وهذا النصل الدمشقي غنمه أمير بلوخستان في إحدى المعارك الدموية، وقد حفر عليه الأمير أثرا تاريخيا.
وأنزلت سيفا شهرته بزلاقة من غمده المصدأ.
أتقرأ الكتابات الأثرية أيها الجنرال؟ - كلا، ولكني أراه حساما بديعا، وما أجمل قرابه المرصع، أظن حجارته حقيقية؟ - نعم، فهي من الزمرد والياقوت، وقد نضدها أمير هندي، فجاءت خالية من الترتيب والإتقان، وهذا حسام أظنه من صنع هذا العصر في ألمانيا، وهو هدية السلطان عبد الحميد إلى والدي يوم تقلد مهام الصدارة العظمى. أما هذا السيف المكسور، فله حكاية غريبة في بابها، وهي أن ضابطا يونانيا جيء به أسيرا إلى والدي في أحد سهول تساليا إبان حربنا الأخيرة مع اليونان، فأمره والدي أن يسلم سيفه، فأبى قائلا: إنه ورثه من أبيه الذي ورثه عن أجداده، وقد بقي أثرا تاريخيا في عائلتهم، ولهذا فهو يؤثر كسره على تسليمه للأعداء، وإذ سمع والدي كلامه سر من بسالته، وشرف روحه، فسمح له أن يستبقي السيف، إلا أن ذلك الضابط اليوناني الشاب لم يرض بسيفه أن يعود إليه هدية من تركي، وقد ظل سحابة نهار كامل يستكبر الأمر ويستهوله حتى كسره على ركبته، ثم أطلق نار مسدسه في رأسه فمات منتحرا، ولهذا احتفظ به والدي بالرغم من كسره؛ تذكارا لتلك الحادثة، وإكراما لذلك اليوناني؛ اليوناني باسل شريف النفس ولكن التركي أشرف منه وأنبل؛ ولهذه المدية أيها الجنرال لسان ينطق عن حادثة محزنة، وهي أنه لما كان والدي ملحقا عسكريا في السفارة العثمانية في باريس، كان يتردد علينا نائب فرنسوي قريب من عمرك، وكان يجيد التركية إذ تلقى علومه في الشرق، وقد سمح والدي لأمي التي كانت من جميلات العصر أن توافي الصالون حاسرة القناع؛ ولهذا أكثر النائب زياراته، وكثيرا ما أشرك زوجته معه بزياراتنا، وقد دعيا والدي يوما إلى منزلهما خارج باريس، ولم توجس أمي شرا من تلك العلائق الودية، حتى جاءها النائب ذات مساء بينا أبي كان في التياترو مع أصحابه، فتقدم إليها راكعا على ركبتيه، مقبلا قدميها، مفصحا عن شدة تعلقه بها وهيامه فيها؛ فأنكرت أمي عليه ذلك نافرة، وللحال انقلب النائب من إنسان إلى وحش؛ إذ حاول أن يرغمها لإرادته، إذ ذاك عمدت أمي إلى الحيلة لتخلص من شره، فجرته إلى حيث كانت هذه المدية - هذه المدية بعينها - فقبضت على لحيته وطعنته طعنة في قلبه قاضية، وقد تناولت صحف باريس هذه الحادثة، وبرأ الرأي العام ساحة أمي، ولكننا اضطررنا بعدئذ أن نغادر باريس.
وقد استغربت جهان ما ظهر من قوة الاختراع والتصور فيها، فلفقت حكاية عزت حوادثها إلى أمها، ولم تدر كيف خطرت في بالها، إلا أنها ناسبت المقام، وخدمت قصدها في الجنرال، ولكنها لما نظرت إلى وجهه شاهدت فيه علائم الحيرة والاضطراب، وقد ألبسها لباس التيقظ والاحتراس، فقد كان ينظر إليها واجما باسما معا، وهي واقفة أمامه وبيدها المدية، أما هي وقد آنست منه التحذر، فتندمت لإثارة هواجسه، وللحال عادت تطمئن باله فقالت: ولكن أجمل ما في المتحف من القطع وأثمنها إنما هي في قاعة أخرى، فهلم أريكها إذا شئت.
تبادر إلى ذهن الجنرال أنه لفي موقف لا يخلو من خطر، ولكنه ما لبث أن عاد إلى طمأنينته إذ تقدمته جهان إلى غرفتها بين هو يتمشى وراءها، متأملا قوامها الرشيق، وجمالها الفتان.
Unknown page