فهزت جهان كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة فيها رضاء يمازجه ازدراء، وذهبت إلى غرفتها، أما شكري بك فعاد إلى منزله مضطرب النفس، مشتت البال، يصب لعناته على الروح الأوروبية، ويقول ...
الفصل السادس
دعت جهان الخصي سليما إلى غرفتها وقالت: لم يعد ينفع هذا المسحوق، ولا تأثير له علي، أفليس عند صاحبك الصيدلي شيء أشد منه فعلا؟ أحب أن أنام هذه الليلة يا سليم. - بلى مولاتي، عنده سائل يقتاد النوم اقتياد العبد الذليل، فيأتيك به على أجنحة الليل، ولو كان وراء سبعة أبحار ولكن ... - ولكن ماذا؟ ألا تستطيع أن تجيئني به هذه الليلة؟ - بلى خانم، إن شاء الله، وإنما قصدت أن أحذرك يا سيدتي أن لا تأخذي منه جرعات عديدة، فإن له تأثيرا سيئا على القلب. - ليس هذا من شأنك يا سليم؛ اذهب وأتني به في الحال. - السمع والطاعة يا مولاتي.
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان العبد الغليظ الشفتين الطويل القامة يزرع خطاه في الشوارع اللولبية وهو بضخامة جسمه وانتصابه يشبه المارد الأسود الذي كثيرا ما يأتي ذكره في أقاصيص الجن سائرا إلى كهف سيده الساحر.
أما جهان، فقد ارتاحت إلى أمل بالنوم تلك الليلة ارتياحها إلى الهبة العلوية، ولكن عقلها كان كالبحر الهائج وهي ترقب عودة سليم بصبر كاد يفرغ وقفت عند ذكر شكري بك فأملت على الأقل أنه لن يسير إلى ساحة الوغى، ثم أخذت تفكر ماذا عساه يضحي لأجلها، أو ماذا يستطيعه من التضحية، ولكن هل يضحي التركي شيئا في سبيل امرأة؟ أويقبل التركي المهذب الذي يفاخر بكونه عصريا وأوروبي الروح أن يقترن بسيدة تركية حرة؟ أويكون شكري بك أمينا بعهده أن لا يتزوج إلا امرأة واحدة؟ أوعنده شيء يذكر من الجرأة الأدبية، والإرادة، والبسالة، وروح التضحية؟ ولم كان شديد الرغبة في الحصول على تأخير الأمر العسكري؟ أوظن يا ترى أنه يستظهر عليها بالكلام، أو أنه يجبرها على الاقتران به خلال يومين، أو أنه عاهد أباها أن يحملها على الذهاب معهما إلى قونية؟ إلا أنه كان يليق به أن يسلك في حضرتها على الأقل سلوك الجندي الصادق الوطنية، وكان يجب ألا يكون رقيق الشعور إلى حد التخنث؛ لأن جهان تحتقر الشاب التركي الذي يذوب ولها، ويستسلم للتافه من عواطفه.
ولقد أعجبت بشكري بك لما عرضت عليه قبلتها، فأباها مغتاظا إلا أنها كانت فترة قصيرة ظهر فيها مظهر الرجل الذي تطمع في السيادة عليه، وبالرغم من هذا شعرت في تلك اللحظة أن دافعا يدفعها إلى ذل العشق، فودت أن تنطرح على قدميه فتقبل يده وركبته كأنها محظية، وتستسلم وهي على صدره إلى ما فيه سرور سيدها وحبوره.
إلا أن هذه الروح الموروثة التي استحوذت على قلبها، وجعلتها كئيبة النفس أليفة الهم والغم، التي طالما صارعت روحها الطامحة إلى التحرر، فحاولت عبثا أن تعيدها إلى ذل الحريم وعبوديته، بل إلى ما رسمته أمام نظرها البعيد من الرسوم الذهبية لما في الحريم من الترف والفخامة، والرخاء والكيف، والاستسلام والراحة، والسكون والهدوء اللذين تتخللهما نغمات العود السحرية، أو قرقرة النارجيلة الفضية التي يفوح منها شذا الورد، وما فيه أيضا من قال وقيل وحق ويقين، مما يثلج له صدر المرأة إذ تهمس وراء الستار، أو تسقط «كما تسقط الثمرة الناضجة» من شفاه الخصيان التي لم تتعود الأذى، وما يتبعها من فترات يضحكن فيها تسلية من تمويهات الرجال، وحقيقة حالهم في مواقف يلذ للنساء نقدها وتزييفها، ناهيك بما يجمعهن من الأخوية في حظ هن فيه على السواء، يدلهن على فضيلة الإذعان لأمر الرجل، ويلطف مر التقاليد بالتهكم والضحك، تلك هي روح الوراثة التي كانت تمثل الحريم هذا التمثيل الباهر، والتي كانت جهان تنتصر عليه ليلا بمنومات عبدها سليم، ونهارا عند اشتداد أمره بما عندها من حماسة في سبيل الحرية، وثبات في ممارسة ما تظنه حقا، وإرادة في إتمام مقاصدها السامية.
ولكن أي ابن امرأة تركية، أي شاب تركي يسير وإياها الطريق كلها فيحبها ويجلها ويحسن فهمها؟ بل يشعر معها بأسمى رغائبها، ولا يزدري أحلامها المقدسة؟ وبعبارة أقصر وأوضح: أي تركي يستطيع أن يكون لها صديقا ورفيقا وقرينا معا؟
ولهذا لم تكن تثق بشكري بك، بل كان يأخذها في أمره كثير من الريب، كيف لا وهي ترغب أن يملأ عقلها وقلبها معا؟ إلا أنها بالرغم من ريبها في ذلك فقد كانت الليلة البارحة شديدة الرغبة في إيصال رسالتها إليه توقفه بها عن الذهاب إلى ساحة الحرب، إلا أن كل ما جرى فهو من أجل والدي لا غير، قالت هذا لتسري عنها قليلا، وهي تعتقد بما نطقت شفتاها، وتستعيذ بالله من شعورها.
وإن حالة عقلية كالحالة التي كانت فيها جهان لهي أدعى إلى الخيبة، ولهذا وقفت فجأة بينا يتجاذبها تيار الأفكار لترى إذا كانت تفهم حق الفهم ما تتطلبه لنفسها، ولكنها بدلا من أن تخوض عباب ما هاج فيها من النفسيات وجدت حالها في سطحيات الأمور، والفكر منها متجه إلى ناحية أخرى، وهناك في البعيد مما تراءى لها تجسم أمامها شبح ذلك الطاغية؛ ذلك الألماني الشديد البأس، ذلك الداهية الذي قد يعتنق الإسلام من أجلها، فهو على الأقل سليل الشهامة والبسالة، يقبل يدها ويجلسها إلى يمينه على الديوان أو في العربة، وهي تقاليد لم يتلقنها العثماني، ولن يقبلها .
Unknown page