الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
خارج الحريم
خارج الحريم
تأليف
أمين الريحاني
الفصل الأول
أمر طمحت إليه جهان فجال في أحلامها، وشغل أعماق جنانها المتقد، أمر تفرد جليا ساطعا بين أمانيها، فاتجهت إليه بكل كيانها.
كان قبلتها في صلاتها، كان كعبة آمالها الروحية والعقلية والاجتماعية، كان رمزا فيه وعد لناشده ووعيد، بل شارة تأميل وتهديد، تراءى لها في الرؤيا، وصورته في الحلم، وكانت تهدس به في ساعاتها العصيبة.
إنما هي الحرية، كتبت رسالتها بأحرف من ذهب على سماء سحماء، وبخطوط من دم على ظلمات زائلة، نقشت على لوح النفس بعد ما أمحت عنه التقاليد القديمة.
الحرية، وسواء كانت متشحة ثوب الحداد، أو ثوب الجهاد، أو ثوب النصر - سوداء الصبغة كانت أو حمراء أو زهراء - فكانت جهان تقتبلها، وترحب بها، وتجلها في كل حال من الأحوال.
ولكن آلهة تراءت لها في الأحلام مرتدية رداء شديد الاخضرار، شاهرة سيفا أحدب، وعلى جبينها هلال من الياقوت - آلهة إسلامية متوشحة ألوان العلم النبوي الداعي إلى الجهاد - كأنها تدعو جهان إلى حرب مقدسة لا على النصارى الكافرين، بل على كفر الرجل وطغيانه؛ لتهب الحرية أخواتها في الرق والعبودية؛ لتهب الأم التركية، بل الأمة العثمانية، بل المسلمين قاطبة تلك الهبة السماوية.
وجهان ابنة رضا باشا وامرأة الأمير سيف الدين إنما هي مسلمة في لبها الإسلام الحقيقي بالرغم من أنها هجرت منذ ثلاثة أشهر قصر زوجها المشيد على ضفاف البوسفور؛ لأنه حنث بيمينه أنه لا يتخذ لنفسه امرأة أخرى، ولا يقاسم قلبه غيرها، ولهذا عادت جهان إلى بيت أبيها بما في قلبها من الغم، وبما في روحها من الأحلام، وآلت على نفسها إصلاح الحريم.
ومنذ ذاك الحين شرعت تسعى سنة كاملة سعيا متواصلا أثمر قليلا، وأكسبها شهرة جنت أكثر من مرة عليها، وقد دعت جهان نفسها «ابنة الثورة»، وكانت إذا حدثها أبوها في أمر تسيبها شكري بك تبسم غير مبالية، وتقول: «إني متزوجة من الحرية.»
وكرت الأيام حتى جاء يوم فيه تعرفت بالجنرال فون والنستين المشير في الأستانة، ومنذ ذلك اليوم داخل حبها الصحيح ريبة قليلة، فكانت تقف مرارا ناظرة إلى تلك الصدفة المزعجة، راغبة بعض الرغبة بشكري بك، ولكن طموحها إلى السيادة بعدما تعرفت بالجنرال قد احتل شطرا من قلبها إلى الحرية.
في ذات مساء بعد ما تنافرت وأباها أرسلت حوذيها برسالة سرية لم تدرك مغبتها في تلك الساعة، ثم جلست وهي متسربلة سربال الليل على ديوانها الفاخر، قلقة البال، فاقدة الصبر، مضطربة العقل والنفس، تتربص رجوع الرسول، ولكي تخفف من وساوسها تناولت «نيتشى» الذي كانت تحل أقواله المحل الأول، وتقرؤه بلغته الألمانية الأصلية، ولكنها لم تلبث أن أخذت عيناها ترحل عن الصفحة، فنهضت وعليها سيماء الملل، والتفت بعباءة من الحرير زرقاء اللون موشاة بالذهب، ثم فتحت درفة الشباك، ووقفت في رواقه تتنشق الهواء النقي.
وكانت ليلة من ليالي الصيف الثقيلة الظل لا هواء يحرك الأغصان في الجنينة، ولا نسيم يمازج روائح الياسمين، وزهر الليمون، فيخفف من نفحاتها التي تؤثر في النفس تأثير البنج.
وتمثل أمامها القرن الذهبي سلسلة من القوارب والسواري كأنها أنسجة من العنكبوت متعرشة على أسوار غير منظورة، وأشعة الهلال تنعكس على مآذن جامع أيوب مرة فأخرى كلما لاح من خلال السحاب، والسرو في الجبانة القريبة أضاع شكله ومزيته، فبدا كأشباح من ظلام الرجاء الذي هو رمزه.
سرحت جهان نظرها في هذا المشهد المدلهم، فوقعت في قلبها وحشة تلك الليلة وقع خطب جسيم، ولم تكن تسمع شيئا من خلال السكينة المخيمة حولها - وهي تصغي بانتباه، وصبر كاد يفرغ مترقبة عودة الرسول - إلا وقع قوائم الجواد في الشارع المجاور، وظلت جهان في الرواق مراقبة حتى دخلت العربة، واجتازت حائط الجنينة، إذ ذاك تنبهت من قرع السوط ثلاث مرات متتابعة إلى ما سيأتيها بثلاث ساعات من النوم بعدما ركنت هواجسها إذ تسلمت الرسالة.
إلا أنها بعد قليل استيقظت متأففة مغمومة غاضبة من نفسها، ومن متحشر زنيم دب إلى سريرها ووسادتها، فلامس خديها وجبينها؛ ولهذا نهضت جهان لتحجب عنها أشعة الشمس، ولكنها ما أطلت من النافذة إلا ودخلت في يقظة فجائية إذ شاهدت المشهد ذاته، وقد استحال جمالا مهيبا، فقد كانت قبب جامع أيوب البيضاء تشع بالشمس، والسرو يتمايل بخطرات النسيم الفجرية بعد ما انقشع الظلام عن زهوه الطبيعي، والقوارب تبعث على تسريح الطرف وانشراح الصدر؛ والقرن الذهبي اللاذوردي تحجبه التموجات الفضية الشفافة الضاربة فيها الخيوط الذهبية، والعصافير تنتقل من جذع إلى آخر في الجنينة، مزقزقة مغردة تداعب بعضها بعضا، وصوت المؤذن وهو يدعو المؤمنين إلى الصلاة يلبس مظاهر الابتهاج خشوعا، وهذا ما سلب النعاس من عيني جهان، فلم تعد لها قدرة على المنام إذ تنبهت روحها في داخلها، فلبت مبتهجة متخشعة دعوة الشمس التي تحرك أسمى الآمال في أدنى البشر، وتلمس أجنحة الأحلام المتواهية بإكسير الحياة.
وقفت في الرواق كالشمس المشعة على قبب إسطمبول كأن وجهها كون من النور، وعينيها من ازرقاق السماء سماء الشرق، وجدائل شعرها المسترسل على كتفيها العاريتين من ذهب الشفق المحاط بالغيوم البيضاء، ولو تسنى لأحد الناس أن يرمقها وهي على تلك الهيئة - وذلك ضرب من المحال؛ لأن النافذة مطلة على الجنينة - لقال إنها إلهة ولا غرو، وهي تلك التي وصفها الشاعر التركي العصري إذ قال:
شمس تخترق جدران سجنها، وردة تطلع من خلال الشقوق في صخرة طالعها.
ولكن جهان كسرت سلاسل الحريم، وكانت آنئذ أقل اهتماما بجمالها الرائع من مواهبها العقلية، فقد ملأت كيانها تلك الأمنية التي عقدت النية على إحرازها لنفسها ولأمتها، وهي أمنية تجلت لها كوحي إلهي، تجلت لها في هذا الفجر المنبثق نورا، فصعدت بفكرها إلى قمم الروح وآمالها، وهي تشعر أن الشمس لم توقظها في يوم من الأيام كما أيقظتها في ذلك اليوم.
تبارك يوم فتح أبوابا ذهبية لنفسها، لعقلها، لروحها، لقلبها، وقلب أمتها الناهضة، تبارك سحر لبس سحره نفس فتاة شرقية متمردة، فرأت فيه تحقيق آمال لها ولأخواتها الطامحات إلى الحرية والنور، ولها ولإخوانها المجاهدين دفاعا عن الملة والوطن.
أحنت جهان رأسها أمام الشمس المتصاعدة تسبح الله وتتلو الفاتحة، ثم قالت في سرها: كل ما يأتينا به اليوم هو من لدنك أيها الرحمن الرحيم رب العالمين.
ولكن عقل جهان عقل غربي التهذيب، عقل تسعرت فيه الثورة والتمرد، غربي المعرفة، له صلاة خاصة تلتها في ذلك الصباح عندما وقفت في الرواق، ووجهها مرفوع نحو الشمس.
أيها الرب الكريم القدير، أنت الزارع فينا بذور الأماني الخالدة فلا تلعنا إذا تدبرناها بالتربية، أنت مبدع الحب والحرية فلا ترذلنا إذا حطمنا جدران سجننا، أنت متناه رحمة وعدلا، فلا تسخط علينا إذا قاومنا كفر الرجل وطغيانه.
ثم هزت رأسها قائلة: كلا، كأنها تريد أن تقتاد الشريعة الإلهية بيدها، وأعادت قولها: كلا، بصوت متقطع كأنها تجديف بعد صلاتها «كلا، إننا لن نخضع منذ اليوم لطغيان الرجل وجبره، ولا فرق إن كان زوجا أو أخا أو أبا، أو صاحب تاج وصولجان.»
قالت هذا وخطت نحو منضدتها لتراجع المذكرة التي كانت تدون فيها ما يطلب منها من الأعمال، فكان يومها هذا الذي تبتدئ فيه قصتنا كثير المواعيد ساعاته رهينة أعمال شتى، فإن شغلها في المستشفى يتناول ساعات الصباح، وبعد الظهر عليها أن تلقي عظة في إحدى مدارس البنات في إسطمبول، وفي المساء تبيع أزهارا في السوق الخيرية في جنائن تقسيم.
وكان عليها أيضا أن تنجز مقالة في موضوع الجهاد لجريدة طنين، ناهيك بفرضها اليومي من كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، الذي كانت تنقله إلى اللغة التركية، ولكنها أهملته أياما، فهذا القدر من العمل لامرأة تركية ما يستوجب الإعجاب، ولكن ثقة جهان بنفسها لمن الأمور المدهشة، وفي كلا الأمرين لم تكن شرقية، على أنها لم تتجاوز في نشاطها وإقدامها كونها امرأة، وكثيرا ما حال إعجابها بجمالها دون ثقتها بنفسها.
كانت جهان سليمة الطوية، مخلصة فيما تقول وتفعل، وكانت فوق ذلك ذات حنكة عجيبة، كثيرة المعرفة بأساليب الاجتماع والسياسة، جديرة بأن تكون زعيمة من زعيمات أميركا المطالبات بالحقوق النسائية، أو نبيلة من نبيلات لندره، أو صاحبة صالون في باريس، ولكنها تركية المولد، وقد قضي عليها أن تقيم في وسط تقاليده قديمة قاسية، ناهيك بما ورثته عن الأجداد مما كان يحول دون أميالها العصرية، ويزعزع معقولا تشرب التهذيب الأجنبي، وطالما تجاذبت هذه الأضداد نفسها فأحدثت فيها حيرة الانتقاء والتفضيل، بل طالما قاست أشد العذابات الروحية والعقلية وهي تسعى في التوفيق بين عناصر متباينة متضاربة، ولم يكن لامرأة تركية، بل لامرئ شرقي فيما مضى من الزمان أن يتوفق في مثل هذا السير.
هكذا كانت جهان غريبة الأطوار متباينة الأميال والآمال، ولكنها ذات صلاح وفطنة، وقد كان الدين متأصلا في قلبها، ولكنها كانت بعيدة عن التظاهر بالتقوى، ولا تكترث بالخرافات والترهات الدينية، ولقد كانت وهي تسعى لإتمام مقاصدها الجليلة متأنية متسرعة معا، ثابتة حينا، وحينا مترددة، أديبة بارعة، تقية متعقلة، طامحة شاردة، ناشدة حب وإيمان وسيادة، كأن قلبها دائرة للأدب والأدباء، وعقلها ديوان للسياسة والسياسيين، ونفسها جامع للعصريين من المؤمنين، فضلا عن ذلك أن الجنرال فون والنستين كان قد سعى لها بإنعام من الإمبراطور، فزادها ذلك نشاطا وعزما، وأكسب حماستها الشرقية أجنحة غربية، وطلى معدن عجبها القليل من الذهب.
لبست ثيابها صباح ذاك اليوم وهي تقول: «تبارك هذا الفجر» ولكنها لما اقتربت من منضدتها وقع نظرها على كتاب نيتشى وفيه صحيفة ظاهر طرفها وضعتها علامة لمطالعتها، صحيفة خط فيها ما يفسد كل مساعيها لو اكترثت به، خط فيها ما يلاشي كل آمالها وأمانيها الحديثة والقديمة، لو قرأت مذعنة طائعة، وكانت تلك العلامة موضوعة في الكتاب منذ ثلاثة أيام، ولهذا كانت عرضة لاطلاعها ثلاث مرات، ولإثارة تمردها ثلاث مرات أيضا.
وجاءت ليلة أمس فانفجرت شعلة غضب من مصدر تلك الأوامر التي أخذت تقرأها جهان مرة أخرى.
من رضا باشا إلى ابنته جهان:
يجب عليك من الآن فصاعدا ألا تخرجي حاسرة القناع أو دون حاجب من الحجاب، وألا تفرطي بالكلام في الأماكن العمومية، وألا تتدخلي بالسياسة، وألا تنشري من مقالاتك في الجرائد، وعدا هذا كله يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين، وعن مراسلته.
قرأت ما تقدم، واسترسلت إلى التأمل؛ إن أباها ولا شك مخطئ بآخر ما جاء في أوامره، ولهذا وجب عليها أن تقنعه بخطئه فلا يهتم بذلك الأمر، ولو كانت فعلت لما تجرأت أن تبوح بسر قلبها، ولكنها امرأة ولم تكن تؤكد أنها إذا حان الوقت تستطيع أن تجمع قوة من نفسها كافية لتدير مقصدها من ذلك السر، وكشرقية مسلمة تعتقد بالقضاء والقدر تركت الأمور تجري مجراها، موكلة أمرها إلى الله على أنها كانت تحب أباها وتجله إجلالا، فوطنت النية أن تذعن ولو لبعض أوامره.
أعادت العلامة إلى الكتاب، وراحت تنادي جاريتها فوجدت الباب موصدا، عالجت الغال فلم يذعن لإرادتها، ففتشت على المفتاح فلم تجده، فلبثت مفكرة محتارة بأمرها، من قفل الباب ترى؟ ألا يمكن أن تكون هي نفسها قد أوصدت الباب، وأحكمت قفله أثناء غضبها الليلة البارحة؟ وعلى فرض أنها هي التي فعلت ذلك فأين المفتاح؟ أهذه نتيجة صبرها ثلاثة أيام؟
لبت الجارية نداء مولاتها ولكنها لم تجسر أن تخبرها عن قفل الباب، وجاء غيرها من الخدام أيضا فأظهروا استغرابهم، وتجاهلوا الأمر، حتى إن خصيها العبد الأمين سليمان الذي أنصت لصوت سيدته داخل غرفتها قد هز رأسه متأسفا وتنحى: عجبا أجهان سجينة في غرفتها الخاصة؟ ولماذا؟
لم يجبها أحد من الخدام؛ لأن الأوامر صدرت إليهم مشددة بأن يحافظوا على الصمت التام، وأن لا يتداخلوا فيما لا يعنيهم.
الفصل الثاني
رضا باشا شيخ في الخامسة والسبعين من العمر، رديني القامة مستويها، طلق المحيا، مهاب الطلعة، كبير الهمة، عصبي المزاج، حاد الذهن، سريع الحركة والكلام، وفي وجهه الأشعث المستطيل نضارة تنفي حجة السن عليه، وعيناه العسليتان الحادتان ترسلان بشاشة تحت حاجبين عريضين هما أبدا على وشك الانزواء غضبا وغيظا، أما شعره المفروق في منتصف الرأس، ولحيته التي كان لا ينفك يعدل نموها لمما تنطق عن روح فيه كيسة، ونفس لم تزل خضراء، فهو من أولئك الشرقيين السمر البشرة، الأقوياء الأجسام، الشديدي البأس، الشبيهة رجوليتهم بمزية بالآلهة، خصت بالخلود فلا السنون تقوى عليها، ولا التنعم في دار الحريم يؤثر فيها.
ولو كان للأتراك أن يدركوا نسبهم ويسلسلوا الأسر فيهم لربما توصل رضا باشا في أصله إلى أولئك التتر الأشاوس الذين تسوروا جدران بزنطية، ورفعوا علم النبي على قبب «أجيا صوفيا».
على أنه من رجال الدور القديم، فقد كان يقدر الأشياء الحديثة أو الأوروبية حق قدرها، ولا نريد بهذا أنه كان مجردا من التعصب، كلا، فالحقيقة أنه كان يرغب بالروح العصرية وهي في بيت غيره لا في بيته، تركي عصري تارة، وتارة قديم، صلب العود، متشبث الرأي، غير متساهل في إدارة أموره الخاصة والعامة، وقد كان حرا للجهة شديدها، يخدع أحيانا بصراحة قوله أكثر من التركي المعروف بتمويهه ودهائه.
ومن هذا القبيل لم يكن ليسر كرهه الألمان، وطالما قد عضد سياسة إنكلترا وفرنسا بصورة رسمية في الباب العالي، وحاز النصر مرارا في ساحات السياسة، وساحات الوغى، فقد كان في مقدمة سياسي ومشيري الدولة في الدور الماضي، ولكنه أخلص النصح لعبد الحميد، فلم يطق طويلا حول العرش، ومع أن شدة لهجته وحرية قوله نظرا لمزاجه وإخلاصه كانا يروقان ذلك الطاغية، فرجال يلديز، وأرباب الباب العالي كانوا يسرون له العداء، ويجهرون به في الأحايين، وطالما قد دسوا له الدسائس، وتألبوا عليه حتى إنه أفضى أخيرا وهو في شيخوخته إلى بلاد اليمن، وظل في منفاه حتى الدور الجديد إذ تأسس ثانية الدستور، وخلع عبد الحميد، فأعيد رضا باشا إلى العاصمة باحتفاء وإجلال، مكرما تكريم الأبطال، وأسند إليه منصبه القديم رأسا على الجيش، ولكنه ما كاد يتقلد هذا المنصب حتى اختلف مع رجال تركيا الفتاة الذين قبلوا استقالته راضين عن بقائه في الأستانة إكراما لشيخوخته، وتقديرا لخدماته السابقة.
إلا أن سيف رضا باشا لم يصدأ في قرابه، فإن مجيد بك أصغر أنجاله، وشقيق جهان استله في شبه جزيرة غليبولي، فأكسبه شرفا جديدا ومجدا، وكان رضا باشا وهو جندي لا غبار على عثمانيته قد فادى بأرواح أبنائه الثلاثة الآخرين حبا بالوطن، فالابن الأول دفن في اليمن، والثاني في طرابلس الغرب، وسقط الثالث صريعا عند أبواب أدرنه.
أجل، إنما رضا باشا شيخ كثير الأحزان والأشجان، ولكنه اقتبل مصائبه كلها وأحزانه كأب حبيب، وخيبة آماله كرجل عمومي صادق، بصبر وثبات جأش هما شعار المسلم الشديد إيمانه بالله، ومع أنه لم يخدم حكومة العهد الجديد بذاته فقد كان يغار على مصالح الدولة، ويود من صميم فؤاده حفظ كيانها، ولو كان له عشرة أبناء لقدمهم ضحية على مذبح الأمة راضيا بأن تسلم له ابنته جهان، وأن يصونها الله من الروح الأوروبية الخبيثة، ومن روح فلاسفة أوروبا العصرية، وأخصهم نيتشى الذي كان يخاف منه على نفس ابنته وعقلها.
ولدت جهان وأخوها مجيد بك في باريس حيث كان رضا باشا وهو في الأربعين من عمره ملحقا عسكريا في السفارة العثمانية، وكلاهما ولدا له من سليمة أحب نسائه إليه، وكانت سليمة هذه حسناء ذكية الفؤاد، كبيرة النفس والخلق، لطيفة المعشر والذوق، مهذبة بارعة تحسن الإفرنسية كما تحسن لغتها التركية، وكان يسمح لها بعلها أن تستقبل الزائرين من الرجال في بيته حاسرة القناع؛ لأنه وإن كان شديد التمسك بتقاليد دينه في بلاده فقد كان متساهلا خارج البلاد التركية، وقد توفيت سليمة وهي مع بعلها في المنفى.
أما جهان فهي آخر أولاده وأولهم في قلبه، شاخ ولم يشخ حبه، بل كان يزداد كلما ازدادت سنوه، وتعاظمت أحزانه، وحقا إنها كانت بنت دلال كما يقال، وولد أبيها المدلع، نشأت في صباها كالزهرة البرية لا في حقل الحرية كما يتبادر للذهن، بل ضمن جدران الحريم، ولكنها كانت أبدا فوق سيادة أمها وخالاتها تنبذ من أجلها التقاليد والعادات، ويحسب كل يوم لا تسمع فيه ضحكتها يوم شؤم.
ولم يدخر رضا باشا عناء، ولا ضن بمال في تهذيبها وتربيتها على الأسلوب الأوروبي العصري، فقد كان كأترابه الأتراك قصير النظر، ضعيف الرأي من هذا القبيل، وإلا لاستدرك نتائج هذا التهذيب، خذ لك مثلا من نقيض أمياله وأذواقه، فقد كان يروقه منظر البيانو في منزله، ولكنه كان يستسمج صوته، وكان ينظر إلى مكتبة ابنته كما ينظر إلى مجموعة سلاحه كلتاهما للفرجة لا للاستعمال، وما كاد يفاخر بنبوغها الفطري حتى استعاذ بالله عندما رأى اسمها في الجرائد؛ إذ استغرب ذلك أيما استغراب، ونفر منه أيما نفور كأنه شاهدها في السوق كاشفة الحجاب.
ولكن هذه ثمار تهذيب استقته جهان من معلمة إفرنسية، ومربية ألمانية، على أنها وإن كانت أوروبية العقل فكان أبوها يتعزى باعتقاده أنها لم تزل مسلمة الروح والعقيدة. والحق يقال: إنها ولئن كانت إفرنسية المشرب والذوق فقد كانت تركية الطبع والخلق، وقد برهنت على وطنيتها وإخلاصها لأمتها بتهليلها للألمان ما أموا الأستانة كأحلاف تركيا الوحيدين، ودافعت عن الإسلام بغيرة شيخ من مشايخه، وبفصاحة عالم من علمائه، حتى إنها كانت تقاوم أباها في دعوة الجهاد، فإن رضا باشا لم يغتر بتغرير الألمان؛ ولهذا لم يكن من المستصوبين أمر الجهاد، وقد جاهر برأيه على عادته، وكاد أن يقع في قبضة أعدائه، ولكن الجنرال فون والنستين الذي كان له الحول والطول في وزارة الداخلية، بل في الباب العالي حتى وفي نفس يلديز لم يسمح - لأسباب خصوصية - بمحاكمة والد جهان، وطالما صد عنه الأعداء من الاتحاديين محدثا نفسه بما يأتي: ألم تقم ابنته بأشرف الأعمال نحو الجنود؟ أولا يحارب ابنه الآن ببسالة الأبطال في غاليبولي؟
هذان اثنان من بيت رضا باشا يعملان بإخلاص ونشاط في سبيل الوطن، وقد يكون ذلك في سبيل الجنرال فون والنستين نفسه.
لماذا لا يرخص للأب إذن أن يقضي بقية حياته المتداعية في أمن وسلام؟
اجتمع الجنرال الألماني بجهان للمرة الأولى في مستشفى الجنود، فجاء بعد ثلاثة أيام يزور أباها زيارة رسمية، ولكن جهان لم تحضر لاستقباله، ثم أعاد الزيارة، ولكل زورة يختلق حجة سياسية، ويسأل أثناء الحديث عن الفتاة ، فوافت البهو في زورة الجنرال الثالثة وهي بالزي التركي، ولكنها حاسرة القناع كما كانت تفعل أمها في باريس؛ فسر الجنرال سرورا متناهيا، وظن هذا الإكرام من لطف الأب وتساهله، أما جهان فحلت من نفسه المحل الأول.
جهان: إن امرأة الجنرال التي توفيت قبل إعلان الحرب بأسبوع، والتي كانت أشهر أترابها جمالا وأدبا ليتأكل الحسد قلبها لوضعها اجتماع، وهذه المرأة التركية الذكية الفؤاد والكاملة الصفات.
قال هذا الجنرال في سره - وفي سره كان يردد اسمها، ويمثل جمالها: جهان! ساحرة تركية، ذات قد أهيف، ومحيا فائق في الحسن، ولحظات تخترق الجماد، ولفتات تشف عن غنج بعيد المقاصد غريبها، في ناظريها نور العطف، ونور المعرفة، وفي أنفها الإباء والشمم، وفي ثنايا فمها اللطيفة إيناس كثير الأسرار، آدابها إفرنسية، ولكن جمالها الذهبي المهيب شبيه بالجمال الألماني، وفي كلا الأمرين فتنة جردت الجنرال لأول نظرة من كل قواه؛ قوى الهجوم، وقوى الدفاع، فحدث نفسه قائلا: ولم لا أرغب بامرأة مسلمة وهي أوروبية التربية والذوق والجمال؟
ولكن هنا شكري بك يبسم له المستقبل، وتذلل أمامه بواسطة جهان المناصب العالية، على أنه أبى يوما ملاحظة أبداها له الجنرال فون والنستين، فخرج من حضرته سامد الرأس شامخا دون أن يلقي ما يتوجب على ضابط في الجيش من السلام، فغضب الجنرال وبدل أن يقدمه لوظيفة كاتم أسرار في وزارة الحربية وفاء بوعده لجهان عزم على إرساله إلى ساحة الحرب، فلو كان مزاحم الجنرال من أكفائه لما طاقه عثرة في سبيله، فكيف به هو ضابط توجب عليه طوع أوامره؟
صدر الأمر إلى شكري بك أن يلازم فرقته في غاليبولي، صدر بعد الظهر فلم تعلم به جهان حتى المساء، الذي حدث فيه نزاع بينها وبين والدها بخصوص الجنرال فون والنستين، ولهذا الغرض عينه كانت قد بعثت برسالتها السرية مع حوذيها تسأل فيها ابن عمها ألا يغادر الأستانة قبل أن تراه والجنرال فون والنستين في اليوم التالي، وكان الحوذي قد أشار بقرعه السوط ثلاث مرات أن قد بلغ الرسالة، وأما أبوها وقد علم بالرسالة هذه من أحد الخدم، وظن أنها مرسلة إلى الجنرال الألماني، فأقسم بالله وبالنبي أن هذا الموعد لا يكون، فأوصد الباب على جهان بين هي كانت في الرواق تترقب أوبة الرسول، ثم خرج باكرا في الصباح متروضا على عادته، مصطحبا عبده الأمين.
ولكن جهان لم تدر بذلك، فارتدت ثيابها بسرعة ورشاقة، وأمرت جاريتها أن تستدعي أباها، وهي تعلم أن ليس من عادته أن يخرج باكرا، فاستولت الحيرة عليها إذ علمت عكس ذلك، وكادت تصدق ما داخلها من الريب والظنون، على أنها لما أمرت الجارية أن تجيئها بمفتاح آخر فتفتح به الباب أدركت الحقيقة المؤلمة، فإن الخدم لم يتجاسروا على أن يخالفوا أمر سيد البيت.
الفصل الثالث
استشاطت جهان غيظا، واستولى عليها الغم، فصاحت يا للعار، ثم سألت نفسها: ولم يا ترى يعاملني أبي بمثل هذه المعاملة؟
لم يكن لها أن تقارن بين هذا التصرف منه، ورصانة فيه معروفة، ولم تقرأ مرة في مطالعتها القصص الأوروبية التي تصف الحياة التركية أن باشا من باشاوات الدولة، أو شريفا من أشراف بني عثمان يلجأ إلى مثل هذه الطريقة في تأديب بنيه.
يا للعار! أيعاملها أبوها كتلميذة مدرسة وهي السيدة التي ينظر إليها نساء الأستانة بعين الإكرام والإجلال؟ أيذلها هذا الإذلال وهي زعيمة بنات جنسها، ترفع أمامهن مشعال نور جديد، وتعمل على تحطيم قيود الحريم؟ يا للفظاعة! أجهان صديقة النواب والوزراء، مدبجة المقالات السياسية، ربة المنبر منبر الحرية، صاحبة الرأي الذي طالما أنار قوما، وأحرق آخرين، نصيرة مبدأ أحدث ثورة في العقول، وحمل الرجال والنساء على العمل في سبيل الحق والحرية، أجهان تسجن في حجرتها؟ إنه لعار وأي عار! أولم تكن هي أول سيدة تركية مشت في شوارع الأستانة سافرة الوجه؟ أولم تكن هي أول سيدة تركية وقفت أمام الساحات الكبرى فمزقت قناعها الأبيض الحاجب وجهها، الحاجب نفسها، وحيت الشمس شمس الحرية؟ والآن هي أسيرة حجرتها الخاصة بأمر من أبيها، فقد شق عليها هذا الأمر، فرمت نفسها على الديوان وكبرها وإباؤها يستحيلان دموعا سخية.
لبثت على هذه الحال برهة من الزمن تلوم طورا أباها وتارة تختلق له الأعذار وهي تترقب عودته مرددة في نفسها؛ لعله فعل ما فعل مسيئا فهمها، أو عملا بتهمة باطلة، ثم تناولت قلما وكتبت إلى شكري بك مذكرة ثانية، وإذ ختمت الظرف قرعت الجارية الباب، ودفعت إليها كتابا من ابن عمها يقول فيه أن قد صدرت إليه الأوامر أن يغادر الأستانة ظهر ذاك النهار عينه، وخشية أن يفاجئها بوداعه يود أن يراها الساعة العاشرة والنصف.
فمزقت جهان مذكرتها، وكتبت إليه عجالة أخرى، وقد كانت تخشى قدومه إليها قبل أن يعود أبوها، وهي تأبى أن يشاهد ما هي فيه من الذل والغم؛ ولهذا اقتضبت العجالة بما يأتي: لا تزعج نفسك بالقدوم؛ فإني ذاهبة لمقابلة الجنرال فون والنستين في منزله، وسأراك بعدئذ، وفي أية حالة من الأحوال لا تبرح منزلك قبل الظهر.
ثم كتبت مذكرة إلى الجنرال، وأخرى إلى وزير الحربية ملتمسة من كليهما السماح لشكري بك أن يبقى يوما آخر إلى أن تتمكن من مقابلتهما بعد الظهر، وقد بعثت بالمذكرتين مع سليم عبدها الأمين، ونحو الساعة العاشرة عندما دنت الجارية من الباب لتنبهها أن كاتم الأسرار الخصوصي في وزارة الحربية يرغب في مخاطبتها بالتليفون كان أبوها لم يزل خارجا.
فقالت لجاريتها: قولي له يا زليقة، إنني في الحمام، وأصغ جيدا لما يكون جوابه.
وللحال عادت زليقة، وقالت لها: إن سعادته يتأسف جدا أنه ليس في إمكانه قضاء الحاجة التي سألته قضاءها.
وعاد سليم بعد هنيهة، وبيده جواب من الجنرال فون والنستين، وبه يعد جهان «الحسناء البارعة» بأن سيخاطب في الحال وزير الحربية بالتليفون، ويطلب إليه أن يقضي ملتمسها، فتنفست جهان الصعداء وهي تشكر الله، وقد عرفت عندئذ معنى كلام وزير الحربية، وأيقنت أن كلمة فون والنستين شرع في القسطنطينية فإنه ذو السلطة العليا، والحكم الحاكم النافذ حتى إن البادشاه ذاته كان يستشيره قبل إصدار إرادة سنية؛ ولهذا لم يكن لها أدنى شك في أن ستجاب طلبتها.
الفصل الرابع
فلما خرج شيطان الوساوس معنا إذا طلبنا النزهة فرارا منه، وإذا فعل بعد أن يكون قد نال منا مراده فلا يعتم أن ينفصل عنا إذا ثابرنا في الطريق ماشين، وإننا في ابتغائنا البعد منه، ومن أنفسنا المشتعلة غيظا إنما نبتغي في الحقيقة ملاشات هاجس مزعج، أو فكرة منكرة، عاملين بها السياط كأنها أتان منهوكة، وإن هي إلا أتان الشيطان نمتطيها رواحا، فنقتلها ونعود على الأقدام مستبشرين راضين، تصحبنا رفيقة صالحة أمينة يدعوها الناس «الحكمة».
عاد رضا باشا إلى منزله مرددا المثل المأثور: «العجلة من الشيطان»؛ لأن نزهة الصباح أثمرت خيرا في نفسه، فسرت عنه قليلا، وأعادت إليه عطفه الوالدي، ورأفته المعهودة، ولما فتح الباب على جهان كانت نار غلوائه قد همدت تماما، ومع أن ما بدر منه مساء البارح لا يستوجب الندم في حال غير الحال الحاضرة، فأشفق أن يدفع بابنته جهان إلى تطرف في تصرفها فتفسد عليه أقصى أمانيه، كيف لا وقد وطن النفس أن ينقل من الأستانة إلى قونية العاصمة العثمانية القديمة حيث يود أن يقضي آخر أيام حياته بسلام الله ورضائه، مصطحبا ابنته وصهره المقبل شكري بك؛ ولذلك رأى أن يداري جهان، ويطيب خاطرها.
كانت جهان جالسة على مقعد قرب منضدتها، ورأسها مطأطئ على صدرها، وقد شبكت يديها حول ركبتها، مطرقة مفكرة، ولما دخل أبوها وتقدم نحوها وهي على هذه الصورة، دافعا إليها المفتاح، ولكنها لم تتحرك ولم ترفع نظرها إليه، فجلس بالرغم من ذلك على كرسي بجانبها، وأخذ يدها بيده قائلا: جهان - عزيزتي - تأسفت كثيرا لما حدث، وعسى أن لا يعود مثله، ولن يعود إن شاء الله.
ثم تصدر أمامها وقال: تطلعي إلي الآن، وقولي لي: أبين البنات حتى القرويات منهن من تخاطب أباها كما خاطبتني ليلة أمس؟ ألا ينتظر منك وأنت السيدة المهذبة ذات المواهب السامية أن ترعي البر، وتقيمي على الطاعة البنوية التي هي من مزايا عنصرنا الخاصة، ومن أقدس تقاليدنا؟ وماذا يقولون عنك الذين يقرءون كتاباتك في الجرائد، والذين يسمعون خطاباتك، والذين ينظرون إليك كحاملة نبراس النور والمعرفة إذا أخبرتهم اليوم أن جهان تعصي أوامر أبيها، وتستخف بكلامه، وتقاوم رغائبه، بل هي لا تحترمه ولا تحبه، حتى إنها لا توجد من نفسها رادعا عن أن تسمعه المهين من الكلام.
فالتفتت نحوه جهان وعيناها مغرورقتان بالدموع: «ليس هذا بصحيح يا أبي، معاذ الله أن أكون عقوقة.» - ولكنك يا حبيبتي جهان لم تعودي تكترثين بأوامري كالسابق، بل تتنحين عني، ولا تستنصحينني أو تستشيرينني بما تفعلين، ولم تعودي على الأقل تقرئين أمامي ما تكتبين. - ذلك لأنك لم تكن قاسيا جائرا كما أنت اليوم، واعذرني إذا قلت إنك مقاوم آرائي ومقاصدي اليوم على غير عادة منك في الماضي. - أفلا ترين أن الجواسيس ملئوا المدينة - ألمان وأتراك - حتى أصبح المرء مسالما كان أو مشاغبا لا يستطيع أن يعيش بطمأنينة، وليس من الناس من يأمن على حياته في هذه الأيام، أفيحسن منك - والحالة هذه - أن تتدخلي بالشئون السياسية وأنت ابنة رضا باشا، أو يليق بشرف محتدك ومقامك أن تترددي إلى الباب العالي، وإلى النوادي، والنزل في بارا؟ أيجوز أن تذهبي لمقابلة الجنرال فون والنستين؟ أوتظنين أن المرأة الأوروبية تستحسن مثل هذا التصرف منك؟ - ذهبت مرة واحدة لقضاء شغل يتعلق بالمستشفى. - كان حريا بك أن تكتبي إليه عن ذلك. - ولكنه أمر مهم ضروري، ولم يكن لي منفسح من الوقت. - إذن كان عليك أن تبعثي رسولا.
فتململت جهان، وانتقلت من كرسيها إلى الديوان، وقالت: بدرم لماذا تعذبني ثانية بشأن هذا الرجل؟ - لا أكتمك أني أكرهه، وأوجس شرا من تردده إلى منزلنا، وأعيد عليك ما قلته الليلة البارحة: «إن ما تذيعه الصحافة عنك وعنه عار لاسمي»، لم أبحث معك قبلا بمحالفتنا مع ألمانيا، تلك المحالفة التي لا أزال أعتقد أنها جريمة على أمتنا، بل جريمة على الإسلام والمسلمين قاطبة، فلك ما ترتأينه في هذا الموضوع، ولكني أضطر أن أعيد ما قلت البارح، إن محالفة بيتية مع ألماني لضرب من المستحيل، ولا مراء أنك توافقينني على الأقل بأنها مجردة من كل حكمة، ولا تظني أني أقاومها لأسباب دينية، كلا فلست من رجال الدين، ولا من رجال الفقه، ولكني لا أريدها لأسباب حسية وعقلية، أنت يا جهان عاقلة حكيمة، ذات رأي أصيل، فماذا تقولين في هذا الرجل؟ إنه اليوم الحاكم بأمره في الأستانة، ينبغي أن نتقرب منه، أليس غريبا هو عن حياتنا وعاداتنا، ولغتنا وأخلاقنا، وديانتنا وتقاليدنا؟ وعدا هذا فهو أرمل، وعمره ضعف عمرك. - بدرم، أوافقك على كل ما ذكرت، ولكن ...
قالت هذا واستسلمت للتأمل. - ولكن ماذا؟ - لا أدري، بدرم، فإني لا أجد كلمة تعبر عن عواطفي، والحق أني لا أفهم عواطفي. - لا يليق بك مثل هذا العذر، أفصحي عما يجول في خاطرك، ولا تخفي شيئا عني. - أخاف أن تزدري بي. - معاذ الله، أنت امرأة حصيفة ولا أرى ما يدعوك إلى الخوف من توقع الازدراء. - حسن، مساء اليوم الذي به قابلت هذا الرجل لأول مرة تراءت لي رؤيا، ليست حلما، بل رؤيا، وكنت إذ ذاك جالسة وراء منضدتي أترجم نيتشى، فأسدل سجل على عيني فجأة، وأصبح عقلي كخلية النحل غليانا، وابتدأت أرى نقطا صفراء تتراقص أمامي على صفحات الكتاب، فسقط القلم من يدي، ورأيت هذه الغرفة تدريجا تمتلئ ... ولكن ما الفائدة؟ تهز رأسك قائلا: إنها أضغاث أحلام.
فأجاب الباشا وعلى وجهه أمائر الرغبة باستماع الحديث: أنا مصغ تمام الإصغاء، كملي حديثك. - خيل لي في هذه الغرفة شبح امراة كأنها والدتي، وقد شاهدت الشبح جليا، ثم ابتدأ يتضاعف عدده، وتتكاثر الأشباح كلما حدقت بها بصري حتى رأيت أمامي مئات من النساء مرتديات أردية سوداء راسفات بالسلاسل والقيود، وعيون الكل منصوبة نحوي ملؤها استرحام كأنهن يرغبن بمخاطبتي بإبلاغي حقيقة هائلة، بالتماس عمل ذي شأن، وقد أرسلن إلى مسمعي هذه الكلمات «إما تضحية أو انتقاما»، وهي كلمات لفظها صوت طالما اعتادت أذناي استماعه، كأنه صوت أمي. انظر، فقد كتبت الكلمات كما سمعتها.
أما أبوها، فكان يلهو بسبحته ليهدئ ثائر أفكاره، وبعد أن شزر الوريقة التي أرته إياها سألها قائلا: ما فحوى هذا؟ - اعلم أن ذاك الصوت إنما هو صوت الأم، أم عنصرنا، أم ألوف من الأجيال أم ماضينا، هو صوت يدعوني إلى المفاداة في سبيل أم مستقبلنا، وهو عمل خطير لا بد أن تتمه إحدى نسائنا إن لم يكن أنا فغيري «إما تضحية وإما انتقاما»، هذا تفسيري تلك الرؤيا التي ما تراءت لي إلا وشعرت أن شيئا فائق القوى الطبيعية يقودني نحو هذا الرجل، ولقد كذبتك إذ قلت إني ذهبت لمقابلته مرة واحدة فقد زرته في منزله ثلاث مرات منذ آخر زيارته لنا. - أأنت ذهبت إلى منزله؟ جهان ابنتي؟ - نعم ذهبت ولكن زياراتي كانت لشئون تتعلق بالأمة.
لعبت النار في عين رضا باشا، ولكنه جمع من نفسه قوة لتسكين جيشانه، ثم سألها: أوتحبينه حقيقة؟ - كلا. - أوتقصدين إذن أن تقترني به لسبب من الأسباب؟ - كلا. - إذن؟ - بدرم، أناشدك الله ألا تسألني سؤالا آخر عن هذا الأمر، فإني لا أستطيع، لا أستطيع أن أجيب، لا أدري كيف أجيب ...
فصاح بها وفي صوته غصة وارتعاش: جهان ابنتي؟ والله لقد صدقت ظنوني، صدقت والله ظنوني. قال هذا ونزع عنه طربوشه ليمسح العرق عن جبينه.
عندئذ تقدمت إليه جهان فجثت حياله باكية، وكلمته بصوت مضطرب: كلا، كلا، يا أبتاه ليس الأمر ما ظننت، أقسم لك بالله وبالنبي إن الأمر ليس كما ظننت، لقد أسأت فهمي، فصدقني إن حقيقة الحال ليست كما تتوهم، أجهان ابنة رضا باشا، أواه! تقسو بي بدرم إلى هذا الحد بالظنون الباطلة؟ - إذن ما معنى كتابتك السرية إليه الليلة البارحة؟ - أوظننتها للجنرال فون والنستين؟ - إذن لمن؟ - لشكري.
تنفس الأب الصعداء، واستبشرت الابنة بشيء من الفرج، وكلاهما وقف عند هذا الحد من الحديث لاجئا إلى السكوت كما يلجأ الإنسان إلى مخبأ من العاصفة؟ وظلا كذلك برهة، ثم قال الأب: ولم المكاتبة السرية مع شكري، وعلى الأخص في ساعة كهذه؟ - لأنه تلقى أمرا عسكريا بأن يسرع إلى ساحة الحرب، وموعد ذلك اليوم بعد الظهر.
ما سمع الباشا هذا الخبر إلا وانتصب على قدميه ثانية قابضا على لحيته بيده المرتجفة، وشرار السخط والغضب تبرق في عينيه. - ولكني كتبت إليه أن لا يبرح قبل أن يراني، وهو ذا مذكرته التي استلمتها منه باكرا في هذا الصباح. - قسما بالله ونبيه، لن يسير شكري بك إلى ميدان القتال، لقد وهبت الأمة ثلاثة أبناء، وهو ذا رابعهم أيضا في ساحات الوغى، وقد لا يعود لي حيا، وقد لا أراه مرة أخرى، وقد كان باستطاعتي أن أوقد شرار ثورة تقضي على الألمان، أو تقصيهم بيوم واحد عن الأستانة، لقد طفح الكيل، ولم يعد ضباطنا يحتملون غطرسة الألمان وتفوقهم، لم يعد بإمكانهم أن يذعنوا لأوامرهم الوحشية، أما أنا فقد أخلدت إلى السكينة لا لأجلهم، بل لأجل سيدي ومولاي البادشاه الذي لا أحني هامي مطيعا لسواه، وإني ذاهب في الحال لأسعى بمقابلة جلالته ... شكري بك لن يسير إلى ساحة الحرب ليخدم هواء ظالم أجنبي. - ولكني كتبت إليه. - إلى من؟ - إلى الرجل الذي ذكرته الآن، وقد وعدني أن يلغي هذا الأمر أو أن يؤجله. - كان ينبغي لك أن تستشيريني قبل أن تفعلي ذلك، فإن كتابتك إليه في هذا الأمر لا تأتي بفائدة ما؛ فهو إذا تباطأ في استكشافه حقيقة ما بينك وبين شكري لا يتباطأ في اتخاذ الوسائط التي تفسد عليك مساعيك، وسيرسل شكري إلى ساحة الحرب، وربما كان إلى حتفه، موقنا أن في ذلك ينال منا مراده، ألا إنه لمخطئ، فشكري لن يذهب إلى ساحة الحرب حتى وإن حكم عرفيا لعصيانه، وأنت ستتزوجين منه غدا، لا بل اليوم، اليوم. - أتزوج منه، ثم يرسل إلى قبره أليس كذلك؟ - قلت لك لن يذهب إلى ساحة الحرب.
عقب ذلك سكوت جاءت أثناءه الجارية تدعوهما إلى الغداء.
اتفق الاثنان - الأب وابنته - نهائيا على أن يتخذا سائر التدابير اللازمة لإلغاء الأمر في سفر شكري بك، أو تأجيله، ومما فاه به الباشا على المائدة إذ عاد إلى الموضوع قوله: «متى يعلم هؤلاء الألمان أنه مهما عظم نفوذهم يجب أن ينتهي عند سلاملك التركي؟ يمكنهم أن يستبدوا بأمورنا في الباب العالي حتى وفي يلديز أيضا، ولكنهم والله والنبي لن يستبدوا بأمورنا في منازلنا.»
كان رضا باشا لم يزل وابنته يتناولان الغداء إذ جاء الخادم يعلن قدوم ياور الجنرال فون والنستين. - قدم إليه السيكارات، وقل: إني قادم لمقابلته في الحال.
أحنى الخادم رأسه طوعا، ثم لمس فمه وجبينه بيده تسليما وتنحى، وما هو إلا ربع ساعة من الزمن حتى ذهب الباشا إلى السلاملك حيث كان الياور بالانتظار، وهناك قدم الضابط الألماني الرسالة التي جاء بها، وأتبعها بهذه الكلمات، وسعادة الجنرال قادم بذاته عند الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم ليقوم بواجب التهاني لسعادتكم.
ففض رضا باشا الرسالة، وأعارها نظرة، ثم أدخلها جيبه دون أن يهتم بما حوته، وقال وهو لم يزل واقفا: أبلغ سعادة الجنرال أننا نرحب بقدومه، ونتأهل به.
وعاد إلى ابنته، وعلى طرف فيه ابتسامة صفراوية، وقال لها: تأملي يا جهان، إن ذاك الألماني متبع قواعدنا؛ فهو يرشونا ليكسب ثقتنا.
أما الرسالة فقد كانت مكتوبة بالتركية بيد لم تمارس الكتابة بتلك اللغة، فكأنها يد متتلمذ رفعته الضرورة إلى مقام كتامة الأسرار في الأستانة، ولا يبعد أن يكون أحد أولئك المتتلمذين الذين كانوا يتلقون اللغات الشرقية، وقد جاءتهم الحرب الحاضرة خير مريح لهم من عناء الدرس.
لم تقرأ جهان الرسالة كما قرأها أبوها بروح الازدراء، بل بشعور وامتنان حقيقيين، على أنها لو جاءت في غير هذا الوقت متضمنة غير ما احتوته لكانت جهان لا شك تنقد عبارتها البتراء، واقتضاب ترجمتها، وركاكة تركيبها، وخلوها من آيات التبجيل والإكرام مما يمجه الذوق التركي، إلا أن «جلالة الإمبراطور قد أنعم بالصليب الحديدي على نجلك مجيد بك لبسالته في ساحة الوغى.»
كلمات رنحت جهان افتخارا بأخيها المحبوب، وقد أملت أن تكون الرسالة التالية من الجنرال فون والنستين حاملة إليها إنعاما عليها من الإمبراطور.
ثم أشار إليها أبوها بإيناس وبشاشة قائلا: لك أن تستقبلي الجنرال بعد الظهر، وهذا سرورك برسالته، فإنك لا تضطرين أن تتظاهري بغير الطلاقة والترحاب، أما أنا فلن أكون حاضرا، فإني ذاهب إلى يلديز.
لما كان ياور الجنرال فون والنستين مجتازا البوابة والعربة تهيأ لركوبه، إذا ببائع جرائد قد دخل بصحيفة يومية رفعها الخادم إلى رضا باشا، فقرأ فقرة من مقالة التحرير في الصفحة الأولى، وفتح الجريدة ليطالع الأنباء الرسمية والمحلية في الصفحة الثانية، وإذ وقع بصره على جدول كبير من أسماء القتلى في الأسبوع الماضي، فنظر فيه قليلا وللحال قدم الصفحة إلى عينيه مرتعشا ليدقق النظر فيها، فشهق شهقة طويلة مرتميا على الديوان مرددا: مستحيل، مستحيل!
أما اسم مجيد بك ابن رضا باشا فلم يكن بين أسماء الأسرى ولا الجرحى، بل بين القتلى.
وفي عمود آخر من الجريدة فقرة خاصة عن بسالة العقيد، وإقدامه في ساحة الحرب استرسل بها قلم الجريدة إلى تعزية والده الشيخ الجليل، ولهذا لم يعد من باب للشك لدى رضا باشا، فتنهد قائلا: «لتكن إرادة الله تعالى، إلا أن نعمته لتأتينا إما متيسرة وإما بطيئة يوم لا نستحقها، ويوم نكون في غنى عنها.»
قال هذا وقد ترقرقت في عينيه الدموع، أما جهان فكانت ترسل من أعماق قلبها تنهدات ارتعش لها بدنها وهي جالسة على الكرسي، ساد على الأب والابنة سكون الحزن، وفي خلاله جاء الخادم معلنا قدوم شكري بك، فدعي إلى «الدارخانة»، أو للبهو الخاص، ولما مثل أمام الباشا قبل يده، وضغط على يد جهان بكلتا يديه مظهرا حزنه بعبارات متقطعة أثارها غضب مازجته الأحزان. - جئت الآن من وزارة الحربية حيث تناقل الموظفون من الوزير إلى أقل كاتب في الوزارة الخبر المشئوم، وكل ينهال باللعنات على الألمان مستنزلا عليهم غضب الله ... يا لها من فظاعة! رماه الأمير بالرصاص خطأ؛ ما شاء الله! الألمان لا يرمون أحدا بالرصاص خطأ، كذب كذب وافتراء، فقد استقيت الحقيقة من كاتم أسرار وزارة الحربية وهي هذه.
أمرت القيادة الجنود أن يهجموا على خط من خنادق الأعداء، ويستولوا عليه عنوة مهما كلف الأمر؛ فلما تراجع قسم منهم شاهدوا مسدسات ضباطهم مصوبة عليهم، فاحتج الأمير آلاي مجيد بك - وأنت تعلمين أخلاقه وإباءة نفسه - وقد رفض أن يطيع أمر ضابطه الأعلى قائلا: أنا لا أطيق أن أرى ألمانيا مصوبا مسدسا على جندي عثماني، فكان جواب الضابط الألماني وجيزا قاطعا؛ فقد صرع الأمير آلاي مجيد برصاصتين أصابتا قلبه، أما فرقته فقد وقفت بجانبه، متمردة على هذه الوحشية، ولكن - وا أسفاه - إن الذين بقوا في قيد الحياة منها بعد تلك الوقفة الباسلة قد هلكوا بمتفجرات مدافعنا. - أولم يبلغ الجنرال فون والنستين هذا الخبر؟ - لا مراء في أن يكون قد بلغه الخبر حال وصوله وزارة الحربية. - لا لا لا أظن بلغه الخبر، وإلا لما كتب هذا الكتاب، ولاستغنى عن إرسال وسام الصليب الحديدي، بل لكان حفظه لآخر. - الألماني يرمي بالرصاص بطلا عثمانيا! يا للفظاعة يا للعار! كفى ما احتملنا منهم!
دخل الخادم معلنا قدوم الجنرال فون والنستين، فنهضت جهان منتصبة، أما شكري فظل جامدا في مكانه. - أنا أقابله. - اذهبي يا ابنتي إلى غرفتك. - لا بل يجب أن أراه. - لن تريه اليوم يا ابنتي، اصبري ريثما يهدأ غضبك، واذهبي الآن إلى غرفتك.
فسقطت جهان في كرسيها وهي تستر وجهها بيديها، وسلم رضا باشا الجريدة إلى شكري بك قائلا: أره هذه الفقرة، وقل له إنني لا أستطيع أن أقابله اليوم.
كان الجنرال فون والنستين مصحوبا بمستشاره وياوره مرتديا لباسه الحربي، وعلى رأسه خوذة بيضاء، وفي رجله جزمة سوداء يشع مهمازها، وقد كاد يفرغ صبره وهو ينتظر في غرفة السلاملك كاظما غيظه؛ لأن الباشا - وقد علم بهذه الزيارة الشبيهة بالرسمية - لم يسرع لمقابلته عند الباب، وشد ما كان اندهاشه عندما جاء شكري بك لتأدية السلام، بل ليقدم إليه رسالة للباشا.
اطلع الجنرال على الخبر في الصحيفة، وأعادها متجاهلا الأمر، فقال: يا للأسف؛ ثم قطب حاجبيه، ونظر إلى شكري بك نظرة استنكاف قائلا: وما السبب في بقائك هنا حتى الآن؟ - سأبرح غدا إن شاء الله. - ولكن الأوامر صدرت إليك أن تبرح اليوم، وكان يجب أن تكون في طريقك. - لم أستطع أن أكمل استعداداتي للرحيل. - على الجندي أن يكون دائما مستعدا للانصياع إلى الأوامر أي ساعة من النهار أو الليل، عملك هذا مخالف للنظام.
ومر إذ ذاك بالضابط التركي، وعلى وجهه أمائر التذمر، وقد خرج من البيت تغلي في صدره مراجل السخط والغضب أقلها من سوء معاملة رضا باشا له، وأكثرها من عصيان شكري بك أوامره.
وإن مات ابنه أليس في إنعام الإمبراطور ما يعزيه، إنعام هو شرف لبيته، ومجد سلالته، يعززه ويفتخر به على مرور الأحقاب؟ وقد أعمل الفكرة الجنرال بهذا الشعور، واستمر يحدث نفسه: «حتى بمثل هذه الساعة كان أولى به أن يقتبل التهاني.»
سارت العربة وهو فيها يستعر حنقا وغضبا، أتحقير وامتهان من تركي إلى قائد ألماني؟ إنها لفظاعة، أويستخف تركي بإنعام الإمبراطور؟ إنه لجرم لا يغتفر، إلا أن الجنرال فون والنستين قد جاء لزيارة الباشا بشرف أعظم لو أدرك ذلك ووعى، فإنه جاء ليزف اسمه إلى اسم ابنته جهان؛ ولهذا إكراما لخاطرها سيحاول أن يطفئ نار غضبه، وإكراما لها سيهضم هذه الإهانة، وسيحتملها إلى حين.
وهكذا كان، فإنه لما عاد إلى بيته كتب إلى جهان رسالة تعزية، وقد أنبأها أنه قادم لمشاهدتها في الغد.
الفصل الخامس
إن موت مجيد بك في ساحة القتال على تلك الصورة الفظيعة لمما زعزع في جهان إعجابها بالألمان، ولكنها تنسمت في الجنرال فون والنستين سرا، لم تستطع أن تدرك كنهه، فإذا كان هو مصدرا ذلك الأمر المسبب تلك الفاجعة، فما معنى رسائله الودية إليها، وإلى أبيها، وما معنى تردده إلى منزلهم بهذه الجسارة والجرأة كأنه لم يأت أمرا فريا، ومما تيقنته أن الجنرال لم يكاشف وزير الحربية بشأن شكري بك كما وعدها بذلك الصباح، وليست هذه بالمرة الأولى التي أخلف بوعد وعدها إياه.
ولما كان المساء جلست وأباها يتناولان العشاء، فقرأت أمامه الكتاب الذي تلقته من الجنرال فون والنستين، ثم سألته قائلة: بدرم، أعطني رأيك في هذا. - يجب أن لا تستقبليه إذا جاءنا زائرا.
فلم تنبس جهان ببنت شفة، ولكن شكري بك الجالس قبالتها أقدم على الاعتراض فقال: ولكن الجنرال لا سواه يستطيع أن يؤجل الأمر العسكري أو يلغيه.
وشكري بك شاب جميل المحيا، رضي الطلعة، رقيق الجانب، مهذب تهذيبا عصريا، ولكنه في فمه وناظريه سيماء طبع يجمع بين القسوة والتزلف، وهو إذا كلم أحدا قلما ينظر إليه وجها لوجه.
التفت إليه رضا باشا، وخاطبه قائلا: أنت تعلم يا بني أننا معشر الترك مشهورون لدى الأوروبيين بالاحتيال والتزلف والجور، وقد جر علينا هذه المعايب أولئك الذين يديرون دفة أمورنا، فهم المسئولون عن هذا العار اللاحق بالأمة جمعاء، أويستطيع الفرد أن يدرأ عارا لحق بالمجموع؟ أما أنا فلم تكن المراوغة أبدا من شأني، ولم أكن خاضعا خضوعا أعمى حتى لسيدي ومولاي السلطان، فهل تريد أن أقف اليوم في باب ألماني أسأله صدقة، وأنا في آخر عمري، لا وتربة أجدادي، لا أفعل ذلك، إذا كان هذا الرجل مثل أولياء الأمر فينا مراوغة واحتيالا، فإني أدعه وشأنه، ولا أتدخل بأمر من أموره، أما أنت فلا تذهب إلى ساحة الوغى، اللهم إذا كانت كلمة رضا باشا مسموعة في يلديز، أنا ذاهب غدا لأقابل جلالة السلطان، وبعد أن يلغي الأمر نسافر كلنا إلى قونية، ولقد أمرت الخدم أن يتأهبوا للرحيل، نعم سأرحل من جهنم الأستانة، وسنقيم في قونية بعيدين عن الألمان ومطاياهم، قوادنا الملاعين، هناك أريد أن أقضي بقية أيام حياتي بسلام، حتى إذا حل القضاء بي تغمض أنت وجهان عيني، وتكونان حولي في مأتمي، وأتأمل أن لا أرى من أيكما مقاومة لرغبتي هذه.
إلا أن جهان قالت لشكري بك، وقد اختلت به في الدارخانة: ولكني لا أقدر أن أذهب إلى قونية؛ لأن أمامي أعمالا عديدة في الأستانة، نحن الآن في أشد وأعظم أزمة في تاريخنا؛ ولذا أرغب بالبقاء في وسط العاصفة حتى النهاية، لن أفارق أخواتي الطامحات إلى الحرية، لا والله ولا أترك إخواني الجرحى في المستشفى، إن للأمة وللحكومة علي حقوقا، وعليك أيضا يا شكري، فإننا لم نزل أحدث سنا من أن نعتزل في آسيا الصغرى، وندفن أنفسنا في مجاهل الأناضول. - ولكني موقن أن الأمر لن يلغى، وأرى أني مسير غدا لا محالة، وقد لا أعود أراك؛ فإنك لتعلمين أن ليس لجلالة السلطان إلا القليل من السلطة في هذه الأيام، وهذا الألماني هو سالبه تلك القوة، وليس بين وزرائنا حتى مشايخنا أو شيخ الإسلام من يقاوم كلمته، ألم تتأملي بهذا؟ أولا تظنين بأن الحكمة تقضي بأن نلاينه ونداريه؟ قد يمكن أن أكون تسرعت بتصرفي معه، ولكن لا أحتمل أن أرى أيا كان من الناس يضمر في نفسه السوء لنساء عنصري، ناهيك بأن الرجل ألماني، بل مسيحي.
أنصتت جهان لحظة استرسلت فيها إلى التأمل، ثم قالت وفي صوتها حدة مشفوعة بقطع الأمل: لا أستطيع أن أطرق باب هذا الرجل بعد الآن، فليس لي حق يخولني سؤاله حاجة ما، ويلوح لي أنه أساء تفسير سكوتي في الماضي، ولكنه لن يستطيع أن يسيء تفسيره اليوم. وقالت متبعة كلامها كأنها تخاطب نفسها: وإن لم أقابله غدا فينفر مني مغتاظا، ونصبح كلنا تحت رحمته؛ أنت، ووالدي، وأنا تحت رحمة الألمان ... كذا كنت أقول لك دائما.
ولكني لست بهذا المقدار قليلة الإدراك والتمييز حتى أحسب أن مصلحتي الذاتية، ومصالح أمتي سيان. - ستقابلينه إذن لأجلي، لأجلنا كلنا. - يلوح لي أنك شديد الحيرة، وأنك تخاف الذهاب إلى ساحة الحرب؟ - أنا؟ ما شاء الله! كنت أخال جهان تحسن الظن بي، ألم تقولي أنت نفسك: إن شغلي في دائرة الحربية؟ أولم تبوحي لي مرة أنك لا تحتملين فراقي؟ - بلى قلت ذلك مرة. - أوتغيرت الآن؟ - يا عزيزي شكري، كل شيء يتغير في هذه الأيام، ولا يستطيع أي كان في زمن الحرب هذه أن يثبت على رأي من يوم إلى آخر، بل كلنا ضحايا تلك القوة الضاغطة الشريرة، تلك القوة العلوية أو السفلية التي تجسم فيها الشر والخير، والتي أدعوها «إلهة التلون». - أهذا ما يعلمك إياه فيلسوفك الألماني؟
فنظرت إليه جهان نظرة الأنوف الغضوب قائلة: إياك والتهكم على آرائي. - أما أنا فلم أتغير، أنا لا أزال أحبك، أنا مغرم بك، وأقسم بالله أن لا امرأة سواك تقاسمني قلبي، وتشاركك في الحريم. - ذكرتني بالأمير سيف الدين. - ولكني لن أحنث بوعدي أقسم بالله وبنبيه. - التقلب إله الزمان! - بربك يا جهان لا تعذبيني. - أنت تعذب نفسك. - إذن عديني، إذا ذهبت إلى ساحة الوغى ...
فقاطعته قائلة: لا أستطيع أن أعدك شيئا. - أتقترني بي قبل مغادرتي غدا؟ - لا وقت عندي للاقتران هذه الأيام. - والله إن هذا الألماني ... - هو لسوء الحظ أرفع منك مكانة، وعليك أن تصدع لأوامره.
كان شكري بك يتمشى في الغرفة مطرقا وجهان محتبية على الديوان.
وبعد فترة دنا منها جالسا حيالها، وقال: حكمي عقلك، لا أخالك تكسرين قلب والدك، ولا أخالك تعذبين عبد هواك، أنا ذاهب إلى ساحة الحرب إذا كان هذا يرضيك، والحق أني كنت قد عزمت على المسير قبل أن استلمت مذكرتك، فلماذا الآن تطلبين إلي أن أؤجل رحيلي، حكمي عقلك، أمكث معك في الأستانة إذا كنت لا تشائين الذهاب إلى قونية، قابلي الجنرال فون والنستين غدا من أجلي، فإني أرغب بتأخير يومين فقط، وأرضى إذا كان سعادته يعد ... - نعم ولئن كان سعادته ألمانيا فقد تلقن علم السياسة في مدرستنا؛ ولذا أنا نفسي لا أومن بما يعد به بعد الآن. - إذن علينا أن نعامله بمثل ما يعاملنا، فنسود على مراوغته.
قال هذا مطمئنا وقد وضع يديه في جيبيه، ووقف في وسط القاعة كمن أفحم غريمه. - أرى يا عزيزي شكري أن تصدع بالأمر الصادر إليك، والآن أرجو لك مساء سعيدا.
قالت هذا وخطت نحو الباب فناداها شكري: قفي قفي، لا تسيئي فهمي، فأنت تعلمين شدة حبي لك، وما أود أن أضحيه لأجلك إلا أن المرء إذا وقع بين الواجب والحب ... - على المرء أن يكون في الأزمات الأهلية في طليعة الوطنيين. - ما كنت أسمع منك مثل هذا الكلام قبلا، ماذا جرى؟ وبماذا أسأت إليك؟ أوتظنين أني خال من الوطنية حتى تعيريني وتوبخيني؟ لا أستطيع احتمال هذا، كلا والله، أنت متقلبة قاسية القلب، ولا تراعين شعوري.
فأشارت إليه جهان بيدها أن يسكت، ثم قالت: أرى يا عزيزي شكري أنك أكثر أهلية في ساحة الحرب منك في إدارة الحربية، فلست بذي دهاء لتكون سياسيا فضلا عن أن وجودك في ساحة الحرب في هذه الأحوال أسلم لك عاقبة، فاذهب وتأهب، وإذا عدت بطلا أقترن بك. - أعلم أنك تستبدين بي؛ لأني أذعن لك محترما كل أمر من أوامرك حتى أدنى رغبة من رغباتك. - أخطأت القصد مرة أخرى، وقد لا تهتدي لأغراضي، ولو وضحت على أنني لا أدري كيف أوضح لك حقيقة أمري، ناهيك الآن بقصر الوقت لدي، فنحن في الساعة العاشرة، وعلي تكملة موضوع لجريدة طنين، وكل ما أستطيع أن أقوله هو أني أشعر بوجوب ذهابك إلى ساحة القتال لتذود عن بلادك، أرجو لك ليلة سعيدة، ودعني أقبلك مودعة!
الكلمة الأخيرة منها استثارت في شكري بك حرمة الرجال إذا امتهنتها امرأة، تلك الحرمة التي تظهر في أحقر الشرقيين، وأضعفهم كما تظهر في أشدهم وأعظمهم، فوقف بعيدا عنها سامد الرأس جاحظ العينين.
فهزت جهان كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة فيها رضاء يمازجه ازدراء، وذهبت إلى غرفتها، أما شكري بك فعاد إلى منزله مضطرب النفس، مشتت البال، يصب لعناته على الروح الأوروبية، ويقول ...
الفصل السادس
دعت جهان الخصي سليما إلى غرفتها وقالت: لم يعد ينفع هذا المسحوق، ولا تأثير له علي، أفليس عند صاحبك الصيدلي شيء أشد منه فعلا؟ أحب أن أنام هذه الليلة يا سليم. - بلى مولاتي، عنده سائل يقتاد النوم اقتياد العبد الذليل، فيأتيك به على أجنحة الليل، ولو كان وراء سبعة أبحار ولكن ... - ولكن ماذا؟ ألا تستطيع أن تجيئني به هذه الليلة؟ - بلى خانم، إن شاء الله، وإنما قصدت أن أحذرك يا سيدتي أن لا تأخذي منه جرعات عديدة، فإن له تأثيرا سيئا على القلب. - ليس هذا من شأنك يا سليم؛ اذهب وأتني به في الحال. - السمع والطاعة يا مولاتي.
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان العبد الغليظ الشفتين الطويل القامة يزرع خطاه في الشوارع اللولبية وهو بضخامة جسمه وانتصابه يشبه المارد الأسود الذي كثيرا ما يأتي ذكره في أقاصيص الجن سائرا إلى كهف سيده الساحر.
أما جهان، فقد ارتاحت إلى أمل بالنوم تلك الليلة ارتياحها إلى الهبة العلوية، ولكن عقلها كان كالبحر الهائج وهي ترقب عودة سليم بصبر كاد يفرغ وقفت عند ذكر شكري بك فأملت على الأقل أنه لن يسير إلى ساحة الوغى، ثم أخذت تفكر ماذا عساه يضحي لأجلها، أو ماذا يستطيعه من التضحية، ولكن هل يضحي التركي شيئا في سبيل امرأة؟ أويقبل التركي المهذب الذي يفاخر بكونه عصريا وأوروبي الروح أن يقترن بسيدة تركية حرة؟ أويكون شكري بك أمينا بعهده أن لا يتزوج إلا امرأة واحدة؟ أوعنده شيء يذكر من الجرأة الأدبية، والإرادة، والبسالة، وروح التضحية؟ ولم كان شديد الرغبة في الحصول على تأخير الأمر العسكري؟ أوظن يا ترى أنه يستظهر عليها بالكلام، أو أنه يجبرها على الاقتران به خلال يومين، أو أنه عاهد أباها أن يحملها على الذهاب معهما إلى قونية؟ إلا أنه كان يليق به أن يسلك في حضرتها على الأقل سلوك الجندي الصادق الوطنية، وكان يجب ألا يكون رقيق الشعور إلى حد التخنث؛ لأن جهان تحتقر الشاب التركي الذي يذوب ولها، ويستسلم للتافه من عواطفه.
ولقد أعجبت بشكري بك لما عرضت عليه قبلتها، فأباها مغتاظا إلا أنها كانت فترة قصيرة ظهر فيها مظهر الرجل الذي تطمع في السيادة عليه، وبالرغم من هذا شعرت في تلك اللحظة أن دافعا يدفعها إلى ذل العشق، فودت أن تنطرح على قدميه فتقبل يده وركبته كأنها محظية، وتستسلم وهي على صدره إلى ما فيه سرور سيدها وحبوره.
إلا أن هذه الروح الموروثة التي استحوذت على قلبها، وجعلتها كئيبة النفس أليفة الهم والغم، التي طالما صارعت روحها الطامحة إلى التحرر، فحاولت عبثا أن تعيدها إلى ذل الحريم وعبوديته، بل إلى ما رسمته أمام نظرها البعيد من الرسوم الذهبية لما في الحريم من الترف والفخامة، والرخاء والكيف، والاستسلام والراحة، والسكون والهدوء اللذين تتخللهما نغمات العود السحرية، أو قرقرة النارجيلة الفضية التي يفوح منها شذا الورد، وما فيه أيضا من قال وقيل وحق ويقين، مما يثلج له صدر المرأة إذ تهمس وراء الستار، أو تسقط «كما تسقط الثمرة الناضجة» من شفاه الخصيان التي لم تتعود الأذى، وما يتبعها من فترات يضحكن فيها تسلية من تمويهات الرجال، وحقيقة حالهم في مواقف يلذ للنساء نقدها وتزييفها، ناهيك بما يجمعهن من الأخوية في حظ هن فيه على السواء، يدلهن على فضيلة الإذعان لأمر الرجل، ويلطف مر التقاليد بالتهكم والضحك، تلك هي روح الوراثة التي كانت تمثل الحريم هذا التمثيل الباهر، والتي كانت جهان تنتصر عليه ليلا بمنومات عبدها سليم، ونهارا عند اشتداد أمره بما عندها من حماسة في سبيل الحرية، وثبات في ممارسة ما تظنه حقا، وإرادة في إتمام مقاصدها السامية.
ولكن أي ابن امرأة تركية، أي شاب تركي يسير وإياها الطريق كلها فيحبها ويجلها ويحسن فهمها؟ بل يشعر معها بأسمى رغائبها، ولا يزدري أحلامها المقدسة؟ وبعبارة أقصر وأوضح: أي تركي يستطيع أن يكون لها صديقا ورفيقا وقرينا معا؟
ولهذا لم تكن تثق بشكري بك، بل كان يأخذها في أمره كثير من الريب، كيف لا وهي ترغب أن يملأ عقلها وقلبها معا؟ إلا أنها بالرغم من ريبها في ذلك فقد كانت الليلة البارحة شديدة الرغبة في إيصال رسالتها إليه توقفه بها عن الذهاب إلى ساحة الحرب، إلا أن كل ما جرى فهو من أجل والدي لا غير، قالت هذا لتسري عنها قليلا، وهي تعتقد بما نطقت شفتاها، وتستعيذ بالله من شعورها.
وإن حالة عقلية كالحالة التي كانت فيها جهان لهي أدعى إلى الخيبة، ولهذا وقفت فجأة بينا يتجاذبها تيار الأفكار لترى إذا كانت تفهم حق الفهم ما تتطلبه لنفسها، ولكنها بدلا من أن تخوض عباب ما هاج فيها من النفسيات وجدت حالها في سطحيات الأمور، والفكر منها متجه إلى ناحية أخرى، وهناك في البعيد مما تراءى لها تجسم أمامها شبح ذلك الطاغية؛ ذلك الألماني الشديد البأس، ذلك الداهية الذي قد يعتنق الإسلام من أجلها، فهو على الأقل سليل الشهامة والبسالة، يقبل يدها ويجلسها إلى يمينه على الديوان أو في العربة، وهي تقاليد لم يتلقنها العثماني، ولن يقبلها .
يا للعجب العجاب! كيف تؤثر علي هذه الأشياء التافهة، إن هذه الشهامة إلا تقليدا ميتا كأكثر تقاليدنا، إن هي إلا مظهرا يظهر فوق رداء الجندي، بهرجة فارغة، فخفخة فانية.
أما أطوار المرأة، فلئن تكن وقتية متقطعة فهي ملازمة الترداد، وحقيقية كالصدر الذي يعي أسرارها، حقيقية كالشفاه التي تفصح عنها، أصلية كالزهيرات على حافة الطريق تبرعم في السحر، وتذبل فترجع إلى الأرض ريها، وتعيد إلى الشمس خواصها الذي لا يباع ولا يشترى، وهي تظمأ وتجوع كالصنوبر الشامخ كبرا، كالكرمة المتعرشة المخيمة مجدا، أطوار المرأة وإن كانت تافهة فهي جوهرية تماما، فإنها تستقي من ينبوع الحياة أسمى الهامات النفسية التي تولدها الوساوس الغريبة والطباع العجيبة، ولهذا إن شفتي رجل تلثمان يد هذه المرأة التي خلقت لتقبل يد الرجل استرعتا منها كبير الأهمية، بلى فقد أهاجتا منها ساكنا لا تحركه أخلص قبلات الحبيب وأحرها، وهو أمر جاءها مثالا لمبدأ نيتشى الذي يقول بعكس القياسات المألوفة، أو بنفي الوضعيات من الفضائل والمكارم، وطالما اشتهت من مظاهر السيادة ذلك الإجلال الذي حرم على أمهات شعبها.
عادت جهان تفكر بما كان يجول في رأسها وهي متمسكة بقلبها، متحفظة، فقالت: وناهيك بالجنرال فون والنستين من رجل لا يصدق ظاهره عمره، فهو كبير الخلق، ولم يزل شديد البنية، مهاب الطلعة، جذاب المحيا، وهو رجل بعيد الصيت، ويل الهائمة المسكينة من وجنتيه الحمراوين الضاربتين إلى السمرة، وعينيه الشهلاوين البرقيتين، وأرديته الحربية الفاخرة فهي كلها تهزأ بسنيه، وبما أثقله به الزمان.
ولكنها عادت إلى أحلامها طامحة مستبسلة، فسألت قائلة: ويكون ذلك انتقاما يا ترى أم تضحية؟ أيجب عليها أن تبيع شرفها في سبيل الحرية التي تطمح إليها؟ ألا وهي الحرية في انتخاب أب لولدها، ولو أدى الأمر إلى هدم معاهد شعبها، وتقاليده المقدسة، فإن أمها بل أمهات عنصرها اللواتي تراءين لها بالقيود قد طلبن إليها أن تقتص لهن بهذه الطريقة، فقد رسخ في عقلها أنها هي المنشودة لهذا العمل الخطير الجليل، وأنها كسيف نقمة يشهر له على طغيان الرجال، كذلك فسرت الرسالة السرية، وهذا ما فهمته من تلك الرؤيا.
وقفت متيقنة مترددة، إذ ماذا يحدث يا ترى إذا انكسر سيف الانتقام في ضربة واحدة؟ تستل إذ ذاك سيف التضحية، ولم تكد تشحذ قصدها حتى انتقلت بخيالها من عالم الأحلام إلى عالم الحقيقة، وجهان ابنة معقول كما أنها ابنة خيال تنتقل من حال إلى حال بسهولة غريبة، فإذا قبح عقلها الوقاد الضعيف معا أوهامها عادت إليه، وإذا نفرت من مكروهات الحياة لجأت إلى أحلامها عادت الآن إلى معقولها؛ فرفعت صوتها قائلة: كلا، لا تضحية ولا انتقاما، بل سعيا في سبيل سعادتي، وطاعة لأوامر حلمي بالحرية، حرية الانتخاب إذا أحببت أن أكون أما، حريتي في والد ولدي ولا فرق إذ جاءتني بفتى أو بفتاة، فالفتاة تستطيع أن تتحداني في تحرير المرأة التركية وتكمل عملي، والفتى - بعون الله - ينشأ بطلا؛ فيكون جنديا وطنيا نافعا، منقذا أمتنا، ومرمما دولتنا المتداعية؛ وقد يستحيل تحقيق آمالي برجل من شعبي، ثم صاحت قائلة: «يا لله من الوحش الأشقر!»
1
قالت هذا وانقطعت عن الكلام ترتعش رعبا كالمرء في الغاب، وقد صادف حيوانا ضاريا في منعرج طريقه، فودت لذلك أن يعود سليم في الحال إليها.
تمددت على الديوان وهي تحاول حبس أفكارها؛ خوفا من أن تجرها إلى المخاوف والمكربات، ودت أن لا ترى شيئا، وأن لا تشعر، وأن لا تفكر بشيء، ولكنها ضعفت عند وساوسها عزما، فجرها الفكر هذه المرة إلى أبيها، فهي تحب أباها حبا لا يفسده مبدأ نيتشى القائل بعكس القياسات المألوفة، وبنفي الفضائل الوضعية؛ لذلك تكره أن تزيد ببلواه، وتحب أن تذعن لبعض أوامره، فعليها إذن أن تضرب صفحا عن عصيانه، وأن تسكت على الأقل إذا نطقت الأنانية بلسانه، وأن تقيم على عهود البر وهو في شيخوخته، فتكون له كما كانت في الماضي رفيقة قلبه الوحيدة، ومرهما لجروحات نفسه. ولكن من المستحيل أن تذهب وإياه إلى قونية، وتقصي نفسها في وقت كهذا إلى مجاهل الأناضول، من المستحيل! فإنها لا تستطيع أن تضحي في سبيل حبها البنوي تضحية عظيمة كهذه، ولكن ... ولكن هب أن شكري بك يسير إلى ساحة القتال، وأن الجنرال فون والنستين يأبى إلا الاقتران بها، أو أن أمرا آخر ... ربي ما لي وهذه الأفكار الآن، فإذا كان لا بد من حدوث المكاره من عسف هذا الألماني فهناك طريق أخرى، طريقها الخاصة طريق حريتها التي يجب أن يسير فيها راضيا أو مكرها.
وقد كانت هذه الهواجس تتزاحم في صدرها، وتلتهب ساعة دق على الباب سليم، ودخل مقدما إليها علبة صغيرة فتحها أمامها في الحال. - هذا القدر فقط يا سيدتي (قال هذا مشيرا إلى بياض ظفره) ذوبيه بقليل من الماء، أو إذا كنت تؤثرين فنجانا من القهوة. - كلا يا سليم، قليل من الماء يكفي، يمكن أن تنصرف.
ولكنها ظلت إلى حين أسيرة هواجسها وهي في سريرها بين يقظى ونائمة، فإن ذلك الداهية الذي ينحدر من عالم الظلام غامسا جناحيه الأسودين بشعاع القمر ليأتي متلصصا أبواب النيام، كان يسمعها تناجي نفسها بعدما تسرب المنوم إلى عروقها، فتقول: ولد من بروسياني، من هذا الالماني، إما تضحية وإما انتقاما.
الفصل السابع
كان الجنرال فون والنستين شديد الإعجاب بأصدقائه الأتراك حتى إنه حبا باستمالتهم إليه تماما أخذ عنهم شيئا من عاداتهم، فأصبح في بعض أطواره تركيا، وبالرغم من أن مقامه يوجب عليهم الرصانة والتحفظ فكثيرا ما كان ينقاد إلى ظواهر الأمور سمحا متساهلا، وهي خطة قد لا تجيزها القيادة الألمانية العامة، وقد تضر بالمصالح الألمانية في تركيا، ولكنها أكسبته مكانة في الباب العالي ويلدبز، وإنك تراه آنا رصينا متحفظا قليل الكلام عندما يوافق ذلك مقاصده، وآنا يلجأ إلى السياسة فيراوغ ويموه كأصدقائه الأتراك الذين عرفوا بهذه المزايا، وتفردوا بها بين سائر الأمم، ولكن ما كان يشكل أمره عليهم من أخلاق الجنرال هو حذقه العجيب في تدبير الأمور وفقا للساعة والحال، فكان في نظرهم من هذه الوجهة رجل التغاير والمدهشات؛ فإنه وإن كان ذا عزم ثابت لا يتزعزع عن قصده، وعنيدا لا يشفق ولا يلين في تنفيذ أوامره، فقد أدرك مذ أم العاصمة العثمانية أنه في الشرق حيث لا تنفع القسوة كثيرا، ولا الشدة تفيد؛ كيف لا وصاحب الصولة والاقتدار نفسه يلجأ غالبا للمراوغة والمداراة.
أجل حتى السلطان في هذه الأيام يؤثر اللين على الشدة؛ والحكيم من استعان على أموره بالتأني، ولذلك عول الجنرال فون والنستين أن يسلك هذا المسلك معللا نفسه بملك آسيوي أملا أن يصبح حلم السيادة الذي كان يحلمه كل يوم، وطالما ردد في قلبه، من يروصه إلى بغداد، يا لها من مملكة واسعة الأرجاء! فإذا أمست هذه البلاد تحت حماية الدولة الألمانية يصبح الجنرال إذ ذاك أرفع مقاما، وأبعد صولة من ملوك ألمانيا المقيدين؛ لأنه في صفته نائب جلالة الإمبراطور لدى السلطان، لا بد أن يولى على هذه المقاطعة؛ وإذا كان نابليون رغب يوما في الإسلام فهو يتجاوزه إقداما، ويفوقه حكمة فيتزوج من امرأة مسلمة تركية.
وكان فكره مطمئنا من أمر جهان، فلم يكن يداخله شيء من الريب أنها ترفض شرف اسمه ومحتده، ومجد صيته ومقامه، ولم ير لها في الرفض سببا واحدا من الأسباب، أو عذرا واحدا من الأعذار، وقد فاتحها بالأمر مرات، فكانت تارة تظل ساكتة، وطورا تعرب له عن نصف الحقيقة فقط، أو أنها تحوله عن الحديث في هذا الشأن فتستزيده من معالجة الشئون العامة، فاستنتج الجنرال من هذه المداعبة أنها كسائر النساء لا تجسر أن تبوح بما يكنه قلبها؛ ناهيك بجهان من امراة غريبة عنه جنسا ودينا، على أنه كان متيقنا أنها راضية ضمنا، ولا بد أن تقبل الشرف الذي سيخلعه عليها، فلا يبقى حينئذ إلا أن يعلن الأمر إلى أبيها، ويدعو شيخ الإسلام ليعقد عليهما وفقا للأصول الإسلامية، ولم يكن هذا التعطف بل هذا التساهل من الجنرال حبا بعروسه التركية فقط، بل إكراما لشعبها أيضا، فإن في عمله هذا ضربا من السياسة والدهاء، يقرب في مثل هذا الوقت الأتراك من الألمان، ويوثق بينهما عرى الوداد والولاء.
تجاذبت هذه التأملات عقله وقلبه إذ كان قادما لزيارة جهان، وعندما فطن لمصرع أخيها أسف أسفا حقيقيا، وكان في نيته أن ينكر أمامها عمل الضابط الأعلى في ساحة القتال، إلا أن هذا الأمر لم يكن ذا شأن في نظره، وما ظنه أنه سيحول دون رغبته، فخاطب نفسه قائلا: سأعلن لها قصدي مفصحا عن شيء من خطتي في المستقبل، وسأرسل كاتم أسراري في اليوم التالي أطلب رضاء أبيها، وفي هذا من الإكرام والتعطف ما قلما يستحقه تركي مهما عظم شأنه.
جاء هذه المرة مرتديا ثوبه المدني، لابسا طربوشا قرمزي اللون، وعندما ترجل من العربة التي لم يكن فيها سواه استقبله الخادم عند الباب، وتقدمه إلى البهو الكبير حيث ظل الجنرال واقفا يجيل نظره في الألواح المعلقة على الجدران، وقد نقشت عليها بالذهب آيات من القرآن.
لم يتعود الجنرال الانتظار في مقابلة أحد في الأستانة؛ ولم يكن فيها من يجسر أن يوقفه في البهو منتظرا دقيقة واحدة، ولكن سلطان الحب فوق كل سلطان، وما يغتفر لجهان لا يغتفر لغيرها؛ لذلك لم يتبرم ويمتعض، بل بات يترقب قدومها مسرورا مستبشرا، فتأمل ما كان من شدة دهشته وغيظه حين شاهد في الباب لا جهان ذات الجمال الذهبي الباهر، بل أباها الشيخ وقد ارتدى ثوبه الرسمي، والسترة منه مزررة حتى طوقها، ولم يكن لينسى الجنرال سوء تصرف الباشا في اليوم السابق، ولم يتوقع قطعا مثل هذه المقابلة الفجائية، على أنه حاضر الخاطر، ثابت الجأش، وهو دائما على استعداد لشواذ الأمور، وشوارد الحوادث، فاستجمع في الحال ما تشتت من عقله لأول وهلة متظاهرا بما ليس فيه، وتقدم بضع خطوات وعلى فمه ابتسامة الرياء، فصافح الباشا في وسط البهو، وتقدم وإياه إلى الصدر، فأشار الباشا يمينا إلى مجلس على ديوان الشرف، وقد حنى رأسه إجلالا لضيفه.
جلس الجنرال وافتتح الحديث بالإفرنسية؛ لأن رضا باشا يجهل الألمانية، فقال: أتأمل أن تكون قد تناولت السيدة جهان خبر تلك الفاجعة الأليمة بصبر وثبات جأش، وآمل أن تكون معافاة هذا الصباح؟ - نعم، إنها معافاة، شكرا لك. - وأنت يا سعادة الباشا ولئن كان القولغاسي مجيد بك آخر من لاقى حتفه من أنجالك في ميدان الحرب حبا بالوطن - قال هذا وهو يلفظ كل كلمة مليا، ويقف عندها مبطئا ليحسن ارتجال خطاب - ينبغي لك أن تعالج مصيبتك بالصبر وأنت الجندي الصادق الوطنية، الكبير النفس والخلق، فضلا عن أن نجلك قد مات بطلا، وقد كوفئ على مآثره الحسنة بإنعام من جلالة الإمبراطور، وما ضر أن جاء ذلك الإنعام بعد ما قضي الأمر. - إن الجندي الصادق الوطنية لا يأسف لوفاة ابن له يا سعادة الجنرال، اللهم إذا صرع في معركة صرع الأبطال متمما واجباته العسكرية، وإن لم تعتبر بطولته، ولم يكرم لأجلها، ولكنه إذا مات في المعمعة شهيد واجب مقدس، بل واجب هو أقدس عنده من وطنه ودينه إذا مات مدافعا عن إخوانه الشاكين السلاح، ثائرا على القائد الأعلى الذي أظهر من الوحشية والخيانة ...
وقف الباشا عند هذه الكلمة إذ رأى الخادم واقفا في الباب حاملا على يديه طبقا فضيا عليه كأس من شراب الورد، فأشار إليه الباشا أن يدخل، فدخل وقدم الكأس إلى الجنرال، فتناولها ورفعها إلى شفتيه المتقلصتين غيظا، فما لطفت حلاوتها كلمات هم أن ينطق بها وهي أشد مرارة من كلمات الباشا.
شرب ورفع يده إلى طربوشه شاكرا مضيفه، ثم قال: كمل حديثك يا صاحب السعادة، ولكني أعترف أنني لا أفهم ما تقول، أوتريدني أن أزيدك إفصاحا؟ عجبا أوتريد أن أعيد على مسمعك يا سعادة الجنرال ما أنت عالم به حق العلم؟
قال هذا الباشا وحاجباه يقتربان قليلا قليلا حتى أصبح خطا أسود متواصلا فوق عينيه، أما الجنرال فكان يربت ركبته بأنامله وهو يستملك الحنق والحقد. - آذن إذن أن أكلمك بحرية لا تعرف المواربة، فأسألك بشرفك ألم يتصل بك خبر الفاجعة في ساحة القتال؟ - أية ساحة؟ وأية فاجعة؟
قال هذا الجنرال وهو يحاول كظم غيظه والتمويه في مقاصده: ما بالك تروغ مني، وتتجاهل الأمر؟ - ليس هذا الكلام في محله يا صاحب السعادة. - أتريد يا سعادة الجنرال أن تخفي عني الحقيقة؟ لا مراء أن الإذاعة التي وردت على وزراة الحربية وقد منع نشرها قانون المراقبة قد اتصلت بك، وجاءك تقرير عنها من ساحة الحرب أن الضابط الألماني الذي رمى ولدي برصاصة هو وحش ضار، ونذل جبان، ولا يستحق رصاصة جندي، المشنقة لأمثاله! - سكن جأشك يا صاحب السعادة، ولا تسترسل إلى المبالغة والأوهام، ودعني أنبئك أن ما اتصل بك من خبر الرواية لا صحة له، إنها لإذاعة كاذبة، فإن موت ابنك كان حادثا فجائيا يؤسف له شديد الأسف. - والأمر الذي صدر، ومؤداه أن يرمى بالرصاص كل جندي يتراجع، ذلك الأمر الذي احتج عليه ولدي ومن أجله تمرد، الأمر الذي كان سببا لما تدعوه حادثا فجائيا، الأمر الذي لم يستطع ولدي أن يعمل بموجبه ...
ومع ما جاش في صدر الجنرال فون والنستين من الغيظ والغضب ظل مدركا مقامه، مالكا صوابه، فرأى أن الباشا قد نصب لنفسه فخا في آخر ما جاء من جيشانه فقال: إذن أنت كجندي تذنب ابنك لتمرده، وتقاضه على عصيانه الأوامر العسكرية. - أها أها، إنما هذه هي الحقيقة، إن ولدي قد رمي بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ولم يمت مجاهدا جهاد الأبطال، ولا شك أنك يا سعادة الجنرال كنت عالما بذلك حينما كتبت تنبئني بإنعام جلالة الإمبراطور على ولدي، فلو كنت كريما لأخفيته عني بعد مصرعه، ولو كنت شفيقا لرثيت لحالة شيخ تركي مخلد إلى السكينة والسلام، ولاستغنيت عن هذا الهزء والسخرية، وفوق ذلك يا سعادة الجنرال فإن صليبك الحديدي مكافأة نيئة، وتعزية حقيرة لأب خسر ابنه.
وفي هذه اللحظة جاء الخادم بالقهوة ولفائف التبغ، ولكن الجنرال أبى قبولها، وانتصب هاما بالانصراف، وعلى وجهه الأحمر الضارب إلى السمرة خطوط زرقاء حنقا وغيظا. - أرجو أن تعذرني يا صاحب السعادة لرفضي البحث في هذا الموضوع.
وكانت لهجته لهجة محرق الأرم، وقد وقف وقفة المتوعد المهدد أمام العثماني الذي ظل جالسا في مكانه، والاضطراب لم يزل مستحوذا عليه، وتابع كلامه قائلا: فإن هذه المسألة حربية محضة، وهي من خصائص أولياء الأمور العسكرية. - أتعني أنها ليست من خصائصي؟ ألا يهم الأب مقتل ابن له ؟
قال هذا رضا باشا بصوت أجش، وقد هم بالنهوض.
في أية شريعة حربية أم أدبية أم سياسية كتب ذلك؟ إنه والله لأمر غريب، لم يسمع بمثله قبل اليوم.
وحدث سكوت قصير تكلم فيه بالتهديد والوعيد، والجنرال يداه مشبوكتان وراء ظهره جامد لا يتحرك، ثم اقترب منه الباشا وحاجباه يرقصان غيظا، والشرر يقدح من عينيه. - وأغرب من هذا تصرفك أيها الجنرال؛ فقد أنعمت على ولدي بالصليب الحديدي بعد ما بلغك رميه بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ثم أتيت الآن تقابلني وتقول لي إنه ليس من شأني استجلاء الأمر، بل جئت لتهنئني بمصرع ولدي! أهذا هو القصد من زيارتك؟ يا للأسف!
سمع الجنرال هذا الكلام والتفت بحدة مجتازا البهو، وقد كانت طرة طربوشه تتمايل من طرف إلى آخر وهو يهز رأسه مرددا كلمة الباشا: يا للأسف! ولما وصل إلى الباب أحنى رأسه مودعا سعادته الذي ظل وسط البهو واقفا واجما.
الفصل الثامن
أفاقت جهان ذلك الصباح مكدرة مغتاظة، ناقمة على نفسها والكون، وكانت كل أفكارها من صبغة واحدة سوداء، ومن صيغة واحدة مكسرة مشوشة، وقفت في الرواق تتنشق الهواء النقي فبدا لها ذلك المنظر البديع خاليا من مظاهر الجمال التي أخذت بمجامع لبها في اليوم السابق، في حين أن الشمس وقد انعكست أشعتها على قبب المآذن، وتلألأت على وجه القرن الذهبي وقواربه كانت أعظم جمالا وأبهة من الماضي، ولكن حزن جهان على أخيها حال دون بصيرتها، والمنظر البهيج البديع، وقد تراءى لها أخوها في الحلم واضعا سيفه بين يديها، وجهان امرأة تعتقد بصحة الأحلام، وعلى الأخص الأحلام المنذرة بالشؤم وسوء العاقبة، وطالما تحققت صحتها، فزاد ذلك الآن في اضطراب نفسها.
ومع ذلك فهي لا تجاذف بيومها أن يذهب ضحية الهواجس، ولا تحب أن تضيعه في المجادلات العقيمة كما أضاعت أيامها الماضية، لا ولن تقضيه في الحزن والكآبة؛ ولهذا قد لامت نفسها إذ سمحت لأمورها الخاصة أن تشغلها عن العمل الكبير العمومي الذي تقدسه، فإن سار شكري بك إلى ميدان الحرب أم لم يسر ، وإن سر الجنرال فون والنستين منها ومن أبيها أو استاء، وإن كان مصرع أخيها انتقاما أو تضحية، وكثيرا ما كانت تردد هذه الكلمات في حلم مزعج، فهذه كلها أمور ثانوية لا ينبغي أن تصرفها عن مساعيها الخيرية والعمومية؛ ولهذا عليها إذن أن تسكن روعها، وتستجمع قواها ومعقولها لتنظر فيما يتطلب منها اليوم من الأعمال.
أمرت بإحضار عربتها الخاصة، وأرسلت الجارية إلى الجنينة لتجيئها بسلة من الأزهار، وارتدت للحال فستانها الأسود المصنوع على الزي الباريسي، وغطت رأسها بقبعة سوداء من المخمل محاطة بالشرائط الرفيعة، وقد تدلى من أطرافها برقع شفاف يرسف على وجهها من جبينها إلى ذقنها، وهو زي أوروبي، واصطلاح في الحداد، ثم خرجت من غرفتها عزومة متيقظة، خفيفة الحركة، ثابتة الخطى، تلوح للرائي كأنها مالكة أمرها، فائزة في قصدها، منتصرة على هواجسها.
أما أبوها، فقد حبذ فكرتها في تخلفها عن المنزل ذلك الصباح، ولهذا لم يعترض على ذهابها إلى المستشفى، لولا ذلك لطلب إليها أن تذهب إما للتنزه في العربة، أو لزيارة إحدى صديقاتها، ولكن الحكمة في تصرفها راقت له، فإن عملها في المستشفى عذر كاف للتخلف عن مقابلة أي كان وإن كان أسمى مقاما من الجنرال فون والنستين، على أن رضا باشا لم يتسلح بهذا العذر، فإنه عندما جاء الجنرال فون والنستين لزيارتهم أمر خادمه أن يقول له: إن جهان غائبة عن المنزل، وإنها في المستشفى، ثم عاد لداع من الدواعي فاستدعى الخادم، وذهب بنفسه إلى البهو، إلا أن الجنرال كما لا يخفى على القارئ لم يتنازل أن يسأل عن جهان، وعن عدم قدومها للقائه، والباشا لم يشأ من تلقاء نفسه أن يعرب له عن واقعة الحال.
قلنا قبل هذه العبارة المعترضة إن رضا باشا سر لعمل ابنته ذلك الصباح، فما كان نقابها الأوروبي، ومركبتها المقفلة، ورضاؤها بمرافقة سليم لها كما أمر إلا إذعانا لإرادة والدها، فإن جهان لم تكن مجردة تماما من تلك الخلة؛ خلة المداراة التي تميز أية امرأة تركية دونها أدبا وتهذيبا وحكمة، فضلا عن أنها كانت ماهرة بارعة في التوفيق بين سخافات الأمور، والمهم منها الجوهري، فهي مولودة في مهد السياسة، ولا نعني بذلك أنها كانت ترغب دائما في التسليم والإذعان، أو أن التساهل كان دينها كما يقول الأتراك، ففي موضوع واحد على الأقل يتفرع منه مواضيع عديدة، كحرية المرأة، وانعتاق الحريم، والاكتفاء بزوجة واحدة، والجهاد على كفر الزوج التركي، وولوعه بالتنوع والتعدد من النساء ... إلخ إلخ. ففي هذه الأمور كانت جهان ثابتة العقيدة لا يزعزعها فيها حال أو زمان أو سلطان، ولا تعرف فيها المداراة ولا المراوغة ولا التساهل.
ولم تكن هذه الخلة التي اقتبستها جهان من الغرب مخالفة روح الجنرال فون والنستين الغربية الغريزية فيه، إلا أنه سلك مسلكا شرقيا كما أنها سلكت مسلكا غربيا، توصلا لما في كليهما من المطامح العلوية، فاختلفا واسطة، واتفقا غاية، وما أدركا أنهما يضحيان في سبيل مطامعهما ما فطر كل منهما عليه من السجايا النفسية الثابتة الأسباب، تخلق كل منهما بخلق الآخر؛ رغبة بتحقيق أمل كبير حبا برقي اجتماعي أو أدبي، غاية جهان القصوى مثلا وأسبابها غربية إنما هي لتحقيق حلم عقلي، وغاية الجنرال وأسبابها شريفة إنما هي لتحقيق حلم سياسي، وكلا الحلمين جميل - إذا صحت الأحلام - ولكن مسألة التخلق هذه أو الاجتهاد في التخلق إنما هي مسألة دقيقة يلذ للمفكر درس أسبابها ونتائجها، فهل يفوز يا ترى امرؤ غربي وامرأة شرقية بأمنية ما تذكر إذا لجآ إلى المداهنة والتمليق يخادعان بعضهما بعضا، ويخادعان أنفسهما أيضا؟ وبعبارة أخرى: ماذا ينتظر من اثنين راقيين كل منهما يعمل لنفسه فقط أن يبلغا من أوطار الروح العلوية؟ كيف يمكنهما أن يوفقا بين المقتبس والموروث من سجاياهما الغربية والشرقية؛ ليتم التوازن والتقارن بين الاثنين، ويتم بذلك ما ينشده كل منهما من السعادة والحبور، ومن السيادة والمجد؟ في هذه الرواية مثال لهذه القضية الغامضة، لا وسيلة عقلية أو اجتماعية لحلها.
كانت جهان أحب المؤاسيات للجرحى في المستشفى، وأقربهن من قلوبهم ألمانيات كن أو عثمانيات، مسيحيات أو مسلمات، بل كانت سلطانة يجلونها ، إلهة يعبدونها، وكان ذلك اليوم الذي لا يرون فيه وجهها يوم وحشة مظلمة، بل يوم شؤم عظيم، كما قال أحدهم: فلئن أشرقت مائة شمس في كبد السماء لم يكن لهم غير جهان شمسا ساطعة علوية، هي رأس التفاؤل في أعينهم، هي البلسم الشافي لجروحهم، هي معبودتهم بعد الله والنبي. - لقد عادت إلي صحتي يا خانم.
قال هذا جندي أسمر البشرة، مقبلا وردة تناولها من جهان وهو يضغط على اليد الكريمة التي جادت عليه بعلبة من اللفائف، ثم قال: وسأعود غدا إلى ساحة الحرب، وقد لا أعود أراك مرة ثانية في هذا المستشفى ولكن جنبي هذه الوردة فإنها تحاكي جمالك، سأذب عن الوطن باسمك، وإذا قدر لي أن أعود محمولا إلى المستشفى فسأكون سعيدا بمشاهدتك يا مولاتي قبل أن أموت.
فرفعت جهان قناعها، وقبلت خديه مودعة.
ثم تقدمت نحو ضابط كان جالسا على كرسي فألبست صدره وردة، فقال لها: قرأت مقالتك في تصوير أفكار يا لها من مقالة جميلة تأخذ بمجامع القلوب، فقد أصبت بها كبد الحقيقة خانم وأنا أذهب مذهبك، فأرى أن الجيل الجديد يجب أن ينشأ في مهد الحب المقدس بعيدا عن العبودية، وأشهد لك يا سيدتي أنني لن أتزوج أكثر من امرأة واحدة، ففي الاكتفاء بزوجة طريق نهوضنا وإصلاحنا. - ومن هو الأحمق الأرعن، بل من هو الأعمى الذي يسمح لامرأة أخرى أن تقاسم هذه السيدة النبيلة سعادتها؟
قال هذا شاب شديد السمرة، أسود العينين، معصب بالربائط وهو يلتفت نحو الضابط.
وكانت رئيسة الممرضات ترافق جهان بالتجول بين المرضى وهي كهلة ذات محيا وقور، وعليها شيماء التقى والحنان، ولما لم تكن تفهم إلا النذر اليسير من اللغة التركية دعت إليها ابنة بملابس الممرضات مساعدة في ذلك القسم من المستشفى طالبة إليها أن تنقل لها ما كان يقوله الجنود.
وإذ عرفت ما جال بين جهان والضابط التفتت إليها وقالت: أأنت أيضا تحبرين المقالات للجرائد؟ ما شاء الله!
ولكن جهان لم تسمع كلام الرئيسة إذ كانت تعين في الجلوس كهلا معصب الرأس، ولما استوى في سريره ظل ماسكا بيدها، وقال: أنت شقيقة مجيد بك، بيكنا الشريف الباسل، إنه كان ضابطي يا سيدتي، وقد شهدت مصرعه، تغمده الله برحمته ورضوانه، وجعل هذه المصيبة خاتمة أحزانك، وا أسفاه لقد مات من أجلنا، مات مدافعا عنا، ومقاوما قسوة الألمان وبربرتهم! أولئك الكلاب، ألا لعن الله تراب آبائهم.
وإذ قال هذا ارتجفت يداه وترجرج صوته كأنه شاهد ثانية هول تلك الفاجعة.
ولكن الرئيسة وقد فهمت بعض ما قاله، سارعت لمساعدة جهان، فأسندت معها الجريح إلى وسادة لافظة بعض كلمات بالألمانية لم يفهمها، إلا أن ابتسامتها ورنة صوتها اللطيف لمما رعى قلبه، واستهواه.
أما جهان فمسحت دموعها قائلة في نفسها: ما أشرفها وما أرقها! أوتستطيع يا ترى امرأة تركية أن تؤانس امرأ أو تؤاسيه، وقد شتم أمامها آباءها؟! إن في الروح الألمانية لعظمة وأنفة! ثم وقف فكرها فجأة كأنها أمسكت شعورها الأصلي، فسمعت صوت عقلها يقول: ولكن الألمان قد تعلموا هذه العظمة والأنفة تعلما صناعيا، تعلما اكتسابيا، وهو من قواعد نظامهم العسكري، مع هذا فإن سيادتهم المطلقة على شعورهم لمما يستحق الإعجاب.
ذهبت جهان إلى غرفة خاصة لتلبس ثوبها الرسمي إذ لم يكن عملها لينحصر في توزيع اللفائف والأزهار على المرضى، أو في الابتسامات اللطيفة، والكلام الحلو الجميل، بل كان لها عمل آخر في المستشفى وهو التمريض، وهي لم تتهجم تهجما على الوظيفة، فقد أنشأت من أخواتها بنات عائلات الأستانة فيلقا من مسلمات ومسيحيات درست وإياهن مهنة التمريض، ومارسته قبل أن أجيز لها حمل الربائط، وأدوات الجراحة.
وحالما خرجت مع من خرج من غرفة الجراحة تقدم منها طبيب ألماني وقال: أتأمل أن يكون الخبر صحيحا، فإن الجنرال أحد رجالنا العظام، هو بطل همام.
فابتسمت جهان ابتسامة تريد بها إخفاء الحقيقة تحت ستار الإلباس، ولكن الطبيب الألماني تابع كلامه: ومع أنه بطل مغوار عقد له النصر مرارا، فأنت اليوم أعظم فتوحاته، ولهذا أهنئك. - أشكر لك عواطفك الشريفة، إلا أن خبر انتصاره الأخير لم يعلن رسميا، وقد يكون مبالغا فيه.
قالت هذا ومالت عنه حياء إلى دكتور عثماني، فإنها لم تكن صريحة حرة إلا بقلمها تكتب بما تشعر، وما تعتقد بدون محاباة أو مداراة، ولكنها في حديثها كانت شرقية تجمجم الكلام وتوريه، وبالأخص مع الأجانب، وقد كانت تعجب بالألمانيين، ولكنها لم تجد من نفسها دافعا يدفعها إلى استحسان عادات فيهم همجية، وصراحة في أقوالهم رأسها الخشونة والتفوق، أما الطبيب العثماني فقال لها: أمامك هذا الصباح عمليتان جراحيتان: في الأولى قد يموت العليل تحت المباضع، والأحسن أن لا تكوني حاضرة، ولقد ألحت عليهم أن يترك ذلك العليل وشأنه، أو يسرع بالمخدرات لإراحته من آلامه، ولكن ذلك الألماني الأبله أبى إلا أن يزيد في عذابه، ويسرع بموته في عملية جراحية، إن الألمان يدعون معرفة كل شيء، أما والله إن ادعاءهم وغطرستهم لمما يضيق عنه احتمال المرء، يأتينا تلميذ ما كاد ينهي دروسه في الكلية فتزين له الوقاحة أن يملي على جراح معدود من جراحينا، ولكن ما هذا الذي أسمعه عنك، وعن ذلك الغطريس الألماني؟! قولي إن الخبر كاذب فأهنئك، فإني والله لأستقبح قرانا مثل هذا، ولا أصدق أن ابنة من أجمل بناتنا وأشرفهن وأذكاهن وأكرمهن محتدا تضحى على مذبح السياسة الألمانية، سامح الله أباك، فقد كنت أعتقد ... - ولكن أبي من رأيك. - وأنت؟ - عفوا يا دكتور، فإني لم آت هذا المكان لأتحدث بأموري الخصوصية.
ثم تحولت عنه قائلة: إن هذا الطبيب شر من وصيفه الألماني، وقد لامت نفسها لمقاطعتها للطبيب الألماني فجأة دون أن تحسن ملاطفته، فلئن يكن كلامه خشنا احمرت وجنتاها منه حياء وخجلا، فقد فرحت بمقدمات البشائر.
وجاءت رئيسة الممرضات إلى غرفة جهان إذ كانت تضع قبعتها على رأسها، وتتلثم للخروج، فقالت لها ووجهها طافح بالسرور: عزيزتي جهان، إنه لعمل يعد لك تاج مآثرك، فقد اقتبست عاداتنا، وتخلقت بأخلاقنا، وتهذبت بتهذيبنا وآدابنا، والآن ستعتنقين ديانتنا المسيحية، فأكرم به عملا يكسبك السعادتين: سعادة هذه الدنيا، وسعادة الآخرة، فأنا لا أشك أن سوف تعتنقين مذهب الجنرال إذا اقترنت به، فاسمحي لي أن أهنئك يا عزيزتي جهان. - ولكن ما قولك إذا اكتمل الحظ فاعتنق الجنرال مذهبي؟
ورفعت حاجبها وهي تبتسم ابتسامة تهكم واستعجاب، فغصت الرئيسة بريقها وأجابت: هذا مستحيل. - لا مستحيل في الحب والسياسة، ولكن ما ألطفك سيدتي، وما أكرمك تبشرينني بسعادة مزدوجة لا أظنني أهلا لها.
وتأملت جهان بمجاملة الرئيسة قائلة في نفسها: يا لها من امرأة سليمة الطوية، تسر بساطتها القلب وتفرحه، ولكن ما الذي دعا الجنرال فون والنستين أن يشيع الخبر بالرغم من عادته بالتحفظ والتكتم؟ فلا مراء أنه مصدر هذه الإشاعات! وقد كتبت إليه جهان في عصاري ذلك النهار تظهر استياءها من ذلك، وتعترض على شيوع الخبر، أما جوابها على اقتراح رئيسة الممرضات في أنها ستعتنق الدين المسيحي فكان صريحا جليا في مقالة أنجزتها مساء ذلك اليوم موضوعها: «الإسلام والحرية».
الفصل التاسع
كثيرا ما ألفت وزير الداخلية ومحافظ الأستانة نظر الجنرال فون والنستين إلى أن رضا باشا عدو المحالفة العثمانية الألمانية، وأنه يفاوض سرا أصدقاءه الرجعيين في باريس، حتى إن جواسيس الجنرال قد استدلوا على شيء مما وجه إليه نظره، وجاءوه بحجج دامغة على مقاومة رضا باشا المحالفة المذكورة، ومما قال أحد أخصام الباشا اللدودين وهو أحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي: إن رضا باشا خائن، وزاد عليه آخر فقال: ويجب أن يقبض عليه، ويقصى في منفى.
أما محافظ العاصمة، فلم يرض له بغير المشنقة، إلا أن الجنرال فون والنستين كان يتردد كما ألمحنا سابقا في اتخاذ مثل هذه الوسائط، ولم يسلك قط مسلك الشدة في هذا الأمر، بل جل ما حدث بينه وبين الباشا هو قطع العلائق التي كانت حتى صباح زيارته وثيقة العرى، وهذا ما قد يحمله على تغيير خطته، فإن ذلك الحادث الأليم في غاليبولي لم يكن عذرا وافيا لسلوك الباشا مسلكه بالأمس، وما أظهره فيه من قباحة الكلام وسوء العتاب، مخالفا بذلك ما تعوده الترك من لطف التمويه والمداجاة، ناهيك به من جندي معروف يدرك قوانين الحرب، وكان حريا به اعتبارها وعدم الاعتراض عليها، حتى ولو غير رأيه فيه، فقد برئت ساحة الضابط الألماني؛ لأن ابن رضا باشا نال نصيبه بالإعدام استحقاقا، ونال أيضا الصليب الحديدي مكافأة، فإن اسمه قد ذكر بين الذين أظهروا بسالة وإقداما في ساحة الحرب منذ أسابيع قليلة قبل ذلك الحادث؛ ولهذا أسرع الجنرال فون والنستين في استحصال مدالية ملوكية مكافأة له، إلا أن ذلك البطل كان قد تمرد ولم يصدع بالأوامر العسكرية، فعوقب للحال بموجب القانون الحربي، كذلك جالت أفكار الجنرال في الحادثة، فمجيد بك قد عومل بالطريقة الرومانية القديمة القاسية، أكرم لبسالته، وأعدم لعصيانه، وقد خطر ببال الجنرال أن يقول في نفسه: من العجب أن الباشا لم يتجل له هذا النور! ولقد كان يود أن يوضح هذا التوضيح للباشا لو لم ير في ذلك غضاضة، فلم يشأ أن يتنازل لإيضاح الأمر أثناء زيارته كما تجلى له؛ لأنه لم ير من سلوك الباشا معه ما يؤهله إلى مثل هذا التعطف والتنازل.
وللقارئ أن يصدق الجنرال أو يكذبه، وله الحق أن يظن بأن الجنرال نفسه لم يتجل له الأمر في ذلك الصباح على هذه الصورة التي رسمت في دماغه، فلو أنه قابل جهان، وآنس منها ما يسره لأنكر بلا مراء عمل الضابط وقبحه.
ونرى من وجهة ثانية أن أعاظم الأتراك ممن هم أعلى مقاما من أبيها حتى والسلطان نفسه كانوا يقابلون الجنرال فون والنستين بتمام الاعتبار والإجلال اللذين يليقان بمقامه؛ ولهذا كان على رضا باشا أن يحتشم في حضرته الرفيعة؛ لأنه كان ضيفه، فبدلا من أن يقوم بهذا أمامه قابله بعتو وقحة، حتى إنه تمادى في غيظه، فأهان جلالة الإمبراطور، رافضا إنعامه الملوكي، وبهذا العمل جرم كاف يستحق أشد العقاب، إلا أن الجنرال فون والنستين لا يقيم لنفسه قاضيا في هذه القضية، لا ولن يرضى أن يرافع غريمه، فهو لا يتنازل لمثل المرافعة، ولكنه يعمد إلى الإيقاع والأمر بسيط، لماذا يقدم على عمل يشوه سمعته واسمه لدى الشعب العثماني حين أنه يستطيع تنفيذ إرادته بإغراء الكثيرين على الباشا، ولهذا ارتأى أن يعي بأذن مصغية كل ما يبلغه من أعداء الباشا، وأن يطلق لكلابه العنان، فيضعه تحت رحمتهم، ويجرب فيه قدرته، ثم يعفو عنه عفو الكرام.
وما عسى أن يكون تأثير هذه الأمور على جهان يا ترى؟ أولا يمكن أن تصده وتجافيه؟ بل ألا يجعلها من أخصامه؟
تأمل الجنرال مليا بهذا الأمر، والحق أنه لم ينو شرا للباشا، ولكن الغيظ زين له هذه الطريقة، فهو لا يطلب حياة غريمه، ولكنه يحب إذلاله، وكسر شوكته، ثم يحفظه تحت أمره رهنا لجهان، فيجعله لها هدية الخطبة، بل هدية العرس.
اعتمد الجنرال فون والنستين على خطته المنكرة الذميمة كما يعتمد التركي على معونة الله، بل معونة الشيطان، فقال في نفسه رغم إرادته: «سأتظاهر بالدفاع عن أبيها، وأنقذه من مخالب أعدائه، ومن مكائد أبناء وطنه.» ومع أن رضا باشا وابنته وحدهما علما بالفضيحة التي نالها الجنرال في منزلهما، فهما على الأقل سيجلان عمله، ويقدران شرف النفس الألمانية قدرها. «أجل هذه سانحة سأظهر فيها بما عندي من المزايا الشريفة.»
قال هذا مساء ذلك اليوم العصيب متمددا على الديوان، مشعلا سيكاره الكبير، ثم قال: «نعم، إن الفرص لتأتي طوع إرادة الألماني، فيظهر فيها لعالم أعمى أصم مروءته الشماء، وما يكنه صدره من إباءة النفس وعزتها، وإنما هذه فرصتي، خادمة قصدي، سأنقذ رضا باشا من الموت، فيصبح وابنته في ذمتي، وتحت جميلي، إن هؤلاء الأتراك ...»
قال هذا وانقطع عن الكلام فجأة، والقارئ اللبيب يدرك ما لم يفه به من الكلام إذا تصور حالة الجنرال النفسية التي كان فيها، فإن الاضطراب الداخلي الذي كان سائدا في تلك الساعة لمما يدفعه إلى شر الإساءة «بهؤلاء الأتراك» لو لم يقاطعه الياور إذ ظهر واقفا في الباب: شكري بك يا صاحب السعادة. - وما شأنه في مثل هذه الساعة؟ - قال إنه قادم لأمر خطير.
تململ الجنرال وتردد قليلا، ثم قال: حسن، دعه يدخل.
أدى شكري بك واجب السلام في الباب بشيء من اللجاجة، ثم تقدم وعلى وجهه آثار الاضطراب إلى مقام الجنرال الذي ظل جالسا على الديوان. - ماذا جرى يا حضرة القولغاسي؟
فدفع شكري بك إلى يد الجنرال ورقة إحضار تلقاها من المجلس العسكري. - وما هذا؟ ألعلك نسيت أني لا أقرأ التركية؟
فاستعادها شكري بك، وشرح له مضمونها. - ولماذا أتيت إلي بها؟ - لأن لي رجاء عظيما بكرم أخلاقك. - لعلك مبالغ بما ترجو. - ألجأ إلى شرفك وعدلك. - أنت مذنب، وذنبك أنك عصيت الأوامر العسكرية، وشأنك الآن وأولي الأمر. - أنت أحدهم أيها الجنرال. - لا أتداخل في صغائر الأمور. - ليست مسألتي من صغائر الأمور أيها الجنرال، بل هي مما يهمك. - يلوح لي أنك عالم بشئوني أكثر مني.
قال هذا الجنرال ونهض ماشيا نحو الطاولة في منتصف القاعة، أما شكري بك فأجابه: نعم بعض شئونك لا كلها. - وما هذه الجسارة؟ - سامحني إذا كنت جسورا، ولا تكلف نفسك عناء برن الجرس أنا ذاهب عنك إذا شئت، ولكني أخالك تؤثر استماع حديثي، فلدي شواهد على مكيدة مدبرة لاغتيالك.
وإذ سمع هذا الجنرال أشار إلى اليارو الواقف في الباب إشارة سرية مصطلح عليها إذا أراد من كاتم أسراره أن يعترض الحديث في مثل هذه المواقف، ثم استأنف الجنرال الجلوس على الديوان مشيرا لشكري بك إلى كرسي بعيد منه قليلا. - إن خبر الفاجعة الأليمة التي حدثت في ميدان غاليبولي لم يمكن كتمها، فقد تسربت من دائرة الحربية، ومن المستشفيات، وهي آخذة بالانتشار في المدينة، والشائع أن فرقة من جنودنا قد طيرتها قنابل مدافعنا، وإن ضابطا من أبسل ضباطنا خر صريعا إتماما لأمر صدر من المرجع الأعلى، لا من وزارة الحربية، ولا من القيادة العليا، بل منك أيها الجنرال، هذا هو الشائع على ألسنة الناس، وهذا ما سينشره أحد محرري الجرائد، وقد أطلعني على مقالة قبيل قدومي إليك.
قال هذا متوقفا عن الكلام منصتا ظانا أن الجنرال - وقد أعار حديثه إصغاء تاما - سيسأله أن يبوح باسم ذلك المحرر، إلا أن الجنرال بدلا من هذا طلب إليه أن يكمل حديثه فقال: وهنا يجيء دور الصليب الحديدي، فالشائع أن الجنرال أنعم به على ضابط عثماني لعصيانه أمر ضابطه الأعلى الألماني، وهذا ما أشكل على أرباب الصحافة حله، وقد رفض رضا باشا مقابلة اثنين من مخبري الجرائد، ولهذا توصل الجمهور إلى استنتاج ما يأتي: أن الجنرال أنعم بالصليب الحديدي على الأخ بالرغم من عصيانه الأمر العسكري؛ لأنه يهوى الأخت، وقد لمح المحرر بهذا الأمر في المقالة التي ذكرتها.
وأنصت شكري بك ثانية، أما الجنرال فسأله ثانية أن يتابع حديثه.
إلا أن كاتم الأسرار دخل في تلك اللحظة حاملا بيده أوراقا وقد اعتذر لاعتراضه بينهما، فنظر الجنرال في الأوراق نظرة سريعة، وكتب شيئا على صفحة منها، وأرجعها إليه وهو يهز رأسه استحسانا، ثم التفت إلى شكري بك بعد أن خرج كاتم الأسرار. - كمل حديثك. - وهنا يجيء دوري، تجيء مسألتي التي هي إحدى صغائر الأمور، فإنه ليقال فيها إن شكري بك لم يكن ذنبه أن عصى الأوامر العسكرية، بل ذنبه أنه يحب جهان، ولهذا صدر إليه الأمر أن يذهب إلى ساحة الحرب، فطلب أن يمهل قليلا فأحيل أمره إلى السلطة العسكرية؛ لأنه كان عذول الجنرال العظيم الذي شاء أن يرسل إلى حتفه، أهذه هي القدوة الحسنة التي يود أحلافنا أن نقتدي بها! أهذا هو الأثر الشريف الذي يظهره لنا أسيادنا الألمان!
تمنى الجنرال في تلك اللحظة لو أسرع كاتم أسراره بتنفيذ الأمر السري الذي أصدره، فإن حديث هذا التركي الوقح الجسور أثار ثائر الغضب فيه، ناهيك به من ضابط كذاب أثيم يتجرأ على القدوم إليه منبئا إياه بمكيدة هو نفسه يدبرها في رأسه، يا له من جبان، يا له من غدار، قرأ الجنرال ما بدا في وجه شكري بك من ملامح الغدر والخيانة، وعرف لساعته أنه هو الذي يهدد حياته، والأنكى أنه يأتي إليه ليصور له الأمر هائلا، يا له من أحمق.
وظل الجنرال يتظاهر بالهدوء، والإصغاء إلى أن قال له بأنفة: ولكنك حدت عن موضوعك، هات شواهد المكيدة، فإني أنتظر منك أن تكمل ما بدأت به، عد إلى النقطة الجوهرية. - إن المحرر الذي أخبرتك بقصته قد اشترك في المؤامرة عليك مع عضو من جمعية الاتحاد والترقي، وإن لهما ثالثا - فدائيا - وهو آلة صماء يديرانه كيفما شاءا، وما المقالة التي ذكرتها أمامك إلا حيلة يموهان بها، وغايتهما منها تحويل الأنظار عن الذي سيرتكب الجرم. - إنه لخبر مفيد، أكرم بك من منذر تنبئني بأسماء المتآمرين علي. - لبيك أيها الجنرال، إن أسماءهم رهن أمرك، ولكن هنالك قضيتي؛ فأنا لا أسألك صدقة، لا أطلب منك إلا أن تعاملني بالقسط والعدل، غايتي إليك فرصة بضعة أيام قبل ذهابي إلى ساحة الحرب، وإذا كان علي أن أحاكم عرفيا لطلب كهذا، أو إذا كنت سأعنف، أو أجرد من وظيفتي ... - قلت لك: إنك يا قولغاسي لا شأن لي بقضيتك على الإطلاق، فقد آليت على نفسي أن لا أتداخل بما هو من متعلقات العدالة التركية، ولماذا لا تذهب إلى رئيس أركان الحرب. - إن رئيس أركان الحرب أرسلني إليك.
كان الجنرال في هذا الوقت يتمشى في الغرفة بصبر كاد يفرغ وقد هز رأسه إشارة إلى اليارو الذي ظهر توا في الباب ثم قال: أوتريد أن تفهمني أن تداخلي بشأنك هو ما تتقاضاه ثمن سرك هذا؟
فأبرق وجه شكري بك إبراق مستهزئ، وأجاب ناهضا وفي صوته نبرات الحماسة: حقا ما ذكرت بالتمام.
وحدث بعد ذلك سكوت أعقبه قول الجنرال، وقد دخل رجال البوليس والجاندرمه: بناء عليه ستقبض من هؤلاء الثمن بالتمام.
أما شكري بك، فظل جامدا في مكانه كالمسحور، ولم يتحقق وقوعه في أحبولة الجنرال حتى احتاط به رجال البوليس وساقوه، ولكنه إذ وصل الباب تملص منهم ملتفتا فجأة كالبائس المجنون، وسحب مسدسه.
وما كاد رجال الجندرمه أن يقبضوا عليه ثانية حتى تمكن من إطلاق رصاصة لم تصب المرمى.
وقد ألقي القبض أيضا بعد ساعتين، أي حول منتصف الليل، على رضا باشا في منزله، وضبطت أوراقه كلها.
الفصل العاشر
ذهبت جهان باكرا صباح اليوم التالي لتقابل وزير الحربية في منزله، وهناك أدخلها ياوره الألماني إلى السلاملك حيث جاءها بعد انتظار دقائق قليلة كاتم الأسرار، وقال لها: إذا كانت زيارتها تتعلق بمسألة اعتقال أبيها فإن سعادة الوزير لا يمكنه مقابلتها، ولقد نصح لها عن لسان سعادته أن تتأنى بما تفعل، وأن تلزم جانب الحكمة بما تقول في هذا الشأن، وأن تبتعد جهدها عن السياسات، وأن تقتصر على شغلها في المستشفى. - لا حاجة إلى اهتمام سعادته بشئوني.
قالت هذا بلهجة أسف وضياع أمل، ثم تابعت كلامها قائلة: ولكن ما الداعي لاعتقال والدي؟ - يقال إنه ارتكب الخيانة. - من؟ أبي؟ مستحيل.
فبسط كاتم الأسرار ذراعيه رافعا كتفيه دليل أنه غير متيقن، وأن الأمر لا يعنيه.
علي أن أرى الوزير. - بكل أسف، هذا مستحيل الآن. - ومتى يمكنني أن أراه، أرجو منك أن تسأله عني.
فابتسم كاتم الأسرار ابتسامة صفراء، وقد أذعن لطلبها، وعاد بعد دقيقة وقد استحالت ابتسامته غيظا. - ليس بإمكان سعادته أن يقابلك، وليس له دخل في قضية أبيك.
فعادت جهان إلى عربتها، وأمرت الحوذي أن يسير بها إلى الباب العالي، إلا أن وزير الداخلية رفض أن يرسل كاتم أسراره لمقابلتها، وقد أنبأها الكاتب عند الباب أن معه أوامر منطوقها أن سعادته في شغل شاغل لا يمكنه مقابلة أحد من الناس.
هناك في الرواق كانت جماهير الناس من طلاب الوظائف والمتاجرين السياسيين، ومخبري الجرائد والمقاولين، وبالاختصار جماعة البطالين قد تألبوا من كل فج عثماني ينتظرون باسم الله، ويعللون النفس بالمواعيد وهم في تلك الحالة يغمغمون الكلام، فيتناولون متسقطات الأخبار، وشوائع السياسة، ويتجسسون بعضهم بعضا، ولقد اقترب من جهان شاب ألماني وعلى رأسه طربوش عثماني قرمزي اللون، وسألها بالتركية الفصحى إذا كانت تشاء إتحافه بشيء، أو إذا كانت تود أن ينقل عنها شيئا إلى جريدته، أما هي فهزت رأسها نفيا ورفضا، وتقدم إليها آخر بالجبة والعمامة، فأسر لها بدعوى الولاء والغيرة أن تنزل ستار عربتها بعد أن تدخلها؛ لأن ذلك أكثر لياقة بمقام الخانم، فشكرته جهان، وتابعت سيرها رافعة الرأس شامخة وهي تتضرع بالصبر وثبات الجأش، ولقد جال في فكرها قولها مخاطبة نفسها: ما ذنبي يا ترى، وما خطيئتي حتى يجب علي أن أخبئ وجهي حياء وخوفا، ولقد تجمهر حول عربتها عدد من الأحداث ألبستهم أوروبية، وعلى رءوسهم عمائم بيضاء، فتهللوا بها هاتفين إليها بأصوات السرور والإعجاب، داعين إياها إذا ظهرت على درج الباب العالي بدرة المعارف، وقمر التهذيب، ووردة النبوغ، وسيف الحرية إلى آخره، وقد ازداد عدد المتجمهرين حتى اضطر البوليس إلى تفريقهم ليعطوا العربة طريقا لتسير بجهان.
على أن الموكب الفخم الذي احتفى بجهان ذاك الاحتفاء لما يبهج ناظرها، ويسر قلبها لو أنه جاء في غير هذا الوقت؛ إذ كانت عوامل الغضب والحنق تتأجج في صدرها ذلك الصباح، فما نفع الشهرة والمجد والنبوغ وهي تعاني أشد الأمور، تقاسي الذل، تقف في باب وزير كأنها طالبة رفدا، أو كأحد طلاب الوظائف الذين لا يفارقون ذلك المكان، ويؤبى عليها الدخول؟ وما الذي يحمل أولي الأمر على الامتناع من مقابلتها، وطالما التمسوا مساعدة قلمها السيال، وطالما رحبوا بها، وتأهلوا مظهرين عظيم سرورهم بها، ومقدرين كل مساعدة تقدمها إليهم، وكل كلمة جميلة ترسلها إلى آذانهم؟ أويمكن أن يكون أبوها خائنا لأمته؟ إلا أن مقاومته دعوة الجهاد ليست على شيء من الخيانة، كلا ليس هذا السبب، لا بد أن يكون ثمة أسباب أخرى، أو لعله أساء نحو الجنرال فون والنستين! ولكن كيف يمكن أن تعزى إساءته إلى خيانة الأمة، خيانة الحكومة!
استسلمت جهان إلى بساطة قلبها، واستملكتها سذاجة الفطرة التركية، وهي كثيرا ما تلجأ إلى مثل ذلك لدى وقوعها في مشكلات الأمور، فاستمرت تسائل نفسها: ولماذا ألقي القبض على أبيها؟ ولماذا لم يأت الجنرال فون والنستين ليراها، ولماذا لم يكتب إليها أو يخبرها بالتليفون عما جرى؟ ترى أيأمل أن تذهب إليه أولا؟ ولقد تبادر لذهنها أن تتردد في أن من المحتمل أن أباها نسي أن يخبره لماذا لم تقابله بدلا من أبيها يوم زارهم في الصباح، «أو لعله يا ترى يظن أنه بتلك المعاملة يستطيع الحصول على رضاء أبي، فيقتادني إلى مشيئته فيضعنا كلانا تحت رحمته، فنذوق بأسه، ونشعر بقوته ونفوذه؟ إنه في ضلال مبين، لن أذهب لمقابلته.»
وعادت جهان إلى منزلها، وفي الحال كتبت إلى جلالة السلطان كتابا تلتمس به سماحه باجتماع خصوصي بينها وبين حضرته السلطانية، وفي اليوم التالي تناولت جوابا لطيفا من مستشار السلطان الخصوصي مذيلا بمذكرة خصوصية من قلم المستشار نفسه جاء فيها نصيحة لجهان أن تأتي إلى يلديز، وعليها أردية سيدة عثمانية تليق بشأنها، وعلى وجهها القناع المعتاد، ولقد اشمأزت من تلك المذكرة، وحق لها الاشمئزاز، ولكنها رغبت في التسليم لمشيئة جلالة الخليفة المعظم على أمل أن تحصل على إعتاق أبيها؛ لعلها تستغني عن استرحام الجنرال فون والنستين.
أما اجتماعها بالسلطان فلم يأت - ويا للأسف - بالفائدة التي أملتها؛ فإن جلالته أجابها على التماسها بهدوء ورزانة وهو يهز رأسه المغطى بالبياض مبديا عظيم أسفه، وعميق شعوره مع كريمة تابعه الأمين المحبوب رضا باشا، ولقد ذرف بالفعل دمعه من كفر الأيام، ومعاكستها، وتلبد جوها بالغيوم المظلمة إذ أصبحت فيها كلمة الخليفة غير مطاعة، ولا مسموعة، ولا معتبرة. - لتكن مشيئة الله تعالى يا بنيتي، علينا أن نسلم أنفسنا لإرادته تعالى فهو يفعل ما يشاء.
وخرجت جهان من يلديز بحالة سوء وهيجان لا تلوي على تسليم وإذعان، وهي حالة أشبه بالعاصمة العثمانية نفسها في ذلك اليوم، فإن المدينة كانت تتأجج فيها نار التعصب الذي تطايرت شظاياه في كل ناحية من نواحيها، وهي روح راقت لجهان؛ لأن فيها آثار الثورة تعمل في نفسها، فتشتد تعلقا بالإسلام أكثر من كل يوم من أيام حياتها، إلا أن المقالة الثورية التي كتبتها لجريدة طنين يجب أن تمزق؛ لأن الجريدة التي لمحت تلميحا عن فاجعة غاليبولي قد صدر الأمر بحجبها، وهناك أيضا كاتب تهجم على الحكومة، ورمى الطاغية الألماني بانتقاد عنيف؛ فأودع غيابات السجن مكبلا بالحديد، وكان البوليس حيث يرى اثنين يتهامسان في الشارع، ويتساران يدخل بينهما معترضا باسم المحالفة والإسلام، وجميع الظواهر تدل على أن الطاغية الحديدية كانت قابضة على الأستانة، وكل أرباب المصادر، وأولي الأمر فيها تحت أمره ومراقبته.
على أن في المدينة أماكن عديدة لم يستطع جواسيسه أو رجال حاشيته أن يدخلوا إليها، ولا رجال البوليس والخفية أولئك ممن هم دونه نفوذا وقوة، وتلك الأماكن إنما هي عرصات الجوامع، والجوامع نفسها حيث كان الناس يتألبون للمحادثات عن ماجريات النهار وشئونه المحزنة يؤولونها تأويلات شتى، وهناك خطر عظيم من احمرار عيون المتمسكين بالإسلام تمسكا شديدا، المتعصبين لمذهبهم تعصبا غريبا، وهم ممن تقصر يد الحكومة أجنبية كانت أم وطنية عن القبض عليهم.
ولقد عاد الخصي سليم ذات مساء من صلاته في أحد الجوامع فأعاد لجهان إجابة على سؤالها ما سمعه في الجامع. - كانوا يا مولاتي جماعات جماعات بين كهول وأحداث، شيوخ ومعلمين، أفندية وحمالين ومتاجرين، يتهامسون ويضجون مشيرين بأيديهم، وإياها باسطين، مستغيثين بالله المعين، ولقد سمعت أحدهم يقول: وما يزيد في الهول والفداحة أنه سيتزوج بالابنة بعد أن يعدم أباها وابن عمها، وقال آخر: إن هذا لمما يأباه الإسلام، ومما لا نتحمله، فإنه والابنة سيذبحان كالخنازير، وقال شيخ مسن: قسما بالله والمصطفى لن نسمح لألماني مهما كان نافذ الرأي، عظيم الشأن أن يدنس سلالة الإسلام، وقد أجابه صديق له معلم «خوجه» حدث السن: كلا، إن هذا لمن المستحيل، ويجب أن تنذر ابنة رضا باشا؛ فإنها إذا أذعنت لإرادة كافر فسوف تجر من بيته، وتسحب من حضنه الدنس، ويعمل بها السيف، هذا ما سمعته بأذني يا خانم، وأقسم بالله قد ارتجفت لسماعه خوفا وذعرا.
أما جهان فأخذت تتأمل في نفسها قائلة: لعل هذي هي الروح الإسلامية التي رغبت أن تلجأ إليها مستغيثة، أو هذا هو الشعب الذي تطلب معونته باسم العدالة والحرية؟ لا. لا. لا. إنهم لا يفهمونها، ولن يحسنوا فهمها، فإن بينها وبينهم لهوة تزداد عمقا، وظلاما يوما فيوما.
ولقد لبثت جهان يومين بعد زيارتها يلديز لترى ما يفعل الجنرال فون والنستين، ولما رأت أن انتظارها ذهب أدراج الرياح عزمت على أن تذهب لمقابلته بنفسها.
الفصل الحادي عشر
لما جاءت جهان تقابل الجنرال فون والنستين خف إلى باب البهو مرحبا مؤهلا، وقبل يدها باشا مسرورا، ثم تقدم وإياها إلى الديوان في صدر القاعة، وأجلسها إلى يمينه قائلا: وجئت أخيرا ترينني.
هكذا افتتح الجنرال الحديث، وفي صوته رنة التأنق والملاطفة. - نعم ولا أعلم أن لذلك داعيا ما، إلا أن ...
فقاطعها قائلا: لا داعي لزيارتك؟ أيجيء ذلك الأحمق شكري بك إلى منزلي طالبا حياتي، وقد عطل أثاث البيت كما ترين - انظري هنالك - وأنت لا تكلفي نفسك السؤال عني، ولم تخطي لي سطرين، حتى ولم تخاطبيني بالتليفون مستطمنة؟ لم يخطر في بالي قط أن سيدة عثمانية تكون سريعة النسيان إلى هذا الحد، بل قصيرة الحبل في الوداد، وطالما ظننتني ذا حق في معاتبتك.
فأجابت جهان وقد تحدته بأسلوب حديثة: أراك تسابقني إلى الشكوى التي أتأمل أن تكون بها مخلصا على أنه مهما كانت الأحوال فقد كان بإمكانك أن تحول من أجلي في الأقل دون اعتقال والدي ولقد كان باستطاعتك العفو من أجلي عن شكري بك، وأن تبر بما وعدتني بشأنه، فترجئ إنفاذ الأمر العسكري الصادر إليه.
فأجاب الجنرال وقد ألبس لهجة تهديده ابتسامة صفراء: لم تقدمي إذن لتهنئتي بنجاتي من رصاصة المغتال. - لم يكن شكري بك مالكا رشده، وأنت المسئول عما استولى عليه من اليأس والجنون. - أنا؟
وردد الضمير مقطبا جفنه عابسا، ثم قال: إن الواقع عكس ما تتهميني به، فقد أباح لي هاذيا أنك أنت سبب تعاسته. وقد قال إنك وعدته أن تتزوجي مني فحنثت بالوعد، ويخال أنك كنت تعاملينه معاملة سيئة، غامضة الأسباب، فقد أردت ذات مساء أن تقبليه ثم ما لبثت أن طردته من منزلك؛ ولهذا زين له هذيانه أن يلعن المرأة التركية ... مقبحا التهذيب الحديث والحرية والحريم، ولقد سببت لهذا المسكين ألما جاء ينتقم مني عليه لما فيه من بلادة وعماوة.
فقالت جهان وقد رفعت بصرها إليه مسترحمة: ولكنك شهم كريم الأخلاق، فاعف عنه وسامحه، ولكي أريح أفكارك وأطمئن بالك أعترف لك أنني لا أنوي الاقتران به، ولا أستطيع ذلك، لا اليوم ولا غدا، قد أساء فهمي، فضلا عن أن ليس له أن يكون أمينا على الميثاق الذي أتطلبه في الزواج لا هو ولا سواه من أبناء عنصري في هذا الجيل يستطيع ذلك، وقد تيقنت هذا تمام اليقين، فسامح شكري بك، اعف عنه، أغثه. - لم أخالف لك أمرا قبل اليوم. - ولا ترد طلبي الآن. - لست أنا المدعي على شكري بك، فهو لم يسئ إلي خاصة، بل إلى المصلحة الألمانية التي أقمت أمينا على جزء صغير منها، وكلمتي في هذا الشأن لا تتجاوز حدود وظيفتي. - إن كلمتك في الأستانة شرع يطاع. - نحن اليوم في زمن حرب أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، وأعداؤنا لا يرحمون ولا يشفقون. - أنتم الظافرون، والرحمة أولى بالظافر.
وبعد أن توقفت عن الحديث قليلا وهي تشعر أنها قد قامت بواجبها نحو شكري بك، وأن الجنرال سيلبي طلبها، ويعفو عنه، عادت تسأل عن أبيها: وأبي، لماذا اعتقل ما ذنبه؟ - أواه، أبوك، الآن تسأليني عن أبيك؟
قال هذا وفي صوته نبرات التثريب، وقد قصد أن يفهمها أنه كان متعجبا من عدم حضورها لمقابلته قبل ذلك الوقت، ثم عاد إلى الكلام فقال: إن ذنبه أفظع من ذنب ابن عمك، فقد بلغني أن أباك خان الوطن، وخان الدول الوسطى.
فصاحت جهان قائلة: خيانة! إن هذا لمن المستحيل. - إنه يراسل الأمير صباح الدين ولطيف باشا في باريس، وهما من ألد أعداء الحكومة الحاضرة، ومن أصدقاء الحلفاء، ولقد ضبط له كتاب يوقع فيه ولي العهد القائل: إنه يحاول قلب الحكومة، وإن أباك موقن أن تركيا مستعدة للمفاوضة على حدة بشأن الصلح، وهناك بين أوراقه المضبوطة حجج أخرى تثبت خيانته.
فلم تستطع جهان كتم تأثرها، وإخفاء كدرها، وقد علا خديها اصفرار، واغرورقت عيناها بالدموع. - وما عسى أن يجري الآن؟ - سيحاكم أبوك على خيانته. - ألجأ إلى مراحمك، أرجوك مساعدتي، كلمة منك ...
خنق البكاء صوتها؛ فتساقطت العبرات على خديها. - لو أنك جئت قبل الآن. - إني مخطئة أعترف بخطئي. - خلت أنك تستغنين عني، وأنك قادرة أن تستخفي بي. إذن لماذا لم تأتي قبل الآن؟ - تريثت قليلا لعلي أرى منك ما كنت أتأمل، فتفد علي لتراني، أو تراسلني في الأقل. - وإذا رأيت أنني لم أقم بما تأملت ذهبت تقابلين غيري من أولياء الأمر، أليس كذلك؟ - كلا. - كلا! ألم تسترحمي غيري! - كلا. - عفوا أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان (قال هذا وهو يربط قفا يدها بأنامله).
اسمحي لي أن أخبرك ماذا فعلت مؤخرا، ذهبت أولا إلى وزير الخارجية لتقابليه في منزله، فأرسل إليك كاتم أسراره قائلا: إنه لا يستطيع مواجهتك بشأن أبيك، ولقد نصح لك أن تبتعدي عن السياسة، وأن تقتصري على شغلك في المستشفى، ثم ذهبت إلى الباب العالي تسترحمين وزير الداخلية فلم تتمكني من الوصول إليه، ولقد حدثك عثماني من أبناء جنسك في الرواق إذ هممت بالخروج، ونصح لك أن تحتجبي عن الناس، وقد هلل لك بعض الشبان إذ ظهرت أمام الباب العالي، فأسكتهم نفر من البوليس، وبدد شملهم، وفي اليوم التالي ذهبت إلى يلدبز مؤزرة، ولكن جلالة السلطان لم يستطع أن يعينك في مثل هذه الأحوال، فأشار عليك أن تتكلي على الله، وبدلا من أن تعملي بمشورته، وتلقي اتكالك عليه تعالى جئت الآن إلي، ألا ترين أيتها الحسناء، أيتها العزيزة أني واقف على سائر أعمالك وحركاتك؟
فارتاعت جهان، وذعرت لما تجلى لها من سلطان هذا الرجل، ومن اتساع دائرة عرفانه، إن مقدرته لسحرية، فقد قاومها في البدء متدرجا إلى كشف أمرها، ثم أدهشها بما يعلم، فصغرت أمامه، وأحست أنها أسيرة بين يديه، بل أسيرة بين تلك القوة السحرية الألمانية التي تحد كل شيء. - ولكني اعترفت لك بخطئي. - ليس لمثلك أن يخطئ، وليس لمثلك أن تغفل اعتذارا هو دين لي عليك. - ولماذا الاعتذار؟ - ألم أكتب إليك أني قادم لأراك؟ - لقد كنت في المستشفى صباح زيارتك، ولم يكن باستطاعتي إهمال واجباتي، أولم يقدم إليك أبي عذري بهذا الشأن؟ - إن أباك سلك مسلكا لا يليق بمقامه، ولا بمقام عثماني كريم الأصل. - ولهذا قبضت عليه، أليس كذلك؟
قالت هذا بسرعة من يتحقق في الحال ظنونه. - أخطأت، أنا لست ممن يتنازلون إلى الانتقام. - بل أصبت في ظني، بلى، قد أدركت أيها الجنرال غايتك، ولكنك لا تستطيع أن تنال مرامك مني بمعاملتك والدي هذه المعاملة.
فأخذ الجنرال يدها بكلتا يديه غير مكترث بما بدا في عينيها من نار الغيظ: ها قد اقتربت من الموضوع، وذلك ما يسرني، فأسألك مرة ثانية مغضيا عن هواجسك، وعتابك الذي لا أساس له، ولا حاجة إليه أن تقبلي بي زوجا.
فسحبت جهان يدها مجيبة: ذلك مستحيل.
فنهض الجنرال إذ ذاك ساخطا: مستحيل؟ ولماذا؟ - لا أقدر أن أقترن بمسيحي. - لا يليق بك مثل هذا الاعتقاد. - إني أشعر بما أعتقد، وإني متيقنة أن الأمراء العثمانية لا تكون سعيدة إذا اقترنت بأوروبي. - وما أنت؟ - ما أنا من هذا القبيل سوى امرأة عثمانية.
قالت هذا ببطء وهدوء فيهما تهكم واستهزاء. - أنت امرأة عثمانية، ولكنك تفوقين باقي النساء في تهذيبك، فلقد تغذيت بلبان آدابنا ومدنيتنا. أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، عودي إلى معقولك، إلى صوابك، أنت تعلمين مقدار حبي لك، وإجلالي إياك، وتعلمين أيضا أني أعجب بشعبك، وأحترم تقاليده، ولهذا أحب أن أعيش بينهم، وأن أكون نصيرهم، أسلم بدعواك التي تخلصين بها النية، أنا مسلم أغار على صوالح شعبك مثلك، وسيتولى شيخ الإسلام إذا شئت عقد الزواج. - في موضوع الزواج لا فائدة من الكلام. - ماذا إذن؟
فترددت قليلا ثم أجابت: جئت لأراك بشأن والدي وابن عمي لا لأبحث معك بغير ذلك من الشئون. - قضية ابن عمك ليست بيدي، أما قضية أبيك ففيها نظر، ولربما تجهلين أنه لولاي لوقع أبوك في مخالب أعدائه قبل اليوم من زمان طويل، وقصته سياسية محضة، ولقد أبيت استعمال الوسائط التي رغبت فيها الجمعية في معاقبته. - والآن؟ - ثقي أن أمنيتك هي أمنيتي، ولكن لماذا التصلب بالرأي، ولماذا التحفظ والمخالفة؟ تقولين إنك لا تستطيعين الاقتران بأحد من أبناء أمتك، وترفضين الآن ما أقترحه عليك. - أرفض آسفة. - إنك تتصنعين. - أنا مخلصة، أقسم بالله إني مخلصة بما أقول. - لا تركي ولا أجنبي! أوروبي! يا لك من امرأة صعبة المراس. - آه ما أشقاني، تزوجت مرة، ولا أستطيع أن أتزوج مرة ثانية، أنا متزوجة من الحرية. - مواربة سفسطة كلام. - حقا ما أقول، صدقني، ثق بصفاء نيتي. - إذا صدقتك وجب علي أن أسألك أن تكوني خليلتي.
وقعت هذه الكلمة «خليلتي» على أذن جهان وقوع الصاعقة، خليلة الألماني حظيته، يا لها من كلمة تحول دمها إلى لهيب عندما تفتكر بها! أهذه غاية طموحها؟
قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارا، وتابعت كلامها: حظية سرية، ولقد هجرت الاثنين: الأمير، والقصر، لاعنة كلاهما، والآن يجيئها هذا الرجل فيقترح عليها أن تكبل بنفس القيود، وأن تقبل بذات العار، ولقد جال بفكرها أمر واحد أكثر من مرة أثناء الحديث وهو أن تخبره أن ما تريده منه حقيقة هو ولد، وأن حفلة زفاف على الطقوس المسيحية أو الإسلامية لا تأتي بنفع يرجى؛ لأن كلاهما يختلف مذهبا، ولا يمكن أن يعتنق الواحد مذهب الآخر بإخلاص حقيقي، وما ذلك إلا تمويها وغشا، إما سلمته نفسها تتميما لغرض كان يجول في صدرها، فذلك حسبها، وبه مناها ورضاها، وتبقى القرابة بينهما مقدسة، ولئن تكن قصيرة، إما حليلة حظية! لا سمح الله! ونهضت من على الديوان ووجهها مضطرم غيظا وحنقا. - عقيدتي بالزواج أسمى مما تظن يا حضرة الجنرال.
قالت هذا متطلعة فيه وجها لوجه. - ولكن هذا ما يعني «بحرية الزواج» الأوروبي العصرية. - وقد تجهل ما أعنيه أنا.
قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارا، وتابعت كلامها: هذا من سوء حظي أيها الجنرال، وقد تجهله أنت أيضا يا حضرة الجنرال، فإن اقتراحك لا يليق بك، هو شائن معيب، وقد هدمت به أملي بك، وضربت اعتقادي الحسن بالألمان ضربة أليمة لا شفاء له منها. - ولكن إذا كنت لا ترغبين بي زوجا (قال هذا واقفا أمامها، ويداه مشبوكتان وراء ظهره) فلماذا لا ترغبين بي صديقا، إذا كنت لا تحبين أن تكوني زوجتي لم لا تكوني خليلتي؟ - أخالك تسألني هذا لقاء إنقاذك أبي من الموت، يا حضرة الجنرال فون والنستين إن في ابتغائك أن أضحي شرفي من أجلك أظهرت بأنك لست بشريف النفس والأخلاق.
وخرجت من البهو مسرعة حانقة قبل أن يفوه الجنرال بكلمة جوابا ...
ليس الجنرال فون والنستين من الرجال الذين يتبسطون بدخائل أنفسهم، ويدرسون نزعاتهم الباطنية درسا دقيقا، فهو إذا صمم على أمر سعى له بكليته دون أن يحاسب نفسه في المحلل والمحرم من وسائط الفوز فيه، وما هو من الذين يتغاضون عن أمر فيه امتهان شرفهم، أما شأنه وجهان فرأى أنه لمن الضعف أن يقف في منتصف الطريق فيه مهما كانت الأسباب والنتائج حسية أم وهمية، فقد نظر إلى الأمام بقدر ما تستطيع أن تصل إليه باصرته، ولكنه كان يفتقر إلى ذلك النور الداخلي، إلى تلك البصيرة التي تحسر نقاب الغوامض التي تزيح ستار المخبأ، وتكشف المخبأ من الأمور.
وما عسى أن يخبئ له هؤلاء الأتراك الذين أخطأ الظن بهم فخالهم رقيقي الجانب، سهلي المأخذ، ليني العريكة، أليفي التزلف والذل، منها أنهم من المقاومين إرادته، المنافسين في شئونه، المعرضين مقامه للذل والامتهان، ألعله يا ترى كان مخطئا بظنه بهم؟ أو لعل فيه ضعفا خفيا شجعهم على الغطرسة، وأيقظ فيهم طبيعة الغدر والجحود؟
وكان يتمشى في أرض الغرفة وهو يجاذب هذه الأفكار وتتجاذبه، وقد بلغ الاضطراب منه مبلغا عظيما بعد أن ذهبت جهان، فوقف لأول مرة موقف المرتاب بقوته، الناظر إلى عظمته وسؤدده، نظر من اعتاد النقد والتزييف، وهو يسائل نفسه قائلا: أويمكن أن تكون يا ترى عظمتي خارجية - عرضية وقتية - بنت ساعتها؟ أوليس فيها شيء طبيعي دائم قائم بنفسه يدور على محوره؟! كلها سطحية؟ أوليست هي جزءا من العظمة الألمانية؟ أو هل هي جزء من نفسي المتزعزعة؟ ليست قوة نفسية فردية، بل هي قوة الخداع في السيادة، في اكتساب عبودية الآخرين فقط، أليس فيها من السيادة الروحية ما يستميل إلى القلوب البشرية؟ أوليس لدي شيء من العظمة الحقيقية أو السيادة الروحية؟!
وقد هالته هذه الاستفهامات الإنكارية، وشق عليه أن يصدق ما تنبأ به في ساعة تجلت له نفسه مما فيها من الضعف والخلل.
أجل، أستطيع أن أقضي على حياة تركي متغطرس، ولكن من أين لي أن أجبره على الإذعان لمشيئتي؟ هو ذا الباشا العجوز قد أهانني في بيته، وذاك البك الأحمق جاء يخطف حياتي في بيتي، والآن قد رفضت هذه المرأة الشرف الذي أطرحه عليها، وتهينني فوق ذلك، وتنكر علي شرف النفس والأخلاق، إن هذا في الحقيقة لكثير على الجنرال فون والنستين احتماله، وستحاسب جهان على سوء أدبها وتمردها، إنها لن تكون زوجة ولا حظية؟ المرأة هي هي أينما كانت، فضلا عن أن هذه الولاعة التركية لأردأ طبعا من الفرنسوية، أو لعلها يا ترى تقاوم قوة وحشية فيه! إذا كان هذا فلتستعد للنقمة، فإنه لن يمهلها بين تدمي أصابعها ندما، ولقد أقسم أنها إذا أبت أن تكون زوجته أو حظيته فستكون عبدة رقة لشهواته ولو يوما واحدا، نعم إنها خارج الحريم، ولكنها ليست خارج العبودية التي ستحقق رغبته بها، أجل سيؤدبها، سيمتلكها سيذلها، فقد أصبحت الآن في قبضة يده، تحت رحمته، وسوف تعود إليه، ما زال أبوها سجينا حيا، فعليه إذن أن يرجئ محاكمته إلى أمد قصير، إلى أن ينال من جهان مرامه.
الفصل الثاني عشر
حوكم القولاغاسي شكري بك في المحكمة العرفية أولا على عصيانه الأوامر العسكرية، فكان عقابه أنه حرم وظيفته، وجرد من ألقابه، وحوكم ثانيا على تعمده القتل لمأرب سياسي، فكان قصاصه الإعدام، ولقد أنفذ الحكم بطلقتين من بنادق ثلة عسكرية قوامها عشرة جنود، يقودهم ألماني حال صدور الحكم على الجاني، أو إذا التزمنا جانب التدقيق نقول: إنه أعدم بعد خمسين دقيقة من تلاوة القاضي صورة الحكم الذي ختمه فضيلته بقوله: إن مندوب الدول الوسطى الخطير لم تمسه يد المغتال بأذى، وهو الآن متمتع بحياة مديدة الأعوام، سعيدة ترعاه عين الله القدير الذي ينعكس نوره الإلهي على عرش جلالة المتبوع العظيم، المتجلي بقداسة الشرع الشريف، والعدالة العثمانية العزيزة الشأن والأسباب.
إلا أن المجاملات الرسمية التي أجازتها المصلحة العثمانية الألمانية العسكرية لتحكم بالعقاب على كل متعد أثيم، وتنفذ حكمها بسرعة ولجاجة لم يسمع بمثلها الأتراك، وقد أنشئوه شريعة يجرون بموجبها عندما توافق مقاصدهم، وإلا فإنهم يكيفونها كيف شاءوا عند الحاجة، مراوغين مقدمين ومؤخرين في بنودها وأصولها، فيتغاضون في الأحايين حتى عن مجاملة الطاغية الخداع القادم إليهم من برلين الذي دعا له القاضي بطول العمر، ورعاية عين الله تعالى.
نعم، فهم خدموا مأربه في شكري بك، ولكنهم ناظرون إليه بالمرصاد؛ لما كان ينوي إجراءه في رضا باشا، فهم إذا استطاعوا بعونه تعالى لن يوافقوه على مشاركته في مكيدة يقصد بها امتهان شرف سيدة من النبيلات التركيات، ولهذا عقد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي وهم أعداء الباشا الألداء جلسة سرية قر قرارهم فيها على توجيه احتجاج على دسيسة الجنرال، مندفعين بعامل الغيرة منه، وعامل النعرتين الدينية والجنسية.
أرضا باشا يصبح في قبضة هذا الألماني؟ هذه لهجة غريبة تختلف نوعا عن لهجة ذلك القاضي الذي رأس المحكمة العسكرية ينفذ فيها إرادة الجنرال كما تزين له أهواؤه حتى تذعن ابنة الباشا لمشيئته، إنه لموقف شائن معيب أوقف فيه الجنرال نفسه.
هذه غايته، وهي لم تذهب عن رجال تركيا الفتاة القابضين على أزمة الأحكام، فوالله ونبيه المصطفى لن يفوز بامرأة عثمانية، ولن ينالها قهرا مهما تسامت غايته، ونبل قصده إن كان الله معينا لهم، فإن وزيرا من وزرائهم ولئن كان في الشئون العمومية عبدا مطيعا أوامر الجنرال يصبح في يده آلة لنيل رغائبه الذاتية، وأغراضه وميوله لمما لا يتصوره عقل، ولا يخطر في بال، وهو العار والفضيحة بعينهما، أجل رضا باشا مجرم، وجرمه الخيانة، ولا دخل للجنرال فون والنستين في أمور العدلية العثمانية، وبناء على هذا نقل رضا باشا إلى سجن خارج الأستانة، وقد منعت جهان هناك أيضا أن تراه.
وخلت جهان بنفسها مؤنبة ذاتها نادمة على تسرعها وخشونتها مع الجنرال، فقد كان أولى بها التريث، وألا تفقد رشدها في مجالسته، فإن حياة أبيها يجب أن تنقذ مهما كان الثمن، ولكن ما عسى أن يكون عندها هذا الثمن؟ تأملت بهذا الأمر مليا، وقد عادت إلى مخيلتها رؤيا أمهات عنصرها راسفات في السلاسل والقيود، فاستسلمت إلى حلمها في الحرية التي هي أول أمانيها وآخرها، الحرية في انتخاب زوج لنفسها قرين لا يحنث بيمين تتطلبه، ألا يتخذ زوجة سواها، وإذا عز عليها ذلك فلتكن لها حرية الانتخاب في الأقل انتخاب أب لوليدها، بمثل هذه الجرأة وهذا الإقدام ستكون جهان مثالا شريفا لنساء عنصرها، وتجعل عملها هذا من أشرف مبادئ حريتها.
ولكنها تأملت مفكرة في كيفية الإقدام على مثل هذا العمل إبان هذه المشاكل المعقدة، إلا أنها لا تستطيع الذهاب إلى الجنرال فون والنستين مقدمة إليه قلبها عاريا من التمويه، نعم إنها طالعت كثيرا من الروايات العصرية، معجبة ببطلات أقدمن إقداما غريبا دون حياء، ولا وجل في مواقف كموقفها الحالي إلا أنها لم تشعر من نفسها برغبة تدفعها إلى الإقدام المطلوب، حتى ولو لم يحدث شيء يجبرها على الإذعان لمشيئة الجنرال، فليس فيها دافع يجعلها أن تسلك مسلكا لا يخلو من عار عليها وفضيحة، كلا إنها لا تذل نفسها، وليس في العمل الذي تنويه من عار أو فضيحة، فقد جال في خاطرها أنه إنما ترغب فيه إتماما لأسمى رغائبها، ولتحقيق حلمها الذهبي.
وكذلك سرحت عواطفها، فكان المنطق خادما مشتهاها، وكانت الفلسفة موافقة رغباتها، على أن الجنرال اليوم أصبح يكرهها كرها لا مزيد عليه، فقد استخفت به امرأة، وناله منها الرفض والامتهان، فهو الآن إذا سنحت له فرصة ينزل بها أشد العقوبات، وربما أفظعها وأقساها، إنه يحاول أن ينتصر عليها ويذلها لتكون غنيمة نصره كما ذكره الطبيب الألماني في المستشفى، غنيمة في تصوره - أي تصور الجنرال - إنما في عينها، فلا فرق إذا كانت في يده آلة للتضحية أو الانتقام، فإنها إنما تنجز عملا من أسمى الأعمال وأنبلها، لا بل عملا مضاعف الفائدة، فإنها علاوة على نيل مقصدها تنقذ حياة أبيها من الموت.
إن ما تبذله إذن ليسير في هذا السبيل، وما هو بتضحية كما يتبادر للناس، بل هو جزية تتقاضاها من الطاغية الألماني، ولد ترومه منه، وإن ما يظنه نصرا له سيكون نصرا باهرا لها، ستذهب إليه إذن طالبة العفو عن أبيها، وستتركه يفعل ما شاء، ستستسلم إليه راغبة وهي تظهر أنها أسيرة، ولكنها إذا فعلت ذلك يا ترى وتم لها ما تريد أينعم الله عليها بمن تتوهم فيه ذرية شعبها المستقبلة؟
سألت نفسها هذا السؤال، وأجابت عليه بالإيجاب متوكلة على الله ونبيه.
الفصل الثالث عشر
بعد أن سلمت جهان نفسها تسليما حسبته نصرا مبينا لها خرجت عند منتصف الليل من منزل الجنرال فون والنستين وهي تقاسي من حقائق الحياة أعمقها سرا، وأشدها ألما، وأقبحها عاقبة، فتراءى لها من خيالاتها الوهمية التي كانت تمازج شعورها شبح مخيف في ظلال أخربة قديمة، شبح هائل لا يبعده منها المنطق، ولا تدنيه منها الملاطفة والسفسطة، بعيد قريب، رهيب مريب، أسود البشرة كالليل الحالك، بل كالخصي سليم الذي كان ينتظرها خارج بيت الجنرال، وقد خيل لها أنها تستطيع أن تقبض على هذا الشبح بيديها وهو جالس أمامها في العربة، وآنا تراءى لها في شكل غريب مخيف كأنه وحش من الغاب يتحفز للوثوب عليها، فشعرت إذ ذاك أن مخالب تمزق جسدها، وأن أنيابا تقطع قلبها.
أحبت جهان الجنرال فون والنستين حبا صادقا شديدا عظيما إلى حين، ولكنها ألبست حبها لباسا من البغض والحقد والازدراء، أحست بعوامل الحب وما يشبهها، وأدركت بعدئذ أنها ضحت في لحظة شرفا حفظته سنين، فكانت هذه هي الحقيقة الهائلة الجارحة التي ألبستها العار والإثم.
إلا أن أباها سينعتق من سجنه، وستجتمع به في الغد، وحسبها هذه تعزية لو أن الوساوس لم تسم بها إلى أعالي الحرية المتلبدة غيوما، فلم تكن لترى في تلك الأعالي الإفضاء من الموت الهادئ، ويدا أثيمة دست السم في كأس نصرها وسعادتها.
دخلت منزلها كفازع وجد مأمنا يقيه شر وحش يلحقه ضاريا هائجا، فقد كانت تحاول الهرب من وجه العار والخوف، بل كانت تخجل أن ترى واحدا من الناس حتى سائق عربتها أو عبدها الرقيق، فدخلت حجرتها وأوصدت الباب، ولكن من أين للأبواب أو الأقفال أو المفاتيح أو المزاليج أن تحجب عنها أفكارها التي لازمتها ملازمة الظل؟ وكانت تعاني من رأسها وهي تنزع ثيابها دوارا مؤلما، فبدت الأشياء والخيالات في رؤياها عديدة الأشكال والأهوال، أية يد بشرية أو شيطانية أو مقدسة قبضت عليها فجرتها إلى أبواب نعيم مريب يخفره الوحش الأشقر؟ إنه لوحش هائل سخيف، وقد كشر عن أنيابه، له عين تبدد الظلمات، ومخالب تبرق في ضوء القمر، وزئير ينصت الرعد إذ رمى بنفسه على صدرها، لله من تلك الساعة وسيف القضاء والقدر مشهور فوق رأسها، ونيران الحياة تضطرم عند قدميها، وحواليها هاويات شديدة الظلام لا قرار لها! ومضجعها الوردي يتمايل بها على شفا هوات الجحيم!
فصاحت: يا لله! وقد تعمقت في كرسيها حاجبة وجهها بيديها؛ ظنا منها أنها تحجب هول الرؤيا أمامها، وحيدة في شدتها وبؤسها، لا معين لها ولا قوة، تتقاذفها أمواج العوامل المتناقضة المخيفة، فأرسلت من أعماق قلبها تنهدات طويلة، وثارت في صدرها المتقد الخفوق عاصفة هوجاء، فأرعبتها الظلمة إذ أغمضت عينيها، وكان الهواء ثقيلا في الغرفة، غتيتا فاسدا مؤذيا، ولهذا فتحت الشباك، ووقفت في رواقه ملتفة بعباءتها، وهناك أيضا وراء مياه القرن الذهبي الهادئة، وراء سروات جامع أيوب المتعالية، وراء مآذن الأستانة وقببها بدا لها ذلك النعيم المريب، وذلك الوحش الأشقر واقفا في الباب.
فصرخت ثانية: يا لله! ماذا فعلت؟ لماذا لم أذهب مسلحة؟ ولماذا لم أنحر الوحش الضاري؟ لماذا؟
وقبضت يسراها بيمناها كأنها تحول دون القيام بعمل هائل تحدثها به النفس الأمارة بالسوء، فقالت في نفسها: يا لها من حماقة! حماقة، يا له من جنون!
واستجمعت قواها لتقاوم ذاتها الأخرى، تلك الذات الأثيمة التي انتصبت أمامها، فجلست على كرسي تفرك جبينها وخديها بيديها، فارتاحت هنيهة، ثم أفاقت إلى عوامل فيها محض جسدية، فإن فمها كان ناشفا من شدة العطش، وقد دب التخدير إلى جسمها، حتى خيل إليها أن ألف إبرة تنخس فيه.
أيقظت جاريتها، وأمرتها بإعداد حمام فاتر، فجاءها ذلك ببعض الراحة، ثم أخذت كأسا من شراب الورد فأنعشها، وقويت نفسها نوعا على هجمات العوامل الروحية، عندئذ تحقق لديها أنها هي في حجرتها الخصوصية، وكل ما كان أمامها في محله، ولم يعد الهواء ثقيلا فاسدا سيئ الرائحة، وهناك على منضدتها كتبها ومجموعة أوراقها، وفوق المنضدة لوح ذو إطار عليه آية قرآنية في الزواج طرزته بيدها تطريزا بديعا، تطريزا من الذهب على حرير أزرق سماوي اللون، أما الآية فهي:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة
قرأتها مرة أخرى وهي تردد: فواحدة! واحدة! وما عسى أن يكون عدل الرجل نحو المرأة؟ أيسمح له النبي بأربع زوجات، ثم يسأله أن يكون عادلا، إن هذا تنازل منه وتلطف، زه! زه!
وحولت نظرها من الإطار إلى الأوراق على منضدتها، فقلبتها واحدة واحدة، وفيها من الحكم الإنكليزية، والأقوال الفرنسوية، والحقائق الهائلة الألمانية، مما كانت تترجمه إلى التركية، متراكمة بعضها فوق بعض، مبعثرة شذر مذر مع عدد من مقالاتها التي حبرها قلمها السيال، بل نتف من مقالات لم تنجزها، وخطرات من هنا وهناك تصور روحها الطامحة إلى العلى، وعقلها المشغوف بالبيان، وقد عثرت بين هي تنقب في الأوراق والبصيرة منها شاردة على صورة الأمر الذي أصدره أبوها، وفي آخره هذه العبارة: «يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين وعن مراسلته.»
وما عسى أن يقول والدي إذا عرف بأمري؟ يا لله! كيف أستطيع مقابلته وجها لوجه؟ ماذا أقول له، أأخادعه؟ أأكذب عليه؟ كلا، كلا، سأصدقه الخبر، سأنبئه الحقيقة بتمامها، ولكن أية حقيقة؟ أنها دفعت من شرفها ثمن حريته؟ أنها قبلت من يد الألماني الدنسة آخر سني حياته القليلة؟ بلى ولكن ذلك ليس بالحقيقة كلها، فإن الجزء المهم فيها إنما هو الحرية، بل حياة الحرية التي ستوجدها في شعبها، الحرية التي جعلت جهان أما، أيفهم هذا يا ترى أبوها، ويصفح عنها، أو لعله يطردها باصقا في وجهها كأنها من رعاع النساء؟ أوليست هي مسلمة؟ أوتطرح المسلمة إلى خنزير كافر؟ يا لله! وإلى أين تذهب؟ بل ماذا يقول الناس عنها؟
كانت تردد هذه السؤالات، فذكرتها بأولئك الذين كانوا في الجوامع، وقد نقل عبدها سليم حديثهم إليها، فشبكت يديها حول رأسها مكبة على المنضدة، والمخاوف تتجاذبها، وحدث بعد ذلك هدوء في نفسها شبيه بما يلي العواصف، فأذعنت مرغمة للقضاء والقدر، راضية بما قسم الله لها، متوكلة عليه تعالى الذي هو أول وآخر ملجأ يلجأ إليه المسلمون، ولكنها ما لبثت أن ذعرت ثانية إذ تراءى لها الوحش الأشقر.
وكان أمامها على المنضدة كافور فتناولته، وفركت به جبينها، وما فوق جفنيها، ثم تناولت أول كتاب وصلت إليه يدها، فكان كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، فقلبت في صفحاته آملة أن تدني المطالعة منها النعاس، فيريح جفنيها الملتهبتين بشيء من النوم، ولكن مطالعة نيتشى جاءتها بكعس ما أملت، ولم تؤثر فيها كما أثرت أول مرة طالعت ذلك الكتاب، أنبي؟ نعم، وما الفائدة من نبي لامرأة تعتقد بآية من القرآن؟ وما الفائدة من تعدد الأنبياء؟ بل ما المقصد من نبي آخر حين أن كل الأنبياء واحد، ورأيهم في المرأة واحد؟ الحب، الشفقة، الرحمة، العدل، كل هذه سواء عن المرأة من لدن الرجل شرقيا أم غربيا، نبيا كان أم شاعرا أم حمالا.
لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
هذا ما يقوله أول الأنبياء وآخرهم، الواحد يردد صدى الأول، أويكون يا ترى الصوت أبا الحرية المولودة من امرأة؟ يا لله! أجاء هذا الوحش الأشقر من الشمال قضاء وقدرا ليذلني، ويجعلني أما؟ أتتولد الأجنحة الذهبية من جروح في نفسي دامية؟
لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
لقد تعبت من نيتشى، بل خاب أملها به، فإنه لم يأتها حتى بما أملته من النعاس، ولهذا لجأت إلى المخدر الذي جاءها به سليم عبدها، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أخذت أفكارها المشتتة الثائرة تنقشع رويدا رويدا كما ينقشع الظل، فأغمضت عينيها، ولكنها ظلت ترى وتقرأ حتى آخر دائرة من دوائر هواجسها هذه العبارة مكتوبة بأحرف من دم: لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
وانطرحت على سريرها بين نائمة ويقظى، والعياء والعناء ظاهران في تنفسها، فاستيقظت عند الفجر من سباتها، وهي تصيح صيحة هائلة راعت الجارية فسارعت إلى غرفتها، وما صرختها إلا تأثير حلم مزعج مريع، فقد تراءى لها رجلان داخلان إلى سجن تحت الأرض فيه السجين نائم، فربطا يديه ورجليه، وسدا فاه، ثم أخذ أحدهما سكينة وقطع شريانا في أحد معصمي السجين؛ فتفجر الوجه ملطخا وجه الجاني الأثيم، وجاريا كالنهر على الأرض، ورأت الرجل يتململ في عذاب مميت، وقد سمعته يئن أنينا يذيب الفؤاد، أما الرجلان، فقد وقفا حياله مخفضين رأسيهما، منتظرين نفسه الأخير، وإذ لفظه حلا أوثقته تاركين إياه منطرحا على الأرض جثة هامدة، وإذ رأت جهان وجهه صرخت مولولة: أبي! أبي! قتلوا أبي في السجن، قتلوا أبي.
واستوت في فراشها، ويداها مرتخيتان على صفائح السرير، ووجهها أصفر كأن عليه غبار الموت، وعيناها محملقتان تخترقان المكان، ولم تزل في مخيلتها صورة تلك الفاجعة، وفي نفسها مرارة ذلك الحلم الهائل، وظلت كأنها في ساعة حلمها حتى فتحت جاريتها زليقة فاها بالكلام، فقالت ما أدهشها سماعه: «الدم يا مولاتي فأل، كذلك كانت أمي تفسره، وقد كانت تحسن تفسير الأحلام، نعم يا مولاتي، الدم سعادة، وإني أتنبأ أن أباك مولاي سيكون معك قريبا إن شاء الله.»
الفصل الرابع عشر
لبثت جهان ترقب قدوم أبيها، وقلبها يتلظى بين عاملي اليأس والأمل، فقد حلمت حلما هالها، ولكن الجنرال فون والنستين وعدها بأن يعتق أباها من سجنه في ذلك النهار، فمرت الساعات: التاسعة منها، والعاشرة، والحادية عشرة حتى الظهر ولم يعد أبوها، ولا جاءها خبر عنه، فخاطبت الجنرال بالتلفون، فوعدها بأن يزورها في الحال ليعلمها بسبب التأخير.
وبعد قليل جاءت الخادمة بجريدة طنين، فتناولتها جهان، وطالعت فيها هذه الإذاعة:
قد انتحر رضا باشا في سجنه صباح اليوم باكرا بقطعه أحد شرايين معصمه الأيسر بزجاجة من المصباح الذي وجد مكسورا على الأرض.
قرأت جهان هذا الخبر أصيل ذلك النهار هادئة ساكتة، ومن غريب أمرها أنها لم تتأثر ظاهرا، ولم تفه بكلمة، ولم تصفق كفا على كف، لم تنح ولم تولول بكلمة، لم يحرك خبر هذه الفاجعة مظهرا واحدا من مظاهر الحزن فيها، كأنها تناهت في الغم والأسى، فوصلت بفؤادها إلى أوج الأحزان والعذاب، ومتى عظمت المصائب على امرئ أسكتته، أبهتته، جعلته ظاهرا بل باطنا أيضا كالجماد، فتمسي لواعج النفس كماء الغدير وقد استحال من ريح الشتاء جليدا، وفوق ذلك فقد كانت جهان على استعداد لاقتبال مثل هذه الفاجعة التي تراءت لها في ذلك الحلم المزعج، فشاهدت فيه سر الأوامر الرسمية: المكيدة، الأمر بالاغتيال، الدسيسة الشيطانية، الجريمة، والإذاعة الملفقة بخصوصها، أجل إن أباها قد مات، قد قتل قتلا فظيعا، ولا مراء أن للجنرال فون والنستين يدا في الأمر، أو أنه عرف به في الأقل، وغض النظر ليتمم تمثيل دوره المنكر، وهو يتظاهر أنه يعمل من أجلها لتبقى صفحتها بيضاء عندها، قبحه الله! إنه فجعها بأخيها، وحرمها ابن عمها، وقتل أباها! وفوق هذا كله هو قادم الآن لمقابلتها، يا لله! ما أعمق غدر هذا الرجل، وما أشد مكره، وما أعظم جبره ووقاحته!
إنه قادم ليراني، أعادت هذه العبارة مرة ثانية محرقة الأرم، وربما كان قصده أن يهنئني على حريتي؟
وتجعدت شفتاها، واشتدتا لما جاش في صدرها من مفاعيل الغضب التي تحولت تدريجا إلى ضحكة ازدراء وانتقام.
ولكن علي أن أقبل زيارته، أجل سأقابله بما يليق بمقامه السامي.
وذهبت إلى غرفتها مخلدة إلى أجمل ما في نفسها من الطباع وأهدئها.
وجلست مكبة على المرآة تزين وجهها.
علي أن أستعد لمقابلة سيدي.
ومرت بأناملها البيضاء الناعمة في شعرها الذهبي، فأرخته مسدلة إياه على وجهها، ثم سرحته وضفرته إلى جديلتين، وهي تقول متكلفة الغنج والدلال: إكراما لسيدي، من أجل إله حلمي، من أجل عشيقي القادم من الشمال، قالت هذا وهي تمر الميل بين هدبيها تكحل عينيها.
ثم نهضت خالعة عنها ثيابها، ودهنت جسمها بالطيب، وارتدت فستانا عريضا شفافا أخضر اللون، يجر ذيله على الأرض، ومشت بضع خطوات؛ فزاد زيه بجمال قدها، وشف تجعيده عن بياض جسمها، وأنيق خطوطه، ولبست فوقه سترة موشاة بالذهب، شدتها على الصدر، ضاغطة عليه حتى أصبح مساويا لما تحته من الحرير الناعم، وتمنطقت بمنطقة أقل اخضرارا من الفستان ضمت ثدييها، وقد أنزلتها قليلا حتى ظل خصرها باديا في لينه وتمايله. أما خفاها، فكانا من الحرير المقصب كسترتها رسما ولونا، يتلألأ فوقهما خلخال من الذهب المرصع بالحجارة الثمينة، فكانت حقا سلطانة، بل حورية فتانة الجمال؛ إذ وقفت وهي في هذا الزي ويداها مشبوكتان حول نحرها تنظر شزرا في المرآة، وتصعد الزفرات.
ثم قالت وهي تمزج في كفها نقطة من عطر الورد ببضع قطرات من «سكلا من رويال»، وتدهن صدرها: من أجل سيدي.
ثم نادت بالخصي سليم، فأعطته التعليمات اللازمة بخصوص القهوة، وذهبت إلى الدارخانة، وبيدها كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا».
وجاء الجنرال فون والنستين نحو الساعة التاسعة، فأعلن قدومه إليها.
فأسرعت لمقابلته عند الباب قائلة: أهلا وسهلا بالجنرال، أنا مسرورة جدا برؤيتك مرة أخرى، وكانت جهان ترحب بالجنرال وعلى ثغرها ابتسامة ساحرة كأن لم يكن من مؤثر في عقلها وروحها، أو كأنها في ساعة أنس وحبور؛ فدهش الجنرال من تصرفها، وعبثا حاول إيجاد سبب للريبة فيما رآه منها، جميل يصعب عليه حتى على من هو أبعد منه نظرا وبداهة في الخاطر في مثل تلك الحال أن يخترق حصون أنسها ومجاملتها، فلقد أجادت في التكليف والمصانعة، متقنة دور السحر والتظاهر، وهي بما ارتدته من اللباس العثماني الذي لم يقابلها به قبلا قد ازدادت فتنة وجمالا، وقد خطر في باله في الحال أنها لم يبلغها خبر قتل أبيها، ولهذا لم يكن عنده شك أنها تزينت لأجله؛ لأجل عشيقها، لأجل من ظفر بها، وإنه لسماجة منه وفظاظة أن يكدر خاطرها الآن، ويفاجئها بالخبر، فإنه بهذا العمل يهدم معاقل آمالها، ويخيب رجاءها، ويذبح حلمها، وحلمه أيضا بما كان يجول في نفسه من التمنيات الحيوانية، إلا أنه لم ير مناصا له من الإلماع إلى الموضوع في الأقل، فكان عليه أن يقول شيئا يطمئن بالها.
فدنا منها جالسا على الديوان، وقال: إنه ليصعب على المرء، ليستحيل عليه أن ينجز بسرعة مقاصده، وينفذ الأهم من أوامره في هذه الأيام. - قد يعزر وزير عثماني لم ينجز في الحال أوامر جنرال ألماني على أني أراه إبطاء عاديا أصبح صفة لازمة لدوائر الحكومة. - بالتمام، بالتمام، هذا هو الواقع.
قال هذا متنفسا الصعداء، فإنه رأى فيه فرصة للتملص من الوعد، وللنجاة من حراجة الموقف، ولكي يحول الحديث إلى نقطة أخرى تبعده عن الموضوع، توقف قليلا ثم قال: وماذا كنت تطالعين عندما أقبلت عليك؟ - كنت أطالع كتاب نبيكم عن «الوحش الأشقر».
ودلته على العنوان، وعيناها تبرقان غنجا وسحرا. - نعم إن نيتشى من أعاظم نوابغنا، ويقال إنه شاعر أكثر منه فيلسوف، أما أنا فلا أحفل بكتاباته، وطالما حاولت مطالعة هذا الكتاب فلم أستطع ذلك، ولم أنه إلا صفحات قليلة منه، والسبب طبيعي؛ فإن نيتشى كثير الخيال، وهذا ما لا يرغب فيه الجندي، ولكن ما أجملك وما أبهاك بهذا الزي الوطني! - في سبيل إعزازك وإكرامك أيها الجنرال.
قالت هذا مخفية في الحال لحظة ذابلة رمته بها، أما هو فتناول يدها وكله هيام، فضغط بها على شفتيه مقبلا إياها.
ودخل إذ ذاك سليم بطبق القهوة، فتناولت جهان الفنجان العائم عليه حب الهال، وهو دليل لها لأخذه دون الآخر الذي قدمته إلى الجنرال.
رشف الجنرال قهوته ساكتا، وعيناه ترقبان حيطان الدارخانة الفخمة، فلاحت منه نظرة إلى متحف السلاح. - لأبيك مجموعة سلاح جميلة. - نعم إن له متحفا للسلاح يروق لناظره، فهذه قطعة مغشاة بالصدأ، ولكنها من أثمن التحف التي كوفئ بها والدي من آثار الجيل الرابع عشر، وقد أهداها إليه السفير الفرنسوي، وهذا السنان هدية أحد زعماء العشائر العربية، وهذا النصل الدمشقي غنمه أمير بلوخستان في إحدى المعارك الدموية، وقد حفر عليه الأمير أثرا تاريخيا.
وأنزلت سيفا شهرته بزلاقة من غمده المصدأ.
أتقرأ الكتابات الأثرية أيها الجنرال؟ - كلا، ولكني أراه حساما بديعا، وما أجمل قرابه المرصع، أظن حجارته حقيقية؟ - نعم، فهي من الزمرد والياقوت، وقد نضدها أمير هندي، فجاءت خالية من الترتيب والإتقان، وهذا حسام أظنه من صنع هذا العصر في ألمانيا، وهو هدية السلطان عبد الحميد إلى والدي يوم تقلد مهام الصدارة العظمى. أما هذا السيف المكسور، فله حكاية غريبة في بابها، وهي أن ضابطا يونانيا جيء به أسيرا إلى والدي في أحد سهول تساليا إبان حربنا الأخيرة مع اليونان، فأمره والدي أن يسلم سيفه، فأبى قائلا: إنه ورثه من أبيه الذي ورثه عن أجداده، وقد بقي أثرا تاريخيا في عائلتهم، ولهذا فهو يؤثر كسره على تسليمه للأعداء، وإذ سمع والدي كلامه سر من بسالته، وشرف روحه، فسمح له أن يستبقي السيف، إلا أن ذلك الضابط اليوناني الشاب لم يرض بسيفه أن يعود إليه هدية من تركي، وقد ظل سحابة نهار كامل يستكبر الأمر ويستهوله حتى كسره على ركبته، ثم أطلق نار مسدسه في رأسه فمات منتحرا، ولهذا احتفظ به والدي بالرغم من كسره؛ تذكارا لتلك الحادثة، وإكراما لذلك اليوناني؛ اليوناني باسل شريف النفس ولكن التركي أشرف منه وأنبل؛ ولهذه المدية أيها الجنرال لسان ينطق عن حادثة محزنة، وهي أنه لما كان والدي ملحقا عسكريا في السفارة العثمانية في باريس، كان يتردد علينا نائب فرنسوي قريب من عمرك، وكان يجيد التركية إذ تلقى علومه في الشرق، وقد سمح والدي لأمي التي كانت من جميلات العصر أن توافي الصالون حاسرة القناع؛ ولهذا أكثر النائب زياراته، وكثيرا ما أشرك زوجته معه بزياراتنا، وقد دعيا والدي يوما إلى منزلهما خارج باريس، ولم توجس أمي شرا من تلك العلائق الودية، حتى جاءها النائب ذات مساء بينا أبي كان في التياترو مع أصحابه، فتقدم إليها راكعا على ركبتيه، مقبلا قدميها، مفصحا عن شدة تعلقه بها وهيامه فيها؛ فأنكرت أمي عليه ذلك نافرة، وللحال انقلب النائب من إنسان إلى وحش؛ إذ حاول أن يرغمها لإرادته، إذ ذاك عمدت أمي إلى الحيلة لتخلص من شره، فجرته إلى حيث كانت هذه المدية - هذه المدية بعينها - فقبضت على لحيته وطعنته طعنة في قلبه قاضية، وقد تناولت صحف باريس هذه الحادثة، وبرأ الرأي العام ساحة أمي، ولكننا اضطررنا بعدئذ أن نغادر باريس.
وقد استغربت جهان ما ظهر من قوة الاختراع والتصور فيها، فلفقت حكاية عزت حوادثها إلى أمها، ولم تدر كيف خطرت في بالها، إلا أنها ناسبت المقام، وخدمت قصدها في الجنرال، ولكنها لما نظرت إلى وجهه شاهدت فيه علائم الحيرة والاضطراب، وقد ألبسها لباس التيقظ والاحتراس، فقد كان ينظر إليها واجما باسما معا، وهي واقفة أمامه وبيدها المدية، أما هي وقد آنست منه التحذر، فتندمت لإثارة هواجسه، وللحال عادت تطمئن باله فقالت: ولكن أجمل ما في المتحف من القطع وأثمنها إنما هي في قاعة أخرى، فهلم أريكها إذا شئت.
تبادر إلى ذهن الجنرال أنه لفي موقف لا يخلو من خطر، ولكنه ما لبث أن عاد إلى طمأنينته إذ تقدمته جهان إلى غرفتها بين هو يتمشى وراءها، متأملا قوامها الرشيق، وجمالها الفتان.
أدخلته قدس أقداس الحريم العابق بالروائح العطرية التي تسكر النفس، وتذيب الفؤاد، ولقد ظن بادئ ذي بدء أن كل ما كان أمامه وهم لا حقيقة ما خلا اليد التي أمسك بها، والعينين اللتين حدق بهما، وتلك الطلعة الجميلة؛ طلعة جهان! وذاك القد قدها اليتيم الذي ضمه إليه، فأضرم في نفسه النار وهي تشعر بحقيقة حال يفوق جمالها جمال التصور والخيال. - لا، لا، ليس الآن.
قالت هذا جهان متطلعة فيه بعينين عاشقتين ذابلتين وهي تبتعد وتقترب منه كلهيب النار في موقد كانون.
أما السيف الذي أرادت أن تريه إياه، فقد كان معلقا على الحائط فوق الديوان، فأنزلته قائلة: هذا أثمن السيوف وأجلها معنى، وهو أثر تحتفظ به العائلة، عائلتنا؛ لأنه جاء لوالدي بالتوارث عن أحد جدوده يوم حارب المسيحيين عند أبواب فيانا! أما أبي فلما قضى آخر أولاده استأمنني عليه قائلا: ليكن هذا السيف من نصيب عريسك الذي سيرث شرف أجدادك المقدس.
فتناول الجنرال ذلك السيف معيدا كلمتها «عريسك»: هذا هو السيف الذي أضعته، السيف الذي كان يجب أن أرثه، نعم. - هو تقدمة مني إليك أيها الجنرال. - لله درك من حسناء كريمة الأخلاق، بهية الطلعة، حلوة المحيا.
وقد تنحت عنه مرة أخرى أيضا حائرة بأمره مترددة قائلة: لعل سليما قد غلط بفنجال القهوة إذ قد نفدت حيلتها التي تظاهرت بها متلبسة صفات غير طبيعية فيها، ولهذا بدأت تشعر بعناء وقلق خائفة أن تكون لم تحسن ترتيب الأمر، أو أن يعود إلى ما سبق له من قلق البال، وإيجاس الشر بالرغم من أنها جاهدت في استبقاء رشدها، والمحافظة على التكتم بما تظاهرت به. - لم يحن الوقت بعد، اجلس ودعني وحريتي هذه الليلة، السيف لك، وأنا أيضا، و... و... وسأعود إليك في الحال.
وخرجت من الغرفة تاركة ضيفها على الديوان، أما هو فتناول السيف مرة ثانية مجيلا نظره في ما نقش عليه بالتركية، مقلبا إياه بيده، معجبا بنصابه المطعم بالذهب، وكان ذلك التطعيم عربيا، وهو آية من القرآن لا تروق لمسيحي ما، ولا يحب سماعها وهي:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، والضمير في هذه العبارة عائد إلى الكفار المشركين، إلا أن جهل الجنرال اللغة كان بركة ونعمة، ثم أنعم النظر بالغمد المرصع بالحجارة الكريمة، ممسكا بالنصاب على طول ذراعه، وضغط بسنانه على البلاط ليراه يلتوي، فتبسم قائلا: لقد أصبح ملكي، وجهان، حوريتي، سلطانتي العائدة إلي قريبا هي لي ليلة واحدة أخرى في الأقل.
ومرت عشر دقائق قبيل أن عادت جهان وهو ينتظرها بصبر كاد أن يفرغ، وبعدئذ أخذ يتمشى في الغرفة، ولم يزل السيف في يده، وقد شعر بتخدير دب إلى يديه ورجليه، وبدوار استولى عليه بتدريج، فرمى بنفسه في الديوان، وأسند رأسه إلى وسادة شاعرا أن يدين خفيفتين كانتا تؤاسيانه وتلاطفانه، وأن شيئا غريبا استحوذ على صوابه، وامتلك رشده، وأن الإغماء استولى عليه، وقبل أن يغمض عينيه في الرمق الأخير الذي هو ليس بيقظة ولا بنوم رأى شبحا من الجمال والبهاء يتقدم نحوه، ودخلت جهان القاعة، فنظرها الجنرال آخر مرة في حياته؛ لأنه في تلك اللحظة سقط السيف من يده، ونام نوم الموت.
اقتربت منه جهان لتتأكد حقيقة حاله، فحلت عرى سترته وطوقه تبدو منه رقبته، وتناولت السيف محدقة بجثمانه الجامد الهادئ الذي كان منذ هنيهة هائما دنفا ملتهبا شهوة وغراما، ثم تراجعت خطوة مترددة، مذعورة ، ولكنها نشبت للحال كالنمرة صارخة، باسم الله، إما تضحية وإما انتقاما؟ وكانت يدها ثابتة لا ترجف، ولم تخطئ طعنتها النجلاء، فتدفق الدم من حبل وريده ملطخا فستانها، جاريا كالنهر على الديوان، وعلى البلاط الرخامي الأبيض، ملوثا حذاءها، فراعها مرأى الدم وأرعبها، ولهذا هرولت من الغرفة حافية صارخة: لقد نحرت الوحش الأشقر، لم يعد الوحش الأشقر في قيد الحياة.
ودخلت الدارخانة محكمة قفل الباب، وقد صور لها الوهم أن أحدا رآها كما هي رأت مصرع أبيها، وأنه لاحق بها، فارتمت على الديوان لابطة الكتاب الذي كان هناك، واحتملت رأسها بيديها كأنها تريد أن تهدئ ما فيه من ثورة الخوف والرعب، ولقد تراءت لها الرؤيا مرة أخرى؛ فكان أمامها بوابة النعيم، ولكنها خالية من الوحش الأشقر، فقد ذبح ذلك الوحش، ومات إلى الأبد، ولكنها وثبت بغتة من على الديوان، وفي عينيها حملقة تنطق عن جنون طرأ عليها في تلك الساعة، فصاحت ذعرا وألما، وقد رأت أمامها بدلا من وحش واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، جمهورا كبيرا من الوحوش.
ثم صرخت بملء صوتها: لا، وهي تلف ضفائر شعرها حول عنقها، لا إنهم لن يستطيعوا أن يدركوني، كلا، كلا.
وأسرعت إلى الجهة الأخرى من الغرفة تدوس كتاب نيتشى على الأرض، فأنزلت المدية التي لفقت فيها حكاية أمها مع النائب الفرنسوي.
ثم عادت جالسة تفرك بأنامل يمناها معصمها الأيسر، مستجمعة نظرها في مكان واحد، وهي تصيح: كلا، إنهم لن يدركوني أبدا، هنا، هنا تماما، رأيتهم بأم عيني، رأيتهم يذبحون بالسكين.
ما قالت هذه الكلمة إلا وتجعدت شفتاها متصلبتين مكشرتين ألما ممزوجا بهول استحال تدريجا إلى ابتسامة صفراء؛ ابتسامة الموت، فمدت ذراعها وهي تميل بوجهها من الدم المتدفق منه.
أبتاه اصفح عن ابنتك، بدرم إن الوحش الأشقر لم يحيا ليفاخر بانتصاره، ابتاه لقد ذبحته بسيفك - بدرم ذبحت الوحش الأشقر - الوحش الأشقر قد مات.
وبدت قدماها البيضاوان إذ مددت رجليها المغطاتين بالأخضر كأنهما زنبقتان تدلتا من ساقهما، زنبقتان ألوتهما ريح الصبا، وبدا وجهها المتوج بضفائرها الذهبية كالموجة المغشاة بالزبد الظاهرة عند الشفق إبان بزوغ الشمس.
أما المدية وكتاب نيتشى، فقد كانا على الأرض إلى جانب الديوان، مغموسين بالدم كأنهما يشهدان شهادة حق على ما ينبغي أن يموت في الشرق وفي الغرب قبل أن تولد روح العالم الجديدة.
Unknown page