وفي أواخر أغسطس اهتدى أحمد عاكف إلى شقة خالية بضاحية الزيتون، في بيت يملكه موظف بإدارة الحسابات بالأشغال ممن كانوا يعلمون برغبته الملحة في الانتقال، وكان يسكنها موظف اضطر إلى فسخ عقدها لنقله إلى إحدى البلدان، فدعا صاحب البيت أحمد وحدثه بشأنها وتم الاتفاق بينهما سريعا على أن يتم الانتقال في أول سبتمبر موعد إخلائها، وسرت الأسرة بقرب الرحيل عن خان الخليلي وذكرياته السود، على رغم أنها ترحل عنه مهيضة الجناح، وقد ألم بالأب ضغط دم نغص عليه عزلته، ونال الحزن من الأم فأصابها بالهزال وأغاض مرحها وألبسها ثوب الكبر، بيد أن أحمد - على حزنه - رأى في الأفق نجوما تخفق. تحدثوا في تلك الأيام عن إنصاف المنسيين من الموظفين، وباتت الدرجة السابعة قريبة المنال، وكان دائما يستهين بالوظيفة والموظفين، ولكنه سر في باطنه بالترقية المنتظرة، وسره أيضا أنه سيصير رئيسا على أربعة غير ساعي بريد الوارد، ونوى صادقا أن يجعل من عهد «رئاسته» فتحا جديدا في حياة الإدارة الحكومية يضرب فيه المثل الأعلى للرئيس «العالم الحكيم»! ثم من يدري بعد ذلك بما يخبئه الغيب؟ فأمامه في الحكومة خدمة طويلة تناهز العشرين عاما، وعسى أن يرقى درجات أخرى؟ وعسى أن تحسن الحكومة الاختيار ولو أخيرا! وليس هذا كل شيء، فقد حدث أن اصطحب أمه إلى المسكن الجديد ليعايناه، وهنالك دعاهما صاحب البيت إلى شقته فاحتسى معه القهوة في حجرة الاستقبال، ودعيت والدته إلى حريم الرجل، وعند عودتهما معا أثنت أمه على زوج صاحبه وشقيقته، وقالت عن الأخيرة: إنها أرملة في الخامسة والثلاثين على أدب وجمال. ونشط خياله! أرملة في الخامسة والثلاثين، على أدب وجمال يحويهما بيت واحد، وهو أعزب في الأربعين، وزميل شقيقها، ولا فارق في السن من ناحيته ينفر، ولا شباب غض من ناحيتها تتيه به عليه. والظاهر أن الحياة لا تريح من الأمل، هل يعلم الغيب كله إلا الله؟ بيد أن هذه الأحلام لا تتفق ورباط رقبته الأسود! رباه، ما لأحلامه تحلق في غير حياء؟ ولا يبعد في تلك اللحظة أن تكون نوال تسترق النظر إلى أحمد راشد مثلا، وهكذا تسير قافلة الأحياء لا تلوي على شيء كأنها لم تفقد بالأمس القريب من كان يحل منها بالمكان المرموق. حياة صماء قاسية كالتراب، ولكنها تنبت الأمل كما ينبت التراب الزهرة اليانعة. حزن أحمد حزنا شديدا، ولكن لم يكن من الأمل مفر.
وأخذوا للرحيل أهبتهم، فلفت الأبسطة، وفكت الدواليب والأسرة ، وجمعت الأواني والكتب وقطع الأثاث، واعتزم السير غدا.
وعند عصر ذلك اليوم وفدت نسوة العمارة لتودع الأسرة الراحلة، وكان أحمد لا يزال في حجرته، وجاء فيمن جاء منهن الست توحيدة ونوال، وجلسن جميعا في الصالة الخارجية لأنها المكان الوحيد في البيت الذي كان صالحا للجلوس وقتذاك، ولبثت الست توحيدة ونوال بعد انصراف الزائرات. وجاء موعد ذهاب أحمد إلى القهوة ليودع صحابه، فلم يجد بدا من المرور أمام الزائرتين، ولكن السيدة نهضت قائمة عند ظهوره ومدت له يدها وهي تقول: كيف أنت يا أحمد أفندي؟
فسلم عليها في ارتباكه المعهود وهو يقول بصوت خفيض: الحمد لله يا سيدتي، شكرا لك.
ونهضت نوال لنهوض أمها، فتحول إليها مادا يده كذلك، والتقت يداهما لأول مرة، فسرت في بدنه رعشة، فلم ينبس بكلمة، ولم يرفع عينيه.
وقالت السيدة: ما زلت أعتذر لوالدتك عن سلوكنا، ولعلك تقيم لنا العذر يا أحمد أفندي، ووالله كان المرحوم عزيزا علينا أثيرا لدينا وربنا يعلم.
فقال الرجل المرتبك المضطرب: كلنا نقيم لكم العذر، وللضرورة أحكام يا سيدتي.
ودارت المرأة بلباقة حول الموضوع، وشكرت أحمد لأدبه وحسن تقديره للأمور. ثم استأذن الرجل في الانصراف وسلم على السيدة ومد يده لنوال مرة أخرى، وفي هذه المرة، واليدان مجتمعتان، خطف من وجهها نظرة بعينيه الخجولتين، ثم اتجه نحو الباب، كانت أول مرة تلتقي العينان عن قرب، ولم يكن نظر فيهما منذ مداعبات النافذة والشرفة على عهد الأمل الأول، فخال أنه طالع فيهما ما كان يطالع من صفاء وحنان وتطلع، فدق قلبه وهو يحث خطاه وطرفت عيناه في هياج عصبي. ربما كان موقف الوداع هو المسئول وحده عن كل ذلك، فالوداع يستثير حتى عطف أولئك الذين لا يعطفون في غيره من المواقف، وهكذا اعتذر لضميره، بسيكولوجية الوداع هذه، عن انفعاله وتأثره وخطفه النظرة، خاصة حين خطرت على فؤاده ذكرى رشدي ولاحت لعينيه صورته المحبوبة وكأنها تبسم إليه في عتاب، وراح يحادثها بلهجة حزينة مؤثرة: «معذرة يا رشدي، إنه الوداع وأنت أعلم بالوداع ، وإنه الألم وأنت أخبر بالألم، ولن تجد مني بعد الآن ما يستحق عتابك.» وبلغ قهوة الزهرة، والله وحده يعلم متى يتاح له أن يغشى قهوة مرة أخرى، واستقبله الصحاب استقبالا حافلا يليق باللقاء الأخير، وأمسكوا عما كانوا آخذين فيه من أسباب الحديث ليفرغوا لوداع الجار العزيز، وقال له المعلم نونو متسائلا: أتنسانا يا ترى؟
فقال أحمد وهو لا يدري إن كان يصدق في قوله أم يكذب: معاذ الله يا معلم.
وقال المعلم زفتة: ولكن الزيتون هذه بلدة بعيدة لا يبلغها طالبها إلا بالقطار!
Unknown page