فلزم الصمت لحظة قصيرة، ثم قال بأسف: لعن الله المرض، الله يكفيكم شر المرض!
وانزعج أحمد انزعاجا كبيرا، وعادت أمه بالقهوة فاحتسى قهوته في سكون؛ وخاف أن يعود الشاب إلى كلامه المزعج، ولكنه لم ينبس بكلمة، فارتاح ارتياحا خفيفا ، وحسب أنه استرد حالته الطبيعية، وجعل يسترق إليه النظر، فهاله تراخيه، لون وجهه، ومنظر ساقيه، وحدث نفسه متحسرا: أهذا أنت يا رشدي؟! تبا للمرض!
وذهب الرجل إلى القهوة متأخرا عن موعده، وكان يجد فيها بعض الراحة لأعصابه المتوترة، ونفسه المحزونة، فمكث بها حتى منتصف العاشرة، ثم عاد إلى البيت، ومر بحجرة أخيه، فوجده قد تعاطى المنوم واضطجع في طلاب النوم، ولكنه لم يكن نام بعد فرد تحية القادم قائلا: مساء الخير .. هل عدت؟
فقال أحمد وهو يتفحصه بعينيه: أجل .. كيف حالك؟ - الحمد لله .. كيف شاي الزهرة؟ - كعهدك به.
فقال بصوت لم يكد يسمع: هنيئا!
وتركه لينام ومضى إلى حجرته، وخلع ملابسه، كان منقبض الصدر متوتر الأعصاب، وترامت إلى أنفه رائحة نتنة فازداد صدره انقباضا وأعصابه توترا، ترى هل للهواجس التي تضطرب بها أعماق النفس رائحة تشم؟! وحاول أن يغيب عن أفكاره ساعة بالقراءة. ثم نهض لينام، فلم يغمض له جفن حتى مضت ساعة طويلة من الأفكار والوساوس، واستيقظ في الصباح الباكر على حركة في البيت فتنبهت حواسه، ونظر في الساعة فوجدها الخامسة. فتساءل ما الذي أيقظهم في هذا الوقت المبكر؟! وغادر الفراش، وانطلق إلى الخارج يساوره قلق وخوف، وقبل أن يخطو خطوتين في الدهليز المفضي إلى حجرة رشدي انفتح باب الحجرة بقوة وبدت أمه على عتبته وقد رفعت ذراعيها فوق رأسها كمن يستغيث، ثم هوت براحتها على خديها تلطمهما بعنف وجنون.
48
وكان يوما فظيعا مروعا، سارت قافلته في هول من الألم والعذاب والشجن، وأن أحمد ليذكره ساعة ساعة لأن ذكرياته السود حفرت في فؤاده كما حفرت في فؤادي الوالدين البائسين، فساعة دخوله الحجرة سار متثاقلا بقلب كسير وعين مذعورة لما ينتظر أن تراه، ومد بصره نحو الفراش فرأى رشدي راقدا وقد سجته أمه بالغطاء ووالده واقفا على كثب منه دامع العينين منكس الرأس، فاقترب من الفراش وحسر طرف الغطاء فرآه كالنائم لم تتغير منه هيئة ولا لون، وهل ترك المرض للموت شيئا يغيره؟! وانحنى عليه فلثم جبينه البارد ثم أعاد الغطاء كما كان، واستسلم لبكاء غزير تجمعت أبخرته في قلبه يوما بعد يوم تنفثها الآلام حتى تكاثفت في برودة الموت فسحت دمعا فياضا.
وموقفه في حانوت بالغورية: يبتاع كفنا، ويذكر ما ابتاع له بالأمس من ثياب الدنيا، انتقى له أجمل الألوان لما عهده فيه من حب الأناقة، وجعل ينظر إلى يدي البائع، وهو يقيس القماش ويقطعه ثم يلفه، بإنكار وذهول.
ثم ذهابه إلى مركز الصحة لاستخراج تصريح بالدفن، سأله موظف بعدم اكتراث: «اسم المتوفى؟» فأجابه وهو يود ألا يسمع صوت نفسه: «رشدي عاكف» ثم قال لنفسه بذهول: «رشدي عاكف مات! أفظع بها من حقيقة» وسأله بنفس اللهجة الباردة: «عمره؟» فأجابه: «ستة وعشرون عاما» فسأله: «المرض؟» فسماه والغضب يضطرب في جوانحه، وهل ينسى ما فعل بالشاب المنكود؟ هل يمكن أن ينسى منظر الساقين والعنق؟ لون البشرة؟ .. قسوة السعال؟ ثم تسلم الورقة التي لا يمكن أن يغيب رشدي في باطن الأرض إلى الأبد إلا بها، ومضى شاكرا! وقد أحدث عدم اكتراث الموظف والدكتور ثورة في صدره على وشائج الإنسانية جميعا، كيف يلقى الموت بعدم اكتراث وهو أفظع حدث في الدنيا! هل يمر يوم دون أن يرى نعش محمولا على الأعناق؟! فكيف يمرون به مر الكرام كأن الأمر لا يعنيهم؟! كيف لا يرى كل فرد نفسه محمولا على هذا النعش؟!
Unknown page