وهنا قال المعلم زفتة متمما الحديث الذي قاطعه المعلم شمبكي بشكواه العائلية: واقتنوا خاصة السجاجيد الفارسية فالذهب ربما انخفض سعره، وكذلك النحاس، أما السجاجيد الفارسية فتزيد نفاسة مع الزمن، المرأة القديمة لا تساوي مليما أما السجادة ...
وعاجلته الست بلطمة على صدره فصاح: الضرس الباقي وقع ...
فقالت له: يا حشاش يا مجنون نحن نتكلم في الزواج، فما دخل السجاد؟! - لا تغضبي يا ست، فالصبر مفتاح الفرج، وما دمت ترغبين في حمل المعلم شمبكي على الزواج مرة أخرى فسأقص عليه نادرة تغريه بالزواج، (والتفت إلى شمبكي) واستمر يقول: عاد شيخ إلى بيته بعد سهرة طويلة فرأى زوجته نائمة على فراشها، وكانت تتيه عليه إدلالا بحسنها حتى كفرت عن سيئاته، فمر بها إلى فراشه وهو يقول بصوت منخفض: «الفتنة نائمة!» فما كان منها إلا أن أمسكت بطرف الجبة وهي تقول «لعن الله من أيقظها!»
وشعر أحمد عند ذاك باختناق ولم يعد يحتمل جو الحجرة، ونفد صبره، فنهض قائما كالمترنح، وجذبت حركته الأنظار، فسأله المعلم نونو: إلى أين؟
فقال بصوت لا يكاد يسمع: حسبي هذا! - هذه نهاية البداية! وما يزال أمامنا القافية والغناء والذهول الحقيقي.
ولكن الرجل أصر على الاعتذار، وتحرك في بطء وتثاقل فقال المعلم زفتة: أأقراصك نجحت أيضا؟!
وغادر الشقة: وأمسك بالدرابزين ونزل متثاقلا وما زال يهبط ثم يهبط حتى خال السلم مفضيا إلى مركز الأرض، ولكنه انتهى إلى الطريق وخبط راجعا إلى حجرته بعد أن قام بأخطر رحلة في حياته، وكانت الساعة تقترب من الثانية فخلع ملابسه في إعياء، وأطفأ النور واستلقى على الفراش، ولم يسارع إليه النوم كما توقع، وتبين له أن تحت جفنيه يقظة قلقة حائرة وشعر بقلبه يطلق خفقات سريعة مضطربة خالها تشيل الغطاء وتحطه، وتزاحمت الصور بمخيلته فالتبست وغرقت في غموض، إلا صورة واحدة غلبت ما عداها، تلك المرأة الهائلة، فهل يلتمس وصالها كالآخرين؟ ولكن مهلا؟ ماذا يفعل بها، إنها إذا احتضنته صغر وضؤل وصار كالبرغوث في إبط الفيل، كلا ما تلك بامرأة، إن هي إلا رمز لدنيا الشهوة الساخنة التي انغرست قدماه في شاطئها وحملقت عيناه في عبابها، وتضاعفت ضربات قلبه فجف ريقه، وتهيأ له أنه يهوي من عل في فضاء لا نهائي ففزع جالسا في فراشه، وداخله شعور بالخوف واليأس .. ولبث حتى مطلع الفجر يعاني آلاما فظيعة، جسمية ونفسية.
33
ولم يفكر بعد ذلك في معاودة المغامرة، ولم يجد فيه دفاع المعلم نونو وتأكيده أن ما حدث له إنما كان مرجعه إلى أنه لم يطعم حلوا بعد التدخين مباشرة، فأعرض عن إغراء الرجل وقال لنفسه يتأسى كعادته: «الظاهر أن الطبائع العقلية ليست بذات استعداد للتمتع بهذه الشهوات.» على أنه لن يمسي بحاجة إلى هذا المخدر الخطير كي ينسى شجونه، فغدا إذا تم زواج شقيقه من الفتاة برأ هو ونسي، بيد أن رشدي ما يزال يخبط في سبيله على غير هدى، ولم يخفف من غلواء عبثه واستهتاره، فلم يسترد عافيته بل وساءت حالته، ولم يعد يخفى على عين إنسان هزاله، واستحال شحوب وجهه صفرة، وجعل يتناوبه سعال شديد ثم فترت شهوته للطعام، فهال أحمد أمره، وقال له بلهجة حازمة: كأنك لإهمالك صحتك قد عدلت عن آمالك! لماذا لم تأخذ نفسك بالاستقامة حتى تسترد صحتك؟ لذلك استعصى شفاؤك من مرضك الأول وأصابك هذا السعال الشديد، وما ينبغي لك بعد اليوم أن تعاود السهر أو الشراب، فماذا أنت فاعل؟!
ولم يكابر رشدي كعادته، لأن وطأة السعال كانت شديدة عليه، فقال بتسليم ليس من دأبه: سمعا وطاعة!
Unknown page