وبرأ رشدي مما ألم به، وغادر فراش المرض، ولم يكن هينا عليه أن يلزم الفراش أسبوعا كاملا، وهو الذي لا تطيب له الحياة إلا في تجارب اللهو واللعب واللذات، ولذلك هاله أن ينصحه أخوه بالبقاء في البيت والإخلاد إلى الراحة ريثما يسترد قوته، فضحك كعادته وقال كالآسف: حسبي أن ضاع من العمر أسبوع هدرا!
فاحتد الذي ضاع عمره كله وقال: أحذرك الاندفاع فيما أنت آخذ فيه، فإنك تستحل شبابك للعدم كأنه معين لا ينفد، ولا تعبأ أبدا أن تنال حقك من الراحة، فأي جنون هذا الذي تطيع؟!
ولمس رشدي في لهجة أخيه غيرته على صحته، فابتسم ممتنا وقال: دمت من أخ كريم ، متعني الله بقلبه الكبير. - إني أرشدك لما فيه صلاحك!
فقال الشاب الشكور المحب: وهل داخلني في ذاك شك؟!
ولكنه لم يعن باتباع الإرشاد الذي لا يداخله فيه شك، وفي صباح اليوم التالي رآه أحمد يستجمع لخروجه الباكر، فتولته الدهشة وسأله بإنكار: ماذا أنت فاعل!
فقال بشيء من الارتباك: إلى المصرف! - وما الموجب للعجلة؟
فعدل الفتى عن المداراة وقال بصراحة محزنة: أخي، لا أكتمك أن البيت يسقمني!
وعلم أحمد بما يغريه حتما بالاستهانة بصحته، فانقبض صدره وأخفى بصره في فنجان القهوة، ومضى الآخر إلى سبيله، وأرادت الأم - وكانت جالسة إلى السفرة - أن تخفف من وقع مخالفة الشاب لنصح أخيه فقالت تعتذر عن سلوكه: شفاء أخيك في الدنيا الواسعة لا في البيت، فلا تؤاخذه!
ولما لم ينبس بكلمة ظنته غاضبا فقالت تستوهبه ابتسامة: أليس هو ابن أمه؟ ومن شابه أمه فما ظلم، ألا ترى إلي كيف يركبني الهم إذ لزمت البيت وحيل بيني وبين زيارات الأحباب! فكلانا عدو البيت.
وضحكت ضحكتها الرنانة فابتسم الكهل ابتسامة لا لون لها، وما كان شيء بمثني الشاب عن حياته المحبوبة، فارتمى مرة أخرى بين أحضان الحب والقمار والشراب والتدخين والنساء؟ استرد نشاطه المعهود ولكنه لم يسترد صحته، فلم يزايله الهزال، واشتد لون وجهه شحوبا وبدا وكأنه بقي من مرضه شيء لا يفارقه، وإذ كان أحمد منشغلا بنصحه كان الشاب منشغلا بالتفكير في أمور أخرى، فدخل على أخيه عصر يوم - قبل موعد خروج الرجل إلى القهوة بقليل - وحياه بابتسامته اللطيفة وقال: هل تأذن لي بالتحدث إليك قليلا؟
Unknown page