فكبر عليها قوله وصاحت به: أينسى الكريم أحبابه؟! .. هن روحي وحياتي، ولن يفرق بيننا البعد مهما امتد وطال. - ونساء الحي من أي نوع هن؟!
فقالت المرأة باهتمام وبلهجة من ينبري للدفاع: لسن من السفلة ولا من الفجر كما ظننت، وبعض الظن إثم، وكان بين اللائي زرنني زوج موظف بالمساحة يدعى كمال خليل، وزوج آخر بالمساحة أيضا يدعى سيد عارف، وجاءتني أيضا زوج صاحب مقهى الزهرة وشقيقته، والزوجة امرأة طيبة القلب، أما شقيقة زوجها فينطق في عينيها المكر والشر، وإن سترت ذلك كله بغلالة شفافة من الرقة والابتسام! - داريها هي وأمثالها باللطف، فإنه إن يبلغها شيء عنك من وراء وراء كشفت وجهها علينا! - لا سمح الله يا بني، أما أعجب ما صادفت اليوم فهو أن الست توحيدة حرم كمال أفندي خليل - وهي جسيمة كالمحمل أو كأمك أيام شبابها - صديقة قديمة .. عرفتها في دكان بهلة العطار بالتربيعة. - وأنتما تسعيان معا إلى وصفات السمن! - هو ذلك .. وتبادلنا التحية هناك مرات، ولكننا لم نتقدم وراء ذلك في سبيل التعارف! - ها هي ذي الأيام تعارف بينكما!
ثم ذكر أن هذه السيدة أم الغلام محمد! .. ولم يكن ذكره في نهاره إلا حين جاء ذكر أمه، فعجب كيف نسيه طوال ذلك الزمن، وقد كان قبل عشرين ساعة ملء القلب والخيال! ولكن أمه لم تدعه لأفكاره فضحكت ضحكة عالية وقالت: وأخذنا في كذب النساء طويلا وكذب النساء لذيذ، فهذه أبوها فقيه كبير يتبارك الناس بتقبيل يديه، وتلك كريمة تاجر واسع الثروة، والثالثة قريبة مدير حسابات الداخلية، والرابعة مرضت مرضا أنفقت على علاجه عشرات الجنيهات!
وضحكا معا، ثم سألها الكهل وما زال ضاحكا: وكيف كان كذبك؟!
فقالت وهي تحدجه بنظرة ضاحكة: يسيرا لا تثريب عليه يوم الحساب، فأبوك أحيل على المعاش منذ زمن يسير، وكان مفتشا بالأوقاف، وأما أبي - جدك - فكان تاجرا، وأنت يا نور عيني رئيس قلم بوزارة الأشغال، ولك من العمر اثنان وثلاثون عاما لا غير، فتذكر! - يا خبر! - لا فائدة من الاعتراض، وإياك وتكذيب الكذب! وأنا أكبرك بثلاثة عشر عاما، فأنا في الخامسة والأربعين. - هل ولدتني وأنت طفلة؟! - الأنثى تلد في الثانية عشرة من عمرها؟ - هذه أخت وليست بأم. - صدقت فالولد الأكبر أخو والديه، أما أخوك فوكيل بنك مصر بأسيوط!
فهز الرجل رأسه عجبا وقال: كيف تؤاتيكن الجرأة على تزييف حقائق لن تخفى طويلا عن أعين الجار، ولا بد أن تنكشف حقيقتها يوما ما؟!
فقالت ببساطة: غدا تؤلف العشرة بين قلوبنا ونعرف الحقيقة رويدا رويدا بلا سخرية ولا تعيير، ولو أنني قلت الحقيقة بغير زيادة، لما صدقنني كما لا يصدقنني الآن، ولانتقصن من رأس المال بدلا من أن ينتقصن من الفائدة! - يا لكن من كاذبات لا يشق لهن غبار! - وماذا عليك من هذا؟! طوبى لكذب غايته الرفعة والفخر. إن كذب النساء بلسم لجراح دامية، متعك الله بعروس تعاطيك أجمل الكذب وأشهاه!
فضحك الكهل على امتعاضه لذكر العروس وكرر قوله السابق قائلا: يا لكن من كاذبات لا يشق لهن غبار!
ولحظته غامزة بعينيها وسألته: وأنتم يا بني ألا تكذبون؟
وصمت قليلا، لا لأن الجواب غائب، ولكن لأنه تفكر قليلا فيما تنوء به حياته من ألوان الكذب، ثم قال: نكذب، ولكن في أمور أجل! - عسى أن يكون تافها عندنا ما هو جليل عندكم، ولكن هل تعد العمر والفخر بالجاه والسؤدد أمورا تافهة؟! - كذب الرجال جليل كالرجولة نفسها! فأين أنتن من كذب التجار والساسة ورجال الدين؟! كذب الرجال محور هذه الحياة الجليلة التي تشاهدين آثارها في معترك الحكومة والبرلمان والمصانع والمعاهد، بل هو محور هذه الحرب الهائلة التي رمت بنا إلى هذا الحي الغريب.
Unknown page