فقال مقطبا: أنا لا أبالي بعدو ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره ...!
جلست المرأة على كنبة واجمة، فقال: الحلم يفسر بعكس ظاهره، وهذا يعني أنه يحرض ابنه على الانتقام. - كيف وهو ميت من خمسة عشر عاما؟ - كما خاطبني الليلة الماضية!
غالبت المرأة نكدها بابتسامة، وقالت: حينا معروف لا يختفي فيه غريب، وأنت سيده، والله هو الحافظ.
وغادر المعلم حندس منزله، يسير وسط هالة من الأتباع، ويتقدمه سائق الكرتة، ومال من درب الأعور إلى قهوة حلمبوحة، فجلس على الأريكة التي لا يمسها أحد غيره، وراح المعلم يروي حلمه لأتباعه، فضحك طمبورة باستهانة وقال: أي أم تحرض ابنها عليك يا معلم؟
ولكن سمكة كان أميل إلى الحذر، وهو يقول: حارتنا يقتل بعضها البعض مذ خلق الله الأرض وما عليها. - لكن أحدا لم يسمع عن ابن حسونة ولا أمه.
فقال القهوجي عنارة، وكان لحندس بمنزلة الأب: هذا يعني أنه يستطيع أن يوجد في أي وقت، وفي أي مكان!
وضحك المعلم حندس معلنا عن استهتاره، فقال طمبورة: نحن حولك كالجدار.
ولكن عنارة قال وهو يرمش بعينيه الدامعتين المرمودتين: الحلم له معنى، إنه يذكرك بما نسيت!
وذاع الحلم في الحي كله، وكثرت التأويلات، وتوثب الرجال للبطش، وجعل حندس يذهب ويجيء وكأنه لا يبالي شيئا. وذات مساء جاء القهوة الشيخ درديري، وهو مقرئ ضرير، يتعيش من التلاوة في المقاهي والغرز، وتروج سوقه في المواسم. صافح المعلم ثم تلا الصمدية، وقال وهو يتخذ مجلسه بين يديه: يا معلم، إن كنت تريد ابن حسونة، فأنا أعرفه!
سرعان ما تركزت فيه الأعين، وأحدق به الرجال، حاز في ثوان أهمية لم يحظ بعشر عشرها طيلة عمره البالغ الستين. وانتبه إليه حندس لأول مرة في حياته، وكأنما يكتشف عينيه الممطورتين وجبينه البارز كمشربية، وسأله: متى عرفته؟ - منذ عام أو أكثر. - كيف؟ - صدفة وأنا أتجول بين المقابر. - أين يقيم؟ - لا أدري، ولكني دعيت للقراءة في المدفن بالمجاورين في موسم، وهناك عرفته كما عرفت أمه. - ما اسمه؟ - لم يناد به على مسمع مني. - ولم تر وجهه طبعا! - ولكني أعرف صوته!
Unknown page