رفعت رأسها قليلا، ربما لتريحه، ثم عادت إلى الانطواء على المسبحة في عالم لا يشاركها فيه أحد. - من يدري، فلعل حضوري خطأ من أساسه، ولكني مصمم على ألا أندم عليه.
لا كلمة .. لا حركة .. لا اهتمام. - أتتوقعين أن أعتذر؟! .. أن أعترف بخطأ .. أن أعلن الندم؟ .. أنت تعرفيننا خيرا مما نعرف أنفسنا، والكلام لم يعد يجدي، وكلانا قد تغير كثيرا، ولكن صحتك ما زالت بحمد الله جيدة، لعلها أفضل من صحتي.
العبارة الأخيرة غير قابلة للتجاهل إلى ما لا نهاية، سوف تدب حركة. أجل، ستنفجر أولا في غضب وتصب اللعنات، ثم تلين رويدا، وأخيرا ستسمع هذه الجدران دعاء! - أعلم ماذا يقول صمتك، جاء اللص، جاء المجرم، جاء أخيرا، بالله خبريني، هل تطلبت حياتك هنا مالا أكثر مما لديك؟
وركبته رغبة يائسة في المزاح، فتساءل: هل أردت مالا لتجربي حظك في الزواج من جديد؟
وضحك عاليا، لكنه ضحك وحده، وحده. لله هذه القدرة الجهنمية على الإعدام! - ما مضى قد مضى، الدم والأرواح مضت، لسنا أول مجموعة دموية ولن نكون آخرها، وكم هلك لي من أعزة، وقطنت في صدري رصاصة إلى الأبد، ولا تعدي بقايا الطعنات في الفخذ والبطن والرأس، وكنت تبكين وتمزقين شعرك، وكنا وما زلنا نعاني في حياتنا، ما الفائدة؟ ما مضى قد مضى.
ألم تعاهد نفسك على تجنب الذكريات؟ ولكن كيف؟ إنها مستمرة في قتلك، وأنت لم تقطع الوادي من أقصاه لتجلس أمام تمثال من حجر. - إذن، تودين أن أذهب؟! لا أعجب كثيرا ولكني أتيت، وهذا جزء لا يتجزأ من الحكاية، ألم تغضبي بما فيه الكفاية؟ لعنت الأبناء حتى جف صوتك، هالك أن يخرج من بطنك هذا العدد العديد من الأعداء، ولكنه بطنك على أي حال. وخبريني بالله كيف مات أبي، وأعمامي؟ وقيل لي لماذا تذهب بعدما كان، ولكن لا أحد يعلم بسري سواي، وأنا أومن بالغيب إيماني بالدم، والوقت قد فات فيما بدا لهم، ولكني رأيت رأيا آخر، غير أني أود أن أعلم حتام تتعلقين بالصمت؟!
آه! .. فلتعجب بها بقدر ما تحنق عليها، ما أصدقها لنا من أم! لكنك تمثل عناد من تربص يوما في حقل الذرة ثماني ساعات دون حركة. وكم غنيت فوق أشلاء الجثث، وأيدي الإخوة التي قطعتها! وقولك الساخر عن ابني عميك في البلد: «يتحابان رغم أنهما أخوان!» - لا تطرديني دون كلمة، اسأليني على الأقل عما جاء بي، الغبار لم يعد يطاق، والشوك أدمى الأقدام، وأعترف بأن نفسي نازعتني إلى مأوى منسي لأسترد فيه أنفاسي، شعور طبيعي بالحاجة إلى الظل بعد احتراق لعين، وسمعت - إن صدقا وإن كذبا - أشياء وأشياء عن غرابة أطوار الأم، أي أم كما قالوا، ومع أن آخر صورة احتفظت بها منك كانت عابسة باكية لاعنة، إلا أني غامرت بالتجربة.
يا رب السموات! ها هي تتثاءب مرة أخرى، من الضجر لا من التعب، ولكن طلاء القسوة سيتقشر عاجلا أو آجلا ثم يتساقط، والأحزان قد أنضبت في نفسك موارد سخية، ولكني أجلس أمامك بشخصي وشهادة ستين عاما من البنوة، وإن تكن بنوة مفلسة جدباء. - أصغي إلي، أنا لا أسافر عبثا. هكذا خلقت، قيل لي لماذا تذهب بعد ما كان، ولكن لا أحد يعلم بسر ذلك سواي، ومذ قدمت وأنا أتكلم وأنت تقتلين، سأذهب أقسى مما جئت، والساقية تدور ولا تحمل من باطن الأرض إلا العلقم، لم يجئ الأبناء خيرا منا، هيهات أن أعترض، اليوم يقطبون ويتبادلون نظرات ممتعضة، وغدا ينطلق الرصاص، ها أنا أرى المستقبل بعين الماضي الدامية، واليوم تجمعهم صورة عائلية، كما جمعتنا صورة يوما ما، ولكن ماذا عن الغد؟ وكان أن ضجرت، ضجرت حتى الموت، ولكننا نكره الكلمات الطيبة ولا نصدقها، وإذن فلتمض القافلة مثيرة للغبار ولرشاش الدم. ولكن تمادى بي الضجر حتى وقعت، وبعد عشرين عاما من العقوق والنسيان ذكرني الضجر بك! ولكن ماذا أريد؟ أن أرجع إليك؟ ولكن ماذا وراء ذلك؟ ونحن نخجل من العواطف ونتباهى بالكلمات، غير أني أصبحت ذات يوم مقوس الظهر، أزحف على أربع، وكتمت الألم خشية الشماتة، لا شيء سوى الشماتة، وما جاء الظهر حتى أعلمني الطبيب بأني مريض بكل معنى الكلمة، ولست أصدق الأطباء، ولكني لم أجد مفرا من تصديق الألم، وخصوصا وأنه لا يؤلمني إلا الألم الأليم، وانزويت في حجرتي أياما، وأحدقت بي نذر الشقاق بين الأبناء حتى رأيت صفحة المستقبل دامية كالصفحة المنطوية، وتجهمتني الدنيا، وأبيت في الوقت نفسه تذكر كلماتك القديمة، ولكني رأيت حلما.
آه هل تستسلم لليأس؟ وما هذا الألم الذي يدب في أعماقك، أهو نذير نوبة جديدة؟ إذن ماذا تفعل العقاقير؟ ولم هي ليست حاسمة كالرصاص والفأس؟ وأنت أيتها العجوز ماذا بالله يمكن أن يحركك؟ أأقول إنك أقسى منا جميعا؟ لا تضطريني إلى هزك حتى تفيقي، إني إذا صرخت تقوضت الجدران! - حلمت حلما، فلماذا لا تسألينني عما رأيت؟ هل فقدت ولعك بالأحلام وتأويلها؟ اعذريني إذا اعتقدت بأننا إنما ورثنا القسوة عنك، عنك أنت أكثر مما ورثناها عن أبي أو أي جد غابر، لا أحد يمكنه المحافظة على بروده كما تفعلين، وجهك لا يفصح عن شيء، أنت لا تتجاهلين وجودي ولكنك تجهلينه، تجهلينه بكل معنى الكلمة، أنت لا تسمعينني ولا ترينني، من أين لك هذه القوة كلها؟
وانتفض واقفا في انفعال، ذهب مرة وجاء، ثم وقف قبالتها معتمدا على عصاه بيمناه متجهم الوجه: أهذه طريقتك في العقاب؟ لا شك أنك تخيلت هذا اللقاء وتمنيت وقوعه وانتظرته طويلا، قلت سيجيء يوما، سيجيء إذا ألمت به كارثة أو صرعه مرض، سيذكر عند ذاك أمه المنسية، ويهرع إليها سائلا العفو والبركة، وعند ذاك أجد فرصتي للانتقام، سيكفر عن السرقة والنهب والاعتداء والقتل، عن دموعي التي لم يجففها أحد، عن استغاثاتي التي قوبلت بالنهر، عن حبسي الطويل في هذه الغربة، هذه هي الحقيقة، وإنك لأمنا حقا، فأسلوبك هو أسلوبنا، وقسوتك هي قسوتنا، وفي بعض أويقات الإرهاق والملل كنت أتساءل عما شكلنا بهذه الصورة الوحشية التي لا تعرفها الكلاب ولا الحمير ولا البقر ولا الجاموس، وها هي الحقيقة تتكشف لي، إن السيل الذميم المنصهر ينحدر منك يا امرأة!
Unknown page