كلمة غير مفهومة
الصدى
الخلاء
البارمان
المتهم
السكران يغني
جنة الأطفال
فردوس
الرجل السعيد
معجزة
Unknown page
المجنونة
خمارة القط الأسود
زيارة
حلم
رحلة
المسطول والقنبلة
صورة
صوت مزعج
شهرزاد
كلمة غير مفهومة
Unknown page
الصدى
الخلاء
البارمان
المتهم
السكران يغني
جنة الأطفال
فردوس
الرجل السعيد
معجزة
المجنونة
Unknown page
خمارة القط الأسود
زيارة
حلم
رحلة
المسطول والقنبلة
صورة
صوت مزعج
شهرزاد
خمارة القط الأسود
خمارة القط الأسود
Unknown page
تأليف
نجيب محفوظ
كلمة غير مفهومة
تثاءب المعلم حندس طويلا، وهو يزيح الغطاء عن جسده، وجلس في الفراش معتمدا بذراعيه على ساقيه، متقوسا تحت وطأة غم لاحت آياته في وجهه الممتلئ العريض، ورأى زوجته واقفة وسط الحجرة، وهي تجمع شعرها المشعث تحت منديلها البني، فقال بنبرة ناعسة: حلم غريب!
التفتت نحوه باهتمام قائلة: خيرا إن شاء الله. - طول الليل مع حسونة الطرابيشي.
تجلت في عيني المرأة نظرة فارغة من كل معنى، فراقبها بعيني صقر تطلان من سحنة أطبقت على أديمها آثار طعنات وجراح قديمة، ثم قال: حسونة الطرابيشي! .. أنسيت الرجل الذي طمع يوما في الفتونة؟
ندت عنها آهة وتمتمت: نعم .. يا له من عمر! - حوالي خمسة عشر عاما. - وماذا رأيت؟ - رأيته كما رأيته آخر ليلة في الخيامية، صريعا تحت قدمي، والدم يغطي فاه وذقنه وأعلى جلبابه! - أعوذ بالله. - وردد آخر كلماته: «سأقتلك يا حندس وأنا في القبر.» - أعوذ بالله. - رأيتني بعد ذلك أجالسه في مكان غير محدد المعالم، وكنا نضحك عاليا كما كنا نفعل قبل أن تفرق بيننا البغضاء، وقال لي معاتبا: أنت قتلتني. فقلت له: وأنت توعدتني بالانتقام. فضحك طويلا ثم قال: انس كل شيء، أنا نسيت، وأمس زرت ابني وقلت له: لا تفكر إلا في الحياة ودع الموت والأموات للخالق. وجعلنا نضحك حتى استيقظت.
تجمدت ملامح المرأة، وغشيتها سحابة مظلمة من الذكريات، فقال حندس بصدر منقبض: أنت خائفة؟! - أبدا، ولكني أتساءل عن تفسير للحلم. - المهم أنه ذكرني بأشياء نسيتها.
سألته عن «الأشياء» بهزة من رأسها، وهي غارقة في التفسير، فقال: ذكرني بما قيل يوم دفن حسونة من أن زوجته رفعت طفله فوق القبر، ونذرت إن عاش الطفل أن يكون مقتلي على يديه. - ولكن زوجة حسونة اختفت منذ دفنه. - نعم، ولعل طفلها اليوم في عز الشباب!
قالت ملتمسة الطمأنينة له ولنفسها: أنت سيد الحي، رجاله رجالك، وربنا الحافظ.
Unknown page
فقال مقطبا: أنا لا أبالي بعدو ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره ...!
جلست المرأة على كنبة واجمة، فقال: الحلم يفسر بعكس ظاهره، وهذا يعني أنه يحرض ابنه على الانتقام. - كيف وهو ميت من خمسة عشر عاما؟ - كما خاطبني الليلة الماضية!
غالبت المرأة نكدها بابتسامة، وقالت: حينا معروف لا يختفي فيه غريب، وأنت سيده، والله هو الحافظ.
وغادر المعلم حندس منزله، يسير وسط هالة من الأتباع، ويتقدمه سائق الكرتة، ومال من درب الأعور إلى قهوة حلمبوحة، فجلس على الأريكة التي لا يمسها أحد غيره، وراح المعلم يروي حلمه لأتباعه، فضحك طمبورة باستهانة وقال: أي أم تحرض ابنها عليك يا معلم؟
ولكن سمكة كان أميل إلى الحذر، وهو يقول: حارتنا يقتل بعضها البعض مذ خلق الله الأرض وما عليها. - لكن أحدا لم يسمع عن ابن حسونة ولا أمه.
فقال القهوجي عنارة، وكان لحندس بمنزلة الأب: هذا يعني أنه يستطيع أن يوجد في أي وقت، وفي أي مكان!
وضحك المعلم حندس معلنا عن استهتاره، فقال طمبورة: نحن حولك كالجدار.
ولكن عنارة قال وهو يرمش بعينيه الدامعتين المرمودتين: الحلم له معنى، إنه يذكرك بما نسيت!
وذاع الحلم في الحي كله، وكثرت التأويلات، وتوثب الرجال للبطش، وجعل حندس يذهب ويجيء وكأنه لا يبالي شيئا. وذات مساء جاء القهوة الشيخ درديري، وهو مقرئ ضرير، يتعيش من التلاوة في المقاهي والغرز، وتروج سوقه في المواسم. صافح المعلم ثم تلا الصمدية، وقال وهو يتخذ مجلسه بين يديه: يا معلم، إن كنت تريد ابن حسونة، فأنا أعرفه!
سرعان ما تركزت فيه الأعين، وأحدق به الرجال، حاز في ثوان أهمية لم يحظ بعشر عشرها طيلة عمره البالغ الستين. وانتبه إليه حندس لأول مرة في حياته، وكأنما يكتشف عينيه الممطورتين وجبينه البارز كمشربية، وسأله: متى عرفته؟ - منذ عام أو أكثر. - كيف؟ - صدفة وأنا أتجول بين المقابر. - أين يقيم؟ - لا أدري، ولكني دعيت للقراءة في المدفن بالمجاورين في موسم، وهناك عرفته كما عرفت أمه. - ما اسمه؟ - لم يناد به على مسمع مني. - ولم تر وجهه طبعا! - ولكني أعرف صوته!
Unknown page
سأله بازدراء: متى زرت المدفن آخر مرة؟ - في عيد الفطر الماضي. - ماذا يقولان وهما في المدفن؟ - يستمعان للتلاوة أو يتبادلان حديثا لا يستحق الذكر. - ألم يجر الحديث مرة عن الميت؟ - لم أسمع.
نفخ قائلا: لم تقل شيئا يا أعمى!
ولكن عنارة قال بنبرة ذات مغزى: قال إنه يعرف المدفن.
ولما ذهب الشيخ درديري، قال طمبورة: نذهب في العيد الكبير، لنرى بأعيننا. - وبعد ذلك؟ - دعوا الباقي لي! - أنقتله من غير أن يثبت لنا سوء نيته؟ - إنه لن يزيد الميتين عدا، ولن ينقص الأحياء!
وفي موسم العيد، تفرق حندس وأعوانه في البقعة حول المدفن الذي دلهم عليه الشيخ درديري. وقد ذابوا في الزحام الذي ناءت به الأرض بمنجى من الريب، وظلت أعينهم تدور حول المدفن الذي تراءى وراء سوره المتهرئ قبر مكشوف ونخلة وحيدة، على حين قام بابه الخشبي في هزال منحوت القشرة، مزعزع المفاصل، خليقا بأن يقتلع لدى أول لطمة قوية من الهواء. ومر النهار كله دون أن يطرق الباب طارق، وكان الشيخ درديري يسترزق هنا وهناك، وكلما جاء المدفن وجده مغلقا فيمضي في تجواله، واقترب سمكة من الشيخ درديري، وهمس في أذنه: كذبت علينا يا أعمى.
فهتف الشيخ: والله ما كذبت على أحد.
فلكزه بكوعه قائلا: اسأل الترابي ثم عد إلينا.
غاب الشيخ قليلا، ثم عاد إليهم ليخبرهم بأن الترابي لا يعرف شيئا عما عاق الأسرة عن المجيء. - ألم تسأله عن مسكنه؟ - في باب الربع، ولكنه لا يعرف أكثر من ذلك.
وبعد وقفة قصيرة استطرد الشيخ قائلا: ومن عجب أن الرجل لا يعرف اسمه ولا عمله، وختم حديثه عنه بقوله: «حد الله بيني وبينه.» فلما سألته عما جعله يقول ذلك، دفعني قائلا: «توكل على الله!»
رجع الرجال إلى درب الأعور بوجوه متجهمة. وضح لهم أن الشاب غامض حقا، أو أنه يحيط نفسه بالأسرار، وأنه خطير يجب أن يحسب له حساب.
Unknown page
وتساءل طمبورة: إن يكن حقا كما يقال عنه، فما الذي أقعده حتى الآن عن الانتقام؟
فقال عنارة بكآبة: لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا المستقبل.
ثم وهو يعصر عينيه الملتهبتين: والأحلام لا ترى عبثا!
عند ذاك قال الشيخ درديري: سأسأل عن مسكنه بحجة الاطمئنان عليه.
وغاب الشيخ يوما كاملا، ثم رجع ليعلن في ظفر اهتدائه إلى بيت الشاب، قال إنه جالسه وعلم بسبب تخلفه عن زيارة قبر أبيه، وهو مرض أمه، وأخبرهم بأقصر طريق إلى المسكن من ناحية الخلاء؛ إذ لا يدري بهم أحد، ولكن هل يقتلونه أو يكتفون برؤيته وإرهابه؟
وأدرك الأعوان من صمت المعلم أنه يترك لهم الكلمة لغرض لم يعد يخفى عليهم بحكم معاشرته الطويلة، فقال طمبورة ساخرا: وجد المسكين مقتولا بيد مجهول!
فاعترض عنارة متسائلا: ماذا تدرون عن قوته وأعوانه؟
وتبادلوا نظرات قاسية، ثم استقر رأيهم على خطة عركوها منذ القدم.
وفي ليلة شديدة الظلام، خرج حندس وأعوانه، وقد استقل هو وخلصاؤه الكرتة، موسعين للشيخ درديري مكانا عند الأقدام، وأوغلوا في الصحراء حتى صعدوا ما يشبه التل عند مفترق تتجه طريقه الرئيسية نحو باب الربع، وعند ذاك قال السائق: لا يمكن أن تتقدم العربة قيراطا واحدا في هذا الخراب.
غادروا الكرتة، وحثهم الشيخ درديري على البحث عن سبيل ماء قائم على رأس منحدر طويل، وكان قائما على مبعدة أمتار منهم، كما لاح شبحه تحت ضوء النجوم، وقال الشيخ: في نهاية المنحدر يقع البيت، وهو في عزلة؛ إذ تحيط به الخرائب من جهتين، ويحدق بالثالثة فناء واسع لوكالة، توكلوا على الله، أما أنا فإني ذاهب.
Unknown page
قال له حندس: انتظر حتى لا تضل الطريق في الظلام.
فقال وهو يهم بالذهاب: الأعمى لا يضل طريقه في الظلام.
مضوا في الطريق متمهلين حذرين؛ لوعورته ولكثرة ما يعترضه من أحجار ونفايات، وأحدقت بهم خرائب تفوح منها روائح عطنة، وأحيانا نتنة كريهة، كأنما تصدر عن جثث في جوف الليل، وغلظت الظلمة حين بلغوا ممرا مسقوفا بغطاء لم يتبينوه، تقوم على جانبيه المتقاربين جدران مبان غير مرئية، فكأنما فقدوا الأبصار. مات كل شيء في ظلمة الممر حتى أشباحهم، وند عن أقدامهم ارتطامات كخشخشة زواحف، وعن أفواههم زفرات كالفحيح، وعلى بعد سحيق تراءى نور خافت، فقال عنارة: سنطرق الباب ثم نندفع كالمصيبة، ولا من سمع، ولا من رأى.
فرددت أصوات بهيمية: ولا من سمع ولا رأى.
ثم ارتفع صوت حندس قائلا بوحشية: وينتهي الحلم!
وإذا بصرخة تنطلق من حلقه كالعواء، وإذا بجسمه الضخم يتهاوى على الأرض. صرخوا في صوت واحد «معلم حندس»، وتطايرت زعقات الغضب والويل، وحملقوا في الظلمة المستحيلة، ولكنهم لم يروا إلا العمى، ونادى سمكة بأعلى صوته السائق أن يحمل إليهم فانوس العربة، وتأوه حندس فساد الصمت، ثم قال بصوت متقطع محشرج: عنارة، قتلت .. بينكم.
وعلى ضوء الفانوس تبدى المعلم حندس منكفئا على وجهه، عاري الرأس، مكشوف الساقين، ودمه ينساب بطيئا بين الحصى. قتلهم الغيظ وأذلهم الحنق. لم يشعروا من قبل بعجز مهين كهذا العجز، فهم لم يرفعوا نبوتا ولا سلوا خنجرا ولا قذفوا طوبة، وخطف الرجل وهم يبادلونه الحديث. وأين القاتل، بل أين منزله؟ وجدوا مكان المنزل ضريح ولي في خلاء تشتعل في كوة بجداره شمعتان، ولم يشعر أحد منهم بالقاتل عند تسلله، ولا عند انفلاته، لم يسمع له حس، ولا عثر له على أثر.
الصدى
اعتمد على عصاه وانتظر، تلاشى رنين الجرس، ولا صوت يجيء من وراء الباب؛ كأن الشقة خالية، بعد لحظة سينفتح الباب عن الوجه القديم، الوجه الذي لم تره منذ عشرين سنة، والزمن لم يطمس صورته القديمة الباكية المتصبرة المتأففة. وهي وإن تكن اليوم في الثمانين، فما أكثر المعمرات في أسرتنا، أما الرجال ...؟! الرصاص والمآسي والأعين التي لا تذرف الدمع.
وسمع صوت شبشب يزحف فوق البلاط، فتهيأ للمفاجأة وعواقبها، ولكن الشراعة فتحت عن وجه ذابل عليل ، أم محمد الخادمة، ارتاح لذلك ونظر إليها من عل وهي تتطلع إليه بحذر ونظر كليل: من؟ - افتحي يا أم محمد. - من حضرتك؟
Unknown page
قالتها بلهجة من لا ينتظر زائرا على الإطلاق، بيت مهجور كأن القطيع كله لم ينطلق منه إلى الساحات الدامية. - حقا نسيتني يا أم محمد؟
رمشت عيناها طويلا، ثم أضاءت بانتباهة مذهلة: سيدي عبد الرحيم! .. يا خبر!
دخل وهو يحبك عباءته السوداء حول قامته الفارغة، ثم ترك لها يده تلثمها بحرارة قائلة: من يصدق؟! .. من يصدق؟!
ثم وهي تضبط أنفاسها: سأذهب لأخبر ستي.
فاعترضها بعصاه قائلا: لا .. أين حجرتها؟
أشارت إلى باب في نهاية الصالة الممتدة إلى يمين الداخل، وقالت: يجب يا ...
فقاطعها بحزم وهو يسير: أعرف ما يجب، أعرف كل شيء، ولا أريد أن يزعجني أحد.
دخل الحجرة متمهلا، وبلا صوت، وبقلب يزدرد انفعاله بصلابة معهودة، ثم أغلق الباب وراءه. وقف في وسط الحجرة وهو ينظر إليها بتمعن واستطلاع، ورغم غلظته تأثر بعض الشيء، تسربت إلى أنفه الأفطس رائحة غريبة وأليفة معا، كما تنبلج ذكرى ضائعة، فدفعته إلى أحضان الماضي. ها هو يعود إلى صميم نفسه، وتربعت المرأة على كنبة قابضة بأصابعها على مسبحة طويلة لامست شرابتها البساط، ولكنها لم ترفع رأسها إليه، وكأنها لم تشعر له بوجود، وقد تلفعت بخمار غامق لم يتضح لونه في جو الحجرة الغامض المحجوب عن النور بنافذتين محكمتي الإغلاق، إنها تتجاهلك بلا شك، لعلها سمعت ما دار من حديث في الصالة فتأهبت لتجاهلك. لا تعجب لبرودها، فكم قاست وكم عانت! وهي على أي حال أم المآسي، فكيف تخلو من روح العنف! .. وماذا توقعت عندما اضطرتك الحال إلى العودة؟ وابتسم ليلين من قسوة وجهه الداكن كجلد مدبوغ، ولكنها لم تأبه له البتة، وراحت تسبح بصوت مهموس ثم تثاءبت! اختفت الابتسامة من وجهه. إنها أشد مما تصور، إنها أقسى من تاريخ الأسرة الدامي، لكنني عنيد أيضا، لم أقطع الوادي لأسلم بهزيمة عاجلة. توقعت سخطا ولعنا وبكاء ومرارة، ولكن ليس الصمت والتجاهل، تلك صدمة أجلت فكرة تقبيل اليد إلى حين، والانسحاب أبعد ما يكون عن الخاطر، لم يبق إذن إلا طريق وسط، قال بهدوء: نهارك سعيد يا أمي.
واقترب خطوتين مادا يده، ولكنها لم تشعر له بوجود. صدمة أشد من الأولى، الماضي بكل مآسيه لن يخفف من قسوة اللطمة، حق أنك آخر من يعجب لقسوة ما، وعليك أن تؤدي حساب عشرين عاما من المقت، وهي كما ترى لا تبرأ من صفة الضجر، وابتسم ابتسامة مفجعة وهو يتقهقر نحو الفراش ثم جلس على حافته، وضع طربوشه على الوسادة، واعتمد براحته على العصا. ما دمت قد رجعت إلى مهدك، فلا بأس من الجلوس على الفراش. - الحق أني لم أتوقع مقابلة لطيفة، ولكني لم أتصور هذه القدرة على الإعدام!
وضحك ضحكة قصيرة ميتة، وقال: نحن أسرة الأنياب والأظافر، ولكني مشوق إلى معرفة النهاية.
Unknown page
رفعت رأسها قليلا، ربما لتريحه، ثم عادت إلى الانطواء على المسبحة في عالم لا يشاركها فيه أحد. - من يدري، فلعل حضوري خطأ من أساسه، ولكني مصمم على ألا أندم عليه.
لا كلمة .. لا حركة .. لا اهتمام. - أتتوقعين أن أعتذر؟! .. أن أعترف بخطأ .. أن أعلن الندم؟ .. أنت تعرفيننا خيرا مما نعرف أنفسنا، والكلام لم يعد يجدي، وكلانا قد تغير كثيرا، ولكن صحتك ما زالت بحمد الله جيدة، لعلها أفضل من صحتي.
العبارة الأخيرة غير قابلة للتجاهل إلى ما لا نهاية، سوف تدب حركة. أجل، ستنفجر أولا في غضب وتصب اللعنات، ثم تلين رويدا، وأخيرا ستسمع هذه الجدران دعاء! - أعلم ماذا يقول صمتك، جاء اللص، جاء المجرم، جاء أخيرا، بالله خبريني، هل تطلبت حياتك هنا مالا أكثر مما لديك؟
وركبته رغبة يائسة في المزاح، فتساءل: هل أردت مالا لتجربي حظك في الزواج من جديد؟
وضحك عاليا، لكنه ضحك وحده، وحده. لله هذه القدرة الجهنمية على الإعدام! - ما مضى قد مضى، الدم والأرواح مضت، لسنا أول مجموعة دموية ولن نكون آخرها، وكم هلك لي من أعزة، وقطنت في صدري رصاصة إلى الأبد، ولا تعدي بقايا الطعنات في الفخذ والبطن والرأس، وكنت تبكين وتمزقين شعرك، وكنا وما زلنا نعاني في حياتنا، ما الفائدة؟ ما مضى قد مضى.
ألم تعاهد نفسك على تجنب الذكريات؟ ولكن كيف؟ إنها مستمرة في قتلك، وأنت لم تقطع الوادي من أقصاه لتجلس أمام تمثال من حجر. - إذن، تودين أن أذهب؟! لا أعجب كثيرا ولكني أتيت، وهذا جزء لا يتجزأ من الحكاية، ألم تغضبي بما فيه الكفاية؟ لعنت الأبناء حتى جف صوتك، هالك أن يخرج من بطنك هذا العدد العديد من الأعداء، ولكنه بطنك على أي حال. وخبريني بالله كيف مات أبي، وأعمامي؟ وقيل لي لماذا تذهب بعدما كان، ولكن لا أحد يعلم بسري سواي، وأنا أومن بالغيب إيماني بالدم، والوقت قد فات فيما بدا لهم، ولكني رأيت رأيا آخر، غير أني أود أن أعلم حتام تتعلقين بالصمت؟!
آه! .. فلتعجب بها بقدر ما تحنق عليها، ما أصدقها لنا من أم! لكنك تمثل عناد من تربص يوما في حقل الذرة ثماني ساعات دون حركة. وكم غنيت فوق أشلاء الجثث، وأيدي الإخوة التي قطعتها! وقولك الساخر عن ابني عميك في البلد: «يتحابان رغم أنهما أخوان!» - لا تطرديني دون كلمة، اسأليني على الأقل عما جاء بي، الغبار لم يعد يطاق، والشوك أدمى الأقدام، وأعترف بأن نفسي نازعتني إلى مأوى منسي لأسترد فيه أنفاسي، شعور طبيعي بالحاجة إلى الظل بعد احتراق لعين، وسمعت - إن صدقا وإن كذبا - أشياء وأشياء عن غرابة أطوار الأم، أي أم كما قالوا، ومع أن آخر صورة احتفظت بها منك كانت عابسة باكية لاعنة، إلا أني غامرت بالتجربة.
يا رب السموات! ها هي تتثاءب مرة أخرى، من الضجر لا من التعب، ولكن طلاء القسوة سيتقشر عاجلا أو آجلا ثم يتساقط، والأحزان قد أنضبت في نفسك موارد سخية، ولكني أجلس أمامك بشخصي وشهادة ستين عاما من البنوة، وإن تكن بنوة مفلسة جدباء. - أصغي إلي، أنا لا أسافر عبثا. هكذا خلقت، قيل لي لماذا تذهب بعد ما كان، ولكن لا أحد يعلم بسر ذلك سواي، ومذ قدمت وأنا أتكلم وأنت تقتلين، سأذهب أقسى مما جئت، والساقية تدور ولا تحمل من باطن الأرض إلا العلقم، لم يجئ الأبناء خيرا منا، هيهات أن أعترض، اليوم يقطبون ويتبادلون نظرات ممتعضة، وغدا ينطلق الرصاص، ها أنا أرى المستقبل بعين الماضي الدامية، واليوم تجمعهم صورة عائلية، كما جمعتنا صورة يوما ما، ولكن ماذا عن الغد؟ وكان أن ضجرت، ضجرت حتى الموت، ولكننا نكره الكلمات الطيبة ولا نصدقها، وإذن فلتمض القافلة مثيرة للغبار ولرشاش الدم. ولكن تمادى بي الضجر حتى وقعت، وبعد عشرين عاما من العقوق والنسيان ذكرني الضجر بك! ولكن ماذا أريد؟ أن أرجع إليك؟ ولكن ماذا وراء ذلك؟ ونحن نخجل من العواطف ونتباهى بالكلمات، غير أني أصبحت ذات يوم مقوس الظهر، أزحف على أربع، وكتمت الألم خشية الشماتة، لا شيء سوى الشماتة، وما جاء الظهر حتى أعلمني الطبيب بأني مريض بكل معنى الكلمة، ولست أصدق الأطباء، ولكني لم أجد مفرا من تصديق الألم، وخصوصا وأنه لا يؤلمني إلا الألم الأليم، وانزويت في حجرتي أياما، وأحدقت بي نذر الشقاق بين الأبناء حتى رأيت صفحة المستقبل دامية كالصفحة المنطوية، وتجهمتني الدنيا، وأبيت في الوقت نفسه تذكر كلماتك القديمة، ولكني رأيت حلما.
آه هل تستسلم لليأس؟ وما هذا الألم الذي يدب في أعماقك، أهو نذير نوبة جديدة؟ إذن ماذا تفعل العقاقير؟ ولم هي ليست حاسمة كالرصاص والفأس؟ وأنت أيتها العجوز ماذا بالله يمكن أن يحركك؟ أأقول إنك أقسى منا جميعا؟ لا تضطريني إلى هزك حتى تفيقي، إني إذا صرخت تقوضت الجدران! - حلمت حلما، فلماذا لا تسألينني عما رأيت؟ هل فقدت ولعك بالأحلام وتأويلها؟ اعذريني إذا اعتقدت بأننا إنما ورثنا القسوة عنك، عنك أنت أكثر مما ورثناها عن أبي أو أي جد غابر، لا أحد يمكنه المحافظة على بروده كما تفعلين، وجهك لا يفصح عن شيء، أنت لا تتجاهلين وجودي ولكنك تجهلينه، تجهلينه بكل معنى الكلمة، أنت لا تسمعينني ولا ترينني، من أين لك هذه القوة كلها؟
وانتفض واقفا في انفعال، ذهب مرة وجاء، ثم وقف قبالتها معتمدا على عصاه بيمناه متجهم الوجه: أهذه طريقتك في العقاب؟ لا شك أنك تخيلت هذا اللقاء وتمنيت وقوعه وانتظرته طويلا، قلت سيجيء يوما، سيجيء إذا ألمت به كارثة أو صرعه مرض، سيذكر عند ذاك أمه المنسية، ويهرع إليها سائلا العفو والبركة، وعند ذاك أجد فرصتي للانتقام، سيكفر عن السرقة والنهب والاعتداء والقتل، عن دموعي التي لم يجففها أحد، عن استغاثاتي التي قوبلت بالنهر، عن حبسي الطويل في هذه الغربة، هذه هي الحقيقة، وإنك لأمنا حقا، فأسلوبك هو أسلوبنا، وقسوتك هي قسوتنا، وفي بعض أويقات الإرهاق والملل كنت أتساءل عما شكلنا بهذه الصورة الوحشية التي لا تعرفها الكلاب ولا الحمير ولا البقر ولا الجاموس، وها هي الحقيقة تتكشف لي، إن السيل الذميم المنصهر ينحدر منك يا امرأة!
Unknown page
وضرب أرض الحجرة بعصاه مرتين حتى طقطق زجاج النافذة، وإذا بأم محمد تنقر على الباب المغلق مستطلعة مستأذنة، فصاح بها غاضبا «اذهبي»، ثم التفت إلى المرأة التي واظبت على التسبيح في هدوء، وقال: كفى، كفي عن التسبيح، نحن لا نعرف الله، ولا نذكره إلا عند شراء النقل أو صنع الكعك، الحق أننا لا نعرف الله ولا نريد أن نعرفه، والحلم الذي رأيت كان حلما كاذبا، وما كان ينبغي أن أحلم، أو أن أكترث للحلم إذا حلمت، وما كان ينبغي أن أمرض، على الذين يعيشون للرصاص والدم ألا يمرضوا أو يحلموا، وعليهم ألا يبحثوا عن راحة إلا في الموت، عليهم أن ينتحروا قبل أن يقتلوا، فأي شيطان دفعني إلى زيارتك يا امرأة؟
ولما لم تخرج عن تجاهلها الرهيب، قطب في عزم، وتقدم منها خطوتين، ثم مد يده فأمسك بيدها، ارتفع رأسها متراجعا في دهشة، تركت المسبحة في حجرها وأراحت يدها الأخرى على يده، تحسست ظهرها الجاف المعروق ومنابت الشعر الأبيض عند أصول الأصابع، ارتسم الفزع في وجهها، ثم ندت عنها صرخة وصاحت: من؟ .. من؟ .. أم محمد!
وسرعان ما ألمت بها نوبة سعال، ثم عادت تصيح بصوت مخنوق شرق: أم محمد .. أم .. محمد.
انفتح الباب في دفعة متمردة، وهرولت المرأة إليها في اللحظة التي أخذ هو فيها يتراجع في وجوم شديد. احتوت الخادم يد سيدتها المرتعشة بين راحتيها في حنو، ثم راحت تربت ظهرها النحيل في إشفاق، قال الرجل كالمعتذر: لا أدري ماذا أفزعها!
فقالت الخادم بصوت خائف: أردت أن أقول لك، فلم تسمع لي يا سيدي، ثم منعتني من الدخول!
لبس طربوشه وتناول عصاه، وهو يقول: ماذا أفزعها؟ .. كنت طوال الوقت أتودد إليها، وكان أملي كبيرا في أن تلين إذا رأتني بين يديها.
أرخت الخادم جفونها، وهي تقول بحسرة: يا سيدي، إنها لا ترى!
اتسعت عيناه الغامضتان في ذهول، وراح يتفحص أمه، وهو يقول: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا ترى.
وحل بالحجرة خرس مقدار دقيقتين، ثم تمتم: لم أتصور ذلك، النور خافت كما ترين.
ثم بنبرة مرة، وكأنه يحادث نفسه: ولكني حدثتها طويلا فتجاهلتني على نحو أليم!
Unknown page
قالت الخادم بصوت منكسر: يا سيدي، إنها لا تسمع!
بذهول أشد: تعنين ...؟ - نعم يا سيدي، إنها لا تسمع.
لطمه الفهم لطمة مفزعة أدارت رأسه: كلية؟ - نعم. - أئذا صرخت ...؟ - لا فائدة يا سيدي. - لا بصر ولا سمع؟ - لا بصر ولا سمع. - يا ألطاف الله، متى حدث ذلك؟ - من أعوام يا سيدي، بدأ أمر الله بالعينين، ثم تلاه السمع، ولم ينفع طب الأطباء.
تردد مليا ثم تساءل في حرج واضح: ألم تكن هناك طريقة للاتصال بي؟ - أردت ذلك عقب إصابة العينين ولكنها منعتني، منعتني بشدة ورجاء معا، فاحترمت رغبتها إلى النهاية.
لم يكن الموقف كما تصورت، ولكنه في الحقيقة أفظع، وأنت شريك في الجناية لا مفر، جئت تتخفف من أثقالك فضاعفتها أضعافا مضاعفة، وها هي أنفاسها تتردد على يدك، ولكنها أبعد من نجم، كالموت، غير أنه ينضح بالعذاب. وها هو الصمت، وها هو السد، وعليك أن تؤول حلمك بنفسك، أو سوف يبقى الحلم بلا تأويل.
الخلاء
لتكن معركة حامية وحشية، ولتشف غليل عشرين عاما من التصبر والتربص والانتظار. قدح وجه الرجل شررا وهو يحيط به الأعوان، وامتدت جموعهم خلفه قابضين على العصي ذوات العقد، كل عقدة تنذر بحفر ثغرة في العظام، وقد انخرط في أحضان الموكب حملة المقاطف المملوءة أحجارا وزلطا. تقدم الرجال في طريق الجبل المقفر بعزائم متوثبة للقتال، جاءك الويل يا شرداحة. وبين آونة وأخرى يتطلع زبال أو ترابي إلى الموكب الغريب مركزا بصره على الرجل الذي يحتل القلب في استطلاع ودهشة وإنكار، يتساءلون عن الفتوة الذي لم يره من قبل أحد، سوف تعرفونه وتحفظونه عن ظهر قلب يا ذباب الخليقة. وألقت الشمس المائلة على اللاثات المزركشة أشعة حارة، ودار هواء خماسيني مجنون، فلفح الوجوه، ونفخ في الجو اكفهرارا ومقتا، ومال أحد الأعوان إلى أذن الرجل، وسأله: معلم شرشارة، هل تقع شرداحة على طريق الجبل؟ - كلا، علينا أن نخترق إليها حي الجوالة. - سيطير خبرنا إليها فيستعد عدوك.
عبس وجه شرشارة، وهو يقول: عز المطلوب، فالغدر يحقق النصر، ولكنه لا يشفي الغليل.
غليل عشرين عاما في المنفى، بعيدا عن القاهرة الساهرة، وفي مجاهل الميناء بالإسكندرية، ولا أمل لك في الحياة إلا الانتقام. الأكل والشرب والنقود والنساء والسماء والأرض غرقت في عماء، وانحصر الإحساس في التحفز الأليم، ولا فكرة تخطر إلا عن الانتقام، لا حب ولا استقرار ولا إبقاء على ثروة، ضاع كل شيء في الاستعداد لليوم الرهيب. هكذا ذابت زهرة العمر في أتون الحنق والحقد والألم، لم تهنأ بتفوقك المتمهل الأكيد بين عمال الميناء، لم تجن ثمرة حقيقية من انتصارك على الجعافرة في معارك كوم الدكة. ما كان أسهل أن تعيش فتوة مهابا، وأن تتخذ من الإسكندرية موطنا يدوي تحت سمائه اسم شرشارة، ولكن عينك الدامية لم تر من الوجود إلا شرداحة بطرقها الضيقة، وحاراتها المتفرعة الصاعدة، وفتوتها الجبار البغيض لهلوبة. الويل .. الويل.
انتهى طريق الجبل المقفر عند البوابة، فمرق منها الموكب إلى حي الجوالة المزدحم، وصاح شرشارة بلهجة آمرة حادة كضرب الفأس في الحجر: لا كلام مع أحد ولا جواب.
Unknown page
أوسع المارة للموكب، واشرأبت إليه الأعناق من الحوانيت والمشربيات، وتطلعوا إلى القائد الجديد، ثم شاع الاضطراب والخوف، وقال صاحبه محذرا: سيظنون أننا نقصدهم بسوء!
قلب شرشارة عينيه في الوجوه الشاحبة، وقال بصوت مسموع: يا رجال، لكم منا السلام.
انفرجت الأسارير، وارتفعت الأصوات بالتحيات، وإذا به يقول مخاطبا القوم، وهو يلحظ صاحبه بنظرة ذات معنى: نحن قاصدون شرداحة!
ولوح بعصاه المخيفة وهو يتقدم في طريقه. ما زالوا يتطلعون إليك باستغراب، كأنك لم تولد في هذا الحي، في صميم شرداحة، ولكن لا ذكر يبقى إلا للقتلة والمجرمين. شاب في العشرين، عامل في السرجة، هوايته لعب البلي تحت شجرة التوت، يتيم، حتى مرقده لا يجده إلا في السرجة صدقة من عم زهرة صاحبها، وأول مرة حمل الزيت الحار إلى بيت لهلوبة، صفعه هذا على قفاه، تلك كانت تحيته. وزينب ما كان أجملها! لولا جبار شرداحة لبقيت زوجتك منذ عشرين عاما. كان بوسعه أن يطلب يدها من قبل أن تطلبها أنت، ولكنها لم تحل في عينيه إلا ليلة الزفة، وتحطمت الكلوبات، وفر المطرب، وتكسرت آلات الطرب، وخطفت أنت كأنك وعاء أو قطعة من أثاث. لم تكن ضعيفا ولا جبانا، ولكن المقاومة كانت فوق طاقتك، ورمي بك تحت قدميه، وأحدقت بك عشرات الأقدام.
وضحك ضحكة كريهة، وقال متهكما: أهلا بعريس الزيت الحار!
تمزق الجلباب الجديد، وفقدت اللاثة، وسرقت بقية تحويشة العمر، وقلت: أنا من شرداحة يا معلم، كلنا رجالك وفي حماك.
فصفعه على قفاه معلنا عطفه، وخاطب رجاله قائلا في سخرية: أي معاملة يا أنذال؟! - أنا خدامك يا معلم، ولكن دعني أذهب. - العروس في انتظارك؟ - نعم يا سيد الحي، وأريد نقودي، أما الجلباب فالعوض على الله.
قبض على قصتك وجذبك منها، وقال بلهجة جديدة جادة ومرعبة: شرشارة! - أمرك يا معلم؟ - طلق! - ماذا؟ - أقول لك طلق، طلق عروسك، الآن. - لكن ... - هي جميلة، ولكن الحياة أجمل! - كتبت كتابها العصر. - وتكتب طلاقها في الليل، وخير البر عاجله!
ندت تأوهات يائسة، وركله ركلة قاسية، وفي ثوان جرده من ثيابه الممزقة. انطرح أرضا على أثر ضربة في الرقبة، وانهال عليه بخيزرانة حتى أغمي عليه، وغرز وجهه في نقرة مليئة ببول فرس، وعاد يقول: طلق!
بكى من الألم والقهر والذل، ولكنه لم يعترض بكلمة، وقال الآخر بلهجة عطف ساخرة: لن يطالبك أحد بمؤخر الصداق.
Unknown page
فهزه رجل من الأعوان بعنف قائلا: احمد ربنا، واشكر سيدك!
الألم والهوان والعروس الضائعة، وها هي روائح العطارة بالجوالة ترجعك إلى الماضي أكثر مما أرجعتك العودة الحقيقية. الملاعب القديمة، ووجه زينب الذي أحببته مذ كانت في العاشرة، وطوال العشرين عاما لم يتحرك بغير الحقد قلبك. قبل ذلك لم يعرف إلا الحب واللهو، وبعد قليل، فلن أتحسر على ضياع ما ضاع من عمر، عندما أطرحك يا لهلوبة تحت قدمي، وأقول لك «طلق» .. بذلك أسترد عشرين عاما مفقودة في الجحيم، وأتعزى عن مالي الذي بعثرته على هذه العصابة، المال الذي دبرته بالشقاء والجهد والسرقة والنهب والتعرض للمهالك.
ولما لاح عن بعد قريب القبو المفضي إلى شرداحة، التفت إلى رجاله قائلا: احملوا على الأعوان، ودعوا لي الرجل، ولا تمسوا بسوء أحدا من غير هؤلاء.
لم يداخله شك في أن نبأ غزوته قد سبقه إلى شرداحة، وأنه عما قليل سيقف أمام لهلوبة وجها لوجه، ولم يعد يفصله عن هدفه إلا قبو قصير. تقدمهم في حذر، ولكنه لم يصادف داخل القبو أحدا، واندفعوا مرة واحدة وهم يشدون على عصيهم، ويطلقون صرخات مرعبة، ولكنهم وجدوا الطريق خاليا، لاذ الناس بالبيوت والحوانيت، وامتد طريق شرداحة مقفرا حتى الخلاء الذي يحده من ناحية الصحراء، وهمس صاحبه في أذنه: مكيدة! .. مكيدة وسيدي أبو العباس!
فقال شرشارة باستغراب: لهلوبة لا يستعمل المكائد!
وبأعلى صوته صاح: لهلوبة .. اظهر يا جبان!
ولكن لم يجبه أحد، ولم يخرج إلى الطريق أحد، نظر فيما أمامه بترقب وذهول وهو يتلقى تيارا من الغبار الخانق الحار، كيف يفرغ شحنة عشرين عاما من الغضب والحقد؟! ورأى باب السرجة القصير المقوس المغلق، فمضى إليه في حذر، وطرقه بعصا، حتى جاءه صوت مرتعش النبرة، وهو يهتف في ضراعة: الأمان!
فصاح بظفر: عم زهرة! تعال ولك الأمان.
ظهر وجه العجوز من كوة في الجدار أعلى من الباب، ورمى ببصر زائغ كليل. - لا تخف، لا أحد يريد لك السوء، ألم تتذكرني يا رجل؟!
نظر العجوز إليه طويلا، ثم تساءل في حيرة: من أنت يحفظك الله؟ - أنسيت صبيك شرشارة؟
Unknown page
اتسعت العينان الغائمتان، ثم صاح: شرشارة؟! وكتاب الله هو شرشارة ولا أحد غيره!
وسرعان ما فتح الباب، وهرع إليه فاتحا ذراعيه في ترحيب ظاهر وخوف باطن فتعانقا، وصبر شرشارة حتى انتهى، ثم سأله: أين لهلوبة؟ ما له لم يجئ للدفاع عن حيه؟ - لهلوبة! - أين فتوتكم الجبان؟
شهق العجوز رافعا رأسه عن رقبة نحيلة معروقة، ثم قال: ألم تدر يا بني؟ لهلوبة مات من زمان!
صرخ شرشارة من أعماق صدره، وهو يترنح تحت ضربة مجهولة: لا! - هي الحقيقة يا بني.
بصوت أقوى وأفظع من الأول: لا .. لا يا مخرف!
قال العجوز وهو يتراجع خطوة في خوف: لكنه مات وشبع موتا.
تراخت ذراعاه، وتهدمت قامته، فعاد العجوز يقول: منذ خمسة أعوام أو أكثر.
آه! ما بال جميع الكائنات تختفي ولا يبقى إلا الغبار! - صدقني لقد مات، دعي إلى وليمة في بيت أخته، فأكل الكسكسي، ثم تسمم هو وكثيرون من أعوانه، ولم ينج منهم أحد.
آه! إنه يتنفس بصعوبة كأن الهواء استحال طوبا. وهو يغوص في أعماق الأرض ولا يدري ماذا بقي منه فوق سطحها. وحدج زهرة بنظرة ثقيلة خابية وتمتم: إذن مات لهلوبة؟ - وتفرقت البقية من أعوانه، إذ سهل على الناس طردهم. - لم يبق منهم أحد؟ - ولا واحد والحمد لله.
وصاح فجأة بصوت كالرعد: لهلوبة .. يا جبان .. لماذا مت يا جبان؟!
Unknown page
انذعر العجوز من عنف صوته، فتوسل إليه قائلا: هون عليك ووحد الله.
هم بالتحول إلى أصحابه في حركة متهاوية، ولكنه توقف في فتور، وعاد يسأل: وماذا تعرف عن زينب؟
تساءل العجوز في حيرة: زينب؟! - يا عجوز، أنسيت العروس التي أجبرني على تطليقها ليلة دخلتها؟ - آه .. نعم .. هي اليوم بياعة بيض في عطفة الجحش!
نظر إلى رجاله في انكسار وهزيمة، العصابة التي استنفدت عمره وماله وصبره، ها هو العمى يهبها للعدم، وقال بضجر: انتظروني عند الجبل.
تجمد نظره تجاههم وهم يختفون داخل القبو رجلا في إثر رجل، هل سيلحق بهم؟ متى يلحق بهم، ولماذا؟! وهل يرجع من طريق الجوالة أو من طريق الخلاء؟ ولكن زينب، أجل زينب. من أجلها احترقت عشرون عاما من العمر، أمن أجلها حقا؟! لن تصل إليها فوق جبار منهزم كما رسمت، مات ولا جدوى من نبش القبور، ما أفظع الفراغ! وها هي في دكانها. هي هي دون غيرها، من كان يتصور لقاء كهذا اللقاء الفاتر الغامض الخجلان! وجلس على مقعد في قهوة صغيرة في حجم زنزانة، وراح يرقب الدكان الغاص بالزبائن، ها هي امرأة غريبة ممتلئة لحما وخبرة، وقد أنضجت الأعوام قسماتها الساذجة، ملتفة بالسواد من الرأس حتى القدمين، ولكن وجهها متشبث بقسط وافر من الوسامة، وهي تساوم وتناضل، وتلاطف وتخاصم، كامرأة سوق لا يمكن أن يستهان بها، ها هي إن أردت، وبلا معركة، بلا كرامة أيضا. فاتك إلى الأبد أن تقف فوق صدر لهلوبة وأن تأمره بالطلاق. ما أفظع الفراغ! ولم يحول عينيه عنها لحظة واحدة، وانهمرت عليه الذكريات في غرابة وحزن وحيرة قاتلة، ولا فكرة عنده عما سيفعل، كم آمن بأنها كل شيء في الحياة، ولكن أين هي؟!
وهبط المغيب كآخر العمر، وذهب الزبائن تباعا، وجلست في النهاية على مقعد قصير من القش المجدول، وراحت تدخن سيجارة، قرر أن يلقي بنفسه بين يديها هربا من حيرته، وقف حيالها وهو يقول: مساء الخير يا معلمة.
فرفعت إليه عينين مكحولتين مستطلعة، ولم تعرفه، فتابعت دخان سيجارتها متمتمة: طلباتك؟ - لا طلب لي.
أعادت النظر بشيء من الاهتمام المفاجئ، فتلاقيا في نظرة ثابتة، ارتفع حاجباها وانحرف جانب فيها في شبه ابتسامة. - هو أنا! - شرشارة! - هو نفسه، ولكن بعد عشرين سنة! - عمر طويل. - كالمرض. - حمدا لله على سلامتك، أين كنت؟ - في بلاد الله. - عمل وأهل وأبناء؟ - لا شيء. - وأخيرا رجعت إلى شرداحة. - عودة الخيبة.
التمعت في عينيها نظرة ارتياب وتساؤل، فقال بغضب: سبقني الموت!
تمتمت في غير ما ارتياح: كل شيء مضى وانقضى. - دفن معه الأمل. - كل شيء مضى وانقضى.
Unknown page
وتبادلا نظرة طويلة، ثم سألها: وكيف حالك؟
أشارت إلى مقاطف البيض، وقالت: كما ترى، معدن!
بعد تردد: ألم ... ألم تتزوجي؟ - كبر الأولاد والبنات.
جواب لا يعني شيئا، واعتذار واه كأنه مصيدة، ما جدوى العودة قبل أن تسترد الكرامة الضائعة؟ ألا ما أفظع الفراغ! وأشارت إلى مقعد خال في زاوية الدكان، وقالت: تفضل.
نغمة ناعمة كأيام زمان، ولكن لم يبق إلا الغبار، قال: في فرصة أخرى.
وتردد في حيرة معذبة ثم صافحها وذهب. لن تتكرر الفرصة. هكذا وجدت نفسك قبل عشرين سنة، ولكن الأمل لم يكن قد قبر، وكره فكرة الذهاب إلى الجبل من طريق الجوالة، كره أن يرى الناس أو أن يروه، وكان ثمة طريق الخلاء، فمضى نحو الخلاء.
البارمان
مهما يكن من أمر فقد اقتران بأطيب الأوقات وجهك، وأنت معتمد على الطاولة الرخامية البيضاء بكوع يسراك وراحة يمناك، تنظر وتنتظر، ودائما تبتسم، وبين حين وحين تتناول منشفة صفراء كبيرة فتمسح السطح برشاقة، ثم تعود إلى موقفك، ووراء ظهرك على رفوف أربعة صفت زجاجات الخمور من كل صنف، مستكنة في خمول، ناضحة بسوائل ذهبية وبنية وحمراء، ولا مشابهة أو مقاربة بين ظاهرها الأنيس الوديع وخميرها العامر بالقوى الغامضة الملهمة المفجرة. ورأسك المستدير الكبير، وشعرك الأسود المفروق من الوسط، وحاجباك الغزيران المتباعدان، وشاربك الكث المتعرج كقوس، وذقنك العريض القوي، وعيناك الواسعتان الزرقاوان اللامعتان، وأنفك الأقنى؛ كل أولئك آيات منظر لا يمكن أن ينسى، أنت حقا ملك قهوة وبار أفريقيا.
وفي بعض الأوقات كنا نغادر مكاتبنا بالوزارة فنتسلل إلى «أفريقيا» لنشرب فنجالا من القهوة، ولم يكن من النادر أن يدور حديثنا عنك وأنت لا تدري. ومرة تساءلت بين إخوة من الموظفين: كيف يختارون البارمان؟
فأجاب صديق من أهل الخبرة وهو يرمقك بإعجاب: لعله في الأصل جرسون، ولكنه ينتقى بمنتهى الدقة.
Unknown page
وقال ثان: إنهم يتقاضون مرتبات خيالية. - وله دراية مذهلة بالنفس البشرية. - وفي المعلومات العامة، أستاذ بكل معنى الكلمة. - ألا ترى كيف يحادث، وكيف يضاحك، وكيف يناقش؟ - ولذلك، فالشريب العتيق هو زبون البارمان قبل كل شيء. - هو كل شيء، وكل ما يجيء من ناحيته طريف، حتى اسمه، فاسيليادس .. فاسيليادس .. أصغ إلى موقعه من الأذن!
فنظرت إليه بإكبار، واندفعت إلى الإعجاب به اندفاعا لا يصدر عادة إلا عن يافع الشباب، وكانت مودته قيمة أعتز بها حقا، ويستخفني الفرح كلما استقبلني بابتسامة متفتحة مشرقة، تنجاب معها هموم القلب، وفي مساء العطلة الأسبوعية، كان يدعوني إليه الشباب قبل السهرة، أي سهرة، وما أكاد أجلس على المقعد الطويل، حتى تمتد يده إلى زجاجة الديوارس، فيصب لي منها في الكأس المضلعة، ويتابعني وأنا أشرب، ثم يسأل باهتمام: أين تذهب هذا المساء؟
فأجيبه بما أنوي الذهاب إليه من سينما أو مسرح أو صالة غناء، فيقول: كل هذا جميل في عهد الشباب.
فأقول ضاحكا: شباب .. شباب .. لم التغني الدائم بالشباب؟ .. أليس لكل فترة من العمر قيمتها؟ - إنك تتطاول على الشباب؛ لأنك شاب، بالله انتبه إلى قيمة الكنز الذي في قلبك. - لا تبالغ يا فاسيليادس، الحياة ليست دماء وساعات ودقائق. - إذن ما هي الحياة؟ - هي المال قبل كل شيء يا فاسيليادس. - المال مهم جدا، ولكن الشباب أهم، ثم إن مظهرك ...
فقاطعته: دعك من مظهري، ماذا تعرف عن موظف صغير بتلك الوزارة المشئومة، التي ترى مدخلها من موقفك وراء البار؟ الرغائب كثيرة واليد قصيرة، فلا تحدثني عن الشباب. - أتدري كيف كان صاحب هذه القهوة عندما هاجر إلى مصر؟ - جاء فقيرا معدما، ثم شق سبيله في عالم غير عالم الوزارة والوظائف، جميع الترقيات والعلاوات موقوفة لأجل غير مسمى، فماذا بقي للشباب؟ - الموقوف اليوم يسير غدا، ولا يبقى شيء على حاله .. خذ.
ويملأ الكأس من جديد، فسرعان ما أصدقه وأستحلي منطقه، ثم أودعه بقلب ممتن ودود.
وفي صباح يوم عيد وأنا راجع من القرافة، وجدت في البيت بطاقة معايدة من فاسيليادس، فطرت بها فرحا، وجلست حين المساء أمامه وأنا أقول: هذا يوم الشراب والورد والأفكار الطيبة.
فملأ الكأس وأهداني قرنفلة وابتسامة ، وحلا كل شيء وطاب حتى نسيت فاسيليادس نفسه، وجعلت أردد بصوت منخفض:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم
ولامك أقوام ولومهم ظلم
Unknown page
وإذا به يتساءل: شعر؟
فقلت وأنا أضحك من غفلتي: نعم. - خبرني عن معناه؟
فرحت أشرحه له كلمة كلمة، وهو يتابعني باسما، ثم قال: جميل حقا، ولكن أأنت عاشق أم شاعر؟
فقلت بنبرة اعتراف: عاشق! - جميل حقا، ولكن لماذا الكتم، ولماذا الظلم؟ - هكذا الحب في بلادنا. - الحب أن تتكلم، وأن تحب، وأن تمرح مع من تحب. - هذا عند اليونان. - والرومان .. وكل الناس.
فهتفت منتشيا: بالله احكم العالم يا فاسيليادس. - أنت شاب مهذب وقوي، أي بنت يمكن أن تحبك، ولكن لا تكتم وإلا فكيف يعرف المحبوب أنك تحبه، ولا تهتم بلوم الظالم .. خذ.
وملأ لي الكأس من جديد، فآمنت بقوله واستعدت الثقة المفقودة، ثم ذهبت بقلب شكور.
وتمر الأيام ولا تشيب لك شعرة يا فاسيليادس أو يخبو لعينيك ضياء. وذات مساء سألته، وأنا أرمقه بإعجاب: كيف تحافظ على شبابك؟
فأجاب مبتسما في لباقة: بمعاشرة الأحباب من أمثالك!
فتناولت الكأس قائلا: كلامك دائما حلو.
فسألني بإشفاق: كيف حال الوليد؟ - يتقدم إلى الشفاء، وفي الطريق آخر فيما يبدو! - مبارك، هذا عهد الإنجاب، أنت رجل محترم ولا عيب فيك، إلا أنك سريع الشكوى. - الحق أن الحياة لا تسر. - كيف لا وأنت موظف محترم وزوج وأب؟ - أقصد البلد، وحياتنا السياسية، لعلك لا تهتم بذلك؟ - من بعيد، كثيرا ما أرى من موقفي وراء البار المظاهرات وأسمع الهتافات، وأرى عساكر البوليس وهم يطاردون الطلبة، ثم تجيء اللوريات وعربات الإسعاف، كثيرا .. كثيرا، لماذا أنتم عصبيون هكذا؟ - بلد تعيس الحظ يا فاسيليادس. - هكذا السياسة في كل مكان، عندنا في اليونان سالت دماء كثيرة. لا تحزن، أين كنت أمس وأين أنت اليوم؟ وستشرب هنا نخب انتصارات قادمة، وسوف أذكرك، خذ.
Unknown page